الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرمز في مسرحية (تموز يقرع الناقوس)

محمد المبارك

2013 / 4 / 1
الادب والفن


قبل ان اتوفر على شيء من مسرحية (تموز يقرع الناقوس) اود ان اعرض بشيء من التفصيل ظاهرة التعبير الرمزي . ذلك ان ما سأذهب اليه في فهم وتقديم بعض احداث المسرحية وشخوصها يتطلب مني ذلك ، ويلزمني بالتبرير قبل التفسير ، خاصة وان الرمز الذي تتحرك به المسرحية يمكن له ان يمتد ويتسع في مدلوله الى ابعد ما قد يمتد اليه خيال او فهم .
يمتاز الانسان على غيره من الحيوان بقدرته الفائقة على خلق الرمز واعتماده اداة ناجعة في موضعة ذاته وامتلاك ما يحيط به من واقع . والحقيقة ان الانسان لا يستطيع البتة ان يتصل بما حوله ، الا عن طريق الرمز . فبالرمز فقط يتوفر للانسان ان يجد سبيله كذات واعية في ركام الوقائع والاحداث التي تنتظمه . وليست اللغة – وهي اخطر جهاز امتلكه الانسان ، الا نظاما معقدا من الرموز صارت بها الجماعة البشرية الاولى الى الخروج بأفرادها على عزلتهم وانقطاعهم الوجودي عن بعضهم ، فانتهت بهم – بما اوجدت من امكانيات الاتصال وتبادل الخبر – الى قدرة ووعي جماعي قادر على ان ينهض بتشبثاتهم في الارتفاع على موجودهم ، وامتلاك حركة المحيط , وفي ذهني .. ان الانسان لم يوفق الى ما وفق اليه من انتصارات وكشوف عظيمة في ميادين العلم والمعرفة ، الا بعد ان صار الى حيازة نظام اللغة . اذ باللغة استطاع الانسان ان يحكم عملية الانعكاس ، فيحدد الفكر من جهة .. ويصير الى فرز الوقائع وتشخيصها من جهة اخرى .
على ان الرمز – باعتباره هذا – لم يقتصر في وجوده واثاره على الجانب الواعي من حياة الانسان ، وانما جاز ذلك الى كل ما تتفرد به هذه الحياة وترتفع درجة سلم الارتقاء . فالخيال ، والوهم ، والحلم ، هي الاخرى ميادين وطاقات كامنة استطاع الرمز ان يفجرها ، في الانسان ، عطاءا وخصبا لا متناهيين ، في حين انها بقيت سلبية الموجود .. خاملة الاثر في حياة الحيوان ، فلم تنته ، بسبب انتفاء الرمز كظاهرة تعبيرية في حياة الحيوان ، الى ما انتهت اليه عند الانسان من اثار ارتفعت به قيمة .. ونمت طاقة ، وازدهرت وجودا ، واذا كان الرمز – باعتباره مظهرا من مظاهر نشاط الانسان ووعيه – ذا طبيعة جماعية ، فانه يتميز كنشاط وجداني داخلي ، بطابع ذاتي ، وان صار هذا الطابع في مدلولاته واثاره الى مردود جماعي كذلك ، ذلك ان نشاط الانسان الروحي ، وهو خاص به كفرد او ذات مستقلة ، لا يمكن له ان ينتقل الى الاخر فيكون وجودا له ، حتى يأخذ سبيله في ركام الصور والرموز التي ينطوي عليها رحم الجماعة .
ولاجل ان اتوفر على هذه الخاصة في الرمز ، اجدني بحاجة الى تحديد علاقة الرمز بكل من العقل والحس .
انه وان تعذر فصل الحس عن العقل ، واذ هما مظهران لعملية واحدة تجرى في الدماغ ، ارى من الممكن والمفيد ان نميز بينهما لوظيفتين مختلفتين في خلق الرمز وتحديده . يقوم العقل على ضبط الرمز وتحديد مدلولاته قيمة وقهما ، في حين ان الحس يقوم على اقتناص خامات الرمز ومن ثم صياغتها وصبها في القوالب اليت يرضاها العقل . فالحس اذن ، هو المجال الذي يشرع فيه الرمز بتجميع اوصاله ، حتى اذا صار خلقا سويا خرج الى النور ليكون مادة يتوفر عليها العقل تبريرا وتفسيرا .. رفضا وتوكيدا ، فليس للعقل – والحالة هذه – من خلق الرمز وصيرورته غير مهام الردع .. والتذيب .. والفهم .. والتفسير .. وهذه في جملتها مهام تنظيمية لا تنطوي على خاصتي الخلق والايجاد ، الا بما يمتاز به التنظيم كظاهرة من قدرة عظيمة على الوصول بالابداع الى مراتب اروع اثارا واعمق مدلولا .
ليس ثمة من ريب في ان الانسان صار بامتلاكه العقل الى توكيد وجوده كفاعل في اتصاله بما حوله من اشياء ، ومن ثم في امتلاكها والسيطرة عليها . على انه كان قد فقد بحيازته هذه البطاقة – التي تمخضت عنها الحياة الاجتماعية واللغة – قدرة الاتصال المباشر بالاشياء التي كانت له في مرحلة ما من مراحل تطوره البايولوجي ، والتي لازال نظام الحس يدخرها للعديد من الاحياء البدائية . وبتقدم الايام .. ونمو موجود اللغة في وعي الانسان ، وتمكنها من حياته الداخلية ، انتهت امكانية ما يدعى بردود الفعل الغريزية التي ترتبط بظاهرة الاتصال الحسي المباشر انفة الذكر , وحالات متفرقة ، ان يتصرف على اساس ما تنقله ملايين الحبال الكهروطيسية التي تشده عصبا ودماغا الى ما تحديد الانسان سلوكا وتصرفا بمدى حضور الوعي او الفكر اللاغي .. ولهذا وجدت الاحياء البدائية قادرة ان تميز بين هذا او ذاك من الظواهر او الاشياء بمجرد ان تقترب منها او تلامسها . في حين ان الانسان – على ما امتلك من طاقة العقل العظيمة – لا يستطيع ذلك ، فلا يقبل او يرفض شيئا حتى يقف عليه وعيا محددا بالالفاظ . لقد فقد الانسان ، بما صار اليه من امكانيات عظيمة في الوعي او الادراك الفاعل ، تلك العين السحرية التي كانت تخترق به كل ما يلف الواقع من سجف وبراقع ، فتوقفه على منطوياته .. وتكشف له عن اسراره .
على ان الانسان اذا كان قد فقد امكانية الاتصال المباشر كحالة شعورية ، فانه لم يفقدها كامكانية بعد . في ذهني .. انه من هنا جاء ما يعيشه من حس يضطرب به صدره دون ان يحيط به ذهنه . ومن هنا ايضا جاءت تلك الخطرات الروحية العظيمة التي صار اليها خيال الانسان في بعض تجلياته الرفيعة , وما كانت النبوءات والنماذج الفنية والملحمية التي تمخض عنها الشاعر السومري او البابلي القديم ، الا اثرا عبقريا من اثار هذا الاتصال الذي راح – عند شاعرنا – يصادر الاشياء على مكنوناتها ، ويقف على ذاتية الحركة التي تنبض بها .. فيحتويها كينونة ويتمثلها وجودا متطورا . فـ(جلجامش) الذي ابدعه خيال شاعرنا هذا مثلا ، ما كان غير ضرورة او قدر تاريخي عاشه مجتمعه حاجة تطورية اثقلت الحس ، واهمت الضمير ، فجاء شاعرنا – بما يمتلك من امكانية الاتصال – فصار بها الى مجال الفعل حسا هو اعمق من الوعي ، وان كان دونه وضوحا وتحديدا . وكذلك كان شأن آخيل .. وفاوستوس .. وهاملت ، وبالنسبة للمجتمعات التي تمخضت عنها .
واحسب ان الفن – باعتباره حلما او وهما او اسلوبا ينطوي على الخلق والفعل المبدع في موضعة بالذات وتفجير منطويات الحس اللا شعورية – هو المجال الطبيعي لتوهج ونمو هذه الخاصة في الاتصال بالاشياء عند الانسان . ذلك ان الفن هو – باعتبار ما – نكوص بما صار اليه الانسان من انظمة واشكال متطورة جديدة في الوقوف على ما حوله الى نظام الحس . الا ان هذا – على كل حال – ليس بالنكوص الساذج .. ولا هو بالارتداد الفج الى الحالة الحسية الاولى ، من حيث هو نكوص مصحوب بكل ما ينطوي عليه العقل من طاقات ، وما صارت اليه البشرية من معارف وخبر . فما يلتقطه حس الفنان لا يموت في رد فعل ميكانيكي اصم كما هي الحال مع الخفاش مثلا ، وانما يستحيل عبر كيمياء اللغة وثقافة غير محدودة على القلب والتغيير . بيد ان الفنان – في الغالب – لا يعي تفاصيل واثار ما يتمخض عنه من ابداع ، وانما يعيش ذلك حسا بلغ درجة فائقة من الصفاء والشفافية بحيث يسقط دونه كل ما يحول دون الوقوف على طبيعة الاشياء وكنه حركتها وصيرورتها .. وفي تقديري ان سقراط انما كان يصادر على هذه الحقيقة عندما ذهب الى ملاحظة ان شعراءه لا يعون شيئا مما يكتبون ، اذ هم من اشعارهم انما كانوا – عن طريقة اللغة والرمز – يقومون بنقل ما انحل في ذواتهم من ظواهر وموضوعات .. فيثقفون بذلك الحس ، ويثرون العقل ، ويضاعفون من رصيد المعرفة البشرية . وهم في هذا انما كانوا يتوفرون على صياغة موجودهم من العالم الخارجي بشكل يطرد وما ستؤول اليه قوانين هذا العالم من تطورات ، فلم يقتصروا اذن ، على مهمة الموشور في تحليل الحزم الضوئية التي تخترقه .
ومهما يكن من شيء .. فان امكانية الاتصال او الرد المباشر على ما يضطرب فيما يحيط بنا ، لا يمكن لها ان تكون هي ذاتها في سلوك الفنان والاسلوب الميكانيكي الفج الذي يحمل سمات هذه الخاصة عند الاحياء الاخرى . ذلك ان الفنان بما يمتلك من طاقات العقل واللغة ، يرتفع بحسه الى مستوى الرؤيا التي لا تتوفر لغيره . ولذلك فهو لا يقف عند مجرد الانفعال بالعالم ، وانما يجوز ذلك امتلاك هذا العالم ومن ثم اعادة خلقه او صياغته بشكل جديد .
وفي ذهني ان هذا بالذات هو ما صار اليه (عادل كاظم) في مسرحيته (تموز يقرع الناقوس) اذ وفق بما امتلك من حس وشفافية عظيمة ، الى المصادرة على احداث مرحلة قاسية وخطيرة من مراحل تطورنا الاجتماعي ، فكشف عن تناقضاتها .. وصار الى فرز مواقف مختلف القوى الاجتماعية ، ومن ثم حدد ادوارها ومسؤولياتها في مجمل الوقائع والاحداث التي انتظمت حركة مجتمعنا ، وتوفر بشكل خاص على دور البرجوازية الصغيرة لما الحقته هذه الفئة ، في اندفاعها العشوائي ، ومن اضرار بامكانيات هذه المرحلة التطورية . على ان عادل فيما انتهى اليه ما كان ليقف عليه وعيا ، وانما احاط بذلك – على ما قدمنا – حسا بلغ درجة عظيمة من الشفافية والذكاء .
فهو من رمز الناقوس مثلا ، ما كان ليحيط به وعيا محددا ، بل واختلط عليه .. فراح يزعم ان الناقوس انما يرمز للثورة التي ستعصف بالنمرود . في حين ان هذا لا ينسجم البتة وملابسات الموقف في المسرحية . ذلك ان تهالك النمرود في طلبه ينفي ان يكون الناقوس هو الثورة التي تحلم بها بابل ، خاصة وان النمرود ومن يعتمد عليهم من اليهود انما ارادوا بامتلاك الناقوس ان يأتوا على شعب بابل ، فتخلو لهم الارض باقطارها . وعندي انه لا مندوحة لنا ، من اجل ان نخلص الى طبيعة هذا الرمز الذي يشد احداث المسرحية اليه ، من استيعاب المسرحية حدثا وتمثلها مواقف ثم نأمل ما انتهى اليه الناقوس من بعد .
واعتقد اننا اذا صرنا الى ذلك نستطيع ان نرى فيه ما يثير الى ظاهرة السلطة في البلدان التي استنزفها الاستعمار طاقة .. وكبلها بطوابير البرجوازية الصغيرة ، التي راحت تعيث بها فسادا .. وتحتكرها نشاطا وطموحا . فالناقوس بهذا انما هو بالذات ما تحلم به وتطمح اليه هذه الطوابير المحتربة من السلطة كاداة قمع وتميز . بيد ان السلطة في مجتمع لا يستند الى قاعدة هرمية لا يمكن لها ان تكون مضمونة الحال والمنقلب . ولذلك وجدنا من يصل سدتها السنية من فصائل هذه الفئة الممزقة ، لا يلبث ان يجد نفسه – وبشكل عنيف – امام معضلة الاحتفاظ بها . فهو منا – على حد وصف ابن المقفع – كراكب الاسد يخيف به الناس .. وهو على ظهره اشد خوفا وفرقا .
غير ان الاحتفاظ بالسلطة وضمان استمرارها وانقطاعها لمن يقف على رأسها ، لا يمكن ان يكون حتى ينهض المجتمع على قاعدته العريضة ، ولن يكون هذا حتى تجد الثورة سبيلها الى حياة الناس البسطاء . وحتى تصير الى موضعة تروعها كقدر تاريخي لا يمكن تخطيه . وفي مثل مرحلتنا التاريخية لا يمكن للسلطة ان تستقر لاحد حتى ينطلق المجتمع في ثورة اشتراكية اصيلة تقوم على تفجير طاقات الناس الكامنة في حركة اجتماعية عظيمة تأتي على كل ماهو غير طبيعي وشاذ في وجودنا الاجتماعي ، فتصفى فصائل البرجوازية الصغيرة كظاهرة .. وتجهز على طبقات الممولين باعتبارها طفحا سرطانيا خبيثا ، تماما كما هي الحال في المسرحية عندما ينتهي النمرود وطبقة الممولين من اليهود يوم يتماسك معدن الناقوس بكيمياء قلب ارنيني النقي .. فينطلق بلحن الخلاص ليكون بذلك اداة انطلاقة خيرة وانبعاث عظيم لقوى شعب بابل ، يدل على ان يكون ما اراد له النمرود اداة اضطهاد وقسر يكبس احلام هذه القوى ويقوم على تصفيتها وجودا .
وفي تناوله للمسألة اليهودية ، كان ما صار اليه الكاتب من حقائق وتشخيصات اوسع وابعد مما حدده وعيا فيما قدم من ملاحظة كذلك . ذلك انه في ملاحظته اقتصر على تناول المسألة كظاهرة خاصة ، من وجهة نظر قومية – تتجلى في موقف اليهودي العدواني من العالم ، ثم من وجهة نظر طبقية تربط تربط بين اليهودية كظاهرة لا انسانية واستمرار سيادة رأس المال كقوة محركة في المجتمع . وتوهم ان عمله المسرحي انما انصب في معالجة هذه المسألة انما انصب في معالجة هذه المسألة على هذه الاعتبارات او القيم فحسب . بيد ان من يتابع تسلسل الاحداث المسرحية ، ونمو المواقف فيها ، يلاحظ ان الكاتب ذهب الى الجمع بين اليهود والنمرود موقفا ومصيرا ، مما يحمل على الاعتقاد بان الكاتب انما اراد بذلك ان يؤكد حقيقة ان الطبقة السائدة ماليا ليس لها في مرحلة تخطي الواقع الثوري لكينونتها ، ان تنتسب علاقة وطموحا الى المجتمع الذي تتحرك فيه ، وانما تظل – كاليهودي – غريبة عنه في مختلف نشاطاتها واحلامها . والكاتب في هذا انما يصادر على الحقيقة الضخمة التي تعيشها بلدان العالم الثالث ، حيث تلتحم مرحلتها الثورة الاجتماعية .. فتكون كل منهما سبيلا ومنطلقا للاخرى ، ويصبح الفصل بينهما مدعاة لافراغهما من محتوياتها ، فلا تصدق وطنية اذا لم تصدر عن ايمان صادق بالاشتراكية ، ولا تصح اشتراكية دون موقف وطني اصيل .
فطبقات الملاك واصحاب الاموال اذن ، تستحيل الى قوة غريبة على وجود المجتمع .. معادية له في مرحلة المخاض الثوري فهي اشبه – والحالة هذه – باليوريا التي تنحل اليها المادة الحية لتكون سموما ينبغي طرحها خارج الجسم الذي كانت الى عهد قريب جزءا منه . فالكاتب هدف الى تشخيص كل هذه المعاني عندما ربط في مسرحيته بين النمرود واليهود ، وصار الى فرز شعب بابل عنهما في محنته وانتصاره . على انه خلص الى هذه المعاني او الحقائق في حسه اكثر مما صار اليها في وعيه .
لقد اردت بهذين المثلين ان اؤكد حقيقة ان آثار الفنان لا يمكن لها ان تتحدد بما يعيشه وعيا محددا بالالفاظ منها ، ذلك ان حس الفنان قد يتجاوز به وعيه ، فيرتفع على كل ما انتهى اليه من فكر او ادراك محدد . وان لنا من هذه الاثار ان تنتقص اوابد الحس .. وغرائب اللا شعور ، لنصير من كل ذلك الى ما لم ينته اليه الوعي العام بعد ، شريطة ان نجد المبرر المنطقي والتاريخي الشروع لما نذهب اليه بشأنها .
ومهما يكن من شيء .. فان مرحلة تاريخية كاملة من مراحل تطورنا الاجتماعي استطاعت ان تجد عبر كاتبنا من يكشف عنها ، ويعبر عن شوقها وطموحها . فلقد انحل في ذات الكاتب موجود واقعنا الاجتماعي ، بكل ما يضطرب به من حدث .. ويعالجه من ضرورة . فكان ما طفحت به مسرحية (تموز يقرع الناقوس) من جدل حي وحياة مفعمة . وفي تقديري .. اننا في هذه المسرحية بما صارت اليه من تكنيك وكشف ، استطعنا ، ولاول مرة ، ان ننقد مسرحنا العربي من المطارحات الفكرية الجافية .. والمواقف او الصراعات الشكلية الباهتة الغبية ، التي لا ينهض بينها تضاد او جدل صادق ، وانما يقود مسار حركتها وتطورها حوار لفظي مفتعل . فانت من – تموز- امام ذات القوى والضرورات التي تنتظمها حركة وطموحا ، ولكن بالصورة التي تقدم النموذج ولا تنحط الى ذكر التفاصيل . ولكيما اصير الى تبرير ما ذهبت اليه هنا ، ارى ان اتوفر على تفصيل ما تنفست به المسرحية من بناء او مضمون .
لقد ذهب الكاتب في اول مسرحيته الى الكشف عن جوهر الصراع الذي انتظمت فيه المسرحية حدثا وشخوصا . ففي الكلمات الاولى التي ينطلق بها اثر احاسيس : (لا ادري لم يتحول الجموع الى اذلاء في ازمنة التعاسة .. الكل يهربون من كبرياء الشرير .. ليس هناك ملجأ للمنسحق .. النمرود يأخذ ولا يعطي .. وطبقة اليهود تسرق ولا تعاقب) ، نستطيع ان نميز ابعاد هذا الصراع .. وتفرز القوى التي تنخرط فيه . فثمة شعب قد اجهده المخاض وغاب في افقه النجم الثاقب ، فضل في متاهات المصير منسحقا مكدودا . وهناك على الطرف الاخر ، وقف النمرود وقد انسلخ كينونة ومصيرا عن بابل ، فيما انغلق على نفسه .. والهب فيه جنون التسلط نوازع العدوان والكراهية ، فراح يتآمر مع اليهود لسحق شعب بابل وابادة اثاره .
وفي متبابعته لحركة هذا الصراع ونموه الدرامي ، يتوفر الكاتب باصالة وعمق على تقديم نماذجه ورموزه ، فيرينا مواقعها من الصراع .. ويكشف عن حقيقة ادوارها ، فيوقفنا بذلك على واقع انتسابها الطبقي كموجودات اجتماعية تمتد في رحم المجتمع تاريخا فاتر احاسيس مثلا ، نستطيع ان نتحسس في ملامحه نموذج المفكر البرجوازي الصغير في ضياعه .. واضطرابه .. وانقطاعه ، وفي انغلاقه على نفسه ، ورفضه كل ما يمكن ان يشده الى العالم من اصرة او موقف ، واحسب ان المؤلف لم يتجن على نموذجه حقيقة انقطاعه عن العالم وانغلاقه وضياعه هذا . فكما ان البصير يحجره عماه فيمنعه من استشراف ما يتجاوزه به امتداد يديه ، فكذلك مفكر البرجوازية الصغيرة انانيته المستشرية ان يمتد بنازعه وهمه الى خارج اقطار ذاته الحبيسة . ثم ان الحكمة عند مفكر البرجوازية الصغيرة – كما هي عند اتراحاسيس – لا تقود الا الى الانقطاع والهرب من المدينة . ولقد احس الكاتب ان جعل اتراحاسيس يضطرب في حواره بين المعرفة والجهل ، فينتقل من عبارته الحالمة الذكية في اول المسرحية ، الى القول : (لعلي لست من بابل .. لم اعرف شيئا عن الذي يجري فيها ) .
اما شاركالي .. فيرمز الى الوعي او القائد الثوري ، وقد وفق عبر احتدام الصراع والتهاب المواقف الى نبذ كل اثار السلبية التي يزرعها المجتمع الطبقي في وجدانيات الافراد والجماعات . فمسيرته الدرامية بهذا هي تلخيص دقيق وترجمة امينة لمسيرة قوى الثورة في مجتمعنا الحديث ، وما عاشه من صراع عنيف مخيف في داخله بين ارادة الثورة وما ورثه من سلبيات مجتمعه المندحر ، هو ذات الصراع الذي ما انفك القائد الثوري يعالجه بمعاناة عميقة في ايامنا هذه . ثم هو يرمز ايضا الى الفكرة البابلية القديمة التي تجمع بين المعرفة والقوة .. وتقول الثانية على الاولى ، اذ ليست المعرفة بالمردود السلبي لحركة المحيط ، ولكنها امتلاك .. وبالتالي قدرة غير محدودة على قلبه وتغييره .
واما المجنون .. فاعتقد انه جمع الى حقيقة انه متابعة مشرقة لتقليد مسرحي قديم .. يمتد الى ما قبل عصر شكسبير ، كل ما يمكن ان يتميز به الواقع الموضوعي من حدة في المواجهة ، واصالة في الكشف ، وعمق في التشخيص ، مرارة واسى فيما يضطرب به من ظواهر وقيم .فهو ابدا يصفع الوجوه المحدقة به بما تخفيه او لا تراه من منطوياتها ونوازعها الدفينة ، دونما ابتذال او مشاتمة .
وفي هذه الخاصة تبدو آكلا على النقيض من المجنون ، فلا ابدا يلهج باللعنة .. وقلبها بالشر . ولقد ظلت على هذه الحال لا تحس من وجودها غير اقطار ذاتها المحدودة ، ولم تشأ ان تخرج على هذه الذات حتى اغراقها الصراع بدماء اولادها . فمثلها في ذلك كمثل بعض الفصائل التي لا تعيش من وجودها غير الانغلاق والخواء البائس ، ثم يحملها الصراع قسرا على ان تنظم فيه اداة وقوة ودفع .
وفي الوقت الذي كان تموز الابكم يرمز الى ثورة الرابع عشر من تموز التي ولدت بكماء ، كانت ارنيني في صفائها ، وشفافيتها ، ونبل حكمتها وعطائها ترمز الى فكر الاشتراكية ومثلها ، وكما ان ثورة تموز لا يمكن لها ان تنطلق بكامل مجدها واصالتها حتى تأخذ باسباب البناء والتحول الاشتراكي ، فكذلك تموز في المسرحية لا ينطق حتى ينصهر وجودا ونغما بآرنيني .
ولقد وفق الكاتب ايما توفيق الى الجمع بين كل هذه الرموز او النماذج المتضادة في خضم صراع شامل اضطربت فيه اكثر من ظاهرة وجودية او قانون .. وفي الحقيقة اننا كنا من احداث المسرحية اما صور وتطبيقات فذة لحركة الجدل . فثمة متضادات تؤلف بينها وحدة دائمة التبدل والصيرورة . وهناك ظاهرة تبادل المتضادات مواقعها داخل كل شخصية . وكذلك عبر نمو الحدث الذي تتحرك به . ولا اراني متنكبا جادة الموضوعية او الصواب اذا قلت : ان معظم الشخوص الرئيسية في المسرحية عانت تجربة الاستحالة ، فانتقلت من موقف الى اخر ينقضه وينفيه . فاتراحاسس الذي يطل علينا في بدء المسرحية بانغلاقه .. وتعاليه الاجوف .. وجهله المطبق بما يدور حوله – لعلي لست من بابل .. الثاني ينحاز صوب بابل حيث الاخرون عطاء .. ودفيء .. وحب . وكذلك شأن آركلا التي اعاد صيغتها وخلقها كونا جديدا موت اولادها الثلاثة على يد النمرود ، فقفزت الى حيث الجماعة بعد ان عاشت دهرها متقوقعة على نفسها .
اما اورشنابي وايشولنو .. فيحملهما الصراع على تراثهما من التبذل .. والانحطاط .. واللا مسؤولية ، ليكونا وقودا مباركا للثورة التي تأخذ بيد بابل الى حيث الجمال والضياء . وعلى الرغم من ان شاركالي لم يتحول وعيا ، الا انه انتقل بارادته وبالتالي بدوره كقوة ، من مواقف التردد والخوف الى التضحية والاقدام الذي لا يعرف حدا فيقف عنده – لم تكن رحلتي الطويلة ، الا لسبب واحد فقط ، هو قتل روح التردد في جسدي وصوتي ورأسي .
وما كان بشطحة خيال ان يربط المؤلف بين اتراحاسس وتموز ، ثم بين شاركالي وارنيني . فاتراحاسس بضياعه وتردده ما كان له الا ان يأتي بتموز ابكم ، في حين ان الادراك الثوري الذي صار اليه شاركالي كان لا بد له ان يتمخض عن ارنيني .. يكتب على يديها خلاص شعبها وانطلاقة حبيبها ، ومن ثم انبعاث الحياة في اوصال الكون الذي قارب ان ينحل .. فيفتح عناصر وموجودات .
وبعد ... فقد يأخذ البعض على المسرحية اعتمادها الاسطورة .. واللغة الفنية الشعر وشموخ الخيال .. او استيحاءها الرمز وبعض الاثار الفنية السابقة ، بيد ان كل ما تقدم لا يملك ان ينال من المسرحية قيمة واصالة . ذلك ان مسرحية (تموز يقرع الناقوس) ، وان افادت الكثير من الاسطورة .. والشعر .. وما سبقها من اثار ومعالجات درامية ، تبقى اثرا فنيا مستقلا واصيلا في شكله .. ومحتواه .. وزاوية رصده .
واخيرا وليس اخرا ، ارى انه لابد من التعرض ولو بكلمة عامة الى الجهد التمثيلي المجيد الذي بذلته (فرقة المسرح الفني الحديث) . فلقد وجدت ممثلي (تموز يقرع الناقوس) على قدرة كبيرة ي تمثل ادوارهم وتحسسها انفعالا وعلاقة . وكانوا بما امتازوا به من صدق وانسيابية حلوة في الحركة والايماءة قادرين على الاقناع والاخذ بأسباب النفس اخذ حكيم مقتدر ، بيد انني وجدت (يوسف .. وقاسم .. ومي .. وعبدالواحد .. وسامي) اقرب الى نفسي ، لما لمسته فيهم من كفاءة ورشاقة فائقة في السيطرة على حركة اعضائهم .. فكانوا ينطقون ، ويسمعون ، ويرون ، بالسنتهم .. واذانهم .. وعيونهم هم ، ذون تكلف او افتعال . واذا كان لنا نؤاخذ المسرحية كنص ادبي في شيء فعلي مضمون اللازمة التي كان يرددها المجنون – صوت الواقع الحي عقب كل حديث او مشهد – العالم اعطى .. والعالم اخذ – ذلكان مسار الاحداث ، وطبيعة الصراع الذي انتظم المسرحية ذاتها ، كان ينمو باتجاه توكيد الانسان ارادة وطاقة لا تقهر في مقابل الواقع وضروراته ، في حين ان مضمون اللازمة – على ما يبدو لي – يسلب الانسان من هذه الارادة والطاقة ، بل ويذهب الى توكيد مقابلها او نقيضها .. فيخلو بذلك من الطابع الانساني المجيد الذي وسم المسرحية احداثا ومواقف ليكون بالتالي غريبا عليها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع