الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تركيا وخيارات شراكتها الصعبة

آزاد أحمد علي

2013 / 6 / 18
القضية الكردية



ان قراءة موضوعية لتاريخ تركيا، ولسيرورة ولادتها كدولة اشكالية في المنطقة ، تظهر انها نتاج مصادفات التاريخ السعيدة في المقام الأول، وهي ابنة التحالفات والتعاون القهري بين شعوب المنطقة ثانيا، كما انها تمددت وكبرت بمساعدة الأكراد في المرتبة الأخيرة. فبعد معركة ملاذكرد عام 1071 م سيطر الأتراك بمختلف قبائلهم وتكويناتهم الإجتماعية والعسكرية على كوردستان والأناضول، وتم ازالة وازاحة العديد من الامارات الكوردية امام زحفهم غربا، وفي مقدمتها الدولة المروانية التي تأسست في دياربكر والجزيرة، طوال القرن الحادي عشر الميلادي. لقد سيطر الترك تدريجيا على وسط الأناضول وحققوا خرقا با تجاه اوربا، وكانت الثمرة الرئيسة للغزو التركي لآسيا الصغرى أن اسس العثمانيون أحدى أقوى الممالك الاسلامية الشرقية الطموحة، المستنفرة والمتطلعة دائما للسير باتجاه الغرب وقلب أوربا. الا ان القادة الترك وسلاطينهم لم يحققوا انجازا سياسيا وعسكريا كبيرا الا بعد ان تجاوزا خلافاتهم وأوقفوا صراعهم مع جيرانهم الكورد، وعقدوا اتفاقات وتفاهمات مع أوساط مسيحية ويهودية فاعلة في المشرق واوربا.
في أواسط القرن السادس عشر سادت الحكمة التركية وتطورت العلاقات التركية الكوردية، إلا أن ارتقت إلى مستوى التحالف. وذلك على اساس الأيديولوجية الاسلامية السنية، الذي شكل رجال الدين الكورد دعاتها ومنظريها، حيث جرت أكبر دعوة مذهبية دينية اسلامية سنية لصالح مشروعية حكم السلاطين العثمانيين، وتم قبولها في أغلب الامارات والحواضر الكوردية وبخاصة في امارات: ( دياربكر، بدليس، بوتان، حكاري...)، وظهرت هذه الدعوة جلية في بدليس التي برز فيها داعية اسلامي كبير هو (ملا ادريس) الذي نجح في الترويج لأحقية سلاطين بني عثمان في الخلافة الاسلامية، وضرورة بسطها سلطتهم على عموم العالم الاسلامي. وكنتيجة سياسية ترسخت العلاقة التركية -الكوردية، الا ان ارتقت الى ما يشبه الشراكة في الحكم. استفاد العثمانيون من الامكانات الفقهية والعلمية للكورد قبل قوتهم العسكرية، وشكلت المناطق الكوردية دعما اقتصاديا للسلطنة العثمانية، كما تحولت تلك المناطق أيضا إلى مستودع كبير لتزويد السلطنة بالمال والسلاح والفرسان.
تفرغ الحكم العثماني للتوسع باتجاه أوربا، في حين حمى الكورد ظهرهم وجبهتهم الشرقية، وصدوا هجمات الحكم الايراني الصفوي. كما ساهم الكورد في ترسيخ الحكم العثماني في بلاد الشام ومصر والحجاز، وشاركو في فتوحات اليمن.
يمكن التأكيد على أن الشراكة الكوردية التركية في القرن السادس عشر كانت من اهم عوامل نجاح الحكم العثماني واستمراريته، فبفضل هذه الشراكة تحولت السلطنة العثمانية الصغيرة في الأناضول الغربي الى امبراطورية اسلامية مشرقية كبرى.
ما حدث لاحقا أن خرج الكورد خاسرين ومفلسين تماما من هذه الشراكة، ففي أواخر الحكم العثماني تزايدت السياسات المعادية للكورد، وصعدت الى مركز القرار قوى تركية ذات نزعة عنصرية، لم تلبي أي من حقوق الكورد السياسية نهاية القرن التاسع عشر. انفضت الشراكة الكوردية التركية الأولى مع سقوط الإمبراطورية العثمانية. تزامن ذلك مع انتصار الحلفاء تماما على الدولة العثمانية، فاحتلوا استانبول العاصمة وازمير، ولم يبقى من الامبراطورية العثمانية، وبالتالي الدولة التركية المتبقية الا عدة ولايات في الأناضول الغربي. هنا أيضا برزت الحكمة التركية فتوجه مصطفى كمال اتاتورك الى الشرق، ولجأ الى المناطق الكوردية طالبا الدعم العسكري، فعقد مؤتمرا في مدينة سيواس، وأنشأ الكورد والترك معا مجلس الأمة الكبير، ونص أعلان تأسيسه على حقوق متساوية للكورد والترك في الدولة الجديدة. وفيما بعد خلال أعوام 1920 و1921 تعهد أتاتورك بإقامة أدارة كردية ذات استقلال ذاتي، وعندما ثم صد التهديد الخارجي، تحولت فكرة شعبين متجاورين يوحدهما الجغرافيا والتاريخ والدين إلى سياسة دمجهم قسرا في أطار أمة تركية جامدة ومصطنعة، حسب أيديولوجيا منظر تركيا القومي (ضيا كوك آلب ـ مبادئ التركانية).
لكن ما أن انتصر اتاتورك بمساعدة الكورد، وتم طرد قوات الحلفاء من اسطانبول وأزمير وغيرها من الأناضول الغربي، ثم أسست الجمهورية التركية الحديثة على انقاض السطنة المنهارة. واثر انجاز هذا التحرر الكبير، عاد القادة الترك وتنكروا لحقوق شركائهم الكورد، وما ساعدهم وشجعهم في ذلك هو اتفاق الدول الغربية على تقسيم كوردستان بموجب اتفاقية لوزان عام 1924، التي شرعنت ضم مناطق كوردية واسعة(ولاية الموصل) إلى مملكة العراق تحت الحكم البريطاني، ومناطق أخرى الى دولة سوريا تحت الحكم الفرنسي، اضافة الى مناطق أصغر مساحة الى الاتحاد السوفيتي. لم تكتف هذه الدول بتقسيم كوردستان فحسب، بل غضت النظر عن حملات الابادة التي شنها أتاتورك على المناطق الكوردية. وكانت النتيجة ان تفتت تلك المناطق، وتحطمت البنى الاجتماعية والاقتصادية فيها، وترافق كل ذلك مع اكبر حملة سياسية ثقافية ضد الكورد، استهدفت تغير لغتهم وأزيائهم وعاداتهم، مما دفع عشرات الآلاف منهم للهجرة الى غرب الأناضول، الذي كان يعاني بدوره فراغا سكانيا. لقد تم اطفاء كل الحركات السياسية الكوردية المطالبة بالاستقلال، حتى ظهرت رسومات الكاريكاتير في الصحافة التركية تبين بانهم قد دفنوا "كوردستان" في مقبرة بين الجبال. وبذلك اسدل ستار قاتم على الشراكة الكردية التركية الثانية، هذه الشراكة التي كانت أيضا اهم عامل في تأسيس تركيا الحديثة وصيانة استقلالها.
منذ أواسط القرن العشرين بدات ملامح التعب والمرض تظهر على الجمهورية التركية، دولة بجسد عسكري كبير وامكانات اقتصادية متواضعة، بهوية سياسية علمانية ظاهريا، واسلامية في العمق الاجتماعي، اضافة الى وجود اللغم الكوردي الكبير والكامن في عموم المناطق الكوردية. كنتيجة للأزمة المركبة هذه، وكاستجابة اجتماعية وسياسية موضوعية برز التيار الاسلامي لاعادة التوازن الى الدولة التركية في مجمل علاقاتها وبنيتها.
في العقد الأخير حقق التيار الاسلامي انجازات اقتصادية وسياسية، وتوجت بالخط الأردوغاني الطموح في السنوات الأخيرة، الذي أنجز نقلة نوعية حضارية، وحقق القفزة التنموية في تركيا المعاصرة. وعلى الرغم من ذلك يبدو ان الاسلام السياسي التركي في خطه العام والأردوغانية بشكل خاص قدمت أقصى ما يمكن تقديمه. لقد وصلت تركيا التقليدية الى طريق مسدود، بل تبدو تركيا اليوم محاصرة أكثر من أي وقت سابق، فقفزتها الاقتصادية تحققت لكن طريق التنافس مازال طويلا امامها على الساحتين الاقليمية والدولية. وأخيرا كانت مشاركتها المرتجلة في الربيع العربي غير موفقة، وهي تقترب من الفشل اكثر من تسجيلها أي نجاح. كما لم تعد تركيا وحزبها الاسلامي المعتدل نموذجا يحتذى الا عند بعض اليائسين والسذج. ولقد ترجم هذا التلكؤ على الصعيد الشعبي – النخبوي التركي في احتجاجات ساحة تقسيم مؤخرا، وبصيغة لها أكثر من دلالة، أولها لم تعد صورة المرحلة الأردوغانية زاهية الألوان.
وفي الحالة هذه لابد من أن تستيقظ الحكمة التركية من جديد متجسدة في المبادرة الأردوغانية لإيجاد مخرج من الأزمة، والاستمرار في تحقيق النجاحات، وتكمن هذه الحكمة المكررة في التحالف مع الكورد والاستفادة منهم. وعلى اعتبار انه لا يمكن لهذا المشروع السياسي أن يبدأ الا مع حل المسألة الكوردية في داخل تركيا من جهة، وتفهم الطموحات الكوردية في الجوار. بمعنى آخر ينبغي التأسيس لشراكة تركية كوردية ثالثة خلال تاريخهم الطويل والملتبس في الوقت نفسه.
لقد تم اعلان الهدنة، ومن المفترض ان تستمر الفصائل الكوردية المسلحة الانسحاب من مناطق المواجهة، والخروج الى منطقة ما خارج كوردستان تركيا. حدث ذلك عمليا دون مقابل. أي قدم الكورد ممثلين بقيادة حزب العمال الكوردستاني هذا الانسحاب هدية لتركيا، وعلى شكل سلفة سياسية للشراكة المرتقبة، وتأكيدا على المصداقية.
ما يمكن قوله بصدد هذه الشراكة السياسية، أن الخيارات أمام تركيا وأردوغان محدودة، بعكس القيادات الكوردية التي إنفتحت امامهم فرص سياسية متعددة وغير متوقعة في هذه المرحلة. وعلى الأرجح لا خيار أمام تركيا سوى التحالف مع الكورد أو أن تعيد انتاج ازماتها وتكرر أخطاءها، في حين ليس لدى الكورد اليوم ما يخسروه...
لذلك ولرفع درجة فرص النجاح ينبغي ان تؤسس هذه الشراكة الجديدة على اساس سياسي واجتماعي وقانوني سليم، فلقد ساهم الكورد في نهضة تركيا في الشراكتين السابقتين، وليس من العدل ان يعيد التاريخ نفسه، وان يكون الكورد في كل منعطف من منعطفات تاريخ المنطقة هم الطرف الخاسر، ان القادة الكورد ونخبهم لا يخططون لخسارة اي طرف في معركة اليوم، ولكنهم يعرفون تماما ان حقوقهم هضمت لعقود وسنوات طويلة، ومن المفضل ان يسود الحق عن طريق شراكة موضوعية عادلة ومتوازنة تعيد الحقوق لأصحابها وتؤمن الرفاهية للجميع.
ان احتجاجات تركيا اليوم تلقي بظلالها على مشروع المصالحة التركية الكوردية، وهي تعزز موقع الكورد التفاوضي، وربما تعزز جبهة المجتمع المدني وتزيد من تماسك قوى اليسار والنقابات. ومع ذلك يبقى الهدف المشترك هو الاستمرار في انجاز التغيير ونجاح هذه الشراكة السياسية الكبرى.
لاشك أن نجاح هذه الشراكة مرهون بموقف المعارضة التركية وحكومة اردوغان، وخاصة اذا تمكنوا من تناول الموضوع الكوردي بموضوعية، وبدرجة عالية من الجدية، اذ عليهم تجاوز انانيتهم القومية والحزبية أولا، لأننا أمام لحظة تاريخية حرجة: اما ان تكون هذه هي الشراكة التركية ـ الكوردية الأخيرة والصادقة، أو لن يكون حسب اعتقادي في المستقيل أي شراكة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط