الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يا سامي؟

خيري حمدان

2013 / 5 / 22
الادب والفن


لماذا يا سامي؟
خيري حمدان
بتّ أشتهي النوم، تورّمت عيناي من شدّة السهر والقلق. منذ أيام وجرذ كبير يقلق الألفة والهدوء الذي لم يفارق جنبات بيتي منذ سنوات، خاصّة بعد أن تأقلمت مع واقعي الجديد كأرمل. ألفت الوحدة ولا أدري لماذا لم أحاول الإرتباط بأخرى. تصادف أن استيقظت في إحدى الليالي لشرب الماء أو للتبوّل "يجب أن أجري بعض الفحوصات لمعرفة ما إذا كنت أعاني من تضخّم في غدّة البروستات"، وما أن فتحت عينيّ حتى رأيته يحدّق بي متفحّصًا واثقًا من ذاته، هازًا ذيله الرفيع. بقي يحدّق بي بعينيه الصغيرتين البرّاقتين. "جرذ" همست غير مصدّقًا ما أرى! لكنّها الحقيقة، وسرعان ما اختفى صاحبي كما ظهر، اختفى في خزانة ملابس زوجتي المتوفّاة. ما الذي يريده وماذا يقصد بهذه التصرّفات الغريبة؟ لم أتمالك نفسي، قضيت حاجتي على عجل، ثمّ عدت وفتحت الخزانة لأجده بانتظاري يحدّق بي مجدّدًا، هزّ رأسه وغاب ثانية في دهاليز الخزانة وما خلفها. نسيت أمره للحظة، وبدأ نظري يجول داخل الخزانة، أذكر بأنّني قد طلبت من إبنتي الكبرى أن توزّع ملابس الفقيدة للمحتاجين والأقرباء والمعارف، لكثرتها ولأنّها ذوّاقة تعرف كيف ومتى تشتري وتحيك الملابس. لكن بالرغم من كلّ هذا، ما تزال الخزانة مكتظة بكافّة الأنواع الممكنة، فهناك التنانير الطويلة والقصيرة، والفساتين والقمصان. لفت نظري سترة من الساتات كانت تعشقها وترتديها غالبًا في المناسبات. سحبتها من داخل الخزانة، ضممتها لصدري وشعرت بتجعّد ورقة أو أوراق في جيبها الداخلي.
أصابني الفضول، لكنّي لم أسارع في تفحّص الورقة أو الأوراق المتواجدة في السترة. وضعتها على الكنبة وذهبت لأعدّ فنجانًا من القهوة، هاجمتني في تلك اللحظة إبتساماتها ونزقها وحالات الخوف والترقّب والغضب والحبّ والتمنّي والدلال والإستحسان والإقبال والإبتعاد الروحي. هاجمني طيفها كما لم يفعل يومًا ما، وكأنّها لم تغادر منزلي إلى الأبدية قبل سنتين. كدت أنسى الورقة الغريبة في جيب السترة، جمعت شتاتي وجلست قبالة التلفاز أشاهد برنامج حوار لئيم. دلقت ما تبقّى من القهوة في جوفي وأخرجت الورقة من جيب سترتها الداخلي، كانت عبارة عن فاتورة قديمة للغاية لكنّها كتبت بخطّ يدها الأنيق على ظهرها "لماذا يا سامي؟".
أنا سامي، أنا زوجها المترمل قبل سنتين، ما معنى هذه السؤال يا تُرى؟ نظرت إلى صورتها التي ما تزال معلّقة على الحائط "ما السرّ وراء سؤالك يا سعاد؟". نظرت إلى تاريخ الفاتورة لعلّه يهديني إلى سرّها. لديّ إحساس خفيّ بأنّ الجرذ لن يعود للظهور ثانية، كأنّه أنهى مهمّته بعد أن نقل لي رسالتها القصيرة الغامضة. يبدو التاريخ عاديًا للغاية، لكنّه يعني الكثير لسعاد، يبدو التاريخ مؤلمًا وموجعًا وإلا لما كتبته في لحظة إنفعال على ورقة عابرة. لماذا "ماذا" يا زوجتي العزيزة؟ ما الذي فعلته أو ما الذي فشلت في تقديمه؟ كيف جرحت مشاعرها دون أن أدرك ذلك؟ لا أقدر على فهم امرأة أمضيت معها قرابة عشرين عامًا! والآن، فات الوقت، ليس بمقدوري أن أفعل الكثير لأفهم أسئلتها المحيّرة المغيّبة. نعم، هذا ليس سؤالا واحدًا فقط، بل حالة من القلق والتوتّر لم أتمكن من التقاطها آنذاك، فكيف لي أن أفهم الآن ما حدث في اليوم الذي انحفر في ذاكرتها وارتبط بغيابي قبل غيابها!
بعد يومين حضرت إبنتي علياء لزيارتي، سألتني عن سبب عزلتي وانعدام الرغبة لديّ للخروج والترفيه وبدء حياة جديدة، بعد مضيّ سنتين على وفاة سعاد؟ لم أجبها بشيء لكنّي وضعت الورقة بين يديها. نظرت إليها مطوّلا، قرأت تلك العبارة الغامضة، هزّت رأسها مستغربة ولم تجد هي الأخرى تفسيرًا منطقيًا! قالت لي بعد تردّد،
- أذكر يا والدي بأنّها كانت حزينة في تلك الفترة، وأذكر بأنّها كانت تتجنّب إظهار مشاعرها أمامنا.
- لن أجد طعمًا للراحة بعد اليوم إلا إذا وجدت الإجابة. سؤالها قاتل، لأنّه عام وخاص في الوقت نفسه. "لماذا يا سامي؟" هذا جنون يا علياء. ربّما تكون الإجابة لدى الجرذ، نعم..أعتقد بأنّه يعرف كلّ شيء.
- أبي، هل أنت بخير؟ ما حكاية الجرذ؟ هل بدأت تهذي، البشر يموتون كلّ يوم وكلّ لحظة، هذه سنّة الحياة. يجب أن تنسى، حاول أن تجد امرأة أخرى كي تملأ الفراغ الذي تعاني منه. صدّقني، لن تمانع سعاد أبدًا إذا فعلت ذلك.
أنا مسكون باللحظات النادرة، وعيي الداخلي لا يعرف الراحة، كأنّه قطعة من الإسفنج ترفض النسيان. تحوّل الوعي إلى رقعة كبيرة تعرضُ طِوال الوقت شريط الذكريات اللعين الجميل. هنا جلست سعاد، هنا بكت وهناك وقعت متعثّرة ببساط الممرّ الجديد. لكن ما سرّ تلك العبارة "لماذا يا سامي؟". المشكلة أنّنا غالبًا ما نفشل في فهم كنه الأشياء وأبعادها إلا بعد فوات الأوان. بعد أيام ذهبت لزيارة قبرها، جسلت قبالة رأسها وأبقيت سؤالها بالقرب من قلبي. لم أتمكن من التوصّل لإجابة شافية ولم يظهر الجرذ ثانية في منزلي. لكنّني فيما بعد، كنت أستيقظ أحيانًا وصدى صوتها يردّد مجددًا "لماذا يا سامي؟".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج