الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في المشهد السوري الأخير ....سوريا إلى أين؟ -الحلقة الثالثة-

محمود جلبوط

2013 / 5 / 13
الثورات والانتفاضات الجماهيرية



افترق مسار الانتفاضة السورية بشكل واضح بل فاقع عن مثيلاتها الأخريات في سياق ما اطلق عليه تسمية "الربيع العربي" في تونس ومصر واليمن وليبيا وحتى البحرين ليس بعدد الضحايا وضخامة الدمار والخسائر المادية وبشاعة القتل وحسب بل وبتشعبات تأثير العامل الخارجي , وبالتالي كان له نتائج كارثية وذلك نتيجة خصوصية موقعها الجغرافي وخصوصية بنيتها السكانية والعديد من الأمور الأخرى التي تركت بصمتها على هذا المسار من أهم هذه الافتراقات :
1- البنية الفسيفسائية السكانية التي شكلت تنوع وتعدد الولاءات , ففي سوريا أديان وطوائف ومذاهب متعددة إلى جانب إثنيات وقوميات مختلفة مضافا إليها التقسيمات العشائرية والقبلية مما شكل عوائق لا تحصى في وجه تشكيل الولاءات الاجتماعية اللازمة لفكرة مشروع دولة واحدة لوطن واحد من كل هذا التنوع لا تعانيه سوريا فقط هذه الأيام وإنما تمتد إلى الأيام الأولى لتشكل الجمهورية العربية السورية , وقد وجهت السلطة الأسدية التي حكمت سوريا 45 سنة الضربة القاضية لهذه الفكرة المشروع من خلال انتهاجها سياسة التفتيت الاجتماعي التي اتبعتها كنهج في حكمها لزوم ترسيخ حكمها واستمراره وتوريثه والذي لا يستقم لها سوى باتباع هكذا سياسة في القضاء على إمكانيات اللحمة الاجتماعية كوسيلة استعمارية كان من نتائجها المباشرة نهوض صعوبات جمة وأشواك كثيرة فيما بعد في طريق محاولات قادة الحراك الانتفاضي لتوحيد الجهود من أجل تشكيل إجماع شعبي داعم للثورة على سلطة هذه العائلة المستبدة والفاسدة مما مكن النظام أن يقدم نفسه لدى قطاعات لابأس بها من الأقليات الدينية والمذهبية التي انتابتها الشكوك والمخاوف من هوية الحراك الذي بدا لهم أنه مصطبغ بلون طائفة الأكثرية "السنية" بعد أن اشتغل النظام كثيرا لدفعها إلى هذه الشكوك والمخاوف باتباع كل الوسائل : فإلى جانب نهج سياسة تفريق سابقة رافقها شحنا إعلاميا قام بحشد عسكري وأمني , نفذ العديد من التفجيرات في عدة أماكن في سوريا بين تجمعات الأقليات الدينية (باستثناء تجمعات العلويين لاعتقاده بضمان ولائها الكامل له) ولصقها بالمجموعات "الإسلامية" "السنية" لإثارة خوفها وفزعها من أبناء هذا الحراك الانتفاضي الذي أخذت عليه أن معظم نشاطاته من تجمع المصلين في يوم الجمعة وأنها خرجت من المساجد فحجمت عن الانخراط فيه وقد حقق النظام نجاحا ملحوظا , ساعده حماقات وسلوك البعض من منغلقي العقل والفكر القاعدي الهجري الوهابي والقاعدي والشيعي العرفاني في الشحن الطائفي المتبادل بحيث شكلت حجر عثرة كبير في طريق إنجازات سريعة كالتي حصلت في تونس ومصر واليمن .
2- الاستعداد والتجهز المسبق الذي قام به كلا من النظام الفاشي ودائرة حلفائه محليا وإقليميا ودوليا , ومن قوى الثورة المضادة مستفيدان من انقضاء عنصر المفاجأة الذي استفادت منه الانتفاضة التونسية والمصرية واليمنية والبحرينية إلى حد ما , فما كادت رياح الربيع العربي تصل الحقول الشامية السورية حتى كان النظام السوري قد استعد لها أتم الاستعداد خططا وعتادا مستندا على حلفائه العرفانيين جميعا بعد أن تم تزوديهم بصكوك الدخول إلى الجنة من السيد الخامنئي الآية الله الأكبر ومن السيد الأصغر آية الله حسن نصرالله : إيرانيين , عراقيين , لبنانيين , أفغان وباكستانيين , وقوى الثورة المضادة المتربصة والمتجهزة بأحقر ما امتازت به من وسائل مكر وخداع وتسويف : أمريكا وحلفائها بالمنطقة ممن يخشون متابعة هبوب رياح الربيع إلى حقولها فأرادوا أن تتخامد وتتكسر على ربوع وحقول سوريا فتجلب لها عوضا عن الحرية والكرامة جزاءا على تجرئها خرابا عاما وحمامات دم يغطي شوارع مدنها وقراها وحقولها مستندين على ما تم في السنوات السابقة في سياق التحضير لضرب إيران من شحن مذهبي لعل ذلك يقف سدا منيعا في وجه الرياح , يضاف إلى كل ما سبق سوء طالع السوريين في اختيار الامبرياليات الجديدة سوريا كساعة اصطدام في هذا الوقت بالذات : روسيا والصين والهند لتوجيه رسالة إلى زعيمة الامبرياليين القدامى أمريكا ليخوض السوريون الحرب بالنيابة إلى أن يتم التوصل فيما بينهم إلى اتفاق لتقاسم "الكعكة" .
3- اختلاف حجم العنف الذي استعمله النظام لمواجهة حراك سلمي استمر ثمانية أشهر مدني بصدورهم العارية في مواجهة الرصاص والصواريخ , دم يتمرد على سيف , واغتصابات جماعية لنساء وأطفال , وذبح بالسكين , اعتقالات واسعة شملت مئات الآلاف , استعمال أقصى أنواع التعذيب , إعدامات ميدانية نادرا ما شهدت البشرية مثيلا لها , إجرام منقطع النظير . دفع هذا العنف المنفلت من عقاله الكثير من جنود وضباط وصف ضباط الجيش النظامي إلى الانشقاق رفضا لأوامر ضباط الأسد وكتائب الأسد وشبيحته . ثم لجأت بعض العائلات السورية إلى السلاح لحماية أنفسهم من الموت ومن أجل الدفاع عن حرماتهم وأموالهم . لقد تعامل النظام مع المدن السورية المتمردة على أنها بالمجمل أعداء بدوافع نزعاته الطائفية والعنصرية فقصفها بكل أنواع السلاح : طيران حربي وهيلوكبتر وبراميل وغازات كيماوية وصواريخ سكود عابرة فتهدمت فوق رؤوس ساكنيها وحصدت آلاف الضحايا تحت الأنقاض , مما دفع في نهاية المطاف إلى الناس عسكرة الانتفاضة.
4- أعطى النظام لعملياته العسكرية المدمرة باتجاه الشعب وتوزيع وسائل العيش والإغاثة طابعا طائفيا مذهبيا , فميز بينها حسب هويتها الدينية والمذهبية والإثنية فتعامل مع المدن ذات الكثافة السكانية "السنية" بشكل عنيف جدا بما يختلف عن التجمعات الدرزية والاسماعيلية والعلوية والمسيحية , انسحب نهائيا وأنهى وجوده من المدن ذات التجمعات السكانية الكردية وسلمها لحلفائه من الأحزاب الكردية وهكذا ..لإيهام الأقليات الدينية والإثنية أنه حام لهم من توحش السنة لالتهامهم والقضاء على وجودهم ولا مناص لهم لإنقاظ أنفسهم سوى القتال إلى جانبه والدفاع عن وجوده كضامن لأمنهم ولوجودهم لتتحول مناطق الأقليات بالنسبة له إلى خزان لمؤيديه وتمويل شبيحته بعد أن هيأهم مسبقا ليتباهى بتأييدهم فيما بعد حجة أمام المجتمع الدولي .

لا شك أن الانتفاضة السورية قد انطلقت بشكل عفوي وبجهود شباب من خارج الأطر الحزبية كشقيقاتها مجبرا أخاك لا بطر وذلك لانتفاء الحياة الحزبية والسياسية أصلا من البنية المجتمعية السورية في ظل حكم آل الأسد نتيجة عمليات التجريف الحزبي والسياسي المتواصلة والمتتابعة التي نفذتها واعتمدتها نهجا لحكمها كما ذكرنا سابقا في أكثر من مناسبة ومقال .
سعت هذه المجموعات في البداية جاهدة وقدر استطاعتها إلى تشكيل قيادات ميدانية محلية كل في مكانه للحراك الانتفاضي وقد كان هذا منطق الأمور وذلك للسعي لانتشارها عساها تتحول إلى ثورة شعبية لضرورة انتصارها ، ولكن السلطة عاجلتها بوحشية شديدة فاقت التصور والتوقع حققت لها تصفية الصف الأول من قادتها جسديا بالسرعة الكافية لإرباكها , دفعها فزعها الشديد مما طرحه منظميها الأوائل من شعارات للتغيير الديمقراطي تحت شعارات ذات طابع مدني ووحدوي في سعي منها لتجميع جهود جميع المتضررين من حكم آل الأسد بكل فئاتهم وطوائفهم وأديانهم ومذاهبهم , وتخوفها من توفر الوقت الكافي لتكون خبرة ثورية تسمح لهم فيما بعد وتدفعهم لبناء تنظيم ثوري يتمكن من نشرالوعي الجماهيري , لذلك جهدت السلطة عبر استخدامها أقصى درجات العنف بوحشية تفوق قدرة أي بشر لتحملها تستصرخ بقوتها الباطشة فيهم كل نوازع الانتقام والثأر بحمل السلاح وعسكرة الانتفاضة بعد تصفية عقلائها وحكمائها إما جسديا أو خلف القضبان أو الهروب من كليهما إلى المنفى مما فتح على فوضى سلاح وأجندات متباينة ومتضاربة لأسباب سنمر على ذكرها لاحقا , أثرت على مجمل الحراك الذي راح ينحو إلى توجه مختلف وتجهيز مختلف وآليات أخرى للصراع لها توجهاتها الخاصة بها لأن للعمل العسكري بكل بساطة وبداهة قانونه الخاص به كوسيلة مختلفة من فعاليات الانتفاض والثورة عن الفعاليات المدنية . ولكي تجنى ثماره يحتاج إلى قيادة موحدة و”إستراتيجية” محددة تحدد له كيف ومتى وأين يمكن أن يستخدم وإلى ماذا سوف يفضي وكيف يمكن خوض المعارك العسكرية وحسم أمورها به, فلا يمكن أن يكون الكفاح المسلح عفويا كما يحدث في الانفجارات الشعبية المدنية من مظاهرات واحتجاجات لأنه سيصاب في هذه الحالة في مقتل .
ولا يكفي أن نطلق على مجموعات حملت السلاح للثأر أو الحماية الشخصية أسم "جيش" , لأن العقل والموضوعية تقول أنه لكي تتحول جماعات مسلحة إلى جيش فعلي تحتاج إلى تنظيم وتدريب عسكري وفني يقوده وعي سياسي وتثقيف على حقوق الإنسان لكي لا تتحول البندقية إلى آلة للقتل فقط . وبناءا عليه فإن ما أسمي “الجيش الحر” هو مجرد اسم ليس إلاّ , بينما هو على الأرض مجموعات مسلحة مبعثرة غير مدربة على فنون القتال ولا تملك وعيا ولا ثقافة ولا تنسيق مشترك فيما بينها إلاّ قليلا ، ولبعضها أجندات لا علاقة لسوريا بها ولا بمطالب الشعب السوري الذي انتفض من أجلها ولا بمستقبلها كوطن للسوريين بمختلف فئاتهم وتكويناتهم , ثم أن كل مجموعة عسكرية من هذه المجموعات تتصرف وكأنها تخوض الصراع لوحدها , وهذا في الحقيقة لا يشمل فقط جبهة النصرة بل العديد ممن تشكل على هامشها وهامش الجيش الحر ، وعلاقاتها البينية سيئة , وبعد أن حررت كل منها منطقتها من سيطرة الكتائب الأسدية عملت على إقامة سلطتها الخاصة بها دون وجود تنسيق أحيانا حتى مع مناطق قريبة منه .
إن المشكلة الأساسية التي أحاقت بالفعل العسكري في الثورة السورية أنه جاء في ظاهره العام كردّ فعل على بطش النظام وإيغاله في القتل والتدمير وتعميمه , أي عفوي , ومن المتفهم أن يفتقر إلى التنظيم وامتلاك هيكلية واضحة ومرجعية واحدة وقيادة موحدة , لأنه بالأساس تغذى من غضب السوريين وسخطهم على نظام مجرم فاشي يسعون للثأر منه بعد أن كانوا قد ثاروا عليه توقا للحرية واسترداد الكرامة , ولكن ينبغي التأكيد ولمصلحة الثورة والحرص على انتصارها بعد كل هذا الكم الهائل من التضحيات أنه لم يعد مقبولا الاستمرار على هذا النهج من التشرذم والفوضى وعدم التنسيق المشترك , وهذا يستدعي السعي وبشكل جاد وملح لتوحيد المجموعات تحت قيادة عسكرية واحدة وفاعلة وليس شكلية كما يجري الآن , وإجراء تدريبات عسكرية ممنهجة وإنشاء طرق إمداد وتمويل منظم وموحد ومنسق لأن هذا الانقسام والتشرذم وتضارب الأجندات واختلاف مصادر القرار سيؤدي إلى تضارب الأهداف إلى جانب اشتباكات عسكرية مستقبلية فيما
بينها , فالمناطق "المحررة" تعيش حالة يرثى لها من الفوضى نتيجة التنافس بين المجموعات المسلحة على الغنائم وغياب الأمن ، وبعبصات السلطة فيها من خلال الشبيحة “السابقين” أو“المدسوسين”. وعديدا من مرتكبي الجرائم أصبحوا عناصر من “الجيش الحر”. خصوصاً أن هذه المناطق تفتقر لأسباب يطول شرحها إلى سلطة شعبية ذاتية محلية تحفظ الأمن وتدير أمور الناس وتدبر وسائل عيشهم لكي يستطيعوا العيش بدل أن يتحوّلوا مع الوقت وبسبب ضغوط الحياة الكثيفة ضد الثورة كما يحدث اليوم في العديد من مناطق تواجد ما يسمى كتائب الجيش الحر وهذا يستدعي إنهاء التحرك العسكري على أساس الأجندات الخاصة والشللية والطائفية الضيقة ووضع حدود لطابع الثورة وطبيعتها وتشكيل مرجعية سياسية واحدة له تحكمها مصالح سوريا فقط بعد هيكلته وتصويب عمله لأن هذا يشكل صمام أمان لأي جيش أو فصيل عسكري وذلك لمنع تغول المقاتلين وقادتهم على الأهداف السياسية للثورة وضمان عدم اعتيادهم على ممارسة القتل أو الخطف أو ااستسهال التجاوز على الحقوق الفردية المدنية والأملاك الخاصة والعامة.
وينبغي التأكيد قبل إختتام هذه الحلقة بأن السلطة الأسدية قد اعتمدت قاعدة "يا قاتل يا مقتول" مع انتفاضة الشعب ومنذ أيامها الأولى وقبل نزوعها نحو العسكرة بوقت طويل وانسجاما مع شعارهم العزيز على قلب شبيحته "الأسد أو نحرق البلد" الذي كتبوه على حيطان كل الأمكنة حيث وصلت جحافل قطعانهم وبالسكين على أجساد ضحاياهم الذين قضوا تحت وطأة تعذيبهم الوحشي , ونجزم دون وجل الوقوع بخطأ التحليل أن هذه الوحشية هي المبرر الوحيد لتوجه الناس نحو التسلح ثم وجدت بعد ذلك من كان يتربص بها من أمراء الحروب للإيقاع بها , وأن سلوك السلطة هذا لم يكن في الواقع بجديد على السوريين بل اعتادوه نهجا لها في أكثر من واقعة وموقع , وكان ديدنها في التعامل معهم ومع اللبنانيين والفلسطينيين مجتمعين وفرادى , حتى تدجنت ثلاثتها على قبول هذا الشكل من تعامل السلطة معها خوفا من بطشها فترة لابأس بها مما قوى غرور رجالاتها الأمنية وتغولهم على الناس مما أفضى إلى نمو قناعة لديهم أن سوريا حق مكتسب وملكا لآل الأسد محاكاة مع بقية العائلات السلطوية المحيطة بهم في الدويلات العربية الأخرى كآل سعود , وآل ثاني , وآل مكتوم , وآل نهيان , آل خليفة , وآل الصباح والهاشميين في الأردن بل وبالغ آل الأسد أكثر عندما راحوا يتعاملون , وبسبب أهمية دور موقع سوريا الجغرافي بجوارها للبنان وفلسطين والذي سمح لها بلعب بيضة القبان تاريخيا بين التوازنات الإقليمية , على أنهما عمقا استراتيجيا بل حيّزا جغرافيا لجملوكيته .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري