الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوثيقة العظمى وسعى الانسان نحو الحرية

مجدى زكريا

2013 / 4 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عبر الريف الخلاب الذى تتميز به مقاطعة سارى الانكليزية , يجرى نهر التايمز. وفى احدى المروج التى تحازى ضفافه . يرى نصب كتب عليه كتابة تحيى ذكرى حادثة وقعت فى القرن الثالث عشر. ففى هذا المكان الذى يدعى رنيميد , التقى الملك الانكليزى جون ( الذى حكم من 1199 الى 1216 ) البارونات الذين يعارضونه : اصحاب الاراضى النافذين المستائين من التجاوزات الملكية. لقد طالب البارونات ان ان يمنحهم حقوقا معينة ويخفف بالتالى النقمة عليه. وبسبب الضغط الهائل الذى تعرض له الملك , وضع اخيرا ختمه على وثيقة صارت تعرف لاحقا باسم " الوثيقة العظمى ".
فلماذا وصفت هذه الوثيقة بأنها " اهم وثيقة قانونية فى تاريخ الغرب " ؟ يكشف الجواب الكثير عن سعى الانسان الى الحرية.
كان الملك جون متورطا فى مشكلة مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فقد تحدى البابا اينوست الثالث برفضه الاعتراف بستيفن لانغتون رئيسا لأساقفة كانتربرى. لهذا السبب سحبت الكنيسة دعمها للملك , حتى انه حرمته كنسيا. لكن جون حاول اجراء مصالحة , فوافق ان يتنازل للببابا عن مملكتى انكلترا وايرلندا, ثم اعاد البابا المملكتين الى جون مقابل مجاهرة الملك بولائه للكنيسة ودفعه جزية سنوية. وهكذا اصبح جون ملكا تابعا للكرسى البابوى.
كان الملك فى ضائقة مالية , وهذا ما زاد من مشاكله. فقد فرض خلال سنوات حكمه ال17 ضرائب اضافية على اصحاب الاراضى 11 مرة. وبسبب الصراع مع الكنيسة والمشاكل المالية , ساد الاعتقاد ان الملك غير اهل للثقة. ويبدو ان شخصية جون ساهمت فى تعزيز هذا الاعتقاد.
وفى النهاية اشتعلت الفتنة حين رفض البارونات فى شمالى البلد ان يدفعوا ضرائب اضافية. وقاموا بمسيرة الى لندن وأعلنوا انكار ولائهم للملك. تبع ذلك الكثير من المساومات بين الطرفين للوصول الى اتفاق. وكانت المحادثات تجرى فيما الملك فى قصره فى بلدة وندسور والبارونات معسكرون شرقا فى بلدة ستاينز المجاورة. وهذه المفاوضات الجارية وراء الكواليس ادت الى تلاقى الطرفين فى رنيميد الواقعة بين البلدتين. وفى هذا المكان يوم الاثنين فى 15 يونيو حزيران 1215 , ختم جون على وثيقة تتألف من 49 بندا. وهذه الوثيقة تستهل بالكلمات التالية : " هذه هى البنود التى طالب بها البارونات وسلم الملك بها ".
ولكن سرعان ما يشك فى نوايا جون. ووسط الكثير من معارضة الناس للملك والبابا , ارسل الملك مبعوثين للقاء الملك فى روما. فأصدر الحبر الاعظم على الفور مراسيم بابوية تعلن بطلان اتفاق رنيميد. وعلى الاثر اندلعت الحرب الاهلية فى انكلترا. ولكن فى السنة التالية , مات جون فجأة, واعتلى العرش ابنه هنرى البالغ من العمر 9 سنين.
سعى مؤيدو هنرى الصغير الى اعادة اصدار اتفاق رنيميد. وبحسب الكتيب الوثيقة العظمى , سورع الى تحويل هذه النسخة المنقحة " من وثيقة قانونية لقمع الطغيان اللى بيان رسمى يمكن ذوى الاراء المعتدلة من التلاقى للتعبير عن تأييد قضية الملك ". وقد اعيد اصدار الاتفاق عدة مرات خلال حكم هنرى. وعندما صدق خلفه ادوارد الاول , على الوثيقة العظمى من جديد فى 12 تشرين الاول اكتوبر 1297, شملت اخيرا بين قوانين برلمان انكلترا ذات الشأن العام.
عملت هذه الشرعة على الحد من سلطات الحاكم. فنصت ان يخضع لحكم القانون , شأنه فى ذلك شأن جميع رعاياه. وبحسب ونستون تشرشل , المؤرخ ورئيس وزراء انكلترا المشهور فى القرن العشرين , حددت الوثيقة العظمى " نظاما من الضوابط التى تمنح الحكم ما يحتاج اليه من سلطة دون ان تسمح لمستبد او احمق ان يسئ استعمالها ". وهذه الدوافع نبيلة دون شك , ولكن ماذا عنت هذه الوثيقة للانسان العادى ؟ لم تعن له الكثير فى ذلك الوقت. فقد تناولت الوثيقة حقوق الاحرار فقط - نخبة كانت لا تشكل انذاك سوى الاقلية ( فى حين كان لكلمة حر انطباق محدود فى سنة 1215 , صارت تشمل بحلول القرن السابع عشر كل شخص تقريبا ).
وهكذا صارت الوثيقة العظمى " من تاريخها الباكر ". كما تذكر دائرة المعارف البريطانية , " شعارا ودعوة الى الحرب فى وجه الظلم. وكان كل جيل يفهمها على انها حماية له من الخطر على حرياته ". ولذلك , كانت كل جلسة لبرلمان انكلترا تفتح بأعادة تأكيد الوثيقة العظمى.
واستخدم المحامون فى القرن السابع عشر بنود الوثيقة العظمى كأساس للمطالبة بالمحاكمة على يد هيئة محلفين , تطبيق قانون المساواة امام القانون , عدم التوقيف الاعتباطى , واخضاع الضرائب لمراقبة البرلمان. وهكذا كانت الوثيقة العظمى , كما ذكر رجل الدولة البريطانى وليم بت , احدى دعائم الدستور الانكليزى.
يعترف اللورد بنغهام , الذى كان رئيس قضاة انكلترا وويلز بين سنتى 1966 , 2000 , ان " المغزى الدستورى للوثيقة العظمى لم يعتمد فى احيان كثيرة على ما قالته الشرعة , بل على ما اعتقد انها قالته ". ومع ذلك انتشرت لاحقا مثل الحرية المرتبطة بهذه الشرعة فى ارجاء العالم الناطق بالانكليزية.
فالمهاجرون الذين غادروا انكلترا سنة 1620 واتجهوا الى اميركا اخذوا معهم نسخة من الوثيقة العظمى. وفى سنة 1775 , عندما تمردت المستعمرات البريطانية فى اميركا احتجاجا على فرض ضرائب عليها دون تمثيل حكومى لها , اعلن المجلس التشريعى لما هو حاليا ولاية ماساتشوستس ان هذه الضرائب تتعارض مع الوثيقة العظمى. حتى ان ختم ماساتشوستس الرسمى فى ذلك الوقت كان يمثل رجلا يحمل سيفا فى يد والوثيقة العظمى فى يد اخرى.
وعندما اجتمع ممثلو الامة الفتية لوضع مسودة دستور الولايات المتحدة الامريكية , ايدوا مبدأ الحرية فى ظل القانون. وقد استوحى قانون الحقوق الاميركى من الاعتراف بهذا المبدأ. وهكذا , بدافع التقدير للوثيقة العظمى , قامت نقابة المحامين الاميركية فى سنة 1757 بوضع نصب تذكارى فى فى رنيميد يحمل هذه الكتابة : " احياء لذكرى الوثيقة العظمى - رمز الحرية فى ظل القانون ".

وفى سنة 1948 , ساهمت السياسية الاميركية اليانور روزفلت فى وضع مسودة اعلان الامم المتحدة العالمى لحقوق الانسان. وقد كانت تأمل ان يصير هذا الاعلان " الوثيقة العظمى الدولية لكل انسان وفى كل مكان ". وهكذا يظهر تاريخ الوثيقة العظمى كم تتوق العائلة البشرية الى الحرية. ورغم هذه الاهداف النبيلة , لا تزال حقوق الانسان الاساسية مهددة بالخطر فى بلدان عديدة اليوم. وقد تبين مرارا ان الحكومات البشرية عاجزة عن ضمان الحرية للجميع.
يقول الكتاب المقدس هذا الشئ اللافت للنظر عن الله : " حيث روح الله , فهناك حرية ". ( 2 كورنثوس 3 : 17 ).

الوثيقة العظمى
كانت الوثيقة العظمى فى البداية معروفة بأنها " بنود البارونات ". وقد وضع الملك جون ختمه على هذه الوثيقة ذات ال49 بندا. وخلال الايام القليلة التالية , فصل الاتفاق وصار يتالف من 63 بندا , فختم الملك من جديد على الوثيقة. والاصدار الجديد فى سنة 1217 ألحق بشرعة ثانية اصغر تتعلق بقانون الغابات. وهكذا اتخذت البنود اسم " الوثيقة العظمى ".
يمكن تقسيم البنود ال63 الى تسع مجموعات. وتوجد بينها بنود تتناول موضوع شكاوى البارونات. بالاضافة الى موضوعى اصلاح القانون والعدالة وحرية الكنيسة. ويذكر البند 39 , الذى يعتبر الاساس التاريخى للحريات المدنية الانكليزية : " لا يقبض على انسان حر او يسجن , او تنزع منه حقوقه او ممتلكاته , او يحرم من حماية القانون او ينفى , او يجرد من منزلته بأى طريقة اخرى. ولا نلجأ الى القوة ضده , ولا نرسل اخرين لفعل ذلك, الا بناء على محاكمة قانونية امام اقرانه او بمقتضى قانون البلاد ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصحيح
مجدى زكريا ( 2013 / 4 / 13 - 17:05 )
معذرة : ارجو تصحيح خطأين وردا بالمقال
الخطأ الاول : الصحيح : ارسل الملك مبعوثين للقاء البابا
الخطأ الثانى : الصحيح : رئيس قضاة انكلترا وويلز من سنتى 1996 , 2000

اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط