الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بِغَالْ النفط وظاهرة الشيخ معاذ

عبد الله حنا

2013 / 4 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


1
أواخر القرن الرابع قبل الميلاد أملى الملك فيليب على ابنه الاسكندر المكدوني ، الفاتح الحربي المشهور ، الوصية التالية :
إذا اردت ان تفتح بلدا فأرسل لأهلها بغلا محملا بالذهب .
منتصف القرن العشرين بعد الميلاد ، وتحديدا في خمسينياته ، أخذ وقع حوافر بغال الاسكندر يُسمع في بلاد الشام ، وما لبث أن اصمّ ضجيها الآذان ، في صخب امتد إلى القرن الحادي والعشرين . قوافل البغال هذه لم تكن تحمل كبغال الاسكندر " الأصفر الرنان " بل شالت على ظهورها " الأخضر الفلتان " ، الذي طأطأت له رؤوس كثيرة ونبذته قامات وطنية مشهود لها بالإباء والكرامة .
( و" الأخضر " اسم حركي اطلقه أهل دمشق على الدولار ، تحاشيا لذكر اسمه ، أثناء تبديل العملة في السوق السوداء . أما نعت الدولار بالفلتان فنترك تفسيره لفطنة القارئ ، وتاريخ رعاة البقر ، وما احدثوه من فلتان لا يعلم به إلا الله . هذا الدولار الأخضر ، الدولار النفطي ، اصبح " محجة " للكثيرين في بلاد الشام من حكام ومعارضة . وينطبق على هؤلاء ما قاله شيخ دمشق الأكبر محي الدين بن عربي لمحاججيه : " معبودكم تحت قدمي " ، في إشارة إلى دنانير كانت مطمورة في الأرض تحت قدميه . )

2
كانت بغال السعودية المحملة " بالأخضر" من البترودولار أول من حطّ الرحال في العديد من مناطق بلاد الشام . وما لبثت أن تبعتها ، على استحياء ، بغال الخليج الأخرى . ومع احتلال الغاز موقعا مفصليا في عالم النفط يلاحظ أن بغال قطر بذّت الجميع بسرعة التحرك والالتفاف والمقدرة على الجمع بين الأضداد . وبعد انتصار " الثورة الإسلامية " في إيران وسيرها في طريق تصدير الثورة ، أخذت بغالها المحملة بالبترودولار تنافس بغال الخليج في السباق على دروب سورية وتوزيع حمولتها على بني البشر المذهولين . والملفت للنظر أن الكثيرين من حكام ومعارضة لم يبقوا في بلادهم منتظرين وصول البغال ، بل أخذوا يتراكضون إلى اسطبلات البغال للحصول على ماتيسر من الحمولة قبل وضعها على ظهور البغال .
3
وكان من نتائج هذا السباق في تنزيل حمولة البغال البترودولارية على الأرض السورية ، حدوث خلل في التوازن الإقتصادي الإجتماعي القائم ( قبل النفط ) في سوريةعلى أرضية منتجة زراعية وحرفية ومن ثمّ صناعية ، وحلول أرضية هجينة غير منتجة يسقيها أولا البترو دولار الخليجي ، وتاليا الإيراني . وكان تصادم البغال النفطية الخليجية والإيرانية هو السبب الأساس في تحوّل سورية إلى ساحة حرب تعيش البلاد مرارتها .
انبتت هذه الأرضية البترودولارية أشواكا وأعشابا وطحالب نمت في ثناياها طفيليات بورجوازية أكلت الأخضر واليابس ، متحالفة مع العساكر ومتقاسمة معها الغنائم . هذا التحالف البيروقرط الطفيلي سعى لتغيير معالم الدولة الوطنية ، التي بنتها سواعد الفئات المنتجة وأدمغة مفكريها . وكان للبورجوازية الوطنية الصناعية المنتجة ، المتحالفة مع البورجوازية التجارية المرتبطة بالإنتاج المحلي إسهام اساسي في بناء الدولة الوطنية الديموقراطية ، التي شهدت عصر ازدهارها في عهد برلمان 1954 - 1958 .
" البورجوازيات البيروقراطية والطفيلية " المؤلفة من جميع الطوائف أخذت ، بمعونة البترودولار ، تدك معاقل الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية ، وتبني مكانها " دولتها الأمنية " ، التي استقرت ، مع استثناءات ، في يد قوى عسكرية من الطائفة العلوية المحرومة سابقا " . ولاسباب كثيرة ، لا مجال لها هنا ، اندفعت عساكر هذه الطائفة في السلب والنهب وتحوّلت إلى قوى ظالمة ، أنشأت لحماية نفسها " المباحث السلطانية ". واللافت أن أول من طالتهم يد الإرهاب المباحثي السلطاني الشباب الوطني العلوي الواعي المحتج بشجاعة على سلوك هذه العسكرتاريا الناشئة ، التي لا ترعى ذمة ولا ضمير . وفي الوقت نفسه كان طغيان المباحث السلطانية يطال سائر المحتجين ومن مختلف الطوائف ، مما أدى إلى مذابح في حماة وغيرها المعروفة للجميع .
ومع ازدياد تدفق قوافل البغال النفطية دخلت البورجوزية التجارية ( بأغلبيتها السنية ) على خط الحكم مشاركة عددا كبيرا من " المسؤولين " ( من عساكر ومدنيين ) في التجارة وعقد الصفقات المشروعة وغير المشروعة . كما ظهرت إلى الوجود مجموعات سنية ناشئة تاجرت وسمسرت تحت عباءة بعض قادة النظام . واصبحت العين المجردة ترى التحالف القائم بين البورجوزية التجارية ( السنية ) مع البورجوزية البيروقراطية ( بأكثريتها العلوية ) . وقد رسّخ النظام أقدامه منذ سبعينيات القرن العشرين بفضل هذا التحالف ، وما وصل إلى أرصدته من نَعَم البغال النفطية الخليجية والإيرانية . وهذا هو أحد أسرار " الهدوء " الذي عمّ مدينتي دمشق وحلب أثناء التحركات الشعبية السلمية وفي المراحل الأولى من العسكرة ، قبل دخول المسلحين إلى حلب واقترابهم من قلب دمشق . وكان انزلاق التحركات الشعبية نحو العسكرة كارثة حلت بالبلاد ، حيث اصبح الدولار النفطي الخليجي والإيراني سيد الموقف في كلا المعسكرين ، تكتوي بناره ملايين النازحين أو المهجرين في داخل سورية وخارجها .
4
التحرك الشعبي المنطلق من المناطق الفقيرة أو غير المستفيدة من " نِعَم النظام " سار بإيقاعات متنوعة متحدياً النظام ، تُحَرِكه المشاعر السنية المختلفة الإتجاهات والدوافع . وأدى دخول " دعاة اسلاميين " على خط التحرك واستخدامهم لأحدث وسائل الإعلام الممولة " نفطيا " إلى شحن المشاعر السنية بكره الآخر والتحريض عليه وتحويل التحرك الشعبي ذي الطبيعة الوطنية والشعارات المنادية بالحرية والكرامة إلى تحرك اتخذ منحى مذهبيا باتجاه العداء للنصيرية العلويين ، الذين يهيمن من اغتنى منهم على مفاصل النظام القائم . وهذا التيار السني المتطرف ( المعادي للعلويين كمذهب ) لم يخدم التحرك الشعبي الذي سعى اليسار والقوى السنية المعتدلة إلى جعله تحركا وطنيا يشمل سائر أبناء المذاهب والطوائف المكتوية بممارسات النظام وعنجهيات كثير من قواه الأمنية وغيرها من مراكز القوى . وقد أنقذ هذا التيار المتزمت والمتحجر والمستند إلى الجوانب المظلمة من تاريخنا النظام بسبب إخافته للطوائف الإخرى وجعلها ترى في النظام طوق النجاة ، إضافة إلى إزورار قوى سنية متنورة ، معتدلة ، وسطية ، من هذا التيار المتحجر الظلامي الغريب عن الأجواء السورية ، وعن عقلية سنتها ، التي احتضنت ، انطلاقا من نظرتها الوطنية ، سائر المكونات الطائفية والمذهبية والدينية تحت علم " الدين لله والوطن للجميع " .
التحرك الشعبي في أعماقه كان موجها ضد ممارسات البورجوازية البيروقراطية ودولتها الأمنية ، مرتديا أزياء متعددة تتناسب مع التعددية الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية للمجتمع السوري ، الذي عاش ، كما ذكرنا ، تحت راية " الدين لله والوطن للجميع "
وكان واضحا للواعين سياسيا ، المتتبعين للاحداث بعين وطنية ، خطر تحويل التحركات الشعبية عن مسارها السياسي المناهض للاستبداد ، وطمس الحقد الدفين على " الحرامية " من بورجوزيات بيروقراطية وطفيلية ، إلى حقد ضد طائفة يستأثر مستغلوها بمفاتيح الحكم .
ومع إمعان النظام في قمع المظاهرات بالرصاص الحي اجتاحت البلاد عاصفتين صحراويتين :
- عاصفة المتزمتين الإسلاميين , التي تنهل من التراث المملوكي العثماني وتكفيريات ابن تيمية , مسعِّرة للأحقاد وضاربة عرض الحائط بالتراث العربي الإسلامي المجيد في أيام عزه , والذي ضمّ بين جناحيه سائر مكوّنات المجتمعات العربية الإسلامية وأنتج حضارة إسلامية مزدهرة ومنفتحة على العالم بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديين .
- عاصفة الحشد الطائفي ( العلوي ) الذي تسّعره بعض قوى السلطة لحماية ثرواتها وما سرقته من أموال الشعب . وهذه القوى الرأسمالية البيروقراطية والطفيلية تُخِيف الطائفة العلوية زاعمة أن " وجودها " مهدد بالخطر إذا لم تمتشق السلاح وتسير وراء الحكام . كما تعزف قوى الحكم على أوتار إخافة الأقليات الدينية والمذهبية ( مسيحيون ودروز واسماعيليون ) ودفعها لمساندة النظام خوفا من قدوم " عثمانية " جديدة تعيدها إلى عهد السلطان المستبد عبد الحميد وأجداده .
هاتان العاصفتان الصحراويتان المشبعتان برمال النفط الخليجي والإيراني حوّلتا سورية قاعا صفصفا ، وهزّتا المجتمع هزّا عنيفا يهدد بتصدعه وانهياره .
لقد تشابكت في التحركات الشعبية ، الموجه في العمق ضد الرأسماليات الطفيلية وصلفها ، الدوافع الطبقية والطائفية ، وتداخلت بصورة طغى الدافع الديني المذهبي على الدافع الطبقي ومن ضمنه الحياة المعيشية للمواطن الفقير والمقهور .
ونتيجة لهمجية النظام واسترساله في القتل والإرهاب من جهة وسيطرة " الدعاة الإسلاميين" وأفكارهم المتزمتة المنغلقة والمتحجرة من جهة أخرى ، غُيّبت الممارسات الاستغلالية والاستثمارية للفئات الحاكمة واقتصر حديث الدعاة على تأجيج المشاعر الطائفية وتسعير الحقد المذهبي وكره الآخر وتكفيره والاستعلاء عليه . وفي تلك الأجواء اتجه التحرك الشعبي السلمي ، بسبب استخدام المباحث السلطانية للرصاص الحي في تفريق المتظاهرين ، باتجاه العسكرة ، وكان للبترودولار الخليجي والإيراني دور كبير في الدفع بهذا الاتجاه . وتسارعت وتيرة وصول حمولات البغال النفطية ، مما اسهم في إذكاء الصراع وتصويره صراعا مذهبيا ، وتحويل سورية إلى ساحة حرب اقليمية ، ومركز تجاذبات دولية تتداخل فيها دوافع متعددة يتصدرها الإرث الاستعماري للدول الرأسمالية المهيمنة على العالم .
5
في هذه الأجواء المضطربة برز فجأة اسم الشيخ أحمد معاذ الخطيب الحسني ابن دمشق ( " العتيقة " قبل هجرة الريف إلى المدينة ) وسليل عائلة دينية معروفة . رجل في ريعان الشباب جمع بين علوم الدين والدنيا ، تتوسم في محياه الخير ، وتأسر كلمات جمله القصيرة ، التي يكتنفها الغموض المتعمد ، قلوب المتعطشين إلى الخلاص من المحنة .
والسؤال : من الذي اسهم في دفع هذا الشيخ إلى صدارة الأحداث ؟ .. حسب علمنا أن رياض سيف صاحب القدح المعلى في اشعال انوار ربيع دمشق عام 1902، ووريث خالد العظم الممثل الأبرز للبورجوازية الوطنية المنتجة ، هو الذي ارتأى اختيار الشيخ معاذ الخطيب لترؤس الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة . وسرعان ما احتجّ بعضهم على هبوط معاذ الخطيب بالمظلة لترؤس المعارضة . ونحن نرى أن البروز المفاجئ للشيخ معاذ لم يكن محض صدفة ، بل هو تعبير عن ضرورة تاريخية لإنقاذ سورية من ويلات الحروب وجحيم المخابرات السلطانية وخطر التطرف الديني . ولكن هل يمكن لفرد مهما علا شأنه أن ينقذ بلادا ؟ .. تتحكم بها طُغم بيروقراطي طفيلية ويسودها نظام أمني انكشاري وتحولت إلى ساحة حرب بين القوى الإقليمية والدولية ؟ ..
لقد امست الضرورة التاريخية تستدعي ، حسب رأينا ، اعتلاء سدة رئاسة المعارضة شخصية محترمة تجمع بين علوم الدين والدنيا . لماذا ؟ .. نتيجة لصبغة النظام الطائفية ( العلوية ) اتخذت التحركات الشعبية وبخاصة بعد انزلاقها نحو العسكرة صبغة طائفية أو مذهبية ( سنية ) أخذت ملامحها تزداد وضوحا يوم بعد يوم . وقام الإسلام السياسي بتصعيد المشاعر السنية وتحويلها عن خطها الوسطي المعتدل والمتسامح ، وعن مسؤليتها الوطنية في ضمّ الجميع تحت علم الوطن وشعار الدين لله والوطن للجميع . وزاد في الطين بلّة أن الأجنحة المتطرفة من الإسلام السياسي دفعت ، بمعونة البترودولار وتسهيلات " الأردوغانية العثمانية " باتجاه تحويل ولايات بلاد الشام " أرض رباط وجهاد " ... وهكذا وقع الشعب السوري بين نارين " أحلاهما مرّ " .
الأوضاع المأسوية في سورية بحاجة إلى شخصية تتمتع بمؤهلات تجمع المجد من جميع أطرافه كي تسهم في عملية الإنقاذ . فهل الشيخ معاذ قادر على الاسهام في انجاز هذا الأمر العظيم ؟ .. وهل سيكتب النجاح لظاهرة الشيخ معاذ ؟ في خضمّ تشابك العوامل الداخلية والتراثية والخارجية .
***
**
*
بعد هذا التمهيد الطويل سنحاول قراءة ظاهرة الشيخ معاذ وما يحيط بها من مشكلات ، وهل سيُكتب لها أو لأمثالها النجاح .
أولا
نرى أن مبادرة الشيخ معاذ بالتفاوض مع النظام لحقن دماء الشعب تمتد جذورها إلى موقف شيوخ دمشق وأعيانها في الثورة السورية لعام 1925 . في ذلك الحين هاجم الثوار قصر العظم لأسر الجنرال سراي متحصنين في ازقة سوق البزورية . وكان واضحا أن مدافع الانتداب الفرنسي الاستعماري ستقصف دمشق من روابي المزة . عندها طلب الشيوخ والأعيان من الثوار الانسحاب من دمشق تجنبا من تدميرها ، وقصْرِ نشاطهم الحربي في قرى غوطة دمشق وأريافها . فامتثل الثوار للنصيحة ، دون تلكؤ ، ونجت دمشق من الكارثة .
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ثورة 1925 ، التي هُزمت عسكريا عام 1926 ، انتصرت سياسيا بإعلان دستور 1928 . هذا الدستور وضع اسس الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية ، واختار لها العلم المثلث الألوان بنجومه الحمراء الثلاث ، وهو علم الثائرين اليوم ، الذين اطلقوا عليه اسم علم الاستقلال . ومما يثير الأسى أن جماعات الإسلام السياسي المتطرف في سلقين نزعت علم الاستقلال رمز الدولة الوطنية السورية من أحد رافعيه وداسته بالأقدام . ولا يخفى أن لهذا التصرف أبعاد ترمي إلى محو معالم الدولة الوطنية المدنية . هذه الدولة التي سعت المباحث السلطانية إلى تحويلها إلى دولة أمنية بشرايين طائفية . واليوم تحلم بل تسعى القوى المتطرفة من الإسلام السياسي إلى ( اتمام عمل المخابرات السلطانية ) في محو آخر معالم الدولة المدنية الوطنية الديموقراطية ، التي وضع أسسها عام 1919 رواد النهضة العربية أيام الملك فيصل ، وشادها المناضلون أيام الانتداب الفرنسي ، ورسّخ دعائمها مثقفو الاستقلال 1946 . هذه الدولة الوطنية تتعرض اليوم للإبادة على أيدي من يحلمون باسترجاع خلافة السلطان عبد الحميد .
فهل يمكن لمبادرة الشيخ معاذ في هذه الظروف المعقدة والحرجة والمأسوية أن تنجح . أرى أن جوهرالمبادرة لا يقتصر فقط على حقن الدماء ، بل ينشد مضامين تحلق في سماء سورية داعية إلى الحفاظ على ما تبقى من معالم الدولة الوطنية واسترجاع ما دمره طغاة المباحث السلطانية . وبسبب حراجة الوضع الداخلي ، فإن مبادرة الشيخ معاذ وتصريحاته تطرقت للتطرف بعبارات حذرة غائمة ( كالإشارة بصورة غير مباشرة وباستحياء إلى طول اللحى ) ، ولكنها لم تتجاسر أو لا ترغب في مجابهة التطرف ، ولعل الوقت لم يحن بعد ...
ثانيا
أتساءل : هل يمكن اعتبار الشيخ معاذ ومن يسير على نهجه ورثاء لحركة مجتهدي دمشق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ؟ ..
في ذلك الحين نشأت في دمشق حلقة صغيرة ضمّت لفيفاً من علماء (شيوخ) دمشق المتنورين، وفي طليعتهم الشيخان عبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي أخذوا يجتمعون على قراءة الحديث ويطلبون الدليل على أقوال الفقهاء . فما كان من سلطات دمشق العثمانية آنذاك إلا أن وجّهت تهمة الاجتهاد إلى هؤلاء المشايخ ، وعقدت مجلساً خاصاً في المحكمة الشرعية لمحاكمتهم فيما عُرف بمحاكمة المجتهدين ( عام 1313هـ - 1896م ) .
وكانت حادثة المجتهدين هذه من الحوادث العظام في دمشق في عصر لم يكن في البلاد أحزاب وآراء متنوعة. " ولا يعرف الناس إلا أن الخلافة إسلامية ، وأن شرع الله يؤخذ عن مذهب أبي حنفية". ( انظر التفاصيل في كتاب لظافر القاسمي " جمال الدين القاسمي " ، دمشق 1965 .)
عام 1904أشارت مجلة "المنار" لصاحبها الشيخ رشيد رضا إلى حادثة المجتهدين وانتقدت " الزعم القائل بأن باب الاجتهاد أُقفل بعد القرن الخامس " . ومضت المنار قائلة : " لا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة وكلها ترجع إلى إهمال العقل وقطع طريق العلم ، والحرمان من استقلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى ".
مجتهدو دمشق هؤلاء اسهموا في وضع اسس الحركة الاصلاحية في دمشق ، وكانوا من الآباء الروحيين لرجالات الوطنية في زمن صعود حركة النهضة العربية والتنوير الإسلامي . فهل يمكن للشيخ معاذ ومن يسير على منهجه أن يجتهدوا وينقذوا البلاد من " مصيبتين " حلّتا وهما : طغيان المباحث السلطانية ، وتحجّر المتطرفين من دعاة الاسلام السياسي ؟ ..
ويبدو لنا من خلال جُمل الشيخ معاذ المقتضبة أنه مدرك ثقل هؤلاء وخطورتهم ، فخاطبهم وخاطب مريديهم مواربة ، وهو كما نرى ، لا يستطيع السير اكثر من ذلك . فمجتهدو دمشق السابقين عاشوا ارهاصات عهد نهوض وطني وتنويري ، والعالم العربي يعيش اليوم عصر هبوط ، مهدت وتمهد له الدروب بغال النفط وما تحمله من " معبود " اشار إليه محي الدين بن العربي ، كما ذكرنا .
ثالثا
لخّص الشيخ معاذ الخطيب رأيه في المشهد السوري الجديد بما يلي : هناك دول تعد ولا تفي.. وهناك من يقول للسوريين اقتحموا ثم يتركهم في وسط المعركة.. هناك من تعهد بدعم الثوار ثم تركهم في الموت.. وهناك من يجلس على اريكة ثم يقول اهجموا.. لا تفاوضوا.. وهناك صمت دولي وخنق للثورة..
ومن خلال جمله القصيرة المسبوكة بإتقان ترك الشيخ معاذ لقارئه حرية تفسير أوتخمين مقاصده ، وهنا يكمن سرّ قوة كلماته الساحرة والمحلقة في الأجواء العربية الملبدة بالغيوم . ويتساءل القارئ " : مااسم الدول ؟ .. من الذي يقول اقتحموا ؟ .. أما من يجلسون على الأرائك فأمرهم معروف ، وهنا لامس الشيخ معاذ مقصده ، ولكن بخفر .
تبدو جمل الشيخ معاذ أكثر وضوحا في بيان الاستقالة في 24 آذار في قوله : " من هو مستعد للطاعة فسوف يدعمونه ، ومن يأبَ ( يرفض ) فله التجويع والحصار . ونحن لن نتسوّل رضى أحد " ...
هذا الكلام للشيخ معاذ ، الذي نتمنى أن يبقى أبيا ولا يتسول رضى دول النفط والغاز ، يذكرني بموقف الضابط السوري الوطني أحمد عبد الكريم عندما قَدّم له في ربيع عام 1955 أحد شيوخ العشائر السورية " صُرّة " من النقود أرسلها له ملك السعودية لشراء بيت في دمشق لقاء سير الضابط في ركب السياسة السعودية . و كانت دهشة شيخ العشيرة لا توصف عندما رفض ضابط الجيش السوري المترع بالوطنية في خمسينيات القرن العشرين " هدية الملك " . وبانفعال ممزوج بالدهشة قال شيخ العشيرة للضابط ابن قرية موتبين في سهل حوران : " والله يا حوراني ستبقى فقيرا طول عمرك وأنت تركض وراء الرغيف والرغيف خيّال "
فهل سيبقى الشيخ معاذ متمسكا بكلامه في الإباء ورفض " الصرّة " ، وهل سيبقى مصرّا على عدم تسول رضى دول النفط والغاز مفضلا " الجوع " على " نعيم " البترودولار ؟ .. نتمنى أن يصدق الشيخ معاذ وعده ، رغم علمنا بالظروف الصعبة التي يعيشها الشرفاء رافعي الرؤوس ، متحدين عصر النفط وذيوله المرعبة ... أليس " النفط مستعبد الشعوب " ؟ وهو عنوان كتاب دبّجه عام 1939 يراع العلامة اليساري الليبرالي اللبناني يوسف إبراهيم يزبك .
ومع أن كاتب هذه الأحرف توسم الخير في محيّا الشيخ معاذ ومواقفه وتصريحاته وعفويته وعقد عليه الآمال ، قبل أن يستقلّ الطائرة القطرية الخاصة ، التي نقلته من القاهرة إلى الدوحة للمشاركة في القمة العربية . وعلى أية حال فثمة وجهات نظر متعددة حول الذهاب إلى قمّة تُعقد في عاصمة إمارة الغاز ، ولعل الاستخارة ( بطقوسها الموضوعة قبل الثورات التقنية ) رجّحت الذهاب لأسباب رآها الشيخ معاذ وجيهة .
المواطن العربي السوري كاتب هذه الأحرف ( وهو بالمناسبة من رعايا الدولة الأمنية الأسدية ولم يرق فيها إلى مرتبة المواطن ) يحدوه الأمل أن يتمكن الشيخ معاز ( أو من يسير على درب التحرر من الاستبداد بمختلف اشكاله وألوانه ) من رفع راية مَنْ لم تُفسد نفوسهم ولم تطأطئ رؤوسهم للبغال المحملة بدولارات النفط " مستعبد الشعوب " . نأمل أن يتمكن الشيخ معاذ وأمثاله من السير على خطى المصلحين من المشايخ المجتهدين والقوميين المناهضين للاستبداد العثماني ، ويستنيروا بعزيمة الوطنيين المناضلين ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي . وكلنا أمل ، رغم النائبات ، أن يقيّض الله لهذه البلاد في ايامها العصيبة رجالا يأخذون العِبر من اؤلئك المثقفين اليعربيين بناة الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية ورافعي علم الاستقلال الوطني ، علم أبدعه عباقرة دستور 1928، وحجبه عساكر " النظام ". علم الاستقلال هذا المثلث الألوان والمثلث الأنجم الحمراء رفعه شباب التحركات الشعبية المنطلقة من درعا ، وسقط شهيدا تحت رايته آلاف الشباب المتحدّين بصدورهم رصاص المباحث السلطانية والمطالبين بإسقاط نظام الدولة الأمنية ، وهم يتطلعون إلى غد مشرق حر سعيد .
* مؤرخ عربي يحمل الجنسية السورية

مسك الختام ( رسالة حب صوفي إلى الشيخ معاذ الخطيب )
شيخنا الكريم
كاتب هذه الأسطر ، ابن الحضارة العربية الإسلامية المعتز بها ، يرى من واجبه لفت انتباه الشيخ معاز ( المطلع على علوم الدنيا والدين ) إلى أمرين :
- أرى ، اجتهادا ، أن الاستخارة في عصر الثورة العلمية التكنولوجية الثالثة عليها أن تراعي معارف العصر الحالي ومعطياته حتى تتحقق الغاية منها .
- استشارة الثقاة عليها ألّا تقتصر على دائرة مغلقة ، بل تشمل ثقاة من مختلف المشارب والأفكار وتوازن بينها ، وبعدها " اعقل وتوكل " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سلمت يداك والحمد لله على سلامتك
جريس الهامس ( 2013 / 4 / 5 - 00:15 )
كان بالنا مشغول عليكم في الداخل بعد تحول بغال النفط إلى ذئاب وضباع جائعة للحم البشري وتدمير كل مابناه الإنسان السوري ..نأمل أن نراك في دمشقنا المحررة في أقرب وقت ##تحياتي


2 - جنيت
عذري مازغ ( 2013 / 4 / 5 - 09:42 )
جنيت على البغل والبغال ياسيد عبد الله حنا، اتقي في الله وداعة هذا الحيوان البريء. ـ
مقال جميل وممتع
ووفقت في مسعاك
اجمل التحيات

اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر