الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مربد البصرة .. (عين الجمل ..حدقة الشعر)

عادل علي عبيد

2013 / 4 / 27
الادب والفن


لمناسبة انعقاد مهرجان المربد الشعري العاشر

مربد البصرة .. (عين الجمل ..حدقة الشعر)
عادل علي عبيد

مدخل :
يا ساكن المربد قد هجت لي شوقا ، فما انفك في المربد
أراقب الفرقد في حبكم كأنني وكلت بالفرقد ..
أهيم ليلي ونهاري بكم كأنني منكم على موعد ..
والله لا أنساك في خلوة يا نور عيني ولا مشهد

شهادة :
رحم الله صاحب العقد الفريد الذي يقول في المِرْبَد:
( كان الناس يتزاحمون فيه بالمناكب ، وكانوا من الكثرة بحيث لو رمى احدهم بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان )

مخاض :
في أديم البادية الغربية ، حيث يهاجر صدى البلاغة والبيان إلى سوح الشعر ، تتعالى صيحات البديع والفصاحة ، تضرب الجهات الأربع ليستقر نشيدها في محبس الإبل والغنم . تهمهم شعرا . لتقف على ذلك المصهر المختبئ خلف تلال وربوة الجزيرة التي تعانق البادية الغربية الغافية .. من هناك كان المربد ينتفض على تسميته الجاحظية وهي تذله ذاعنا كموضع يؤلف سوقا للإبل ، صمت المفازات ، ووجوم الوهاد يجعله ينتفض ، ويثور ، ليجعل الشعر جوابا يخترق دوائر الهمهمة والسكون والركود ، ويكسر جليد الصمت ، ليدخل ضمن عالم من النغم الذي يضج بالموسيقى والنشوة الحالمة التي تحدث هزة في النفس ، ونشوة في الذات . الذات التي طالما هامت وجالت في غياهب السراب البعيد ، التي تلامس تلك الإطلال الأشباح وهي تتوارى خلف ذلك العصف الذي يتجلى مرة وينأى أخرى ..هكذا يكون المربد ثغرا للشارد والوارد ، تمر به قوافل الحاضرة والبدو ، ولا يمكن أن تتبارك الخطى من دون أن تمر بفضائه المترامي البعيد ، وهو يفتح صدرا رحبا كالفضاء ، يضم بكرا وربيعة و المناذرة في الحيرة ، ويعلن أن العراق مرحبا ومودعا في ماكنة متحركة تدرأ غبار الزمن ، وتتطاير من بينها السكنات الجاثمات ، لينتفض البدوي المهاجر إلى الحواضر ، وهو يبتغي المدنية وصولا إلى مدركات العصر . وهكذا يتناخى اليمنيون والمضريون وهم يتسابقون على بركات الشعر ، كل يقول لأهله إنني رأيت كذا شاعر وراوية ونقادة .. وهكذا تصبح نظرية المكان تجسيدا للهوية التعريفية التي تفصح عن سر العروبة التي تتعزز بذلك الزمن المزحوم بالشعر والمتخم بالإبداع .. وهكذا يتخلص المربد من التعرفة المستعمرة التقليدية التي تجعله ضمن دائرة النوق والسائمة وغيرها .. ويحدث انتفاضة تتجلى بالقول الفصل والأدب السامي المعقول ، والكلام البديع ، والمعنى المنطقي ، فيتخلص من قيود الماضي وأصفاد التبعية التي نفض المربد غبارها بلا عودة .
حينما غاص (عتبة) في كذان البصرة ، أفصحت معالم الخربة عن جبل الجص الأبيض ، وهو يتحدى قرص الشمس اللاهب . وراحت حصيات الجزيرة الملتمعة ، يتراقص من خلالها الضوء ، ويبعث انعكاسا مشاكسا متقدا كهجير القوافي الشاردة والموغلة في تخمة البادية .. وكعادة الشمال والجنوب اللذين لن يلتقيا إلا ساعة انحدار الضوء ، راح التاريخ يغازل عكاظ ، ولكنه وجده قد حط رحاله في الجنوب الشرقي من مكة ، واختلف عن المربد ، فساحت بفضائه العباد وهي تجوب وديانه ونخيله وصخوره التي يغفو على مياهها الخرير والقشيب ، وهما يتهاديان بين الوهاد المتعرجة ، وهي تهاجر نحو تلك المنابر المنصوبة في كبد السوق .. ولكن النقيض أن القوم عندما يتعكّظوا تأتي القصائد باردة مفعمة بالفخر ، وتراهم عندما يتمربدوا تأتي القصائد حامية كوطيس النفوس وحرارة الأجواف .
.. وما مبعث السر في السوقين اللذين يحتضنان الشمس والقمر ، الحر والبرد ، فثمة أسواق كصنعاء وحضرموت وصُحار والشّحْر هجرها الناس لأنها تبيع الطعام ولا تقرض الشعر .. فتختلف نزعات (المربديين) من تميم وربيعة وكعب والازد و(العكاظيين) من قريش وغطفان وهوازن والاحابيش .
ويأبى المربد على أن لا يكون انعكاسا لأصوات عكاظ ، وهو يضج بقصائد دريد بن الصمة وحسان والمخبل وابي ذويب :
إذا بني القباب على عكاظ وقام البيع واجتمع الألوف
وتنفتح هذه المحلة العظيمة لتحتضن القادمين والراحلين من والى الجزيرة ، وتعبّد طرقا إلى العلماء والبلغاء والعرفاء والنساك الذين يحجون طلبا للعلم ، في بصرة لطالما تحرى علماؤها لغات ولهجات وكلام العرب من كل حدب وصوب ، ومكان وصقع ، وراحوا يطوفون بلاد العروبة بحثا عن الغريب والدخيل والهجين .. وتأكيد الأصيل ، وتعزيز الفقه والبلاغة الواضحة والكلام الموزون ، وهم يمسحون المسافات والأشواط الشاسعة المترامية ، ويقطعون الفيافي والقفار والبراح الجهراء ، والسهوب الخرقاء ، والفلوات المهمهمة ، والبيد العراء ، من اجل أن يشهدوا حلقة حوزوية او كلامية لواصل بن عطاء او الحسن البصري او مالك بن دينار ، او مناظرة تأويلية لابن سيرين ، او يعرجون على قلاية رابعة العدوية وهي تنشد :
لغيرك ما مددت يدا وغيرك لا يفيض ندى
وليس يضيق بابك بي فكيف ترد من قصدا
وركنك لم يزل ثمرا فكيف تذود من وردا
ولطفك يا خفي اللطف إن عاد الزمان عدا
وهنا ينتقل المربد من عالم الشعر ، ليماحك المدارس اللغوية والبيانية والعلوم والمعارف والفنون الأخرى .
وإذا كانت الأسواق هي شر أماكن الله ، فلا بأس أن يتخذها الخطباء للحث على القتال وتأجيج النعرات وإثارة هجير الفتن وتفطين ما خبي من جميرات الحروب وشرارة المنازعات .. فينقسم المربد بقسميه الشرقي والغربي ، بين مؤيد ومعارض ووسط ذلك ، وينقل العصف السموم أصوات السيدة عائشة قبالة عثمان بن حنيف وآبي الأسود الدؤلي وتنتقل ساحة المفاخرة إلى التهاجي ، ويبرع الشعراء كعادتهم يحثون الخطى ويلهبون الأحاسيس ، وتحل النفوس بعد نفاد الكلمات ، لكن الكلام يسمو بعد ذلك ..وهنا ينتقل المربد إلى محفل للسياسة والمناظرة والجدل والحروب اللسانية التي تنحي الشعر تارة وتتشبث به عند هزيمتها .
وما أن استقرت المماليك حتى عاد المربد زاخرا ضاجا بالشعر ، وأصبحت البصرة عاصمة دنيا العرب . جاء عن الطبري : (إن عمر بن الخطاب سأل انس بن حجية – وكان رسولا إلى عمر من العراق – فقال عمر : كيف رأيت المسلمين ؟ فقال : انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة . فرغب الناس في البصرة فأتوها ) .
وخير باب طرقة القاصي والداني هو باب المربد ، لأنه باب البصرة ومستهل العراق ، وفاتحة الفكر . وأصبح المربد ملاذا للعرب الذين يحنون إلى البادية وهوائها وصفاء صحرائها ، وصار أنموذجا استذكاريا لحياة العرب ، حتى جعلوه عالما مصغرا لعالم العرب ، وذكرى تحفز بهم مكانة الآباء والأجداد والعادات وأيام العرب .. بل أن هنالك من جعله حافظة لعادات العرب ، ومأمنا للغتهم وكلامهم ، لاسيما وهم يخشون انحشار الغريب والشائب والدخيل في لغتهم ..وحاول الأمراء أن يسكتوا صوت الشعراء ، واتخذوا المربد وسيلة لنواياهم ، فراح ابو النجم يفاخر الفرزدق ويحاول أن يحط من شعره وأدبه ، لكن الأخير أسكته بميميته التي ضج بها البيان ، فراح يمدح زين العابدين السجاد (عليه السلام) بخصال تجسدن به وبقين متوارثات بأصلابه .. في حين راح عمر بن ربيعة يتخذ المربد منطلقا لغرامياته وعشقياته ، فنصب فسطاطه يتحين طرق الحجيج ويلتقي عشيقاته اللواتي تسابقن على جماله وشعره وكلماته التي تفيض عذوبة وشاعرية . وهكذا تعددت نوايا من يتبضع من هذا السوق العظيم ، وكما فعل بشار بن برد وابو نؤاس وابو عمر بن العلاء ..
وانتشرت بأروقته حلقات النحويين ودكات المصححين وقواعد النقاد ومنابر الخطباء ، ووصل إلى عصره الذهبي أبان انتعاش وعمران مدرسة البصرة والكوفة ، وراح المتبارون من المدرستين يحطون رحال الرهان والمناظرة بأروقته وأزقته وحلقاته المزدحمة .
وعلى الرغم من الحريق الذي خلفته ثورة الزنج واحتراق زهران والمربد وبني حمان وما نقله شاعر البصرة ابو الحصين بن المثنى :
أتتكم شهود الهوى تشهد فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مربديون ناشدتكم على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صاعدا نحوكم فمن اجله احترق المربد
وهاجت رياح حنيني لكم وظلت به ناركم توقد
ولولا دموعي جرت لم يكن حريقكم أبدا يخمد
إلا أن المربد صار محطا للشعر ومحجا للفكر يقصده الأدباء والنقاد والرواة .
وبعدها شهد المربد مراحل من النهب والحوادث الأليمة ، مرت عصور متفاوتة تناغمت مع نزعات الحكام والسلطات الجائرة ، فتارة يصبح المربد قوميا ينادي بقومية العروبة ، وتارة يمجد ويؤله الحكام ، و يدعو إلى نبذ الفرقة والخلافات ، وأخرى يقف بوجه موجات البطش والتبعية والإرهاب ، وهي انتقالة تحققت وطغت على هويته الشعرية وبصمته الأدبية وطابعه الفكري ، لتتناغم دوراته وتتزامن مع أنواع وألوان التوجهات .. إلا إن ملح الشعر يبقى راكدا متجددا في سوقه المكتظة وبضاعته الرائجة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة