الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكسح..أمسح .. ما تحيبه حي! (سرد قصصي )

طه جعفر الخليفة

2013 / 5 / 25
الادب والفن


أكسح..أمسح.. ما تجيبه حي!
في مناخ جاف و أرض يابسة خاصمتها السماء منذ زمان طويل، نبتت في قلوب الرجال كراهية قاحلة. تسير أمامهم و بينهم الأبقار بأضْلُع بارزة، لم يكونوا يبحثون عن الكلأ.. كانوا يطاردون الدماء. يتردد النشيد القاتل في الفضاء اليابس وراءهم.. يتردد
أكسح ..أمسح .. ما تجيبه حي
ما دايرين أضان زرقا
سُمْرٌ في اسمالٍ لوَحَتها الشمس، كساها التراب بالهزائم و ضجّت حولهم العفونة خليطٌ من رائحة اللبن المتخثر، العرق المتيبس و الشواء القديم البائت. صهوات الخيول تحتهم تنوء بحمل ثقيل. الابقار تلك التي ترافقهم مدفوعة الثمن فهي ليست سَعِيّة بل كاسحات ألغام.
إدريس ود أب دبوس نشأ في الأبيض، اكمل تعليمه فيها و من (خور طقت) قُبِل في قائمة حزب الامة القومي الجديد في الكلية الحربية. أب دبوس زعيم وسط أهله و مهم عند أهل المركز من الرجال الذين تعرفهم البادية أيام الانتخابات فقط. لم يكن عند أب دبوس نفسه من همّ في السياسة غير مركزه وسط أهله و رضا آل المهدي. نشأ إدريس في هذا الجو و تعلم فيه كيف يدافع عن مذبحة الضعين في مارس 1987 و كان يقول "ما دايرين أضان زرقا..العبيد النجوس محل ما يمشوا تتبعهم العفونة و الرذائل.. ليس عندهم في كردفان إلا الجحور في الجبال أو ما وراء بحر العرب". تزايدت و تكاثرت ثم أصفرّت النجوم في كتفه علي اللباس العسكري الأخضر . أجواء الخرطوم في ذلك الزمن دفعت بالعديد من ابناء المنطقة في الجيش إلي عتبات المساجد. إدريس مسنود بثِقَلٍ قبلي و معروف لدي رجالات حزب الأمة في وزارة الدفاع و القيادة العامة للجيش. في مساجد الخرطوم قابلته أيادٍ أخري بالسلام و المصافحة.أياد ساقته هذه المرة إلي عتبات البنوك المسلمة الوافد منها و المحلي.
غنت الحكّامة يوما في حضرته فقالت:

ود أب دبوس جيبك
بالريال مدفوس
كلامك.. كلام الله
داواي للنفوس
ما داير النجوس
ليهم تكوس الما بتقرضو الدانة
تلفاهو الفئوس
عينك للنجوس ..بتكوس
يا ود عز القبائل
رصاصك للدواس متروس"

لم يكن إدريس معهم في ذلك المُرْحال، لكنه لا يغيب كثيراً ، يجيئهم في سيارة لادنكروزر بالتمباك، السجائر و التموين. إذا لم يصادف قدومه وقت صلاة أمّهم في صلاة النافلة. كثيرون يُصَلّون وراءه من غير وضوء. الصلاة خلفه بالنسبة لهم صلاة خلف النجوم الصفراء . مرةً قال أحدهم لرفاقه سائلاً هل يتوضأ أدريس قبل ركوب اللاندكروزر؟ و سأل آخر قائلا هل سنسلمه سلاحنا بعد إتمام المهمة؟ إعتبر الجميع إن الإجابة علي السؤال الثاني هي " لا"، لم يقولوا شيئاً و كان هذا ما يضمرونه.
مرّ المُرحال بدربه المعروف. في هذا اليوم و الشمس قد لملمت أضوائها و استعدت للذهاب و ضجّت السماء بألوان الشفق، حُمْرةٌ غاضبةٌ تبعت الشمس في غروبها. أمامهم قرْية غارقة في بحر أخضر من اعشاب غنيّة، انتشرت في الجوار بِرَكٌ إنجَمّ فيها الماءُ صافياً. في ايام السلام التي غربت كشمس اليوم يكون هذا نهاية المُرْحال. فيمكث الراحلون قليلا الي أن تسمن الأبقار و تمتليء ضِرْعَاتها باللبن، تستقر الانغام في الآذان و يتدفق الحب نهرا من اشتهاء يشمل بعزّه الانسان و الحيوان، في هذه التخوم يطلب الراحلون الخصوبة و الرواء فيجدونها نديّة ويانعة. كان في أسماعهم في هذا المساء ما قاله ادريس ود أب دبوس:

" سكان هذه القري هم الخوارج..
نساؤهم واطفالهم طابور خامس..
دمائهم مستباحة..
واملاكهم غنائم..
كفّار لا يحترمون ود المهدي الإمام ..
كفّار ونجوس.. فتياتهم عاريات بأمر الشيطان"

في قلب أي واحدٍ منهم حجر و في الأفق أمامه غنائم أهمها السلاح الذي في يده و المال الذي سيوزع بعد انتهاء المهمة.في صلب أي واحدٍ منهم نطفة معتدية تبحث عن رَحِمٍ مستباح بأمر الله.
أحاط المراحيل بالقرْية، بادر الشيوخ من الرجال الذين لا ينسون ، بادروا بالخروج بصدور عارية تاركين البيوت وارءهم و في أياديهم فؤوس و رماح قديمة بنصال ميتة، وقفوا بجسارة تستقبل صدورهم الطلقات المرقومة. أنتهي أمر الشيوخ سريعاً، خرجت الجدّات متسلحات بالغضب فلم يصمدن كثيراً امام البنادق الموسومة بعلامات الجيش. أضرم المراحيلُ النارَ في القطاطي، خرج من بالداخل ، خرجوا من نار إلي موت الصغار يبكون و النسوة يندبن سوء الطالع. أعمل الرجال سلاحهم في الصدور الفتية، قتلوا.. و قتلوا.. و قتلوا. ساد في الانحاء صمت إلا من دوي لغمٍ أرضي لامسه ظلف ما لبقرة أو ثور هارب، أو من دوي طلقات البنادق الرسمية في أيدي فتيان القبيلة في المرحال المجاهد . حتي هذا الدوي سكن أخيراً. في الانحاء يسمع النشيج المكتوم و البكاءالمر. آذانهم تعرف صوت النادبات. كن يافعات في بداية نضجهن أبكاهن الخوف مما ينتظرهن في الدروب المظلمة بعد إغتيال رجالهن من الإخوة، الأزواج، الآباء و ابناءالعمومة ،بعضهن يبكين اطفالهن المقتولين. جمعوهن بلا حياء أمام عيون الأبقار الخائفة و الثيران المتحفزة و الخيول المندهشة و تحت سماء متواطئة وعلي أرض جلب خصبها عليهن الهجائم. تناوبوا عليهن بالإغتصاب.. ثم الذبح. لم ينسوا بطونهم فحملوا ما تيسر من مريسة و خراف و اغنام بحثوا في حطام القطاطي عمّا يفيد لم ينسي ود أب دبوس أن يمدهم بالبطاريات المنيرة لتعينهم علي ظلمات الهجوم . حملوا غنائمهم و غادروا الناحية. شمالاً و في الصباح الباكر كان إدريس ود أب دبوس في انتظارهم. صلوا خلفهم بجَنَابتهم وبالدماء علي أثوابهم، صلوا خلفه صلاة الشكر ركعتان.. ركعتان إلي أن بلغن عشرة ركعات. قال إدريس ود أب دبوس: "إن مسيرة الجهاد ماضيةّ بإذن الله". قاطعه البعض ة قالوا: لقد اكتفينا و قال آخرون .. الله أكبر ... الله أكبر .... و مضوا ليجهزوا مرحال آخر فلقد كان الخريف في بدايته.


هوامش
.................................
المراحيل: هي قوافل عرب البقارة في غرب السودان عندما يذهبون جنوبا بحثا عن الكلأ و الماء في الخريف
الضِرْعَات: جمع بالعامية السودانية لمفردة الضَرْع
إنْجَمّ: أي تجمع الماء و يسمي مكان تجمع الماء الجَمّام
الحكّامة: مغنية تنشد مكارم أسيادها من رجال القبائل في غرب السودان
تكوس: تبحث و تفتش
متروس: محتشد و مرصوص








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل