الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعوة انصارية

عدنان اللبان

2013 / 6 / 29
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



عدة ايام مضت وأنبوب نقل المياه المستعملة من الحمامات والمغاسل الى الشبكة الصحية التي تقع خارج المستشفى يتدفق بالمياه الملوثة , وقد شكل مستنقعا آسنا في الممر الذي يربط بين قسم طب الاسنان وغرفة الاستعلامات , مما اضطر العاملين في المستشفى لوضع عدد من البلوك يفصل الواحدة عن الاخرى قدمان او اكثر ليتم عبور الاطباء والموظفين والمراجعين عليها . ومن بين جزر البلوك هذه كانت واحدة في النصف تتكون من مجموعة من الكاشي الذي تم قلعه من فوق الانبوب , حيث كان مرتفعا وأرادت ادارة المستشفى تصليحه ليعود الممر مستويا , الا ان الحفر كسر الانبوب . مقاول التصليح يقول ان الارتفاع كان بسبب تدفق المياه , اي ان الانبوب اساسا هو مكسور , وإدارة المستشفى تقول ان عامل الحفر هو الذي كسره , والمشكلة لم تحل بين ادارة المستشفى والمقاول .

طبيب الاسنان ابو الياس كان متحاملا على مدير المستشفى , ليس بسبب المستنقع والروائح الكريهة , ولكنه يعرف ان مدير المستشفى يضغط على المقاول لكي يصلح الممر والانبوب , وبالاتفاق مع مدير الذاتية والمحاسب سيصرفون مبلغ التصليح الى جيوبهم , والمبلغ لا يساوي ما يحصل عليه من اجور مرضاه في عيادته الخاصة ليوم واحد فقط , ولكن ماذا يفعل والمدير يتحلق بثلاث محابس ولحية خفيفة لا تتناسب مع اختصاصه كجراح . اضطر دكتور ابو الياس لترك غرفته والمراجعين والذهاب لمقابلة المدير ليس بسبب ما ذكر اعلاه , بل بسبب مراجعة تجاوزت الخمسين من عمرها لم يسمح لها ابو الياس بالدخول , صاح بها وأوقفها قبل ان تتمكن من دخول غرفته .
عند محاولة المرأة عبور جزر البلوك سقطت في المستنقع بعد ان اهتزت ولم تتوازن فوق الجزرة الوسطية من الكاشي, نهضت وأكملت باقي المسافة تخوض بالماء الآسن , وعندما وصلت لباب غرفة ابو الياس كانت رائحة عباءتها وباقي ملابسها قد ملئت غرف الاطباء والممرضين . منعها ابو الياس بشكل قاطع , اقسمت له بابي الجوادين – وهي تعرف انه من ابناء الكاظمية – بأنها لم تنم منذ ثلاثة ايام بسبب وجع اسنانها , الا انه لم يتزحزح عن منعها , توسلته كونها ارملة ولديها عائلة تعيلها وتعمل في بيع الخضروات , لم يكلف نفسه حتى ان يقول لها بانها ستلوث العيادة بل اشر لها بعدم الدخول مطلقا . سبته وسبت الحكومة وكفرت بابي الجوادين ان لم يظهر حوبته ويكسر ركَبة ابو الياس .

ابو الياس انسان جدي , ولا يقبل بالخطأ حتى لو كلفه ذلك غاليا , اكمل كلية طب الاسنان وبدرجات متقدمة , وبعكس ما قاله عنه بعض الانصار عندما كان نصيرا لثمان سنوات في كردستان من : انه يكره مهنة طب الاسنان , لانه لم يقبل ان يمارسها . والصحيح انه كان يحبها ولا يستطيع خيانتها بالعمل في ادوات ليست ادواتها وبدون عيادة مجهزة , رغم انه في حالات حرجة اضطر لقلع اسنان بعض الانصار ب " البلايس " وبدون بنج ان لم يحصل على بطل ويسكي . ابو الياس دق باب المدير وفتح الباب مباشرة ودخل , كان المدير يتحدث بحرارة في التلفون , واضطر لقطع المكالمة واجبر نفسه على ابتسامة واظهر ود مفتعل : اهلا دكتور ابو الياس , اشوفك ضايج خو ماكو شي ؟! ابو الياس : دكتور عصام الى متى راح يبقى قسم الاسنان بهذا المستنقع ؟! دكتور عصام : شنو اللي بيدي ؟ المقاول صار أسبوع نريد انحصله ما نعرف وين . ابو الياس : دكتور عصام آني عندي استعداد اصلحه باجر بأيدي , بس انطيني خريطة المستشفى حتى اعرف حجم الانبوب اللي راح اجيبه .
دكتور عصام : معقولة ؟! انت تصلحه بأيدك ؟!
ابو الياس : مثل ما اكَلك .
دكتور عصام : عزيزي انت دكتور والكل تحترمك , شراح يكَولون الموظفين والعمال اليشتغلون بالمستشفى ؟!
ابو الياس : شيكَولون خل يكَولون , المهم اصلح الانبوب ونخلص من هالجيفة , القسم بعد ما ينسكن ولا احنه نكَدر نمارس شغلنه .

ابو الياس من احد العوائل الغنية في الكاظمية , وعندما التحق بصفوف الحزب الشيوعي ليس بسبب دافع طبقي او تأثرا بقريب او صديق , بل بسبب انحيازه الفكري للعدالة وإنصاف الفقراء , وحياة الانصار في كردستان كانت انعكاسا لما تعودنا عليه في الحزب , فالنصير مسؤول عن كل ما موجود في المقر وعن امنه ان كان في المقر , ومسؤول عن سلامة كل افراد المفرزة ان كان في مفرزة , وهو يشعر بالمسؤولية ايضا على سلامة المستشفى او القسم الذي يعمل فيه على اقل تقدير , وهذا ما لا يدركه المدير او الآخرون بعد ان باتت المصلحة الشخصية هي التي تحرك الدوافع فقط . جميع افراد عائلته تركوا بيتهم القديم , او في الحقيقة لم يبق منهم الا اخيه الدكتور الجراح في المانيا . وعندما عاد ابو الياس بعد ازاحة النظام الصدامي الى بيتهم المتروك , وقد اكلت به عوامل الزمن وتآكلت مواسيره ونشب الخراب في حديقته المشرفة على الشارع العام , اضطر لشراء عدد عمل كاملة لتصليح البيت بنفسه في المبلغ الذي ادخره عندما كان عاملا في سوريا . فبعد الانفال غادر كردستان الى سوريا وعمل هناك في عدة اعمال يدوية لانه لم يكن يمتلك شهادته الطبية , عامل كهربائيات , مد انابيب , والفترة الاطول في تقطيع الحجر وصقله في مدينة حلب . ابو الياس في سوريا استعاد علاقته بأخيه بعد ان حصل على عنوانه في المانيا , وهم عائلة متماسكة وكثيرا ما يسأله شقيقه عن حاجته فيجيبه على انه ليس محتاج لأي شئ . في الوقت الذي كان الوصول الى احدى دول اللجوء لا يكلف اكثر من خمسمائة دولار , واغلب الرفاق والأصدقاء توزعوا في دول اللجوء .

في اليوم الثاني حضر ابو الياس قبل الدوام بأكثر من ساعة وهو يحمل حقيبتين , الاولى فيها ملابس العمل وهي بدلة كاملة فيها سحاب من منطقة الحوض الى اعلى الرقبة وتنتهي بغطاء للرأس , وفوق الغطاء خوذة بلاستيكة تحوي على نظارة عريضة وكمام لحماية انفه وفمه , وقفازات جلدية وحذاء بلاستك ( جزمة ) تصل الى الركبتين . وعندما لبسها كاملة كان اشبه برواد الفضاء , وموضع اندهاش موظفي الاستعلامات وعمال التنظيف وهم في حيرة عن ماذا يريد ان يعمل ؟! والحقيبة الثانية فيها عدة العمل , ابو الياس لاحظ اهتمام الاخرين بمراقبته ولكنه لم ينشغل بهم , فهو عندما يعمل لا يتحدث ويكون مشغولا بعمله فقط حيث يستحوذ على كامل انتباهه , ونادر ما يخرج عمله ناقصا . في كردستان تعلم صناعة تنانير الخبز , وعمل لكل المقرات الثابتة في بهدنان واربيل تنانير يشهد الجميع بمتانتها , وفي حلب سرعان ما بز عمال تقطيع الحجر وصقله وأصبح مرغوبا لدى المقاولين وصاحب الاجر الاعلى . وفي هذه المستشفى التي يعمل فيها , اغلب المرضى يريدون الحصول على موعد معه وليس مع الطبيبين الاخرين , وجميع العاملين يحترمون مهارته والتزامه في الدوام وليس مدير المستشفى وحده .

عندما اخرج ابو الياس ( الماطور ) من الحقيبة الثانية , وهو الذي يستخدمه اغلب العراقيين في دفع الماء من الاسفل الى خزانات الحمامات في السطوح , وقد ربط به انبوبان من البلاستك ( صونده ) , الاول ادلاه في المستنقع والآخر في فتحة المجرى القادم من جهة ادارة المستشفى . اندهش الجميع , ولا احد يصدق ان دكتور محترم يخوض الى ركبته في هذا المستنقع الآسن ويسحب المياه القذرة حاله حال عمال المجاري ؟! وبطرف عينه اختلس نظرة نحو شباك الاستعلامات الذي يقابله فوجد عدة وجوه بينها من يقف على الطاولة يحملقون به باستغراب , كانت تتوسطهم ممرضة صغيرة لا تتجاوز الثالثة والعشرين من العمر , عطف عليها ابو الياس وسحبها من قسم أخر لتعمل معه ويدربها على ان تكون مساعدة طبيب اسنان بعد ان عرف عنها انها تعيل اختها المعوقة وليس لديهم معيل آخر . كانت مصدومة ونظراتها البائسة تشي بألم من خسر شيئا وهي ترى دكتور ابو الياس منهمك في تصفية المستنقع اكثر من انهماكه في معالجة اسنان المرضى التي تعود على معالجتها . انها لا تعرف بسبب جدية ابو الياس في كل شئ جعلت البعض من الانصار والرفاق في كردستان لا يرتاحون له , فهو لا يعرف العاب التسلية وتمضية الوقت مثل الطاولي او الورق ولا تستهويه حتى الالعاب الرياضية بما فيها كرة القدم , والصرامة احد المرتكزات الاساسية في حياته .

في حياة الانصار كانت اغلب المحاضرات حول تاريخ الحركات الثورية وطرق نضالها , وفرح الجميع حينما بادر ابو الياس لتقديم محاضرة عن اغاني فيروز . ولكن جدية ابو الياس حولت اغاني فيروز التي تفتح شهية الانسان ليوم متفائل جديد , حولت " هدير البوسطه وأخواتها " الى نظريات عقلية , واخذ الانصار يترحمون على ثقل محاضرات الحركات الثورية . وفي عمليات الانفال حيث ترك الشعب الكردي كل شئ وهربت الناس بجلودها من قوات صدام , التقى الرفيق بولا بابو الياس , وكان ابو الياس يحمل بين يديه ثلاثة كاسيتات مسجل ووجهه مربد , وسأل بولا بمرارة : ذني الاشرطة تاركيهن بالشارع , تعرف ذني المن ؟ تسجيلات لراغب علامة . بولا لم يكن قد سمع بهذا الاسم , وظنه احد الزعماء الشيوعيين في المنطقة , وتردد ان يسأله عنه ؟ خوفا من اتهامه بعدم معرفة اسماء الزعماء والثوريين , او خوفا من ان يصدمه بعدم معرفة احد الحجج المعرفية التي يعتمدها ابو الياس . والى ان وصل بولا الى سوريا عرف عندها ان راغب علامة مغني لبناني .

سحب ابو الياس جميع المياه واكتشف ان التسريب من قطعة في وسط الانبوب القادم من قسم الاسنان ولن يستغرق منه وقتا طويلا كي يستبدله , وعند الظهر سيكون قد اكمل تصليحه . في احدى المرات التي زرت فيها لندن , ذهبت مع صديق لزيارة متحف الشمع . وعند تجوالنا فيه توقفنا امام تمثال لا يمتلك ملامح اية شخصية عالمية معروفة يعج بها المتحف , تقربنا منه وانحنينا نحاول ان نقرأ اللوحة التي تعرّفه في اسفل القاعدة التي يقف عليها , تحرك التمثال فجأة , وقبل ان يلزم ذقن صديقي الذي هو اقصر مني , كان راس صديقي قد ارتطم بفكي الاسفل وقرضت لساني وأخذت انزف . تبين ان التمثال احد العاب الكاميرة الخفية , والكلة التي اكلتها دلالة النجاح الباهر للكمين , وستعرض آخر فقرة في فعالية (قشامرالتمثال ) كما اخبرنا المصور . حكيت هذه الحادثة لابو الياس بعد ان اخبرني بأنه اثناء انكبابه على تصليح الانبوب , رفع راسه فجأة ايضا باتجاه شباك غرفة الاستعلامات , وكان الجميع يبحلقون به غير مصدقين , والممرضة الصغيرة التي اتى بها لعيادته انزلقت بينهم تخفي نفسها , لا تريد ان يراها تراه ( بهذه الوضعية ) . عندما بدأت احدث ابو الياس اخذ يسمعني بكل جدية , وبعد ان وصلت لقرض لساني ونزف الدم , نظر في وجهي لحظات ثم اطلق ضحكة قوية من اعماقه , وهذه هي طبيعته . حتى اللطيفة يسمعها بجد , وان كانت لا تعجبه فلن يبتسم حتى ولو للمجاملة , وان اعجبته بعد ان يغربلها في دماغه سيضحك . انه اسير علميته التي سيطرت على سلوكيته , وعندما يتحدث يقول رأيه مرة واحدة , وحينما يرى المقابل غير مقتنع يسكت ويوحي بأنه لا يحترم تكملة الكلام , وهذا سبب عدم الارتياح منه حيث يعتبروه ترفعا .

عندما ضربنا بالكيمياوي في قاعدة زيوة في حزيران عام 1987 كان ابو الياس بيننا , واخبر المسئولين ان الصواريخ تحمل مواد كيماوية . – عندما كان في الجامعة يذهب في العطل الصيفية بدورات في الدفاع المدني , واحدى هذه الدورات كانت على السلاح الكيمياوي – . آمر سرية المقر وهو ضابط خريج الكلية العسكرية في اليمن الجنوبية رفض كلام ابو الياس , واقنع القيادة بعدم صحة هذا الكلام وأشفعها بان هذا الكلام سيؤثر على معنويات الرفاق والأنصار .
ابو الياس طلب مني ان اصعد معه الى حظيرة الدوشكا التي هو ضيف عليها,و اجبته : ماذا سيقال عني ؟!
وبعد ثلاث ساعات من صعوده الى الدوشكا في اعلى الجبل عند منبع العين التي تسقي القاعدة بدأت تظهر اعراض الاصابة بالكيماوي , واستشهد ابو ماجد . وبعدها اتخذ القرار بالصعود الى اعلى الجبل , واخذ الجميع يصعد الى الدوشكا بعد ان فقد اغلبنا النظر تاركين الوادي الذي تلوث بالكامل . لم نكن نملك الادوية ولا اي علاج للكيماوي , والآلام اخذت تستنزف طاقة الجميع وبيننا مرضى ونساء وأطفال وشيوخ . وكانت لجهود ابو الياس وفصيل الاسناد الذي يرتفع قليلا عن القاعدة وسلم من الاصابة , السبب الاساس في انقاذنا من الكارثة , كانوا لا يتجاوزون العشرين رفيقا والمصابين قارب عددهم المائة والخمسين . كان ابو الياس قد درس في احدى دورات الدفاع المدني ان الشاي المر يغسل العين من السموم , والماء البارد يخفف الآلام المرعبة , وتمدد العشرات على طرفي الساقية وهو يوزع عليهم ما يحصل عليه من الصحون الفارغة لغرف الماء , ولا يسكت دقيقة واحدة , يوجه , ويساعد , ويرد على الاسئلة , ويطمئن ... وعند انتهاء الازمة بعد عدة ايام عاد الى وحدته بصمت . وآمر سرية المقر استمر آمرا للسرية .

يعمل ابو الياس في يوم العطلة السبت ( وهو موعد التقاء الانصار ) كإداري تنفيذي في مقر جمعية الانصار الشيوعيين في بغداد والموجود في مقر الحزب الشيوعي في ساحة الاندلس . بولا صديقه يقول : الح ابو الياس على دعوتنا في الجمعة القادمة للمبيت عنده في الكاظمية وكنا اربعة انصار , وأكد : ان الدعوة انصارية . التقينا الساعة العاشرة صباح الجمعة في شارع المتنبي , واخذ ابو الياس يلح علينا بالذهاب حتى قبل ان نطلع على عناوين الكتب المعروضة في البسطات كما جرت العادة , استغربنا الحاحه والنهار في بدايته . المهم عندما دخلنا البيت لبس بدلة العمل , وكان عنده عدة علب صبغ كبيرة للجدران , وزع الاخرين لجمع كسر الطابوق وباقي الكاشي ونقلها لجانب الجدار,وتنظيف الممرات والحديقة , واستبقاني معه انظف الجدران امامه قبل ان يصبغها , وأكد : ان هذا اسهل. الى الساعة الرابعة ونحن نخجل ان نقول له : لحد الآن ما شربنه كاس واحد من الشرب الجبنا من عدنه . صرفنا من العمل وهو متأكد لو بقينا ربع ساعة اخرى لكانت النتائج غير ما يرجوه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة


.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا




.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي