الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار أملاه الحاضر 13 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 3 حد الحرابة 2

عبد المجيد حمدان

2013 / 4 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حوار أملاه الحاضر 13
الشريعة وتطبيق الحدود ......حد الجنايات 3 حد الحرابة 2
بادرت محدثي قائلا : أرجو أن تكون قد هدأت ، وأن لا نعود إلى ما انتهينا إليه في حوارنا السابق . قال متخابثا : وماذا كنا فعلنا ؟ قلت : يا رجل ، لقد صببت على شآبيب غضبك . لم يبق في قاموس السباب واللعن ما لم تصبه على رأسي ، ثم وصفتني بأوصاف أصغرها العلماني والعاصي والكافر والملحد ...وغيرها كثير . قال : أنا آسف ، ولكنك تطاولت على الإسلام ، وأثرت غضبي . قلت : وماذا قلت ؟ قال : اتهمت الإسلام بأنه عدو لحقوق الإنسان وللديموقراطية ، والحريات ، مع أنك تعرف ، وتقر ، بأن دين الإسلام هو دين الحق والعدل والمساواة والكرامة والإنسانية . قلت مقاطعا : ولكنني لم أتهم . أنا سقت وقائع ، هي تقول ، وأنا مجرد ناقل . قال : ها قد عدنا . أنا يا أخي لا أعرف لِمَ أشاركك هذا الحوار أصلا ، وأنا أعرف أنني يوم الحساب ، حين أقف بين يدي الخالق ، سيحاسبني على حواري هذا . سألته : ولماذا ؟ فأنت لا تقول أو تفعل ما يغضب ؟ قال : لأنني ، في هذا الحوار ، أشاركك في معاصيك ، في أوزارك ، وسيحاسبني الله على ذلك . قلت : وهل النقاش ، استنطاق الأحداث ، استعمال العقل ، البحث عن الحقيقة ، ضلال يؤدي إلى التهلكة ؟ وهل محاولة رؤية ما وقع ، والإقرار بالحقيقة ، يقع تحت باب الوزر والمعصية كما تقول ؟ قال : بالطبع هو كذلك ، لأنك تلوي عنق الحقيقة . وتُقَوِِّل الإسلام والمسلمين ما لم يقله وما لم يفعلونه . قلت : إذن تعال نعيد قراءة التاريخ ، تاريخ النظم التي وصفت بالإسلامية ، ولنرى معا ما إذا كنت أفتري على هذا التاريخ أم لا . قال : ولماذا لا نستقرئ معا تاريخ الفقه ؟ قلت : لأن الحكام حكموا بالسياسة وليس بالفقه . ألا تقولون أن الإسلام دين ودولة ؟ وأن لا انفصال بين الدين والحكم ، أي السياسة ؟ قال : نعم هي كذلك . قلت : أظنك تسمع ما يقوله بعض رموز تيارات الإسلام السياسي ، في مصر وتونس ، بحق المعارضة ، من التكفير ، والاتهام بالإلحاد ، ومن ثم مطالباتهم للرئيس وللدولة بضرب هذه القوى ، وحتى التصفية الجسدية . قال : نعم أسمع . ولكن تلك شطحات متعصبين لا يمثلون الدين والمتدينين . قلت : أنا لن أسألك لماذا ، ما داموا كما تقول ، لا تحاولون ، مجرد محاولة ، التصدي لهم ، سأسألك : ألم تحاول أن تسأل نفسك : من أين لهؤلاء أن يقولوا ما يقولون ؟ وإلى ماذا في دعاواهم تلك يستندون ؟ قال : ها قد بدأنا . أنا أعرفك . علمتني خبرتي معك كيف تمسك بواقعة لتنحرف بها إلى مقصدك ، وهو إثبات أن العيب في الشريعة نفسها لا فيمن يطبقونها . وهذا هو الوزر ، المعصية التي أشاركك حملها ، وسيحاسبني الديَّان عليها حين نقف جميعا أمامه . قلت : سامحك الله ، ولكن إذا كان تاريخ الحكم هو الدين فما تقوله صحيح . ولكن أنا أقول أن الحكام المسلمين حكموا بالسياسة التي ليست بالدين . وهؤلاء الساسة فعلوا ما فعلوا اجتهادا ، مسترشدين بثقافة ومعارف عصورهم ، وإن قالوا أنهم يستندون فيم يفعلون إلى الدين . قال : قلت لك ها قد بدأنا ، فليس صحيحا ما تقول يا سيدي . قلت : إذن دعنا نعود لنقرأ التاريخ ومن سطره الأول . قال : لنفعل ، ولأرى آخرتها معك .
سقيفة بني ساعدة :
قلت : أنت بالتأكيد تعرف ما جرى في سقيفة بني ساعدة – مقر برلمان أهل المدينة بلغتنا المعاصرة – فور انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى . قال : نعم أعرف . قلت : حدث وجسد النبي ما زال مسجى ، وأهل البيت – علي والعباس بصورة خاصة – يباشرون طقوس الغسل والتكفين ، أن اجتمع الأنصار في منتداهم ذاك ، للبحث في شأن خلافة النبي في ولاية أمور المسلمين . عرف أبو بكر بما يحدث ، فترك هو وعمر وأبو عبيدة ، ومعهم بعض المهاجرين ، طقوس تحضير جسد النبي للدفن ، وذهبوا إلى السقيفة . وهناك دار جدل بين المجتمعين ، انتهى بمبايعة أبي بكر بالخلافة . قال : نعم صحيح . وقد وصف عمر بن الخطاب ما جرى بأنه فتنة وقى الله المسلمين شرها . قلت : ولماذا هذا التوصيف بأنها فتنة ؟ قال : لأن الأنصار حاولوا أن يستولوا على حق ليس لهم . ونجاحهم كان سيوقع فتنة بينهم وبين المهاجرين ، كان من الممكن أن تكون عواقبها وخيمة . قلت : ولكن ما وقع كان أمرا طبيعيا . هو تعارض بين وجهتي نظر في السياسة ، يتمحور حول من هو صاحب الحق ، والأكفأ ، والأصلح ، لولاية أمر المسلمين ، أو قيادة الدولة ، بلغة اليوم . قال : ولكن الأمر كان واضحا ، وهو أن قيادة الدولة حق للمهاجرين ، ولمهاجري قريش على وجه التحديد . قلت : لو كان الأمر واضحا كما تقول ، لما فكر الأنصار في الوثوب عليه . والثابت أن القرآن ، كما النبي ، لم يترك للمسلمين ، ولو تلميحا ، لمن سيؤول هذا الأمر . ولأن الأنصار بمالهم ، بسلاحهم ، بمنازلهم ، بمزارعهم ، بأبنائهم ، لأنهم هم من تحمل جل عبء نصرة الدعوة ونجاحها ، لأنهم قدموا أكثر من المهاجرين بكثير ، فكروا ، أو ظنوا ، أن من حقهم أن يتولوا إمرة المسلمين . قال : ذلك غير صحيح . صحيح أنهم قدموا النصرة ، ولكنهم لم يقدموا أكثر من المهاجرين . قلت : لن أناقشك في هذا ، رغم أن الوقائع تقول العكس ، ورغم أن المدونين فيما بعد بالغوا في تضحيات المهاجرين ، وقللوا في المقابل من تضحيات الأنصار . ما يعنينا هنا أن أول خلاف سياسي ، وكان على هذه الدرجة من الأهمية ، بحيث ترك المسلمون جسد النبي مسجى ، وانشغلوا في هذا الخلاف ، فقد تم حله بالحوار . قال : أوافقك على هذا . قلت : لكن فات المسلمين أن يتخذوا الحوار قاعدة لحل الخلافات السياسية التي ستنشأ بالضرورة . بدليل أن عمر وصفها بالفتنة التي وقى الله المسلمين شرها . قال : لا أفهم قصدك . قلت : قصدي أن القاعدة التي وضعت قالت بتصنيف الخلاف السياسي على أنه فتنة ، والتعامل معها بما يوجب وقف الفتنة . ومعنى هذا سلوك طريق العنف بديلا للحوار الذي تم في السقيفة . قال : لا أوافقك . ما تستنتجه غير مقبول لأنه غير صحيح . قلت : أنت لا شك تتذكر ما حدث مع سعد بن عبادة . قال : بالطبع أذكر . كان الرجل طامحا في الخلافة ، رغم أنها ليست من حقه . قلت : هنا المشكلة . إذ من المفترض أنها حق لكل مسلم كفؤ . وسعد بن عبادة كان كفؤاً . ومع ذلك فالوقائع تقول أنه لم يسع إليها . كان مريضا ، وحين نقل إلى السقيفة ظل ممددا على أرضها . ولأن صوته كان ضعيفا ، كان هناك من يميل بجسده إليه ، يسمع ، وينقل ما يسمعه إلى الحضور . قال : نعم ذلك صحيح . قلت : وحدث بعد مبايعة أبي بكر ، أن قفز إليه عمر ، وطئه في صدره ، لدرجة أن أنصاريا صرخ : قتلت سعدا ، فرد عمر : قتل الله سعدا . قال : ذلك صحيح ، لكن ما هو قصدك ؟ قلت : سعد لم يبايع أبو بكر . واعتزل الصلاة خلفه . وكرر الأمر مع عمر . وفيما يبدو ظن أن خدماته الجلى للدعوة وللإسلام تشفع له . ولكن بدل ذلك دمغوه بصفة المنافق . وجرى التعامل معه على هذا الأساس . وبعد خلافة عمر ، التقيا في الطريق فشكا سعد من قسوة عمر ، مشيرا إلى أن سلفه – أبو بكر – كان أكثر لينا ومودة . فما كان من عمر إلا أن قال له ما معناه أن على من لا ترضيه الجيرة أن يرحل . ورحل سعد عن مدينته ، عن بيته وبساتينه . رحل إلى الأردن . لكن وقبل أن يستقر قتل . خرج ليلا لقضاء حاجة ، فجاءه سهم قتله . فكان أول مسلم يغتال على خلفية خلاف سياسي . قال : يا رجل اتق الله . هل تتهم عمر ، الخليفة العادل بقتله ؟ هذا والله لأمر منكر . وأضاف : أنت تعرف أن الجن هو من قتله . قلت : هذه رواية على درجة من السذاجة ، لا يصدقها إلا أحمق بلا عقل . خصوصا أنها منقولة على لسان صبية من المدينة ، مروا على بئر خرب فزعموا أنهم سمعوا الجن يتغنون بقتل سعد ، ولماذا ؟ لأنه بال واقفا . وأضفت متسائلا : هل كان بقاء سعد ، بخلافه السياسي مع الخليفة ، سيشكل أي نوع من الخطر على الدولة ؟ وألا ترى أن وضع مثل هذه القاعدة ، وصم المعارض السياسي بالمنافق ، ثم التخلص منه بالاغتيال ، قد وضع أول عثرة على طريق السبق للديموقراطية وللحريات السياسية ؟ قال : حقيقة لا أعرف من أين تأتي بهذه الاستنتاجات . يبدو أنك تقرأ كثيرا للمستشرقين أعداء الإسلام . ضحكت وقلت : قد لا تصدق لو قلت لك أنني لم أقرأ كتابا واحدا لمستشرق . ولسبب بسيط وهو أنني أعرف هذه التهمة الجاهزة ، فأتجنبها . ومع ذلك دعني أسألك قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية ، لحرب الردة : أليس هو ذات التوصيف ما يطلقه الإخوان وحلفاؤهم من تيارات الإسلام السياسي على رموز المعارضة في بلدانهم ؟ قال : لا أوافقك ، فما تقوله غير صحيح ، ولننهي هذه المسألة وننتقل إلى النقطة التالية .
حرب الردة :
قلت لمحدثي : كان خروج العديد من القبائل العربية ، على طاعة المدينة ، المعضلة السياسية الثانية التي واجهت حكم أبي بكر ، ومن اليوم الأول . اعترض محدثي وقال : لم يكن ما حدث حدثا سياسيا ، أي لم يكن خروجا على طاعة المركز ، وإنما كان ارتدادا عن الدين ، وهو ، أي الارتداد عن الدين ليس مسألة تتعلق بالسياسة . قلت : إذن لماذا اختلف المسلمون ، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر ، على تشخيص الحالة ؟ قال : لم يختلف المسلمون كما تقول . وتساءل مستنكرا ومستغربا : وإذن في رأيك كيف كان ذلك الاختلاف المزعوم ؟ قلت : الإخباريات – كتب التاريخ والسير – قدمت نماذج أو أشكالا للردة وعلى النحو التالي : 1) قبيلة واحدة ،هي خثعم اليمانية ، عادت ونصبت صنمها – ذو الخلصة – ثم عبدته . هذه ارتدت عن الدين فعلا . 2 ) قبائل ظهر فيها من ادعى النبوة ، وأدخل بعض التغيير على طقوس الصلاة والأذان . 3) قبائل امتنعت عن إرسال ما جمعته من الزكاة إلى المدينة .4 ) وقبائل رفضت مبايعة أبي بكر بدعوى أن بطن تيم ، عشيرة أبي بكر ، أضعف بطون قريش ، هو أدنى نسبا ومكانة وشرفا من مكانتهم ومن قبائلهم . وهؤلاء أعلنوا أنهم كانوا سيبقون على طاعتهم لو أن الخلافة آلت لعلي ، أو لواحد من البطون الأرفع مكانة من بني تيم ، من بطون قريش . وأشكال الردة هذه كما ترى ، عدا الأول ، أسباب سياسية غير دينية . قال : يا رجل اتق الله ، هل تقول أن ادعاء النبوة مسألة سياسية ، وليست ارتدادا عن الدين ؟ قلت : انظر إلى ما فعل مدعو النبوة هؤلاء . صحيح أنهم جميعا زعموا أن جبريل يأتيهم ، لكن أيا منهم لم يخرج عن فكرة التوحيد . لم ينكر وحدانية الله ، ولم يدع إلى الشرك به ، كما لم ينكر نبوة النبي وأنه رسول الله . سجاح مثلا لم تفعل شيئا غير إضافة اسمها في الأذان ، والقول بأنها نبية الله . طليحة تجاوب مع شكوى قبيلته من ثقل الصلوات الخمس فخفضها إلى ثلاثة ، ملغيا صلاتي الفجر والعشاء . مسيلمة مستلهما تراثه وتراث قبيلته المسيحية ، قال بالصلاة وقوفا ، ملغيا الركوع والسجود . قال : عجبا ، وهل هذا قليل ؟ أليس هذا ارتدادا عن الدين ؟ قلت : لو تمعنت فيما وصلنا من مدعي النبوة هؤلاء ، لرأيت أنهم حاولوا ، لتثبيت زعامتهم لقبائلهم ، ومن ثم لتحمل عواقب خروجها على طاعة المدينة ، حاولوا تقليد النبي في كل شيء . حاولوا تقليده في سلوكه وعلاقاته مع الناس ، وحاولوا في مخاطبتهم لقومهم ، تقليد القرآن من حيث استخدام السجع في الكلام . وما وصلنا يشير إلى أنهم لم يقدموا لقبائلهم أية تعليمات ، ومن ثم أية تشريعات ، لنظم حياتهم وعلاقاتهم . وما وصلنا مما قالوا كان من السخف بحيث لا يجتذب أحدا للأخذ به . قال : يا رجل أليس التغيير في الصلاة وفي الأذان تغييرا في الدين ، وبما يصح تسميته بالردة والكفر ؟ قلت : لا أوافقك ، ومع ذلك دعنا لا نتوقف كثيرا عند هذه المسألة ، التي في رأيي كان يمكن حلها بالحوار والإقناع ، ولأسألك : ألم تكن جباية الزكاة ، وتوزيعها على فقراء القبيلة ، بدل إرسالها للمدينة ، تعبيرا عن موقف سياسي ، جوهره الخروج على طاعة المركز ؟ هل يمكن توصيف ذلك بأنه ارتداد عن الدين ؟ قال : يا رجل كان ذلك خروجا على جماعة المسلمين ، فإضعافهم . ألا يشكل ذلك في رأيك ردة عن الدين ؟ قلت : لكن لِمَ ، برأيك ، اختلف المسلمون في هذا الأمر تحديدا ؟ أبو بكر قال بضرورة التعامل معهم بالقوة ، بالحرب . جماعة المسلمين ذكرته بحداثة عهد هؤلاء بالإسلام ، الذي لم يستقر بعد في قلوبهم وعقولهم ، ومن ثم نصحوا بأخذهم باللين والإقناع . عمر وقف أمام أبي بكر متسائلا : علام نقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . أبو بكر ذَكَّرَ الصحابة بأن الصلاة والزكاة مقرونتان . وأنه إذا كانت الصلاة حق الدين فالزكاة حق المال . وأوضح للناس الجوهر السياسي لمسألة إخراج الزكاة وحجبها عن المدينة قائلا : والله لو منعوني عناقا – سخلة – في رواية ، وعقالا في رواية أخرى ، كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليها ، حتى يؤدوها . وأضفت : أنت لا شك تذكر أن الصحابة ، وفي مقدمتهم عمر ، لم يوافقوا أبا بكر في البداية ، مما اضطر أبو بكر لمخاطبة عمر بتلك الجملة الشهيرة " أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام ؟ " . قال : نعم ذلك صحيح .
قلت : إذن فإن أبا بكر ، لوعيه بأهمية التزام القبائل بطاعة المركز ، حتى تكون هناك دولة ، وحتى لا ينفرط عقد دولة النبي ، أصر على حرب الممتنعين عن توريد الزكاة للمدينة ، وعلى حرب من رفضوا طاعته ، بزعم أنهم أرفع منه ، ومن عشيرته ، بني تيم ، شرفا ونسبا . لكن واجهت أبا بكر وعمر والجميع ، معضلة تتعلق بالعقيدة ، وتتمثل في عدم جواز مقاتلة المسلم للمسلم ، وحسم الخلاف السياسي بالحرب . وكان الحل بتكفير الخارجين على طاعة الحاكم ، واستحلال دمائهم وأموالهم . والغريب أن هذا الحل جرى قبوله ، ثم تحول إلى قاعدة ، تم اللجوء لها فيما بعد ، في كل ما طرأ من حالات مشابهة .
اعترض محدثي ساردا سلسة طويلة من الأحاديث ، ومقولات العلماء والفقهاء تؤكد صحة صدور حكم الردة ، أو التكفير ، بحق الخارجين على طاعة الحاكم ، وفي الأساس الآية التي تقرن بين طاعة الله ورسوله وأولي الأمر . قلت : أظن أنه يفوتك ، أنت وكل المروجين لهذه القاعدة ، أكثر من حقيقة . أولاها أن اقتران الدين بالسياسة ، كما تقولون ، كان يفترض من التنزيل ، وهو صادر عن علام الغيوب ، والله كاشف لحجب المستقبل ، أن يقدم إشارة ، تلميحا ، لكيفية حل النزاعات السياسية بالطرق والوسائل والأساليب والآليات السلمية . ولك أن تتخيل عظمة الخدمة التي كان سيقدمها النظام الإسلامي للبشرية ، لو أن ذلك حدث . ثانيها أن المسلمين ، وهم لم يقعوا على إشارة في التنزيل ، ولم يسمعوا أي توجيه من النبي ، كان عليهم أن يجتهدوا ، مستندين إلى ثقافة عصرهم . وثالثها أن بعضا من الصحابة ، الذين تأثر وعيهم بتعاليم الدين ، طرحوا فكرة الصبر على مانعي الزكاة عن المدينة ، ورافضي إمرة أبي بكر استنادا للتقاليد ، ومعالجة المسألتين باللين ، أي بالسياسة . هؤلاء لم تقبل وجهة نظرهم ، ثم نزلوا على رأي أبي بكر . ورابعها أن رأي أبي بكر كان صحيحا تماما من منظور السياسة ، المقيدة بتراث وثقافة ذلك العصر . وخامسها أن تكفير الخصم السياسي ، واستحلال دمه وماله ، وسبي نسائه وعياله ، أزاح جانبا ، وإلى قرون عديدة قادمة ، قاعدة " ولا تزر وازرة ُ ور أخرى " . أي أنه – التكفير - كرس مبدأ هدر حقوق أساسية للإنسان . قال : إذا كنت قد سمحت لنفسي بالإنصات لك ، وحتى التفكير في النقاط التي طرحتها ، فإنني أستنكر وأحتج بشدة على النقطة الخامسة . وأضاف : أنت تعرف أن الإسلام سبق الأديان والعقائد الأخرى ، وكل الأفكار والعقائد الوضعية ، في مسألة حفظ حقوق الإنسان بالذات . يا أخي لماذا تماري في حقيقة أن الإسلام هو دين الحق والعدل ، والذي لا يضاهيه أي دين أو فكر آخر ؟ قلت : دعني أسألك : هل أطفال ونساء وشيوخ القبائل التي صدر عليها حكم الردة ، كان لهم دور ، يتحملون بموجبه ولو جزءا مما فعله الكبار ، سادة ورجال القبيلة ؟ ثم ألم تكن مسؤولية الرجال في ذلك الأمر غير متساوية ؟ قال : أظن أن ذلك صحيح . قلت : إذن لِمَ سرى ، ذات الحكم على الجميع ؟ وأين وجه الحق والعدل ، في سبي الأطفال والنساء وتحويلهم إلى عبيد ؟ قال محتجا : ولكن ذلك لم يحدث . قلت : ها أنت تماري في الحق . تنكر الحقيقة كما هي عادتكم . لأنك تربيت أن لا تفكر ، وأن لا تعرض موقف أي صحابي للنقد . يا أخي تقول وقائع تلك الحرب ، أنه إضافة لقتل عشرات ألوف المسلمين ، الذين اختلفوا سياسيا مع القيادة الجديدة للدولة ، وانتزاع ممتلكاتهم ، واغتنام أموالهم ، تم سبي ألوف مؤلفة من النساء والأطفال الذين تحولوا إلى عبيد . هذا غير الرجال الأسرى . وأسألك : أي هدر لحقوق الإنسان أعظم من نزع حرية وإنسانية فرد واحد ، وليس ألوفا كما حدث ، لا لشيء إلا لأن الأب ، الأج ، الزوج ، العم ، الخال ، الرجل ، اختلف مع الحكم ، عارضه ، خرج عليه ؟ ومستغلا دهشته ، وتحضيره لقذفي بسيل من الاتهامات ، قلت : هل تتخيل حجم ومدى الخدمة للإنسانية ، لو أن خلافة أبي بكر ، كسرت قواعد سياسة ذلك الزمان ، وقررت فرض قاعدة " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ، وأسقطت مسؤولية الردة عن غير المسؤولين عنها ، وبالتالي أقرت وطبقت قاعدة جديدة تمنع سبي الأطفال والنساء ، وتقر لهم بعيش كريم ، رغم ثقل ذنب معيليهم ؟
أخيرا وقبل أن ننتقل إلى الموضوع التالي ، سألت محدثي : أليست قاعدة التكفير ، ورمي التهم بالإلحاد ، على من يوصفون بالعلمانيين والليبراليين والاشتراكيين ، التي يشهرها الإخوان المسلمون ، وتيارات الإسلام السياسي الأخرى ، في وجه معارضيهم ، هي ذات القاعدة السالفة التي قامت عليها حروب الردة ؟ قال : كل استنتاجاتك غير صحيحة ، والدين بريء مما تقول . قلت : لأنك معتاد على قبول التعاليم ، فإنك لم تستمع جيدا لما قلت . فأنا لم أتحدث عن الدين ، وإنما تحدثت في السياسة . السياسة التي حولتموها إلى دين . السياسة التي كانت اجتهادا لأصحابها ، ولم تكن دينا بأي حال ، والتي تكررون محاولات فرضها دينا في القرن الحادي والعشرين .
الفتنة الكبرى :-
وقلت لمحدثي : تعال ننتقل إلى أحداث الفتنة الكبرى ، والتي انتهت بمقتل أول وآخر خليفة منتخب في الإسلام ، وهو عثمان بن عفان . وإثر هزة من رأسه بالموافقة مضيت قائلا : أظنني لا أكون مخطئا أو مبالغا ، حين أقول أن أحداث الفتنة الكبرى دشنت عهود الصراعات السياسية الكبرى ، التي عصفت بسائر النظم الإسلامية ، والتي حملت نتائجها كوارث كبرى ، مازالت تتوالى في البلدان ذات الأغلبية المسلمة حتى يومنا هذا . وتابعت القول : وأن فشل المسلمين الأوائل في وضع قواعد سليمة ، سياسية وسلمية ، لحل هذا النوع من الصراعات ، كان المسؤول المباشر عن الكوارث التي وقعت فيما بعد . قاطعني محتدا : ها قد عدنا إلى الاتهامات . وصرخ : يا رجل لِمَ لا تتق الله فيما تقول ؟ قلت : تعال نحتكم إلى الوقائع وبهدوء ، ولنر بعدها من يتق الله ومن لا يتقيه . زفر محدثي وقال : على بركة الله ولنر آخرتها معك . قلت : كما أشرت كان الخليفة عثمان هو أول وآخر خليفة ومسؤول منتخب في كل التاريخ الإسلامي . قال : نعم . ذلك صحيح . قلت : وللتوضيح ، كان كل جمهور المنتخبين له مكونا من ستة أشخاص ، هم من بقي على قيد الحياة ، من العشرة المبشرين بالجنة ، أو مجلس قيادة الثورة الإسلامية بلغة عصرنا ، وكان عثمان واحدا منهم بالطبع . قال : وهذا صحيح أيضا . قلت : أما الذين أدلوا بأصواتهم فقد كانوا خمسة ، لتغيب طلحة . وحصل عثمان على ثلاثة أصوات مقابل صوتين لمنافسه علي بن أبي طالب ، وبالتالي فاز عثمان بفارق هذا الصوت الواحد . قال : ذلك صحيح أيضا . ولكن ماذا في ذلك ؟ قلت : جوهر الأمر هنا أن عثمان حصل على هذا الفارق بسبب تعهده بالسير على خطى سلفيه أبي بكر وعمر . ذلك كان برنامجه الذي تعهد بالتزام تطبيقه . علي خسر لأن برنامجه قام على أساس الالتزام بسيرة سلفيه ما وسعه ذلك ، وبالاجتهاد حينما يتطلب الأمر ذلك . قال : نعم مرة أخرى . ذلك صحيح .
قلت : وتُجْمع الإخباريات أن عثمان التزم ببرنامجه هذا في السنوات الست الأولى من خلافته . وبسبب ذلك حظي بحب الناس وولائهم . في السنوات الست التالية أخذ عثمان ينحرف عن برنامجه شيئا فشيئا . وأخذ حب الناس وولاؤهم ، يتناقص مع كل خطوة يخطوها عثمان بعيدا عن برنامجه . وبلغ الأمر في سنته الأخيرة – الثانية عشرة – أن تحول الحب إلى كراهية ، والولاء والثقة إلى الخروج عليه ، وذلك لأن انحراف عثمان بات كاملا عن برنامجه . وبلغ هذا الخروج حد انفضاض أغلبية الصحابة عنه . وكان أن وقعت أحداث الفتنة الكبرى التي تواصلت قرابة السنة وانتهت بقتله . قاطعني قائلا : بهذا لا أوافقك ، وأنت الآن تماري وتتجاهل الحقيقة . فالمسلمون لم ينفضوا عن الخليفة عثمان ، رضي الله عنه ، لأنه انحرف في حكمه عن سيرة سلفيه . لم ينفضوا لأنه انحرف عن الحق وارتكب الأخطاء كما قيل ويقال ، بل كان الانفضاض ، فالمعارضة ، بسبب تحريض ابن السوداء ، الملعون عبد الله بن سبأ . قلت : لستُ ناقص العقل حتى أصدق أن شخصا فقط ، بلغت ما بلغت قدراته ، نجح بمفرده ، وبوسائل ذلك الزمان ، في تحريض أهالي أمصار متباعدة ، مصر والكوفة والبصرة ، على تحريض المسلمين ، الصحابة وأبناء الصحابة ، ودفعهم للخروج على خليفتهم . وإذا ما قبلنا بتجميد العقل وشربنا مقولة أن ابن السوداء هو من حرض الأمصار ، توجب أن نسأل : ومن حرض أهل المدينة ، الذين يرون عثمان ويخالطونه ويصلون خلفه خمس مرات في اليوم ؟ هل كان ابن السوداء وراء سحب كل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله للثقة من عثمان ؟ وهل كان ابن السوداء هو من دفع عائشة للإطلال عليه في المسجد من نافذة حجرتها لتصرخ : هذا قميص محمد لم يبل بعد وأبليت سنته ؟ قال : أنت تماري في الحق من جديد ، ولا أدري ماذا أقول لك . أنت لا تذكر مثلا أن كثيرين من الصحابة بقوا على ولائهم له . قلت : صحيح ما تقول ، ولكن صحته نسبية . بمعنى أن الذين بقوا على ولائهم لعثمان كانوا هم أهله من بني أمية ، وعشيرته من المنتفعين منه . قال : يا رجل حرام عليك . هل يصح وصف صحابة من صحابة رسول الله بالمنتفعين ؟ قلت : لا تنحصر المسألة في يصح ولا يصح ، لأن التاريخ أمدنا بوقائع . ففي حقيقة الأمر كان هناك منتفعون ، ومنهم القائمون على بيت المال ، والذين كثرت عطايا عثمان منه لهم ولأهله والأقربين . وإلا كيف تفسر قبول الناس لاتهام عائشة له بالكفر ، وتحريضها عليه بالقتل ؟ قال : ذلك غير صحيح ومدسوس عليها وعلى المسلمين ، بدليل أنها بعد قتله قامت تطالب بدمه . قلت : ولكن الناس ذَكََّروها بما كانت تقول : اقتلوا نعثلا فقد كفر . والنعثل هو الشيخ الخرف ، وفي رواية أخرى هو الضبع ، فردت : قلت وقلت وقولي الأخير خير من قولي الأول . وأضفت : هذا رأي لعائشة وموقف سياسي بامتياز . رأي وموقف أَهَّلا عائشة لقيادة الخروج السياسي على الخليفة ، علي ، ثم أهلها لقيادة الخروج العسكري عليه ، في موقعة الجمل .
تشعب نقاشنا حول هذه الفرعية ، ولم نتفق . وعدت لأقول : دعنا نعود ونركز على المسألة الأساس ، على الجوهر . قال : أليس ما نتجادل فيه هو الأساس والجوهر ؟ قلت لا ، هو تفاصيل قد نتفق وقد نتخلف عليها ، تبعا لحجم قراءاتنا ومعارفنا . قال : بلهجة تحمل من السخرية أكثر مما تحمل من الجد : وما هو الجوهر حسب رأيك ؟ قلت : الجوهر ، أو المسائل الكبرى التي طرحتها الفتنة الكبرى، تتمثل في الأسئلة التالية والتي كانت إجابتها ستنعكس إما سلبا ، وإما إيجابا ، ومنذ ذلك الوقت المبكر ، على مسيرة البشرية كلها . عاد إلى السخرية قائلا : أتحفنا يا سيدي . قلت : الأسئلة هي : 1 ) هل التفويض للخليفة المنتخب هو تفويض من ناخبيه أم تفويض من الله ؟ 2 ) وهل يملك الناخبون حق سحب أو إلغاء هذا التفويض أم لا ؟ 3 ) وهل التفويض مطلق أم مقيد بأداء الشخص المنتخب ؟ 4 ) وهل من واجب المنتخب الحرص على الالتزام بعهوده أم يمكنه نقضها وعدم الوفاء بها ؟ 5 ) وهل التفويض للعمر كله أم لمدة تحددها قدرة المنتخب على أداء وظائفه ورضا الناس عنه ؟. وقلت لمحدثي هناك بالطبع قضايا أخرى طرحها الوضع آنذاك ، وتضاربت وتناقضت الإجابات عليها . قال : أنت تحاكم ذلك الماضي البعيد بمفاهيم العصر الحديثة ، وهذا لا يجوز . ضحكت وقلت : ألستم أنتم من يقول بصلاحيتها لعصرنا ؟ قال : سأتجاوز ملاحظتك وأسأل : كيف تضاربت إجابات أهل ذلك العصر عليها ؟. قلت : من وصفوا بالثوار ، وسار معهم أغلبية الصحابة ، قالوا أن تفويض الخليفة كان من الناس ،وليس من الله ، وبالتالي كان من حق الناس مراجعة الخليفة ، وإلزامه بالتراجع عما لا يرضيهم من تصرفاته وقراراته . وقالوا أن واجب الخليفة أن ينزل على إرادتهم ، ومن ثم التنازل عن الخلافة ، ما دام غير قادر على الاستجابة لمطالبهم . من جهته قال الخليفة والمحيطون به أن انتخابه هو تفويض من الله ، ينفي حق الناس في المحاسبة ، ويلزمهم بالطاعة بغض النظر عن أداء الخليفة . ومن ثم يلزمه الواجب بالتمسك بالمنصب إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا . قلت : ورغم أن مجتمع المسلمين اجترح آنذاك مأثرة الحوار ، والبحث عن حل سلمي للخلاف ، إلا أن تمسك الخليفة والمحيطين به بموقفهم ، أوصل الحوار إلى طريق مسدود . ولم يتبق من فرصة ، للخروج من ذلك المأزق ، إلا الرجوع لطريق العنف ، الذي انتهى بقتل الخليفة . وسألت محدثي أخيرا : أليس ذلك بالضبط ما يفعله الرئيس مرسي الآن ؟ ألم يقل أن تفويض الصندوق له هو تفويض من الله ، وليس من الثلاثة عشر مليونا الذين انتخبوه ؟ وألا يقول أن ليس من حق الناس عليه مراجعته في أفعاله ؟ وألا يطالبهم بحق الطاعة كانت ما كانت عليه إدارته من السوء ؟ وألا يطبق ذات الفعل بتكفير المعارضين له ، وبالتالي يصغي إلى تحريض أهله وعشيرته على البطش بهم ؟ واغتناما لحالة الذهول التي سيطرت على محدثي سألته منهيا هذه الفقرة من الحوار : هل يمكنك أن تتخيل حجم الخدمة ، حجم المساهمة في دفع البشرية على سلم الحضارة ، لو أن عثمان استجاب لطلبات التنحي ، ودشن قاعدة فض الخلاف السياسي بالحوار والاتفاق ؟ وهل يا ترى دار بذهنك ، وحاولت أن تتصور ، حجم الجرائم التي تكاثرت في كل العهود والنظم الإسلامية ، استنادا إلى موقف عثمان ذاك ، وقاعدة الحكم التي أرساها حل ذلك الخلاف بقتل الخليفة ؟
الحرب الأهلية :
وبعد أن انتهينا من مرافعة محدثي في الدفاع عن مواقف الإخوان في مصر ، وحوارنا حولها ، قلت : تعال ننتقل إلى خلافة علي ، والحرب الأهلية التي دارت رحاها آنذاك ، وطحنت عظام عشرات الآلاف من الصحابة . وأضفت : أنت ولا شك تعرف أن الثورة على عثمان ، هي من حمل علي إلى كرسي الخلافة . أي وصل علي إلى مقعد الخلافة بطريقة مخالفة تماما لطرق وصول أسلافه الثلاثة إليها . المهم هنا أن علي وعى ، أدرك ، ومن اليوم الأول ، أن الطريقة التي جملته إلى مقعد الخلافة ، أفضت إلى وجود معارضين لها . وأدرك ، ومن اللحظة الأولى ، أن عليه أن يجد طريقا مقبولا للتعامل معهم . لم تقتصر المعارضة على بني أمية ، عشيرة عثمان ، ولا على أتباعهم والمنتفعين من خلافة عثمان . خرج عليه أقرب الناس إليه . الزبير وطلحة اللذان اعتصما معه في بيته معترضين على خلافة أبي بكر . ومثلت عائشة رأس هؤلاء المعترضين . رد محدثي على سؤالي : نعم ذلك صحيح . قلت : اختار علي طريق الحوار والإقناع مع المعترضين . وحتى حين ظهرت نوايا الزبير وطلحة بالخروج إلى مكة ، بدعوى أداء العمرة ، لم يعترضهما . أهمية ذلك تكمن في أن علي اتبع ، في العلاقة مع المعترضين ، أو المعارضين ، طريقا مغايرا لطريق سلفيه أبي بكر وعمر . فعندما تخلف علي عن مبايعة أبي بكر ، جاء الاثنان ، وأحاطا بيت فاطمة ، بيت علي ، وأنذرا من فيه بالخروج ، وهددا بحرقه عليهم . احتج محدثي مقاطعا : هذا غير صحيح . هذه كذبة شيعية استهدفت تشويه سيرة الخليفتين ، وتبريرا لاستهدافهما بالسب والشتم وحتى التكفير . وأضاف : وأنا أستنكر استشهادك بمثل هذه الأقوال المنافية تماما للحق وللعقل . قلت : ألم يعلن أبو بكر وهو على فراش الموت ندمه على ما وصفه بكشف بيت فاطمة ؟ سكت محدثي ثم عاد ليكرر ما قاله . قلت : ليست هذه الواقعة هي ما يهمنا هنا . ما يهمنا أن علي قرر أن لا يضغط أو يعترض طريق معارضيه . قرر محاورتهم ، فإما أن يقتنعوا ويعودوا عن مواقفهم ، أو أن يواصلوها ، لكن بوسائل سلمية . سأل محدثي : وكيف ذلك ؟ قلت : هو أعلن أنه لن يرفع سيفا على أحد إلا مضطرا . بمعنى لن يجبر أحدا على مبايعته ، ولن يقاتله إلا إذا بادأه الآخر بذلك . قال ، والدهشة تبدل كل ملامحه : وهل طبق ذلك ؟ قلت : نعم فعل . آنذاك بعث من يحاور عائشة ، ويذكرها بمواقفها من التحريض على عثمان ، ومواقف علي المعارضة لذلك ، ومن يحاور طلحة والزبير . ولم يقتنع أي منهم بإقصار معارضته على الجوانب السلمية ، رغم هشاشة مواقفهم . وتركهم علي ولم يعترض طريقهم . وحتى حين جاءته الأخبار بأن عائشة ومعها الزبير وطلحة ، وجماعة من بني أمية ، وعلى رأسهم مروان بن الحكم ، يراسلون القبائل ، ويتأهبون للخروج إلى البصرة ، رفض الاستجابة لدعوات اعتراضهم . وبعد أن تطورت الأمور ، واضطر هو إلى الخروج إلى الكوفة ، وبعد المذابح التي وقعت في البصرة ضد مشايعيه ، واصل نهج الحوار مع عائشة . وفشل الحوار . وكانت معركة الجمل التي قتل فيها طلحة والزبير .
واللافت في نهج علي أنه وهو يلجأ للحسم العسكري ، بعد فشل الحوار ، رفض قاعدة تكفير خصومه . سواء أكان هؤلاء الخصوم عائشة وقادة ومحاربي معركة الجمل ، أم معاوية ومشايعيه من أهل الشام والمناصرين . طبق علي على الحرب القائمة على الخلاف السياسي ، قواعد الحرب الأهلية . وقضت هذه القواعد ، بعد رفض واستبعاد التكفير ، رفض الاستيلاء على أموال ، وسبي أسر ، الخصوم كغنائم . وفقط سمح بأخذ أدوات الحرب ، السلاح والخيل والإبل كغنائم . وفي البداية قبل أتباعه ذلك . ولما طالت الحرب وازدادت مشاقها ، أخذوا في التذمر . قالوا : أحل لنا دماءهم وحرم علينا أموالهم ونساءهم . وقلت لمحدثي : أظنك تعرف كل ذلك . قال : نعم أعرف ، ولكن ، وبصراحة ، لم أكن أضعها ، أو أنظر لها بهذه الصورة . قلت : وإذن تعرف أن معاوية حين سمع بتذمر مقاتلي علي ، أرسل لهم من يستميلهم بالمال ونجح في ذلك . قال : نعم أعرف ذلك أيضا . قلت : الأمر الآخر المهم تمثل في تشكيل أول تنظيم سياسي معارض في الإسلام . ذلك التنظيم الذي عرف بالخوارج . احتج محدثي قائلا : ولكنه لم يكن تنظيما سياسيا . كانوا مجموعة خرجت على جماعة الإسلام ، على علي وتابعيه ، وعلى معاوية وتابعيه . قلت : ذلك صحيح ، بمعنى خروجهم على الطرفين . لكنهم رفعوا لخروجهم شعارا أو قاعدة الحاكمية لله ، وليس للبشر ، ومن ثم كفروا علي ومعاوية وجماعة المسلمين الآخرين . وأيضا رفضوا القاعدة التي تحصر ولاية أمر المسلمين في قريش . قالوا أن من حق أي مسلم كفؤ أن يتولى أمر المسلمين ، أي أن يكون خليفة . ورغم أن المرء الآن لا يملك إلا الإقرار بتقدم فكرة الخوارج تلك ، لكنه لا بد أن يلاحظ عجزهم عن إيجاد آلية لتطبيقها . وما يهمنا هنا أن علي واصل نهجه في محاولة التعامل مع الخلاف السياسي الجديد هذا ، بوسيلة الحوار . بعث لجماعة الخوارج ابن عمه عبد الله بن العباس . ثم قام هو بمحاورتهم . ومن جديد ورغم قوة حججه وهشاشة مواقفهم رفضوا الانصياع لمنطق العقل . وقلت لمحدثي : أظنك تذكر تعبيرهم عن دهشتهم من علم علي بقولهم : لله دره ما أفقهه ، أو ما أعلمه . المهم أن علي صبر عليهم ، رغم علمه بتكفيرهم له ، وبتكفيرهم لجماعته ولجماعة المسلمين . وفقط تحرك حين بدأوا بمهاجمة وترويع المسلمين ، وبسبي النساء واغتصابهن وقتلهن . بعدها قاتلهم وكاد أن يفنيهم .
قلت : وأعود لأشير لو أن هذا الحزب السياسي الأول في الإسلام ، استجاب لنهج علي ، واختار طريق العمل السياسي السلمي ، لكان قدم للإسلام وللمسلمين وللبشرية خدمة يعجز المرء عن توصيف مزاياها وتأثيرها على تطور الحضارة . لكن الخوارج ، متأثرين بثقافة عصرهم ، اختاروا طريق المواجهات العنيفة ، ونجحوا في قتل علي ، وإسقاط منهجه كله .
وقلت لمحدثي : وقبل أن نختم هذه الجولة من الحوار أسألك : ألا تقرأ في سلوك الإخوان ، وجماعات الإسلام السياسي المتحالفة معهم ، ذات مواقف الخوارج ؟ قال : بالعكس فالإخوان هم من يعرضون الحوار ، والمعارضة هي من يرفض . قلت : ولكن ألم تر في عروضهم سمات الحق الذي يراد به الباطل ؟ وألا ترى أنهم في كل خطوة يستلهمون ذلك الماضي الذي لم يجلب للناس غير المآسي والكوارث ؟ قال : لا أوافقك وأنت هنا تجانب الحقيقة . وطال حوارنا حول هذه النقطة ، ولنتفق في الختام أن تكون موقعة كربلاء وما حفلت به من أحداث ، وما حملته من دروس ، موضوع حوارنا القادم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اذا كان الرب للاقوام مهلكا فما المرجو من اتباعه
لا مبالي ( 2013 / 4 / 5 - 12:11 )
وَأَمَّا عَاد فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) (الحاقة:6) .
سورة الفجر :
- أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادْ (6) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادْ (7)
ألا تذكرون أن الله جعلكم وارثين للأرض من بعد قوم نوح الذين أهلكهم الله بذنوبهم

(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُم عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ

(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).
وفي الآية (5) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم: (فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية)

.
عندما عذب الله هذه الاقوام ، عذب صغيرها وكبيرها، نساءها ورجالها، ولم يبق احدا منهم
وهكذا عمل ابو بكر في حروب الردة وهكذا كانت الغزوات الاسلامية وهكذا كان مقتل القادة الاسلاميين بدءا من عثمان وانتهاء بالقذافي (هناك تشابه في طريقة مقتلهما ) انظر مسيرتهما ومقتلهما
فالكافر يقتل والمرتد يقتل والزاني يقتل والسارق تقطع يده والمنافق والمشرك واهل الكتاب ،
يدفعون الجزية، والعين بالعين والاذن بالاذن
فهكذا هي حياتهم خالصة لوجه الله، وليس هناك اي معاييراخلاقية ت

اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص