الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حزيرانُ أسيراً

علي شكشك

2013 / 6 / 6
الادب والفن


ربما كان الثابت الكامل في المرحلة التي تمتد من حوالي قرن حتى الآن هو الأهداف والوسائل والرؤية الصهيونية لمشروعها، وبما أن تلك الفكرة تقوم في جوهرها على حسابنا، بما أنه يطمح منذ جنينيته إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد كان بديهياً أن ترتبط فكرته عنه بفكرةٍ عنا، الأمر الذي يجعلنا نستنتج أن المشروع الصهيوني ليس فقط مشروعاً لمستقبل اليهود وشكل وجودهم، بل هو في الصميم منه مشروعٌ للوجود الفلسطيني، شكل وجوده أو وجوده من حيث المبدأ، وبما أن فلسطين والفلسطيني امتدادٌ ومكوّنٌ لسياقٍ أوسع فإن المشروع الصهيوني ينسحب على تلك المكونات والامتدادات ويحمل بالقوة في جيناته تصوراً لوجودها شكلاً وملامح ومحددات، في الخامس من حزيران لا تنفتح الشهية كثيراً على مدحٍ أو هجاء، كما لا تميل لشفاء غليلها بجلد الذات ولا إضافة بكائية إلى أدبيات النكوص والتقصير، ولا تميل إلى فتح حسابٍ جارٍ مع التاريخ، ولا إرضاء الضمير باجتهادٍ في الأسباب والمسببات، ذلك أن أجيالاً وُلدت وعاشت مترعةً بطعم النكبة التي تُوِّجت مرتين في ثمانية وأربعين وفي سبعة وستين، توجت بالصوت المدوي وكُللت بشهداء وأسرى وزيادة في مساحة الأرض المغتصبة، ولكن أيضاً بمزيد من نهب المنطقة ودفعها للحضن الحاضن للمشروع الصهيوني واستنزاف مقدراتها وإفقادها التوازن وجادّة الطريق وحرف البوصلة، تمّ ذلك بدوافع مختلفة وآليات مركبة، فقد كان أحد أهم أهداف المشروع الصهيوني هو تيئيس الحالة العربية ودفعها للاسترخاء النفسي وركونها للأمر الواقع، وإذا كان الإنسان بجبلته لا يستطيع العيش بلا عدوّ فليُخلق لنا أعداء جدد من جيراننا ومن بني جلدتنا ومن أوهامنا ومن أنفسنا، لماذا لا؟، وقد كان من الضرائب الباهظة التي تكبدناها هي الضرائب النفسية التي جعلت الكثيرين يكمنون أو ينطوون أو يغرقون في اللامبالاة أو يسقطون في العدو، ويرفعون شعاراته، ويتمثلونه وينظّرون للرؤية الغربية ويميلون إلى التملص من الهوية وجلد الذات بأثرٍ رجعي، تاريخاً وتراثاً ومستقبلاً في حركة انزياح وانسحاب كامل من الوجود لصالح الذوبان في الغير والتماهي مع العدو، وقد نتج جراء ذلك ظواهر جديدة يصعب تفسيرها، لمثقفين يعادون ذاتهم ويتحالفون مع النموذج النقيض ويرفعون لواء التحرر، ربما كان ذلك محاولة داخلية للهروب إلى الأمام، محاولةً تحمي بها النفس ذاتها من الانهيار وتحاول استرجاع اعتبارها بعد أن رأته يهان في عيون العالم عندما أصبح نمط العربي أمثولةً في السينما والرأي العام، وبما أن الرصيد النفسي هو العامل الأهم في أسباب الرفعة والنهوض، فقد كان الانتقاص من هذا الرصيد نزيفاً لم يُنتَبَه إليه ربما بالقدر الكافي، وهو انتقاصٌ من الثقة يورّث هروب الإنسان من ملامحه وتملصه منها ويتخذ أشكالاً وتمظهراتٍ كثيرةً تترجم كلها الانسحاق النفسي وما يُعبَّرُ عنه بالاستلاب الثقافيّ الروحي، ليصبح لا يُرى في الذات غيرُ السالب ولا في الآخر غير الموجب، وهي أبعد نوعياً بكثير وأعمق من المقصود في البيت الشهير "وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ .. ولكنَّ عينَ السخط تبدي المساويا" ، صحيح أن اليوم هو الخامس من حزيران ولكن رائحة حزيران تزكم ذاكرتنا وتتكثف على بوابة الأفق والوقت كلَّ حين، وصحيح أن نكسته هي النكبة الثانية في عرف المهتمين ولكن الأصح على ما أرى أنه سبقتهما نكبات ولحقتهما أخريات، ولا أظن أنّ أياً منها إلا نتيجةً لعنوانٍ يقع في مقام السبب لها جميعاً، وهو فقداننا ملامحنا وإحداثياتنا، هو استلابنا وتماهينا في غيرنا، فقدان بوصلتنا، هو هلاميتنا بمعنى غياب التماسك الذاتي، وما الانتكاسات العسكرية إلا نتائج ثانوية لذلك الأول، رغم أنها تكرسه لدى الذات المستلبة بينما يحفزه لدى المتماسكة، وهذا هو الفرق الجوهري بين القابلية للهزيمة وبين الشخصية المنتصرة المبادرة المؤمنة بذاتها بلا حدود، الشعوب في عميقها تختزن هذا الإيمان وتعرف بحسها مآلات الأمور، هناك محاولات جادّة كثيرة للتماسك ولكنها لا ترقى إلى مستوى مشروع أمة جادّة في القيام، وفي تأمّل شروط النهضة الأولية البسيطة، مشروع أمة أكبر من مركزي، وأكثر من شعبي، يفتح باب الاجتهاد بمفهومه الحضاري، والحوار بصبغته المجتمعية الحضارية أيضا وبمعناه المتجاوز للنقاش والصدام إلى التفاعل والانسجام، كل مشروع مقاومة بمعناها الشامل يندرج في باب محاولة التماسك، كل تجاوز للذات والاستلاب والهزيمة هو مشروع حضاري، ذلك أنها تترجم همَّ الروح ومكابدتها لتجاوز الحالة، الحالة التي تقتات من ارتخاء الهمّة إلى درجة انتظار الحلول حتى في الدواء والبحث العلمي من الآخر، الحالة التي تجعل مستقبلنا ووجودنا مجرد بندٍ في مشروع الآخر،
وبهذا المفهوم فإنّ كل محاولة علمية للنهضة هي محاولةٌ فدائية، وكلّ عملية مقاومة هي عملية نهضة ترفد الثقة وتماسك الروح وتئد الاستلاب وترود النهضة وتتجاوز التردد والتثاقفية، وتضع أولئك الأسرى المكبلين بأصفاد الحديد، الذين مازالوا يرفدون الوعي ويتحدّون الهلامية والاستلاب والانسحاب من التاريخ، تضعهم عناوين نهضة وملامح حلم، ذلك أن الذين قادوا أمماً لآفاق التحرر بمعانيه الكلّية كان شرطهم دوماً أنهم مؤمنون ومتجاوزون لقتامة الانسحاق الروحي، الذين يختزنون طاقة ضوء تضيء لشعوبها وطاقة حلم تتجاوز الكابوس، يكفي أن يكونوا ليكون الآتي بحجم حلمهم، ولا يكون النفاذ من حال إلى حال إلا بتلك الطاقة الاستشرافية الكامنة في وجدان أمثال هؤلاء، صحيح أنهم مجرد أفراد ولكنهم يأسرون حزيران ويراهنون على رصيد الحلم والكرامة في وجدان شعوبهم، هكذا راهن كلُّ القادة التاريخيين الذين حوّلوا مسارات حزيرانية تاريخية مشابهة قاتمة، وهذه هي اللغة السرية بينهما، والتي لا يجيدها إلا هؤلاء، وهؤلاء الأسرى الفدائيون هم الذين انتشلوا روح الأمة كلها في حزيران سبعة وستين، ومازالو إياها ينتشلون،

علي شكشك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202