الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قافلة الرقيق

نافذ الشاعر

2013 / 3 / 30
الادب والفن


يقول سيد قطب في قصيدة قافلة الرقيق من ديوانه المسمى الشاطئ المجهول:

1-قف بنا يا حادي العمر هنا... لحظة ننظر ما ذا حولنا
2-في طريق قد نثرنا عمرنا... فيه أشلاء حياة ومنى
3-قد نثرناها على طول الطريق...ومضينا ضمن قطعان الرقيق
4-موكب يعطو إلى الشط السحيق...مغمض العينين يسري موهنا
5-من ظلام الغيب تخطو قدماه...لظلام الغيب تنساق خطاه
6-في طريق غامض يدعى الحياة...يهتف الحادي فيمضي مذعنا
7-قف بنا ننظر إلى أشلائنا... نحن لا نرجع يوما ها هنا
8-مرة تمضي ونمضي وحدنا...في ظلام الغيب نطوي الزمنا
9-لهفة لو عدت أرعى خطواتي...في طريق درجت فيه حياتي
10-فتطلعت إلى هذا الشتات... وأنا في الكرة الأخرى أنا
11-لتمليت شياتي وسماتي...وأماني ويأسي ورجاتي
12-وحماقاتي ورشدي وهناتي...والهوى الحاني الذي ظلنا
13-كلها عاهدت أن أقضي عمري...وأنا أخلصها سري وجهري
14-وإذا السوط هوى يلهب ظهري... حيث لا أستطيع ريثا أو ونى
15-وإذ الآمال والآلام خلفي....ساخرات من مواعيدي وخلفي
16-ملقيات بين إهمال مسف...لم أودعها فيا واحزنا
17-أيها الحادي ألا فامض بنا...قد أثارت ذكرياتي الشجنا
18-لم نعد نجزع لو تحدو لنا...نحن لا نرجع يوما ها هنا

كثيرة هي الانفعالات والاختلاجات التي تطرأ على النفس دون إدراكنا لدواعيها ومسبباتها، وبعض النفوس تتخلص منها باستقصاء أسبابها، والبعض لا تجرؤ النفس أن تزيح عنها غلالتها المتلفعة بها، فتبقى حبيسة مكبوتة تؤرق النفس وتؤلم الوجدان.
وهذه القصيدة من ديوان الشاطئ المجهول لسيد قطب، هي وسيلة من وسائل الشعراء والأدباء الكثيرة للتعبير عن آلامهم وآمالهم من خلال تجسيدها على القرطاس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وقد أفصح الشاعر في تلك القصيدة عن سببين لقلقه وحيرته؛ الأول: تبرمه بسرعة سير الزمن بتلك السرعة المذهلة المنسية لأمور وأشياء هي من صميم ما يتفرد به الكائن الإنساني. والثاني: خلو ذات اليد من أشياء يفترض أن يحرزها من مرت عليه تلك السنون الطوال.
والقصيدة تنتظمها حركتان بارزتان تنضويان تحت وحدة عضوية واحدة، تبدأ الأولى من المطلع إلى البيت السادس. وإذا نظرنا إلى البيت الأول في القصيدة يتبين لنا أنه نزوعا يائسا صارما في آن: (قف بنا يا حادي العمر..لحظة ننظر ماذا حولنا) وهذا البيت وإن كان الأول نظما إلا أنه انفعال أخير تطور ونما وأخذ يتكامل من شتى أحاسيس وانفعالات متفرقة ومنثورة في الأعماق، فكان هو نهايتها ومحصلتها. فهناك كما يخبر النص، أشتات وألام، ومآسي وأحزان، وآلام وآمال، ونزق وطيش، وقوة وضعف، وحكمة وسفه وغير ذلك من متناقضات الأيام.. وهذا الشعور قد سيطر على حس الشاعر وملك عليه أقطار فكره، مما قد كان جناه من هذه السنين الطوال التي عاشها، فجاء المطلع معبرا عن فورة انفعال الشاعر لوقف تلك السنين التي لم يجن منها غير تلك الثمرات سيئة المذاق.
وبعد استنطاق البيتين الأول والثاني نجد أنهما قد اختزلا معاني القصية كلها من البدء حتى الختام، فما من معنى تحويه الأبيات التالية لهما متى أردت تضمنه فيهما إلا وجدت له متسعا وقبولا دون كثير إعنات ومشقة.

أما الغبن في الكم الزمني الفائت الذي كان يمتلكه شاعرنا، ثم تفصد من بين فروج أصابعه، دون أي منفعة تذكر، فإنه كان السبب الثاني لدواعي القلق والحيرة في نفس شاعرنا. وقد جاء تعبيره أكثر صراحة، ووضح في قصيدة أخرى من نفس ديوانه بعنوان: (نهاية المطاف) يقول فيها:
قد مضى الحلم فحقق في العيان...هل ترى إلا خواء في الزمان
وهي الأيام تقضي مثلما...تنقضي أيام مأجور شريد
أين أحلامك بالعش الجميل...أين أمالك في الظل الظليل
وقد عبر عن هذا الشعور في تفسيره (في ظلال القرآن) في سياق تفسيره لسورة الحجرات، عندما أفاض في الحديث عن منة الله على عباده بالإيمان، وعند وصف شعوره لتلك الفترة الغابرة من حياته فيقول: "ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله؛ فعبرت عنه أقول:
وقف الكون حائرا أين يمضي...ولماذا، وكيف، ولو شاء يمضي
عبث ضائع، وجهد غبين...ومصير مقنع ليس يرضي

أما البيت الثالث والرابع والخامس والسادس فما هي إلا حشوا إلى النثر أقرب منه إلى الشعر. فالملاحظ أن المعاني قد أخذ بعضها برقاب بعض في عملية فكرية متداعية تختص بالنثر أكثر من اختصاصها بالشعر، ويسيطر عليها فكر متسلسل منتظم، يصدق عليه قول الفيلسوف هوسرل: "متى تم وعي الأشياء فإنها تنتظم في الذهن وتترتب". وهذه الأبيات تذكرنا بخطيب اضطرته الصدف لإلقاء خطابا، على غير توقع منه واستعداد، فهداه تفكيره للخروج من ذلك المأزق أن يجعل آخر كلمة في جملته الأخيرة بداية لجملة جديدة، مما سيولد سلسلة غير متناهية من الأفكار تحول الخطاب إلى هزل لا معنى له. ولكننا نلاحظ أن شاعرنا تنبه لهذا التنكب الهائم فعاد أدراجه بلطف وتؤدة دون أن يشعرنا، ثم عاود تجسيد شعوره ومشاعره. فعلى سبيل المثال يصف الشاعر في البيت الثاني حياته بأنها أشلاء حياة ومنى، وفي البيت الثالث يبتدئ فكرته بما انتهى إليه في البيت الثاني؛ فيتحدث عن أمانيه وحياته قائلا: (قد نثرناها على طول الطريق) ثم يقول: (ومضينا ضمن قطعان الرقيق) ومن المسلم به أن المضي والسير يكون على طريق كما يتبادر إلى الذهن. وفي البيت الرابع يبدأ فكرته بما انتهى إليه به في البيت الثالث فيقول: (موكب يعطو إلى الشط السحيق) ثم يزيد ذلك وضوحا بقوله: (مغمض العينين يسري موهنا) ثم يزيده إيضاحا بقوله: (من ظلام الغيب تخطو قدماه...لظلام الغيب تنساق خطاه). وعلى نفس المنوال يجئ البيت السادس مستمدا فكرته من البيت الخامس؛ فيأتي باللزوم العقلي للخطى وهي الطريق، فيقول: (في طريق غامض..).
والحق إن الأبيات التي أشرنا لها آنفا لها مذاق خاص؛ فلو سلكنا مسلك الاتجاه الجمالي في النقد وتركنا أنفسنا تستقبل إشعاعات هذه الأبيات لوجدناها ممتعة، وكفى بالمتعة من فائدة، حيث يقرر "هومر" أحد شعراء اليونان القدامى أن وظيفة الشعر هي إدخال اللذة على النفس، وقد استطاع شكسبير أن يخبر قراءه بأنه يكتب من أجل إمتاعهم. وقبل أن نترك الشطر الأول من القصيدة فثم شيء لابد من التصريح به. فحينما نعاود النظر في البيت الأول القائل: (قف بنا يا حادي العمر لحظة..) تنبلج أمامنا حقيقة أو ظن يكاد يكون مصيبا أو قريبا من الصواب بأن الشاعر لم يزل واقعا تحت إسار الطريقة الكلاسيكية القديمة في نظم الشعر، حيث وقوف الشاعر هناك على الأطلال وبكاؤها كما يقول امرؤ القيس: (قف بنا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل..بسقط اللوي بين الدخول فحومل). وهذه الملاحظة تهدينا إلى كون الشاعر لم تبهره الآداب الأوربية المعاصرة ولم يتبحر فيها أو ربما كان منها في شك، او لعله كان يناصر المحافظين على المجددين، حيث كانت المعارك الأدبية على أشدها بين المحافظين والمجددين في تلك الحقبة التي كان يعيش فيها الشاعر. ودليلنا إلى ما ذهبنا إليه خلو ديوان الشاعر من قصيدة من تلك القصائد التي تسمى الشعر الحر، وقد جاءت بعض القصائد كأنها تحافظ على كره وتجدد على استحياء؛ فنجد أوزانها قصيرة سهلة، وقوافيها مشطورة منوعة أقرب إلى الشعر الشعبي في الوزن والموسيقى وليس في الموضوع والتجربة بعكس ما ذهب إليه العقاد في ديوانه (عابر سبيل) حيث كان ينفذ إلى الدكاكين والأسواق والبضائع المصفوفة على الأرضية فيصفها لنا ويجعل منها موضوعا نابضا بالحياة والحركة والإحساس، بينما نجد شاعرنا هنا قد سخر جل قصائده لوصف أحاسيسه ومشاعره.. كما يقول في قصيدته دعاء الغريب:
يا نائيات الضفاف..هنا فتاك الحبيب
عليه طال المطاف..متى يعود الغريب

وعند تأملنا لبكاء الشعراء في الجاهلية على الأطلال تبين لنا أنها حسرة على شيء جميل كان يشعر به الشاعر ويستعذبه من قرب محبوبته منه، ثم أصبح لا يرى من أثارها إلا تلك الرسوم والأطلال والشخوص الماثلة أمام عينيه مما يورث المرارة والكمد في القلب من شعور الحرمان؛ وهذا الشعور هو نفسه الذي يوجه شاعرنا، حيث العيش في الأحلام واللحظات السعيدة التي كان يخلصها سره وجهره كما يقول: (كلها عاهدت أن أقضي عمري...وأنا أخلصها سري وجهري). ومن ثم، نظر الشاعر إلى تلك الأحلام فوجدها متناثرة من حوله جثة هامدة ترمقه بأعين ساخرات: (وإذ الآمال خلفي...ساخرات من مواعيدي وخلفي) وقد استجاشت شعورا وجدانيا كذاك الشعور الذي يستولي على قلوب الشعراء القدامى التي كانت تستجيشه الرسوم والأطلال ومنازل الأحباب التي أصبحت تسفي فيها الرياح وتصفر. أما الفارق في الشعر القديم فهو ميل الشاعر القديم للإفصاح عن مكنون نفسه بسهولة ويسر، وقربه من فطرة الإنسان قبل أن يشوبها الكدر والتعقيد، على عكس ما يتسم به جل الشعر الحديث من خفاء وغموض وإيغال في التجريد والرموز..
وثم خاطرة تلوح لنا أثناء كتابة هذه السطور وسوف أعرضها في تساءل: فإذا كان الله عز وجل قد خلق الإنسان بأحاسيسه وانفعالاته ونزواته.. والشيء المقطوع به أو يكاد أن الانفعالات والعواطف والأحاسيس هي نفسها التي يذخر بها الكيان الإنساني في هذا الزمن وكل الأزمان لم تزد ولم تنقص، إلا أن الأذواق والنزعات قد اعتراها بعض التهذيب والتحضر. فعلى سبيل المثال نجد أن غريزة الجوع، الموجودة في طبيعة الإنسان منذ نشأته الأولى هي نفسها عندما كان يحس بها الإنسان قديما فيسطو على الطعام يلتهمه حتى يسكن جوعه، دون مواعيد وأوقات محددة. وهي هي كذلك عندما أصبح يوقت لها الأوقات ويزين لها الموائد بالرياحين والأزهار وغير ذلك من المشهيات. فإذا كان الأمر كذلك فأين تجد هذه المشاعر والأحاسيس التي في نفس شاعرنا مكانا لها في نفوس الشعراء القدامى؟

فلو أخذ عينة من أشعار الشعراء المسلمين وقارناها مع عصرنا الحاضر لبعده عن هاتيك الحقبة للولوج إلى مظان تلك المشاعر والأحاسيس لأعيانا البحث والطلب؛ إذ نطلب معالم قد غيرتها تعاقبات القرون الطوال، وبهتت أشباحها وصورها، لكنها مع ذلك لم تزل محتفظة بأرواحها لم تمتد إليها يد الزمن. والذي نرجحه أن هذا الشعور إذا ما أردنا معرفة منشأه وباعثه، لتبن أنه شعور الحسرة والمرارة لفقدان الشباب ومداهمة المشيب بعد الشباب والعنفوان؛ فالزفرات الجامحة المكبوتة هنا هي نفسها هناك، إلا أن ذاك الإحساس وذلك الشعور بعد دخوله في منحنيات النفس ومساربها قد تبدلت معالمه واختفت سماته فلا نكاد نتبنه إلا بعد جهد جهيد. فها هو المتنبي يستحسن قطع رأسه بالسيف على أن يخطه المشيب فيقول:
ضيف ألم برأسي غير محتشم...والسيف أحسن فعلا منه باللمم
أبعد، بعدت بياضا لا بياض له...لأنت أسود في عيني من الظلم

وهذا ابو تمام يصف ما يتركه منظر الشيب في نفسه:
له منظر في العين أبيض ناصع...ولكنه في القلب أسود أسفع
ونحن نرجيه على الكره والرضا...كأنف الفتى من وجهه وهو أجدع

وهذا ابن الحاجب الأندلسي يقول:
ثلاثون من عمري مضين، فما الذي ... أؤمل من بعد الثلاثين من عمري
أطايب أيامي مضين حميدة...سراعا ولم أشعر بهن ولم أدر
كأن شبابي والشيب يروعه...دجى ليلة قد راعها وضح الفجر

وهذا أعرابي يعتبر الشيب سما يتجرعه مرغما:
أرى الشيب مذ جاوزت خمسين دائبا...يدب دبيب الصبح في غسق الظلم
هو السم إلا أنه غير مؤلم...ولم أر مثل الشيب سما بلا ألم

وها هي عين أحدهم أبيضت من الحزن لقدوم الشيب فهو كظيم:
يا بياضا أذرى دموعي حتى ...عاد منها سواد عيني بياضا

وقبل هؤلاء جميعهم نجد جميل بن معمر يقول:
ألا ليت الشباب جديد...ودهرا تولى يا بثينة يعود

إذن، من خلال هذه الأبيات قد ترجح لدينا أن البكائين كانا لهدف واحد لا يختلف إلا كما يختلف الوجه الواحد من ساعة إلى ساعة. فقديما كانت الحياة سهلة ميسورة لا تميل إلى التعقيد؛ فمتى وجد الشباب فلا يعز على الطلب عزيز، على النقيض من هذا الزمن الذي عزت فيه المطالب على الكهول والشباب على حد سواء.
أما الحركة الثانية في القصيدة فتبدأ ببيت اختزل فيه كل معاني الأبيات التالية من القصيدة كما حدث في مطلع الشطر الأول من النص؛ ثم تجيء الأبيات التالية للبيت الأول تفصل ما قد أجمل هناك، او كما يسميه البلاغيون اللف والنشر. فبعد أن نظر الشاعر من مشارف الأربعين نظرة متطلعة إلى الوراء، أصيب باليأس الشديد مما رآه وعاينه، فقد رأى حماقات كثيرة، ورشد قليل، وأماني وآمال تنظر إليه نظرة ملؤها السخرية والازدراء وهي ملقاة بإهمال مسف طائش غير مبالي بشيء؛ عندها كانت بداية الحركة الثانية، كما أسلفنا، بالاتجاه اليائس والنزعة الرومانسية الحالمة الهادرة في آن. وكان بوده أن يشيح بوجهه عن تلك الآمال والأماني ويسدل عليها الستار، بل كان بوده لو استطاع انتزاعها من تجربته الشعورية انتزاعا لا يبقي لها ثمة أثر. فيقول:
لهفة لو عدت أرعى خطواتي...في طريق درجت فيه حياتي
فتطلعت إلى هذا الشتات...وأنا في الكرة الأخرى أنا
وكما يقول بنبرة أكثرة حدة في قصيدة أخرى من الديوان بعنوان: إلى الظلام:
إلى الظلام تحدري يا سفيني...وجانبي كل نور، النور يؤذي جفوني
إلى المسارب فامض لأنزوي عن شجوني...وعن رجائي ويأسي وكل ما يعنيني
الانزواء مريح فأوغلي يا سفيني

والملاحظ أن أبيات القصيدة توحي بثم موقف سوف يتخذ لوقف هذه المأساة، فإما النزوع إلى تغيير الواقع عنوة، وهذا ما نستبعده لكونه فوق مقدور الشعراء. وإما الرضوخ للواقع كما هو طاويا أشجانه في صدره. وإما الرحلة أو الهروب..
ولما كانت هذه المعاناة هي أزمة نفس قبل أن تكون أزمة مكان وزمان، كان القرار، غير المعلن، هو الرضوخ للواقع لكنه لم يفصح عن ذلك كل الإفصاح، ومن ثم ألبسه ثوب الرحلة:
ألا أيها الحادي فامض بنا...قد أثارت ذكرياتي الشجنا
لم نعد نجزع لو تحدو لنا...نحن لا نرجع يوما ها هنا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة