الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ركبتان

سها السباعي

2013 / 5 / 30
الادب والفن


في كل يوم تقف في الشرفة، تنتظر انكسار حرارة الشمس، لن تسمح لها أمها بالخروج إلا "لما الجو يطرِّي شوية". تهبط درجات السلم قفزًا وتكون أول الواصلين إلى الشارع. يتوافد الأطفال تباعًا من باقي شقق العمارة والعمارات المجاورة. ينفرد الأولاد الأكبر سنًّا بمساحة كبيرة في الشارع الهادئ وتبدأ مباريات الكرة، ويتركون المساحات الأكثر ضيقًا وحجارةً وترابًا للأصغر سنًّا، الذين تناسب هذه الجغرافيا ألعابهم المتنوعة؛ كهربا، لمس الحمام، كيك عالعالي، التي تتشارك جميعها في متطلبات الوثب والجري. لا يكاد يمر اليوم إلا وقد تعثرت وسقطت عدة مرات. تشعر بالألم منذ المرة الأولى، لكنها تتجاهله. مرة بعد مرة، ينبهها بعض الأطفال إلى بقع الدماء التي تلوث ذيل فستانها القصير، فتصرخ فيهم أن أكملوا اللعب. يزداد الألم مع الوقعة الثانية والثالثة، يتعاظم مع الرابعة والخامسة، وتبدأ بالشعور به ليس فقط في ركبتيها المجروحتين، ولكن في النبض ينطلق منهما عبر عروقها مارًّا بجسدها كله حتى رأسها، لكن صوت الصراخ المبتهج يقمع الآه في حلقها.

الألم لا يؤلمها، الألم يبهجها . فيما بعد، عندما تكبر، سيخبرها الأطباء أنه بالإضافة لمشاكلها العضوية التي سببت حالة عدم الاتزان المزمنة لديها، فهي مصابة أيضًا إلى درجةٍ ما بالمازوخية. وكانت ترى أنهم لا يفقهون شيئًا. الألم بالنسبة لها كان تعبيرًا عن السعادة في بعض الوقت وليس كل الوقت. لم تكن تستعذب ألم قرصة أمها الموجعة في فخذها كلما توسخت ثيابها أو تشوش شعرها. لكن جروح الركبتين، كانت شيئًا آخر. الجرح كان يلي الوقعة، والوقعة كانت بعد الوثبة، والوثبة خطوة واسعة مرتفعة قليلاً عن الأرض غالبًا بعد ركض سريع، لا يتحقق هذا إلا في الشارع وفي الأرض الخالية المتربة بين العمارات والممتلئة بالحصى والطوب. الشيء لزوم الشيء. فلماذا نرتضي حصولنا على الشيء ونتذمر من الشيء الذي يقدم لنا هذا الشيء؟! إنها منظومة متكاملة. لم تكترث حتى حينما استحال لون ركبتيها مع الوقت إلى سمرة ترابية تتباين مع لون ساقيها العاجي، حتى حينما برز مستواهما قليلاً عن المستوى الطبيعي نظرًا لتعدد الرضوض والكدمات.

ولم تكتفِ بالألم الذي تسببه الوقعات على التراب والحصى المسنن، أو على الأسفلت الخشن. لم تكن أمها تسمح لها بالنزول إلى الشارع مرة أخرى إلا بعد أن تشفى ركبتاها. ومتى ستشفى يا أمي؟ بعد أن تتساقط قشرة الدماء المتجمدة ويظهر جلدك مرة أخرى. وفي غفلة من أمها في الليل، تقشر هذه القشرة الثخينة، وهي تدعو ألا تتجدد الدماء السائلة تحتها مرة أخرى، لتسيل على ساقيها الصغيرتين، وتسيل دموعها الصامتة على خديها المنتفخين، ليس بسبب ألم تجدد الجرح، ولكن لأن فترة الاعتقال ستطول.

تقف اليوم في نفس الشرفة، تنظر إلى أشعة شمس العصاري التي لا تزال تنكسر في زاوية حنون، ولكن لم يعد الفستان قصيرًا، لم يعد الأطفال ينزلون إلى الشارع، ولم تُجرح ركبتاها منذ وقت طويل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى


.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب




.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً