الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثالث

عبدالوهاب حميد رشيد

2013 / 7 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


إشكالية التحول الديمقراطي في العراق
الفصل الثالث
الديمقراطية والبنية المؤسسية السياسية
تتطلب عملية التحول الديمقراطي بناء ثلاثة محاور بنيوية، سياسية واقتصادية واجتماعية. يجمع كل منها بين الجوانب المؤسسية وبين الجوانب الفكرية- المنهجية- المفاهيمية اللازمة لخلق الوضوح في العمل المؤسسي. وهذه المحاور الثلاثة لا يمكن أن تعمل باتجاه المسيرة الحضارية بصورة منفصلة عن بعضها، بل هي تُشكِّل كلاً واحداً متكاملاً، باعتبارها الإطار الوطني الموحد والبنية المؤسسية للمسيرة الحضارية. من هنا سيبدأ هذا الفصل بمناقشة الديمقراطية والمؤسسة السياسية العراقية، بينما ستكون الجوانب الاقتصادية والاجتماعية محل مناقشة الفصلين التاليين.
تشكل المؤسسة السياسية بفروعها المتعددة المتكاملة مركز القيادة في المجتمع السياسي المنظم، والعقل المفكر والمنفذ للمسيرة الحضارية، والوجه الحقيقي لمرحلة تطور المجتمع. ولعل أبرز المؤشرات التي تعكس طبيعة النظام السياسي هي: بناء نظام دستوري وانتخابات نزيهة، نظام فعال لتوزيع السلطات الثلاث- التشريعية والتنفيذية والقضائية- على أساس من التوازن والرقابة المتبادلة وفق علاقة أفقية، وفي سياق: المساواة السياسية.. المواطنة الفعالة.. دورية السلطة (عدم الاحتكار السياسي).. المشاركة الشعبية.. أحزاب ديمقراطية تقوم على المعايير الوطنية.. هذا دون إغفال أن هذه المؤسسة هي صانعة القرارارات التي كلما عبَّرت عن مصالح المجتمع، جسّدت بدورها صدقية تمثيلها لأِصحاب السلطة (الشعب). من هنا يشكل معيار استقلال القرار الوطني مؤشراً حضارياً لطبيعة الممارسة السياسية ومرحلة التطور الاجتماعي.
1- المقومات البنيوية للتحول الديمقراطي "مناقشة فكرية"
الديمقراطية عملية حضارية تتطلب وجود دولة الوحدة الوطنية أمراً واقعاً وشرطاً مسبقاً. وبتعبير عالم الاجتماع العراقي المرحوم الدكتور علي الوردي: في غياب سلطة الدولة تختفي الشرط المسبق للحضارة.(1)
والديمقراطية لفظة أغريقية بمعنى "حكم الشعب" وتتكون من جزئين: demos، أي "الشعب" و kratos بمعنى حكم. وتعبرعن مفهوم تاريخي اتخذ صوراً وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات. وتقوم فكرتها الأساسية على حكم الشعب وممارسته الرقابة على الحكومة. أي أن الديمقراطية هي مهمة أهل البلد أنفسهم في سياق عملية تاريخية نمطية ممتدة، وفي ظروف حرية صنع القرار الوطني. ويتمثل جوهر الديمقراطية في توفير وسيلة منهجية لإدارة المجتمع السياسي بغية تطوير فرص الحياة، بما توفره من نظام سلمي للعلاقات الاجتماعية في ظل بنية مؤسسية حضارية تتسم باستمرار تصاعد النمو والكفاءة. وتحمل في مضمونها مبدأ المساواة الذي يتجاوز مفهومه الليبرالي السياسي إلى الاقتراب من التكافؤ الاقتصادي. وتقوم على بناء إرادة المواطنة الفعالة- إرادة المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والديمقراطية وفق هذا المفهوم عملية حضارية واعية تقترن بالتنمية البشرية والمادية الشاملة المتصاعدة، تتأسس حول الإنسان بدءاً بتنمية القاعدة الأقل دخلاً.(2)
ويرتبط بذلك أن الديمقراطية هي عملية مجتمعية شاملة- تغييرية وبنائية جذرية في آن واحد. والمقصود هنا بالتغيير المجتمعي الشامل كونه عملية ممتدة لإحداث تحولات عميقة تدريجية في البنية السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية القائمة، وبما يقود إلى تجاوز الاغتراب في ظلِّ المشاركة، وتحريك الفكر المجتمعي للانتقال من مرحلة الانفعال اللحظي (رد الفعل) إلى مرحلة الفعل التاريخي، ومن مرحلة القبول والرضوخ للواقع إلى مرحلة تغيير هذا الواقع تغييراً جذرياً وثورياً حسب حاجات ورغبات وقدرات المجتمع في كافة جوانبه الحياتية باتجاه إعادة بناء البيئة الاجتماعية التقليدية القائمة على القيم اللآهوتية والخطابية المثالية: الوحدانية والمطلق والغيبية/ السرية والعنف نحو بيئة اجتماعية حديثة تعتمد الفكر العقلاني والنظرة الشاملة والمنهج العلمي على أساس التعددية والنسبية والعلنية والتعامل السلمي.(3)
وتقوم الديمقراطية على مبادئ الحرية freedom التي تجسِّد قضية إنسانية وتعبِّر عن مِلكية الإنسان لفكره وإرادته وتمنحه شعور المواطنة، وتعمل على تحرير عقله من القيود والمحرمات والممنوعات. وهي تختلف عن التحرير liberty، رغم تداخل مفهوميهما، إذ أن فكرة التحرير قامت على المفهوم السلبي للحرية بالدعوة أولاً إلى تحرير الإنسان من القيود الاستبدادية والطغيان والعبودية، ولتتطور فيما بعد إلى المطالبة بتحرير الاقتصاد من قيود الإقطاع وقوانين القرون الوسطى، بهدف توفير البيئة المواتية لانطلاق البرجوازية الصاعدة. بينما الحرية تقوم على مفهوم نوعي إيجابي يتضمن مبادئ حقوق الإنسان. من هنا تشكل الديمقراطية/ الحرية "قيمة عليا كالطعام والشراب والملبس والمسكن. وعندما يشعر الناس بهذه القيمة عندئذ فقط تصبح قابلة لممارساتهم".(4)
تتطلب الديمقراطية في مسيرتها الصعبة والطويلة الأمد محاولة تحقيق التوافق بين المجموعات المختلفة والمصالح المتنافرة من أجل الصالح العام. "إن أعضاء المجتمع السياسي يسعون وراء أهداف متباينة، يتم التعامل معها، بين أمور أخرى، من قبل الحكومة. إن الاختلاف والاتفاق هما جانبان مهمان من جوانب الأنظمة السياسية. إن الناس الذين يعيشون معاً لن يستطيعوا أبداً الاتفاق على كل شيء. ولكن إذا أرادوا الاستمرار في الحياة معا, فهم لن يستطيعوا إلا أن يتفقوا على أهدافهم".(5)
كما تتطلب المسيرة الديمقراطية الصحية وجود أحزاب سياسية صحية، أي أحزاب ديمقراطية تقوم على القيم والمبادئ الوطنية وتكون متفقة قولاً وعملاً على تحريم العنف والاحتكار السياسي سواء في إطار الحزب أو السلطة، والقبول بالانتقال السلمي للسلطة في ظل توفير آلية انتخابات حرة. وتلتزم فعلا بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية- الاجتماعية، إضافة إلى القبول بالتعددية وتجنب المطلق لصالح الأفكار والقناعات النسبية. وهنا من المفيد ملاحظة أمرين: أولهما إن التعددية لا تعني تركيز الانقسامات الاثنية، المذهبية، الطائفية، القبلية. كما أن الإقرار بالحقوق الثقافية لكافة التنوعات اللغوية/ القومية في البلاد لا يعني القبول بانفصال واْنفصام هذه المجموعات عن بعضها أو عن محيطها الاجتماعي، لأن هذه الحالة تقود إلى اضمحلال مفهوم الدولة- المجتمع والوقوع في براثن التعصب والتجزئة، بل المطلوب أن تقود هذه الحرية إلى مزيد من التعاريف- فتح الأنوار- وفي سياق تقدم الخطاب الوطني على الخطاب الطائفي في أفكار وممارسات المواطنين.(6)
إن واحدة من آليات فتح الأنوار هي نبذ الوحدانية في التعامل، على سبيل المثال، إلغاء وحدانية دراسة الدين في المدارس لصالح تعددية الدراسة الدينية. فالحالة الأولى تقود إلى مزيد من تعظيم الوحدانية والتعصب والنفور الديني، بينما الحالة الثانية تخفف هذه الأمراض الاجتماعية باتجاه تنمية الوعي بالتعارف والتوافق والتكيف الديني. وهذا الأمر صحيح أيضا عند التعامل مع ثقافات التنوعات اللغوية/ القومية، المذهبية، الطائفية.. كما أنه صحيح أيضا فيما يخص الأفكار والايديولوجيات والأحزاب السياسية. وثانيهما إن الحرية تتطلب، ضمن أمور أخرى، تأكيد حرية الاختيار: حرية صنع القرار. "أن تنصحني بعدم القيام بفعل ما، هو كلام أجوف، ما لم أقتنع أني قادر على صنع قراري بقبول أو رفض النصيحة. ومن المؤكد إذا فقدت قدرتي على اتخاذ قراري بالخيارات المتاحة، وأصبحت مجرد منفذ لصوت القدر، الذي أملاه ماض متصلب أو بسبب شروط اجتماعية قاسية مفروضة، عندئذ من الصعب أن أفهم لماذا أتحمل مسؤولية تصرفي".(7)
والديمقراطية باعتبارها عملية تاريخية حضارية، تتطلب تفكيرا واقعياً في سياق دراسة منهجية لواقع المجتمع وقدراته ورغباته من أجل اختيار البرامج الأكثر ملاءمة وإمكانية للتطبيق في سياق مسيرة التحول. وتتطلب هذه المهمة تحديد المضامين الفكرية: النموذج الملائم للتحول الديمقراطي، ستراتيجية التنمية، نظم القيم الاجتماعية، مفهوم الانسجام الاجتماعي، العملية الإنتاجية، القضايا الدولية: الموقف من الانفتاح- العولمة- وكيفية الاستفادة منها ومواجهة سلبياتها بالعلاقة مع دورها في ترسيخ ظاهرة قيم الاستهلاك الترفي الغربي ومخاطرها على عملية التنمية، بخاصة في مراحلها الأولى. وهذا قيد خارجي يتطلب بناء أسس مرنة للتعامل مع الأزمة الدولية لصالح المسيرة الداخلية. مثل هذا التفكير المنهجي وتحديد المضامين الاجتماعية يعني رفض التفكير التبشيري القائم على الاعتقاد ويتنامي في إطار الرغبات والتطلعات والثوابت والمطلقات. وتفادي التجزيئية والوقتية في الفكر والتحليل. بكلمات أخرى، ترسيخ الديمقراطية في فكر الناس لا على أساس الأسلوب الوعظي التجزيئي قصير الأمد، بل بالتأكيد على الفكر الواقعي- المبدئي والعقلاني- العلمي الشامل الممتد. والديمقراطية تعني المشاركة في إطار المساواة السياسية والعدل الاقتصادي. ذلك أن تطوراً اقتصادياً يقوم على القهر والاستِغلال غير مؤهل لبناء الرفاه والاستقرار في المجتمع.(8)
كما تتطلب عملية التحول الديمقراطي إعادة تكييف البيئة الاجتماعية التقليدية نحو بيئة حضارية. وهذا يدعو بدوره إلى بناء الهياكل المؤسسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سياق عملية التغيير الجذري للبنية المؤسسية المجتمعية التقليدية وإحداث ثورة ثقافية/ دينية، وتحاشي الانقطاعات والتراجعات والانقلابات التي تقف عند حد زعزعة البنية الاجتماعية وتفتيتها دون مواصلة مرحلة البناء الحضاري.
وهنا تلعب المواريث التاريخية الثقافية دوراً حيوياً في هذه المسيرة. ففي الهند تم تطبيق الديمقراطية منذ أوائل الخمسينات من القرن العشرين وسط انتشار واسع للأمية والفقر والانشقاقات اللغوية/ القومية- الاثنية والدينية، حيث نوقشت مجموعتان من العوامل من تاريخية ومؤسسية. تقدمت الثقافة الهندية العوامل التاريخية. يذكر أحد كبار كتاب الهند في قضايا التحضر: Badrinath Chaturvedi أن واحداً من مبادئ الفكر الهندي الذي ساد المجتمع هو أن كافة الأفكار تقريبية (نسبية) بالعلاقة مع الحقيقة. عليه لا يوجد فكر يمثل الحقيقة كلها. وبالنتيجة استطاع الهنود تطوير موقف فكري تجاه الأفكار الأخرى على نحو مقبول جداً. برزت هذه الأفكار الثقافية وممارساتها بصورة جليَّة في الفترة الكولونيالية، واحتل مركزاً محورياً في مسيرة التحرر الهندية, إذ وفّرت قدرة عالية على الاستيعاب assimilation والتكتل agglomeration، وفي اتباع طريقة تؤكد على التوافق accommodation بدلاً من الانتصار segeration. وهذه الأفكار الثقافية شكلت قيماً عالية للديمقراطية مقارنة بممارسات معظم دول العالم الثالث. بينما تجسّدت مجموعة العوامل المؤسسية في حزب المؤتمر الهندي ودوره في التطوير التدريجي الفعلي للمؤسسات الديمقراطية. ساعدت هذه السلوكية على بناء أرضية مواتية لقيادة الديمقراطية بعد أن حققت الهند استقلالها (15-آب/اغسطس1947). وجرّب حزب المؤتمر أن يكون وعاء لكافة الأفكار والايديولوجيات والطبقات والمصالح في المجتمع الهندي باتجاه تطويرها وليس بقصد احتوائها ووأدها. قادت هذه الممارسات إلى خلق مشروع سياسي وطني وفّر ناد لمعالجة تناقضات الأفكار والمصالح بطريقة سلمية، وساهم في تأهيل أعضائه وقياداته ممارسة قواعد التسامح الديمقراطية. ولا تقل أهمية دور حزب المؤتمر تشجيع التعددية الحزبية بحيث انتهت بعد فترة زمنية من المسيرة الديمقراطية إلى نتيجة حاسمة، ألا وهي كسر احتكار حزب المؤتمر نفسه للسلطة (رغم أنه كان احتكاراً قائما على انتخابات ديمقراطية). ويرتبط بالعوامل التاريخية والمؤسسية كذلك بروز قيادة تاريخية حضارية مختلفة نوعياً عن مثيلاتها في معظم دول العالم الثالث، إذ قادت إلى الاستقلال والديمقراطية على طريق النضال السلمي وبناء إرادة الجماهير، متمثلة في شخص زعيم الهند المهاتما غاندي الذي فتح بنضاله السلمي (ومغزله اليدوي) الطريق لاستقلال بلاده السياسي والاقتصادي.(9)
يمتد حاضر العراق إلى بيئة اجتماعية تعود إلى خمسة آلاف عام مع نشوء أول حضارة بشرية متكاملة استمدت قيمها وتقاليدها وعاداتها من الحاضنة الدينية التي غلفتها الخرافات والخوف والقلق وعدم التوكد من المستقبل في غياب إرادة الإنسان وفي ظروف الحكم المطلق (ف1). من جهة أخرى، فقد احتضنت هذه الحضارة العديد من القيم والمفاهيم الإنسانية التي تتفق، بعامة، مع المفاهيم الديمقراطية: الصدق، الطيبة، الأمانة، التراحم، تحريم الكذب والسرقة وإيذاء الغير، علاوة على طاعة النظام- القانون. من هنا أكَّد كريمر في كتابه: التاريخ يبدأ من سومر: أن المجتمع السومري كان مجتمعاً حضارياً يتصف بالطيبة والنظام.(10)
احتضن العصر الإسلامي تلك القيم الحضارية القديمة ذات الأصول الدينية السومرية وأغناها بمفاهيم جديدة أقرب إلى القيم الديمقراطية (ف2)، خاصة ما تعلق بمبادئ الشورى والاختيار (اختيار الحاكم)، إضافة إلى العدل وفق قواعد الشريعة. ومع ذلك بقيت الديمقراطية غائبة في هذا العصر، لا بسبب غياب مفاهيمها، بل لوجود ثغرة واسعة بين مفاهيمها وبين تطبيقاتها. ويرتبط بذلك غياب مؤسساتها البنيوية التي تنظمها وتقننها وتعمق استمرار الأخذ بها وتطويرها. وهذا ما ساعد الحاكم/ الخليفة على عدم التمسك بهذه المفاهيم بحيث بقيت أفكاراً بحتة دون جذور لها في تربة الواقع. كما أن غياب الهياكل المؤسسية عزز سلطة الحاكم الفردية بإخضاع التشريع والقضاء لإرادته. قاد هذا الفراغ إلى بقاء هذه المفاهيم قوة لفظية دون قوتها الفعلية وخضوعها لتفسيرات مزدوجة زائفة ومنحرفة لصالح مركزية سلطة الحكم الفردي. وهكذا تحول مبدأ الاختيار إلى الحكم الوراثي، وبقيت الشورى شكلية لا تحد من إرادة السلطة الفردية، وظلّ السكان رعايا الراعي (الخليفة) لا مواطنين. وهنا يذكر الدكتور عبدالعزيز الدوري في وصفه لهذه الظاهرة: حاول الأمويون التأكيد على فكرة الجبر وأن السلطة بقدر من الله والخليفة هو خليفة الله وأن على الناس الطاعة. وهذا هو نفس منطق الديانة السومرية باعتبار الملك نائب الإله، لذلك وجب على الناس طاعته بالمطلق لكونها طاعة للإله. وهكذا إنطبع التاريخ السياسي العربي الإسلامي بتأثيرات الدولة السلطانية، دولة القهر والسطو والاستِغلال.(11)
إن إطلاق الثورة الثقافية/ الدينية باتجاه عملية التحويل الجذري للقيم والعادات التقليدية- التي تمتد جذورها لآِلاف السنين، بما فيها من القهر والعنف والغيبية والمطلق والوحدانية وغياب أو ضعف دور المرأة- نحو بناء ثقافة حضارية حديثة، يتطلب كذلك بناء مجتمع مدني مستقل ذاتياً عن السلطة الحكومية.(12)
لكل نظام اجتماعي متطلباته المؤسسية والثقافية. عليه تتطلب الديمقراطية بنية مؤسسية تتفق مع ولادتها ومسيرتها وازدهارها. من هنا يصعب الحديث عن التحديث السياسي في غياب الهياكل المؤسسية لبناء الدولة الحديثة. كما أن هذه المهمة التاريخية تتطلب فك الارتباط بين الدولة (سلطة الحكم) وبين المجتمع المدني. وهذه المسيرة البنائية لمؤسسات الدولة ستقود بطبيعتها إلى تعقد هيكل الدولة وتعدد مراكز اتخاذ القرار، أي تجزئة السلطة، واستحالة أو صعوبة قدرة الفرد أو مجموعة من النخبة السيطرة على السلطة وممارسة الحكم الشمولي. وبالنتيجة، تقود هذه التطورات إلى ما يُعرف بـ "اجتماعية السلطة"، حيث تتحول السلطة من الصفة الشخصية إلى الصفة الوظيفية، وتتطور باتجاه "السلطة الديمقراطية" التي تقوم على طاعة المعايير (الدستور، القانون، النظام) والتمسك بها بدلاً من طاعة الفرد، كما هو الحال في السلطة الفردية أو الكارزمية أو التقليدية التي تقوم في المرحلة ما قبل الصناعية. وعلاوة على ذلك، كلما كانت السلطة مرنة تجاه ظهور قوى اجتماعية معارضة تتمتع بالاستقلال الذاتي في ظلِّ المجتمع، فتحت المجال رحباً للمسيرة الديمقراطية. وفي هذا المجال قرأنا الكثير من الكتب المدرسية عن النظام الإقطاعي الأوربي باعتباره من العصور الأوربية المظلمة، لكن هذا العصر في واقعه شكل قاعدة انطلاق الفكر الحضاري الحديث وساهم عملياً في إفرازاته. فالنظام الإقطاعي الأوربي، ضمَّن هيكلياً، الاستقلال الذاتي لبعض الفئات الاجتماعية تجاه السلطة، خاصة طبقة النبلاء التي كانت جزءاً من النظام وشكلت في نفس الوقت تنظيماً اجتماعياً مستقلاً لم تخضع ممارساتها لنير السلطة. وفي حاضنة هذا التنظيم ظهرت فكرة "العقد الاجتماعي" التي جسدت النظرة الاجتماعية للسلطة باعتبارها حصيلة إرادة بشرية وليست إرادة إلهية، وبِأن السلطة نتاج عقد اجتماعي (دستور) بين الحاكمين والمحكومين وليست منحة إلهية معطاة. وهذه الأفكار الجديدة أسست مبررات الانتفاضة- الثورة على السلطة الخارجة عن معايير العقد الاجتماعي الذي يقوم على سيادة الشعب، وساعدت تاريخياً على ظهور المجتمع المدني. هذا على خلاف الأنظمة الشمولية الصلبة التي لم تسمح بظهور أفكار وقوى اجتماعية جديدة. وهذا يدعو إلى توجيه الأنظار نحو التأكيد على أهمية تحقيق فئة المفكرين- المثقفين، بخاصة، استقلالها الذاتي بغية انتشار المدارس الفكرية في الساحة السياسية- الاجتماعية.(13)
لعلَّ واحدة من الدراسات الأكثر أهمية في حينها التي ناقشت دور البنية المؤسسية في المسيرة الديمقراطية هي مقالة الباحث العربي شارل عيساوي منتصف الخمسينات بشأن طبيعة أنظمة الحكم في "الشرق الاوسط" مؤكداً على "أن الأرضية الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط مازالت تفتقر للعمق الذي يؤهلها على أن تجعل الديمقراطية السياسية قادرة على تثبيت جذورها حتي تستطع أن تتطور عليها". موضحاً الحاجة الماسة للمنطقة من أجل "التغيير الاجتماعي والاقتصادي الشامل الذي يعتبر مفترضاً أساسياً, وإن التغيير هو وحده الذي سيجعل المجتمع قادراً على أن يخلق أسس الدولة الحديثة". وفي تشديده على الأسس البنيوية للتنظيم الديمقراطي للعلاقات الاجتماعية فهو يؤكد بعداً مهماً "ما نحن بحاجة إليه ليس الإصلاحات الدستورية والإدارية، حسب، ولا حتى تغيير النظام الحكومي أو الأشخاص الحاكمين... ما نحتاج إليه هو قدر كبير من التحويل الاجتماعي- الاقتصادي الشامل".(14)
ويرتبط بذلك ضرورة التحول من الفردية المفرطة والولاءات الفرعية: العائلة، العشيرة، القبيلة، الطائفة، المذهب- نحو ولاءات أكبر: الوطن، الشعب، الدولة- بما تتطلبه عملية الانتقال هذه من إخضاع النزعات الفردية الأنانية لصالح هدف عام مشترك وإرادة مشتركة. وأن يسود تكافل اجتماعي قوي social solidarity، وفي نفس الوقت أن يضم المجتمع تنوع diversity كاف لتوليد التفاعل (التوتر) tension بين مكوناته يقوم على المنافسة الاقتصادية. والعمل على تحقيق تطور مستمر في البنية الاقتصادية لأِهميتها في تعميق الديمقراطية. ذلك أن الديمقراطية هي ابنة الرفاه، فعندما يحقق المواطنون إشباع حاجاتهم عندئذ فقط يستطيعون أن يجدوا الوقت والطاقة للمشاركة بفعالية في العملية السياسية. ولا تقل أهميةً مسألة توزيع الدخل والثروة. فالثروة هي القوة power وأن تركيزها في أيدٍ قليلة يعني أن مجموعة صغيرة فقط ستكون قادرة على ولوج السياسة للحصول على السلطة authority وضمان القوة، في حين أن جمهور الناس ممن يفتقرون إلى الاستقلال الاقتصادي، يفتقرون أيضاً إلى الموقع المناسب لممارسة حقوقهم السياسية. وهو ما يؤكد فكرة "روسو" في أن تحقيق المساواة السياسية يتطلب توفر عاملين: أولهما الإرادة (معنوي)، وثانيهما المقدرة (مادي)، وطالب بخلق التوازن بينهما.(15) أما العامل الاقتصادي الثالث فهو تنويع الهيكل الوظيفي بما يولده من تحسين الدخل ومستويات المعيشة وخلق طبقات اجتماعية جديدة وتعزيز المشاركة في العملية السياسية. ذلك أن الديمقراطية تزدهر فقط عندما تساهم نسبة مرتفعة من السكان في الصناعة والتجارة. فالتصنيع وتطور التجارة والخدمات الأخرى تؤثر في الحياة السياسية بطرق عديدة، فهي تساهم بقوة في زيادة الدخل الوطني، فالدخل الفردي السنوي في الصناعة أكبر منه في الزراعة، وفي التجارة أكبر منه في الصناعة. كذلك، تُعزز الصناعة والتجارة، الديمقراطية بطريقة أكثر مباشرة من خلال سحب الفلاحين بعيداً عن الأرض وإضعاف قوة مالكي الأرض وبما يقود إلى خلق طبقتين جديدتين: الطبقة الوسطى وطبقة العمال. فالمجتمع الذي يضم أساساً طبقتين تقليديتين: ملاك الأرض والفلاحين، لا يؤمل منه تطوير المؤسسات الديمقراطية. وطالما أن الطبقة الوسطى لا تستطيع بلوغ غاياتها في غياب الطبقة العاملة، فإن الأخيرة ترنو إلى شيء من المشاركة في المنافع. وأخيراً يحدث في الغالب أن كلاً من أصحاب الأرض والبرجوازية تتنافس من أجل كسب دعم الفلاحين، الأمر الذي يتيح زجهم (الفلاحين) في الحياة السياسية. كما أن المظهر المتميز لهذه العملية هو التمدن urbanization، ومع تركز نسبة كبيرة من السكان في المدن، فهذا سيقود إلى مضاعفة اتصالاتهم الاجتماعية. علاوة على أن التصنيع يحفز فئة المثقفين والمفكرين intelligence وتنشط البراعة والقدرة السياسية. وحتى تتحقق هذه التحولات فهي تتطلب، وبالذات في مراحلها الأولى، حكومة قوية قادرة على أن تلعب دوراً كبيراً وربما دور القائد، بخاصة في الدول التي تمتلك مصادر تمويل كبيرة يمكن استخدامها في التنمية، كما هو الحال في البلدان المنتجة للنفط.
إذن فغياب الديمقراطية في هذه المنطقة، حسب عيساوي، تعود إلى فشل بناء القاعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها، هذه الأرضية التي ما زالت تفتقر إلى العمق الذي يمكنها أن تجعل الديمقراطية السياسية قادرة على تثبيت جذورها ومواصلة تطورها. أما العلاج لهذه الظاهرة فهو التغيير الاقتصادي والاجتماعي الجذري والشامل الذي سيجعل المجتمع أهلاً لبناء أسس الدولة الحديثة. كما أكد على أهمية بناء دولة الوحدة الوطنية في سياق وجود قيادة سياسية ذات ثقافة عالية من جهة وناخبين متعلمين من جهة أخرى، بما يعنيه من الدور الحيوي للتعليم، حيث ارتبط توسيع الاقتراع في الغرب بزيادة عدد المتعلمين.(16)
وأخيراً، هناك اتفاق على أن الديمقراطية لا تقوم في ظل الاحتلال، بل ولا حتى في ظل التبعية حيث تخضع القرارات الاقتصادية لقوى خارجية. وتبرير ذلك أمر معروف هو أن الديمقراطية تجسد القرار الوطني لأِغلبية السكان. وهنا يرد السؤال التالي: كيف لنا الحديث عن الديمقراطية في ظل التبعية والافتقار إلى الاستقلال الاقتصادي وغياب استقلال القرار الوطني؟ أليس أكثر واقعية التحول من الحديث عن ديمقراطية المشاركة- الحرية إلى ديمقراطية المشاركة- التحرير؟ هذا التساؤل يدفع النضال في سبيل الديمقراطية نحو العمل بالممكن، أي من مشاركة الحرية إلى مشاركة التحرير دون أن ينفي هذا النضال قضية الحرية. ذلك لأِن مجتمعنا (وكذا الحال عند شعوب البلدان الأقل تطوراً) على مسافة بعيدة من ديمقراطية الحرية. هل نختلف بِأن مرحلة التطور- الواقع الحالي- التي نعيشها هي مواجهة التخلف والتبعية والحاجة إلى تأكيد ديمقراطية التحرير (السياسي والاقتصادي والاجتماعي)؟(17)
2- المؤسسة السياسية
(1) البنية السياسية للدولة العراقية: النشوء والسقوط
أصبح العراق "دولة ملكية دستورية" وفق دستور عام 1925. تضمن الدستور مبدأين رئيسين: أولهما إضفاء مسحة ديمقراطية من خلال ربط تأليف الوزارة وبقائها بموافقة السلطة التشريعية المنتخبة. وبذلك تم، نظرياً، إخضاع الوزارة للمجلس النيابي. وثانيهما اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات.(18)
ومع أن نصوص الدستور المذكور أوحت بإيجاد نظام برلماني حاول أن يكون قريباً من الصيغة التقليدية للأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية، لكن هذه الديمقراطية وتخصص السلطات في النظام المَلكي العراقي لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الانحرافات الدستورية التي مكنت المَلك الهيمنة على السلطات الثلاث.(19)
برزت هيمنة المَلك التنفيذية بمنحه سلطة شخصية بموجب الدستور للانفراد باختيار وإقالة الوزارة دون التقيد بالأغلبية البرلمانية. وهذه الهيمنة سمحت له، ليس في اختيار رؤساء فاقدين للأغلبية البرلمانية، حسب، بل وتجاوز ذلك إلى اختيار رؤساء وزارات ليسوا أعضاء في مجلس النواب. وبالنتيجة حصر المَلك هذا الاختيار بفئة محدودة من النخبة السياسية، حاشيته غالباً، ممن ربطوا أنفسهم بالبلاط وسياساته. إن اختيار الرؤساء بغض النظر عن الأغلبية البرلمانية، دفعت بالوزارات المعنية إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة لتلفيق مجالس نيابية موالية لها.
وفوق ذلك ما نصت عليه المادة 65من الدستور بمنح المَلك سلطة التصديق على قرارات مجلس الوزراء. بمعنى عدم قابلية تنفيذ هذه القرارات إلا بموافقته. ويلاحظ أن جذور هذه المسألة تعود إلى تشكيل أول وزارة عراقية "الحكومة المؤقتة 1920" من قبل المندوب السامي البريطاني وتحت إشرافه. وبهذا النص فقد مجلس الوزراء سلطة إصدار القرارات مباشرة، بل وتحولت قراراته إلى توصيات للمَلك الأخذ بها أو تعديلها أو رفضها. من هنا تحول مجلس الوزراء من كيان سياسي إلى إدارة تنفيذية، ومن سلطة تنفيذية لمشيئة المجلس النيابي (السلطة التشريعية) إلى أداة تنفيذية لإِرادة المَلك. وهذه السلطات مكنته من الهيمنة على مجلس الوزراء.(20)
يعتمد النظام البرلماني أساساً على السلطة التشريعية. ولم يكن الأمر كذلك في العراق المَلكي. وفي حين تتطلب الحياة البرلمانية نظاماً فعالاً لتوزيع السلطات على أساس من التوازن والرقابة المتبادلة وفق علاقة أفقية horizontal بين السلطات الثلاث، كانت العلاقة بين هذه الهيئات عمودية vertical، حيث جلس المَلك على قمة هرم السلطة، وبعده الوزارة، وفي الأخير مجلس النواب. وبالإضافة إلى هيمنته على الوزارة، تجلَّت هيمنة المَلك على البرلمان بمجلسيه وإضعافه لسلطتيهما في جوانب عديدة. إذ مُنح حق تعيين أعضاء مجلس الأعيان وإقالتهم. كما مُنح سلطة دستورية للتصديق على القوانين والاعتراض عليها، علاوة على منحه سلطة التصديق على مشروعات القوانين التي يقترحها مجلس الوزراء.
نصّ دستور عام 1925على انتخاب أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام السري. وقام الانتخاب على مرحلتين لغاية ك2/ يناير 1953 عندما صدر قانون جديد (مرسوم بقانون) تم بموجبه تطبيق الانتخابات المباشرة. ومع ذلك لم تكن الانتخابات إلا عملية شكلية، سواء قبل صدور القانون المذكور أم بعده. أما في الواقع العملي، فإِن مجلس النواب لم ينجُ من قبضة السلطة التنفيذية (المَلك ووزرائه) التي لجأت إلى "اختيار" أعضائه، وليتحول من مجلس منتخب إلى مجلس معين، ومن هيئة ممثلة للشعب إلى آلية مترجمة لإِرادة المَلك ووزرائه. فالسلطة التنفيذية ساهمت في مرحلة الترشيح للانتخابات. وكان لها مرشحوها "قائمة مرشحي الحكومة"، ومارست مختلف أشكال التدخل في الانتخابات لصالح مرشحيها.
وفي حين كان مجلس النواب عاجزاً عن تحريك المسؤولية السياسية للوزارة، غالت الأخيرة في حلِّه. ولم يكن ضعف المجلس النيابي بسبب تصرفات السلطة التنفيذية، حسب، بل ارتبط ذلك أيضاً بطبيعة السلطة التشريعية ومكوناتها وافتقادها للأحزاب السياسية الحديثة. علاوة على طبيعة مجلس الأعيان والوزارة في علاقتهما بالمَلك. يُضاف إلى ذلك احتواء مجلس النواب على نسبة مؤثرة من شيوخ العشائر وملاك الأرض الذين ساندوا الوزارة طالما التزمت بحماية مصالحهم. وهكذا، فتبعية الوزارة وضعف مجلس النواب أديا إلى تركيز السلطة الفعلية في يد المَلك وهيمنته على السلطات الثلاث في سياق انحراف النظام البرلماني، مؤدية هذه الظاهرة إلى خلق مَلكية شبه مطلقة لا تختلف عن المَلكية المطلقة سوى بوجود برلمان مزيف.
ورغم نصّ الدستور على استقلال القضاء وحياده إلا أن الواقع أفرز صورة مغايرة. إذ افتقد القضاء استقلاله وحياده أمام السلطة التنفيذية الطاغية، نتيجة اندماج الدور الوظيفي للسلطة القضائية مع السلطة التنفيذية. وفي مثل هذه الظروف عانى الحكام باستمرار من مخاطر التهديد الوظيفي، وواجهوا بصورة رتيبة ضغوطاً شخصية قوية من أصحاب النفوذ.(21)
إن بروز سلطة تنفيذية طاغية تمثل محور القوة في المجتمع الملكي العراقي، أدى بِأعضاء النخبة السياسية- المتمثلة في العناصر المرشحة لإشغال مناصب وزارية- إلى استثمار جلّ جهودهم وصولاً إلى تلك المناصب لتحقيق غايات عبّرت في الغالب عن مصالح ذاتية. ولم تستند عضوية النخبة السياسية إلى معايير موضوعية مثل الكفاءة والمهارة، بل قامت بدرجة رئيسة على معايير شخصية- عائلية- قبلية. ويمكن القول أن النظام المَلكي جسد حكم مجموعة صغيرة من العائلات المعروفة. يضاف إلى ذلك دور علاقات الصداقة الشخصية (الشلل) متمثلة في تشكيل الحلقات حول الشخصيات النافذة. فكل شخص بارز جمع حوله نفراً من المؤيدين، أصدر جريدة، ونظَّم حزباً سياسياً صورياً للحصول على قوة سياسية وشهرة ومركز رسمي بدعوى تحقيق استقلال البلاد عن بريطانيا. ومن أجل الوصول إلى السلطة أو حمايتها، لم يتردد هؤلاء الساسة من استخدام العشائر أولا ثم الجيش خلال فترة العشرينات والثلاثينات لأِغراض نفعية ذاتية. كما لجأ أعضاء النخبة إلى استِغلال مناصبهم في إقامة وتوثيق التحالف مع الشيوخ بمنح المؤيدين منهم مكاسب اقتصادية وسياسية. يذكر كاراكتاكوس "إن إحدى الفضائح التي عرفها الناس كان استعمال مياه سدة الكوت. لقد قيل بأن ذلك المشروع، الذي كلّف ملايين الدنانير، أفاد ثلاثة أشخاص فقط، كان أحدهم يُفاخر بأن ملكيته من الأرض تعادل مساحة سويسرة".(22)
كما أن استفحال الاعتبارات الشخصية في السياسة العراقية واستخدام العنف لحل الخلافات بينها عبَّر عن فقدان النظام المَلكي لممارسات سياسية حضارية قادرة على توجيه سلوك أعضاء النخبة السياسية، مثلما هي متاحة في الأنظمة البرلمانية عادة. وهذه الممارسات أدّت إلى الإضرار الشديد بمبادئ الإدارة والكفاءة والنزاهة والمبادرة، وإلى تشجيع هذه العناصر تفضيل مصالحهم الشخصية في سياق احتكار السلطة والثروة.
عاصرت الفترة المَلكية أوضاعاً سياسية استثنائية تراوحت بين الإفراط في تغيير الوزارات وتكرار أشخاصها وتزايد التوجه نحو تعطيل الدستور وفرض الأحكام العرفية. ومنذ انتخاب أول مجلس نيابي (1925) ولغاية نهاية المرحلة المَلكية تم انتخاب ستة عشر مجلساً نيابياً. وفيما عدا مجلس واحد (الدورة التاسعة: 1939- 1943) تعرضت بقية المجالس إلى الحل قبل استكمال دوراتها (أربع سنوات). كما شهدت الفترة 1920- 1958 تأليف 59 وزارة، بضمنها "الحكومة المؤقتة"، وبواقع 233 يوماً متوسط عمر الوزارة الواحدة. بينما فُرِضَتْ الأحكام العرفية منذ 14/9/ 1924 ولغاية 1/11/1952 على البلاد بواقع 3992 يوماً من جملة 10267 يوماً وبنسبة 39%. كما خضعت البلاد منذ عهد الوزارة السعيدية الثالثة (1939) ولغاية الوزارة السعيدية الثالثة عشرة (1952) إلى3661 يوماً من الأحكام العرفية أو (73.5%) من فترتها البالغة 4891 يوما.(23)
وهكذا، فإِن قصر عمر الوزارات العراقية في هذه المرحلة، وتناوب عدد محدود من النخبة السياسية على إشغالها، والإكثار من حل المجالس النيابية، والإفراط في فرض الأحكام العرفية، مؤشرات جسدت الأمراض السياسية التي عاصرت مرحلة بناء الدولة الفتية في الفترة المَلكية. تذكر فرباستارك- مؤسسة نادي "اخوان الحرية"- المركز التجسسي الذي أنشأه الأنكليز بعد فشل حركة مايس1941- بشأن نخبة الحكم "... ففي العراق عُهدت دفة شؤون الدولة منذ 30 سنة إلى فئة قليلة من الأشخاص المسنين المعروفين بولائهم لبريطانيا العظمى، مما دفع شباب البلد الذين لم ينفسح المجال أمامهم والذين يتوقون إلى ارتقاء سلطة الحكم، الانضمام إلى لواء واحد لمقاومة هذا النظام. وقد دلّ ذلك على قصر النظر السياسي، وترك دائرة الحكم ضيقة لهذه الدرجة فصارتْ الفئة الحاكمة تتقاذف كرة القوة (السلطة) من يدٍ إلى يد ضمن دائرة محدودة، وكانت النتيجة أن بريطانيا اختصت نفسها بفئة من ذوي الجمود والذين يحرصون على مصالحهم الشخصية والطاعنين في السن".(24)
بالإضافة إلى تردي الوضع السياسي داخل البلاد، زادت الحالة الاقتصادية المتدهورة من خطورة الموقف. إذ عمّ البؤس أغلبية السكان في ظروف سيطرة المشايخ والاحتكارات وغياب تكافؤ الفرص. كشف إحصاء السكن عام 1956 أن أربعة أخماس المساكن في البلاد كانت تتكون من أكواخ الطين أو القصب ذوات غرفة أو غرفتين وبدون نوافذ، حيث شكلت الدور النموذجية لغالبية السكان. وكانت الغرفة الواحدة تحتوي على 4- 5 أشخاص، بينما تكونت محتويات الدار من بعض البطانيات واللحف التي كانت محل استخدام مشترك لكافة أفراد العائلة في الشتاء بالتكوم تحتها ليلاً على الأرض، وصندوق خشبي يحوي جميع الحاجيات الفردية، وجرّة من الطين، وقدران اثنان للطبخ. وكانت العائلة تعيش في ساحة المنزل حيث تستخدمها لإنجاز الأعمال المنزلية ومعهم الدجاج غالباً وعنزة واحدة أحياناً. وكان طعامهم الرئيس الخبز الذي تخبزه نساؤهم في تنور من الطين. وقد يتم تناوله مع الشاي، وأحياناً يُضاف إليه اللحم والخضر والرز والتمر باختلاف المناطق والمواسم. وبصفة عامة كان اللباس والطعام والسكن بدائيا. فالصرائف مملوءة بالناس الملطخة وجوههم بالطين في الأيام الممطرة وبالذباب في الأيام الحارة، وهم يمثلون منتهى الفاقة. بينما عبّرت الخدمات العامة، بما فيها الصحية والتعليمية عن المصدر الرئيس للبؤس في ظروف معيشية تعيسة تدور في حلقة مفرغة من الفقر والجهل والمرض فالفقر.(25)
من جهة أخرى تميز النظام الاقتصادي في الريف بالمِلكية الواسعة للأراضي الزراعية لصالح القِلَّة من الشيوخ المتخمين وسط محيط واسع من الفلاحين التعساء العاملين باجور زهيدة أو نظير تقاسم المحصول لصالح الشيخ. وحسب إحصاءات توزيع المِلكية الزراعية قبل ثورة تموز 1958، مَلكَ 97.1% من الحائزين فقط 30.7% من مساحة الأراضي الزراعية في العراق، مقابل 2.9% من الحائزين استحوذوا على 69.3% من مساحة هذه الأراضي.(26)
والخلاصة، فإن الفترة الليبرالية اعترتها عوامل قصور عديدة في سياستها الداخلية، علاوة على سياستها الخارجية، وساهمت في خلق قطبية سياسية واقتصادية لصالح الأقلية، ومحاربة العملية الحزبية، وتزايد الاعتماد على الحليف البريطاني، الذي استمر حضوره بفعالية بدءاً من تشكيل أول وزارة عراقية ومن ثم وضع الدستور وهيمنته على الثروة النفطية من خلال الامتيازات وتلفيق الانتخابات والمساهمة في اختيار رؤساء الوزارات والوزراء ولغاية توجيه السياسة الخارجية وبناء الأحلاف. وكذلك السياسة الداخلية بما في ذلك الانفصال القضائي بين المدن وبين الريف واستمرار فقر الزراعة والصناعة وتهميش الأغلبية. عليه جاءت بنية الدولة الفتية بعيدة عن الليبرالية السوية في ظروف بيئية مليئة بالدسائس والمؤامرات والعنف والانقلابات لتنتهي بالحركة العسكرية التي قادت إلى ثورة 14 تموز 1958.
هذه هي بايجاز السمات الرئيسة التي خلّفها العهد المَلكي- المرحلة الليبرالية في العراق. فماذا تحقق في العهد الجمهوري- المرحلة الشمولية؟
جاء النظام الجديد ثورياً في لغته وممارساته. بادر فوراً إلى إحداث تغيير جذري في سياسة البلاد الخارجية بالتحول من علاقات تبعية لبريطانيا والغرب إلى بناء علاقاته مع كافة دول العالم، بما فيها دول المعسكر الاشتراكي (سابقاً) على أساس مبدأ التكافؤ. وإلغاء سياسة الأحلاف والتكتلات متضمناً الانسحاب من الاِّتحاد الهاشمي وحلف بغداد والمنطقة الاسترلينية وإعلان الحياد الإيجابي. بينما جاءت سياسته الاقتصادية مستهدفة تحقيق غايتين ثوريتين هما الاستقلال الاقتصادي وإعادة توزيع الثروة والدخل لصالح عامة الناس.
بدأ العهد الجديد ممارسة سياسة اقتصادية مختلفة جذرياً عن السياسة الاقتصادية للعهد القديم. إذ ألغى المؤسسات الاقتصادية السابقة وبادر إلى بناء مؤسسات اقتصادية جديدة بكفاءات وطنية. وأعلن عن تطبيق سياسة التخطيط واعتماد الأولويات في سياسته الاستثمارية وتوسيع الخدمات الاجتماعية لصالح الدخول المحدودة وضغط أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية بدعم من الدولة. وفوق ذلك شهد العراق الجمهوري بأنظمته المتعددة ثلاثة أحداث ثورية كبرى ذات آثار اقتصادية واجتماعية واسعة وبعيدة الأمد، تمثلت في: قانون الإصلاح الزراعي.. قوانين التأميم "الاشتراكية".. تأميم النفط.
استمر النشاط الاقتصادي العراقي في صعوده، هذا رغم المثالب التي رافقت محاولات التنمية في هذه المرحلة. وبذلك تسّلق الاقتصاد العراقي قمة السلّم بين دول العالم الثالث من حيث متوسط دخل الفرد، علاوة على بلوغه مستوى عالياً من التعليم والمهارات وامتلاكه الخبرة والتكنولوجيا المتقدمة ووفرة احتياطيه من العملة الأجنبية. إلا أن هذا البناء- الذي تحقق بجهود متواصلة لا تقل عن نصف قرن من الزمن- بدأ بالانحدار السريع مع الدخول في حرب الثماني سنوات (1980- 1988) ضد إيران. وبلغ حافة الانهيار مع غزو الكويت وحرب الخليج (1990- 1991). وأخيراً، قادت الحرب الأمريكية- البريطانية على البلاد (2003)، ليس إلى إلغاء النظام السياسي حسب، بل وإلى تدمير الدولة العراقية. لماذا ؟
رغم صعوبة إغفال دور العوامل الخارجية في هذه الحصيلة المريرة، إلا أن موضوعية الإجابة تكمن بدرجة عالية من الثقة داخل العراق وفي عمق النظام العراقي بمفهومه السياسي الاجتماعي الشامل. ذلك أن نظام الحكم يجسد بطبيعته الرأس والعقل المدبر للدولة في رسم أهدافها وسياساتها وتحديد ممارساتها في الحاضر والمستقبل. إذن السؤال الآخر المطلوب بحثه هو: أين كمنت مشكلة نظام الحكم الجمهوري في العراق؟ ولماذا انتهى إلى هذا الدمار والخراب؟
بدءاً ببرنامج الضباط الأحرار لبناء النظام السياسي المقبل في العراق، جاء هذا البرنامج في صورة مبادئ عامة تفتقر إلى تفصيل أهدافها وسياساتها. وبالنتيجة بقيت مسألة من يحكم ونوع الحكم وكيف يحكم. أي طبيعة النظام السياسي دون إجابة. وهنا قبعت بذور مشكلات نظام الحكم الجديد. علاوة على ظهور الاختلافات والتوترات الحقيقية و/ أو المصطنعة على السطح مع اقتراب موعد حركة الضباط الأحرار من ساعة الصفر. يُضاف إلى ذلك مشكلة بنائها التنظيمي، وبالذات كيفية اختيار القيادة التي استندت إلى الرتبة العسكرية، وطريقة تعاملها مع صنع القرار وتنفيذه.
وبعد نجاح الثورة أخذت المشكلات السياسية تتحدى النظام الجديد، خاصة كيفية إدارة الحكم وطبيعة القيادة. ذلك أن قيادة مجموعة عسكرية لها تقاليدها وقواعدها المعروفة والمقبولة سلفاً لدى أعضائها ليست الطريقة ذاتها في قيادة ملايين مختلفة من الناس ذوي الأفكار والمشارب المتباينة. كما أن غياب قيادة جماعية ساعد على تضخيم الخلافات لتتحول إلى صراع على السلطة في غياب المؤسسات الدستورية.
توسع هذا الشرخ إلى انشقاق سياسي للمجتمع العراقي مع انفراط عقد جبهة الاتحاد الوطني، خاصة بين التيارين الرئيسين الممثلين بـ: القومي (البعث) واليسار (الشيوعي)، بعد أن منح كل منهما دعمه غير المحدود لأِحد القطبين المتصارعين. ولتتحول الانشقاقات والصراعات إلى مواجهات دموية. وهكذا برزت دكتاتورية عسكرية فردية ورسمية تحت شعارات ديموغاغية قوامها التبجيل وعبادة الشخصية. وأخذت القوة الغاشمة طريقها كأسلوب أوحد في السياسة العراقية. ومن السخرية أن حصيلة هذه المواجهات السياسية العنيفة حققت مصالح الأطراف الخارجية المعادية التي عارضتها القوى الوطنية بما فيها البعث والشيوعي. بل ووفرت على نحو متزايد فرص إجهاض تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للثورة بأنظمتها المتعددة. وساهمت في تعزيز القطبية السياسية وما نجم عنها من خراب ودمار.
إذن، فنقطة الفشل المركزية للثورة وأنظمتها الجمهورية المتعددة، تجسدت في عجزها عن بناء نظام سياسي مدني يستند إلى حكم الدستور والقانون والمشاركة الجماعية بدلاً من المؤسسات العسكرية وحكم النخب والزعامات الفردية.
وفي مثل هذه الظروف الاستبدادية القائمة على احتكار السلطة وإصرار الحاكم على الاستمرار، لا يثنيه عن عزمه الاحتفاظ بالسلطة سوى قوة قاهرة أخرى، عليه أصبحت الأرضية مهيئة للدسائس والمؤامرات والانقلابات من أجل نقل السلطة بالقوة بعد غياب إمكانية نقلها سلميا ولتستمر دورة العنف والعنف المضاد.
خلاصة القول، ورغم الاعتراف بِأن العهد الجمهوري كان رداً عملياً على انحرافات وتجاوزات النظام المَلكي، إلا أن مثالب قاتلة رافقت هذا العهد منذ بدايته ولغاية سقوطه ووقوع البلاد تحت الاحتلال الأمريكي. لعل أكثر هذه المثالب برزت في مجالين مترابطين متكاملين:
- أولهما أن إلغاء المؤسسات النيابية بدلاً من إصلاحها خلقت بيئة صالحة لظهور الصراعات التي سهلت نمو وانتعاش الدكتاتورية التي تصاعدت حدتها مع كل انقلاب جديد لتبلغ القمة في السلطة الفردية والصلابة والقسوة مع حلول انقلاب عام 1968.
- ثانيهما ضعف إدراك القوى الوطنية لعظم الأعباء التي فرضها حلف بغداد على البلاد فجاء الإلغاء السريع للحلف، دون مظلّة حامية مانعة لتدخلات أطرافه، بكارثة أخرى مكملة وممتدة لغاية نهاية هذا العهد. وكما قاد إلغاء المؤسسات النيابية إلى انكشاف ظهر البلاد داخلياً في ظروف نمو الصراعات والدكتاتورية، فإن إلغاء حلف بغداد قاد إلى انكشاف ظهر البلاد خارجياً لتصبح مسرحاً للمؤامرات والدسائس التي غذتها مختلف القوى الإقليمية والعربية من دول الجوار وغيرها تحت رعاية القوى الكبرى- سادة حلف بغداد.
(2) الوضع العراقي قبل السقوط
هناك مقولة لمواطن عراقي كتبها أثناء مشاركته في صحيفة استقصاء أجريت في وقت سابق، حيث ذكر: الوطن باق والنظام زائل.(27) من هذا المنطلق كان العراقيون، بعامة، من الداخل والخارج (باستثناء سماسرة السياسية والمهرولون وراء الثأر والانتقام القبلي ومصالحهم الذاتية)، ورغم معارضتهم للنظام السابق، رفضوا أيضاً التدخل- الحرب الأمريكية- لإزالته، لأِنهم وعوا ابتداءاً أن للقوة الخارجية مصالحها التي تتجاوز مصلحة الوطن. وإن التغيير السياسي، كما هو حال التحول الديمقراطي، عملية مجتمعية بنائية حضارية تقع مسؤوليتها على أهل البلد أنفسهم.
كيف كان الوضع في العراق أثناء الإعداد الأمريكي للحرب عليه واحتلال البلاد؟
الكبت السياسي الذي مارسه النظام السابق في ظروف استمرار احتكار السلطة ومحاربة القوى والأحزاب السياسية ودفعِها إلى الهجرة والعيش في الغربة وسط مجموعة ضخمة (2- 3) مليون عراقي، تعج بالكفاءات والخبرات الوطنية، والحروب المتتالية بما ولّدتها من حصار اقتصادي دولي ظالم. هذه الأوضاع التي عمّقت مشكلة التنوعات اللغوية/ القومية والقيم الطائفية، المذهبية، العشائرية، بحثاً عن الحماية في وقت فقد المواطن حماية ورعاية الدولة، ولتطفو أزمة التمترس الطائفي والاثني والمذهبي والعشائري والحزبي، وتصاعد شعور المواطن بالحرمان واليأس سواء في الداخل أو الخارج، وعلاقات عدائية للنظام مع الخارج.. هذه الأحداث الجِسام تتطلب التحليل والتفسير لماهية ما حدث من انهيار، ولماذا حدث هذا الانهيار؟
تأثيرات حرب الثماني سنوات (1980- 1988): الحرب العراقية الإيرانية- التي لم يكن لشعبي البلدين رأي أو مصلحة فيها- شكلت كارثة مجتمعية على العراق. قلبت الأوضاع والأسس التي بنيت عليها الدولة العراقية- اقتصادياً واجتماعياً- وحمَّلت البلاد ديوناً خارجية تراوحت بحدود 160- 200 بليون دولار، باختلاف التقديرات، بعد أن تجاوز الفائض النقدي للميزانية العراقية 45 بليون دولار، وبدأ الاقتصاد العراقي بالانتعاش، وأخذ عامة الناس يقطفون بعض ثمار هذا الانتعاش وشيئا من بحبوحة العيش. انقلب كل ذلك إلى عجز حاد وانحدار سريع في قيمة الدينار العراقي بعد أن كان واحداً من أقوى العملات في المنطقة. ونتيجة التضخم النقدي وارتفاع الأسعار، تدهورت معيشة عامة الناس بحيث أصبحت السمة البارزة للعائلة العراقية هي الحاجة- الفاقة ولتستمر لغاية ما بعد سقوط النظام.(28) ووسط هذه الحالة من تدهور الأوضاع المعيشية والركود الاقتصادي، استمر توجه النظام نحو عسكرة المجتمع بصورة مكثفة. بلغ ما هو مخصص (رسمياً) للجيش والتصنيع العسكري 68%- 75% من الميزانية العامة، مع ملاحظة آثارها على الخدمة المدنية والعمل في أجهزة الدولة الأخرى.
جاءت الآثار الاجتماعية للحرب العراقية الإيرانية بخسائر بشرية عراقية بحدود المليون من قتيل وجريح ومعوق وأسير، ومئات آلاف أخرى نتيجة حرب الخليج (1991) وأحداث العنف التي رافقتها.(29) كما أصيبت صيرورة العائلة العراقية بالانهيار بعد أن فقدت الكثير من أبنائها، وتحملت المرأة/ الأم تربية الصغار وإرهاصاتهم الحياتية، بل ومسؤولية إعالتهم بعد أن صار مصير الزوج/ المعيل بين مقتول ومفقود، عاد بعضهم بعد سنين طويلة دون أن يتعرف عليه صغاره الذين كبروا, بل عاد البعض ليجد محله زوجاً جديداً. وهكذا كان من نتاج هذه الحرب إحداث خلل واسع في البنية الاجتماعية وفي معيشة جيل كامل من الشباب والشابات، تُركوا في حزمة من العقد والمشكلات الاجتماعية التي تجسدت في انتشار الأمراض النفسية.
توجت هذه الحروب بالحصار الاقتصادي الدولي (1990- 2003) الظالم والقاسي، وكان الحصار العربي الذي التزمت به غالبية الأنظمة العربية، إرضاء للولايات المتحدة و/ أو تحقيق ثارات قبلية، هو الأسوأ. حصد الحصار أرواح ما يقارب 8ر1 مليون نسمة أغلبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ. إضافة إلى تأثيراتها البيئية القاتلة وتدهور الصحة العامة وانتشار الأمراض المميتة وعودة أمراض عديدة للظهور بعد أن تم القضاء عليها تماما، كما فقدت المستشفيات أبسط المستلزمات الضرورية لمعالجة المرضى والمصابين.(30)
قررت الولايات المتحدة اختيار العراق ساحة لحربها ومعبراً لتحقيق أهدافها في "الشرق الأوسط" بعد أن تبين لها أن هذه الساحة أصبحت ورقة آيلة للسقوط ويمكن من خلالها إيصال رسالتها وبلوغ النتائج التي تخطط لها. فالعراق أصبح مكشوفاً من الناحية الاستخباراتية، وكل المعلومات توفرت لها عن أجوائه وإمكاناته عن طريق لجان التفتيش الدولية، وبالتالي لا مفاجئات تنتظر القوات الأمريكية على مسرح العمليات.(31) ولم يكن قرار الولايات المتحدة الحرب على العراق واحتلاله وليد الساعة بل اتخذ منذ عقد من الزمن، وحين وصل الحال إلى مرحلة التنفيذ بمجيء المحافظين الجدد للسلطة كان لا بد لها من أن تختلق سبباً لشن الحرب، فوجدت ضالتها في أسلحة الدمار الشامل العراقية لبث الرعب في نفوس الأمريكيين والحصول على تأييدهم بشن الحرب على العراق. استغلت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتلفق هذه الرواية وتضيف إليها قصة تعاون النظام العراقي مع "القاعدة". وبذلك حبكت هذه الأكذوبة وصدقتها ودفعت بسكانها وبرلمانها والأطراف الأخرى إلى تصديقها أو مسايرتها.
ما هي حقيقة أسلحة الدمار الشامل لدى العراق
والتي جعلت منها الولايات المتحدة أكثر سبب لاحتلال البلاد؟
حسب بحث مشترك لعالمين عراقيين متخصصين فإن حرب الخليج (1991) دمرت منشآت أسلحة الدمار الشامل العراقية، وبعد الحرب (حزيران/ يونيو- تموز/ يوليو1991) أصدر رأس النظام العراقي أوامره بتدمير جميع بقايا الأسلحة المحظورة ومنظومات إنتاجها، وقامت قوات من الحرس الجمهوري الخاص بالتنفيذ. وهكذا انتهت أسلحة الدمار الشامل العراقية بفعل القصف والقرار الفردي لرأس النظام العراقي. لكن الجانب العراقي لم يدون محضراً أصولياً بِإجراءات التدمير، ولم ينظم سجلاً بالمعدات والمواد التي تم تدميرها. هذا رغم أن هذا الإجراء، وحسب هانز بليكس مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية في حينه، كان مخالفاً لقرار مجلس الأمن رقم 687 لسنة 1991 الذي نص على "أن يوافق العراق على تدمير أو إزالة أو إبطال فاعلية جميع المواد والمعدات المحظورة تحت إشراف دولي"، أي لا يجوز تنفيذ عملية التدمير دون إشراف مفتشي الوكالة الدولية ومفتشي اللجنة الخاصة. من هنا طالب بليكس بإيقاف عملية التدمير أحادي الجانب ولكن دون جدوى. وفي غياب مثل هذه الإجراءات الموثقة غاب الدليل المادي عن المفاوض العراقي، ووصلت المفاوضات مع لجان التفتيش إلى طريق مسدود، بعد أن صار العراق غير قادر بالدليل المادي إثبات أنه قام يتدمير أسلحته تدميراً كاملاً عام 1991، وأصبح دليله الوحيد: أن عمليات التفتيش التي امتدت لسنوات عديدة (1991- 1998) لم تعثر على شيء يُذكر. ولكن، وحسب قول بليكس والبرادعي وغيرهما، "أن عدم العثور على شيء ما لا يعني بالضرورة عدم وجوده"!(32)
ومع أن أعضاء لجان التفتيش توصلوا يقيناً إلى جميع مكونات البرنامج النووي العراقي، وحصلوا على أدق التفاصيل لتلك البرامج على نحو لم يترك المجال لإعادة العمل بهذه البرامج إبان تلك الفترة أو حتى بعد رفع الحصار عن العراق، غير أنهم أحجموا عن ذكر تلك الحقائق في تقاريرهم إلى مجلس الأمن. تنصل الدكتور محمد البرادعي مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية من قول الحقيقة، وخفّت صوت الدكتور هانز بليكس عن كشف الحقيقة لمجلس الأمن في اجتماعاته ولا سيما قبل اجتياح العراق في آذار/ مارس 2003، وغلفا تصريحاتهما بجمل دبلوماسية تتقبل ازدواجية التفسير/ التأويل. هذا رغم أن البرادعي قال، بعد فوات الآوان، في تقرير رسمي أرسله إلى مجلس الأمن في التاسع من نيسان/ أبريل 2003 أي يوم احتلال بغداد، بأن العراق لم يكن قد أعاد العمل بالبرنامج النووي بعد عام 1998 وأن النقاط العالقة يمكن حلها في مرحلة التحقق والرقابة المستديمة. كما صرح هانز بليكس بعد فوات الآوان أيضاً بأن اللجنة التي كان يرأسها- الأنموفيك UNMOVIC كانت تخضع لضغط كبير من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.(33)
وفي حمى دق طبول الحرب، لعب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي الدور المرسوم له، فكتب في تقريره إلى مجلس الأمن بتاريخ 17/3/2003 "هذه المسائل والأمور المعلنة المتبقية ذات علاقة بالتقدم الذي كان قد تحقق (في السابق) بخصوص تصميم السلاح النووي بسبب عدم وجود بعض الوثائق، وبسبب عدم التعرف على مدى المساعدة الأجنبية في ذلك المجال، وبسبب عدم وجود دليل على أن العراق تخلى عن برنامجه النووي"!! وهكذا بدلاً من أن يبين مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية حقيقة هذه الأمور الهامشية المتبقية التي اعترف بها للجانب العراقي، ضخّمها ومنحها التهويل المطلوب أمام مجلس الأمن، واصفاً إياها بِأنها أمور يتوجب حلها، "مانحاً نفسه امتياز المساهمة الفاعلة في الترويج للحرب على العراق".(34)
وبعد الاحتلال، بانت الحقيقة ساطعة، فالفريق الأمريكي للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق برئاسة ديفيد كي، والذي ترأس فريقه المكون من 1400 خبير لفترة تجاوزت الثمانية أشهر منذ احتلال العراق، لم يجد- حسب ما أعلن في مؤتمره الصحفي- شيئاً من أسلحة الدمار الشامل، بل واستغرب كيف أن الاستخبارات الأمريكية واستخبارات الدول المعنية الأخرى، وكذلك مفتشي الأمم المتحدة، أخطأوا جميعاً في تقديراتهم لما كان يمتلكه العراق من هذه الأسلحة قبل حرب آذار/مارس 2003. وقالها صراحة "إن المعلومات الاستخبارية الأمريكية عن قدرات العراق في هذا المجال جميعها كانت خاطئة...".(35)
وهكذا ارتكزت الهجمة العسكرية لاحتلال العراق وبشكل أساس على حملة تعبوية مضللة بدعوى امتلاك العراق لأِسلحة الدمار الشامل واستمرار تطوير تلك البرامج بعد عام 1991، ولتتحول هذه المزاعم الإعلامية إلى ما سماها العالم العراقي الدكتور عماد خدوري بـ "حملة الخداع الشامل".(36)
وعموماً فإن هذا الحديث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية يمكن أن تكشف عن مسألتين هامتين: الأولى أن "حملة الخداع الشامل" منذ ما بعد تموز/ يوليو1991 اختراع أمريكي لاستمرار حصار دام قرابة 13عاما لم يشهد التاريخ له مثيلاً، بغية تدمير قدرة الشعب العراقي وإرادته ونسيجه الاجتماعي.. الثانية أن رأس النظام العراقي منح أمريكا وتوابعها، كما فعل في حروبه السابقة، مبرراً خطيراً لشن الحرب عندما أمر بتدمير بقايا أسلحته بطريقة أُحادية ودون توثيق عملية تسجيلها بالعلاقة مع الأطراف المعنية.
كيف كان حال الجيش العراقي- الذي يعتبر عمره (نشوئه) صنواً لعمر
الدولة العراقية الحديثة- لمواجهة الحرب الأمريكية القادمة لاحتلال البلاد؟
من المعروف أن الهدف الأساس لبناء القوات المسلّحة في أي بلد هو حماية حدوده والحفاظ على سيادته واستقلاله والدفاع عنه ضد أي تهديد خارجي. ويذكر اللواء الركن المتقاعد عبدالوهاب القصاب انحراف الجيش العراقي عن أداء مهامه بعد ثورة تموز/ يوليو 1958 بزجه في مواجهة العصيان والأمن الداخلي في شمال البلاد منذ عام 1961 وما بعده. شكل هذا التوجه آفة جديدة أدت إلى: تدني مستوى التدريب، توسيع القوات المسلّحة كماً لا نوعاً، تدني الجاهزية القتالية، تدني الانضباط العسكري، اهتزاز ثقة الشعب بالقوات المسلحة مع تصاعد تورطها في عمليات القمع الداخلي. كما أن جزءاً أساسياً من المشكلة، لم تكن في القواعد التي تأسست عليها القوات المسلّحة العراقية، حيث بُنيت وفق أسس مهنية على درجة عالية من الانضباط والحرفية، بل كمنت في مادة تلك القوات وعقلها المفكر، وهي قيادتها، جنباً إلى جنب مع القيادات السياسية في البلد. وأخيراً، ختم قرار ممثل الاحتلال بحل الجيش العراقي على صك تدمير الدولة العراقية.(37)
وهنا يلاحظ أن زج الجيش في قضايا الأمن الداخلي، بل وزجه في السياسة العليا للدولة، بدأ منذ بداية ثلاثينات القرن الماضي. ومع زيادة سطوته وتدخله في السياسة بتشجيع من النخب السياسية، بادر إلى إحداث أول انقلاب عسكري في العراق و"الشرق الأوسط" بقيادة اللواء بكر صدقي (1936). وبعد هذا التاريخ انفتحت شلالات الانقلابات لغاية انقلاب 1941 بقيادة "المربع الذهبي" الذي انتهى إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة مع بريطانيا، فكانت النتيجة، الاحتلال البريطاني الثاني للعراق. من هنا تحول الجيش بعد ثورة تموز 1958 من وكيل للنخب السياسية ليكون القائد السياسي للبلاد.
وفي مجال السياسة الخارجية أصبح النظام يعيش وسط بحر من الأعداء. وفشل داخلياً في حل الأزمة السياسية والسماح بشيء من الانفتاح، فزادت حالات اليأس والامبالاة لدى البعض والشعور بعدم إمكان إصلاح الأمور مع استمرار النظام في السلطة. ورغم محاولة فئة قليلة وقناعتها بضرورة الإصلاح قبل حصول الكارثة، خاصة منذ الغزو وكارثة حرب الخليج (1991) إلا أنها كانت تصطدم دوما بجدار صلابة السلطة علاوة على هيمنة الأجهزة الأمنية في ظروف انتشار الخوف والرعب. كما فشل النظام في حل القضية القومية الكردية على أساس سلمي. وفي مثل هذه الظروف أصبحت حدود البلاد وأجوائها مباحة، والاختراقات مستمرة، فمدنها الرئيسة كانت تتعرض باستمرار للهجمات الجوية العنيفة، ومنطقتها الشمالية (كردستان العراق) أصبحت عرضة لاختراقات دول الجوار التي ساهمت في إذكاء أحداث الاقتتال الكردي- الكردي وذيولها وتداعياتها على الناس الأبرياء المدنيين من قتل وتهجير. وهكذا سهّل الوضع الداخلي عملية الاختراق ثم الاحتلال.
عاش النظام شهوره الأخيرة منعزلا عن الشعب بعد فشله في بناء جبهة وطنية ولملمة القوى الوطنية في ظروف إصراره على احتكار السلطة. كما شابت العلاقة بين النظام والمعارضة الكثير من الحساسية والشك وعدم الثقة. كان المطلوب من النظام محاولة فتح صفحة جديدة مع المعارضة الوطنية بكافة فصائلها وفق خطوات تمهيدية من خلال المؤتمرات والاجتماعات لتبادل وجهات النظر وصولاً إلى حلول مشتركة للأزمة السياسية. لكن ما حصل فعلا هو وضع المعارضة في خانة الخيانة، بل حتى المغتربين بملايينهم العديدة لم يعترف بهم النظام، واستمرت حتى الزيارات العادية تشكل مغامرة غير محمودة العواقب.(38)
تلخصت العلاقة بين النظام وبين الشعب عشية الحرب في جملة سلبيات، تتقدمها:
.. غياب الحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير، وخضوع الحوارات والمناقشات السياسية للرقابة ولمخاطر المساءلة والعقاب، إضافة إلى الرقابة المركزية الشديدة على الصحف المحلية، وكذلك منع إنشاء أحزاب سياسية بصحافتها الحزبية الحرة للتعبير عن آراء عامة الناس، وكنوع من التنفيس لتطلعات الجماهير السياسية.
.. حرمان عامة الناس من متابعة التطورات الدولية وما يجري حولهم من أحداث بعدم السماح لهم استخدام أجهزة الستلايت (أجهزة البث الفضائي)، وحين اقترح مجلس الوزراء قبل الحرب مباشرة توفير هذه الخدمة للمواطنين، أظهر التلفزيون العراقي انعقاد المجلس بحضور رأس النظام العراقي، حيث قرر عدم حاجة المواطنين لهذه الخدمة لتوفر قنوات محلية كافية.
.. ممارسة التفرقة في مجال توزيع المؤن الغذائية الأساسية للبطاقة الشهرية بين أغلبية الناس وهم يتسلمون شهرياً ما لا يكاد يسد رمقهم وبين عناصر النظام الذين أتيح لهم، ليس فقط وفرة في الحصة الشهرية للمواد الغذائية الأساسية، بل وحوانيت مخصصة لهم فقط للحصول على مختلف الكماليات بأسعار رمزية.(39)
وفي مرحلة لاحقة اتجه النظام نحو المجموعات الدينية العراقية التي كانت في ذاتها معارضة. ومع توسع نشاطها في المجتمع انقلب ضدها، رغم أنه كان في اشتباك مع أعداء كثيرين. وعموماً فإن ظاهرة غياب التنظيمات السياسية العلنية جعلت من الجوامع والمساجد، رغم الرقابة الشديدة عليها، المراكز الأكثر استقطاباً لعامة الناس بما فيهم الجماهير السياسية. وهذا يفسر بروز القوى الدينية في الشارع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي مباشرة. من جهة أخرى، وفي سياق محاولات النظام حشد التأييد، أخذ بِأسلوب تقديم المغريات لعناصره وأجهزته المحيطة به، لكن حصيلة هذا الأسلوب جاءت معاكسة، إذ أن الطرف الآخر الأكثر غنى وقدرة مالية (الولايات المتحدة الأمريكية) وصاحب الباع الطويل في مجال تقديم الرشاوي وشراء الذمم لتحقيق أغراضه، نجح من خلال تطبيق نفس الأسلوب إحداث اختراقات لأشخاص ومؤسسات حتى بلغ قمة النظام. الحصيلة المعاكسة الثانية لهذا الأسلوب أنه أجج الحقد ورد الفعل وزاد من نفور أغلبية الناس من النظام. هؤلاء الذين كانوا يعيشون في فقر مدقع ويرون أقلية صغيرة تحصل على مختلف الكماليات.(40)
وفي محاولته القاء الضوء على شخصية رأس النظام العراقي من حيث تفكيره وممارساته في مواجهة الحرب القادمة، يُقدم الدكتور سعد ناجي في بحثه "الوضع العراقي عشية الحرب"، لوحة هامة، رغم أنه أخضع هذه اللوحة، بحق، لجملة من التحفظات الأكايمية تُعبّر بدورها عن الحاجة لمزيد من الدراسات الاجتماعية المستقبلية لهذه الشخصية التي تشكل تجربة حوالي ثلاثة عقود في حياة الدولة والمجتمع العراقي، بغية استخلاص الدروس والعبر لصالح الجيل الحالي والأجيال القادمة. تضمنت اللوحة أربعة محاور تالية:(41)
.. أصرّ رأس النظام بعدم وجود أية ضرورة لإجراء أي نوع من التغيير في سياسته، وظلَّت أية مطالبة في هذا الشأن تقع في خانة التآمر والخيانة. استمر في إصراره هذا حتى بعد مجيء الإدارة الجديدة إلى الحكم في البيت الأبيض (المحافظون الجدد) وإعلان خططهم بإسقاط النظام العراقي، خاصة في أعقاب أحداث 11 أيلول وتصفية النظام الأفغاني. ومع كل ذلك، ظلَّ رأس النظام يسخر من هذه المحاولات واعتبرها "زوبعة في فنجان". وشعر بإمكان نظامه إفشال هذه المخططات بإبراز قوته على مقاومتها وتحديها. يلاحظ هنا نموذجاً لكيفية مواجهته لهذه التحديات عندما أقدم على خطوات مثيرة أرسل من خلالها الرسالة تلو الرسالة بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل وقدرته على تصنيع المزيد منها، وذلك بإصراره على الاجتماع مع قيادات التصنيع العسكري والطاقة الذرية بين آونة وأخرى وإظهارها على شاشة التلفزيون. وعندما أبلغه بعض المقربين منه أن هذه الاجتماعات أخذت تثير مخاوف الإدارة الأمريكية وتمنحهم الانطباع بأن العراق لا يزال يسعى إلى إحياء برنامجه النووي، عمد عندئذ إلى جعل هذه الاجتماعات شبه يومية مع عرضها على شاشات التلفاز بصورة متكررة.
.. وفي مرحلة تالية أخذ رأس النظام طريق الردع بالإكثار من عدد المسلحين، فأمر بتشكيل جيش القدس بملايينه السبعة! وفي حين كان الجميع من مسؤولين وحزبيين يتحدثون عن هزال هذه التشكيلة وعدم انتظامها أو جديتها ناهيك عن عدم قدرتها على القتال أو حصولها على تدريب حقيقي لخوض المعركة، فإنه ظلّ يصدّق مسؤولي هذا الجيش بقدراته القتالية العالية.
.. وفيما يخص مدى استيعابه لخطورة الوضع الدولي والإقليمي المحيط بالعراق وكيفية مواجهته، فقد حرص في الأشهر الأخيرة لما قبل بدء الحرب، الظهور يومياً على شاشة التلفاز وسط مجموعة من الحرس الجمهوري الذين أكدوا له استعدادهم لمواجهة العدوان. وعندما اعترض أحد أقرباء الرئيس وقال أن الحاضرين جميعاً لا يقولون الحقيقة، أمر بطرده من القاعة وحذف ملاحظته من التسجيل الذي أذيع على الناس مساء نفس اليوم.
.. النموذج الرابع الذي يعكس مدى فهمه لما سيحدث، تمثل في تكديسه لملايين الدولارات في مناطق نائية أو غير منظورة للعودة إليها بعد انتهاء القصف. وذلك اعتقاداً منه أن الحرب ستنتهي بالقصف ثم الانسحاب. وحسب قوله لبعض مقربيه: أن الأمريكان لا يمتلكون سوى القدرة على التدمير ومن بُعد، وأنهم لن يُجازفوا بمواجهة عسكرية مباشرة.
ولكن يبقى في الأخير سؤال محير: هل كان رأس النظام بهذا القدر من ضعف الاستيعاب إلى حدود لم يعِِ أن الحرب قادمة، رغم الحشود العسكرية الغازية الضخمة التي أحاطت بالبلاد!؟
من جهة أخرى، تسربت الأخبار من مصادر عديدة بعد الاحتلال على أن القيادة العراقية كانت على قناعة بِأن الاحتلال واقع لا محالة، أو على الأقل، وضعت احتمالات الغزو والاحتلال ضمن اعتباراتها وبدرجة عالية.. من هنا خططت بدقة لعمليات المقاومة التي ظهرت بشكل مبكر ومنظم بعد الاحتلال مباشرة. وهناك من يقول أن النظام السابق كان مهيئاً للمقاومة قبل سنة من سقوط بغداد، وحتى في تقارير سكوت ريتر- أحد عناصر لجنة التفتيش الدولية للبحث عن أسلحة الدمارالشامل العراقية- يتحدث سكوت عن زيارات قام بها عام 1996 ورأى مواقع يصنعون فيها متفجرات يدوية وتدريب على استعمال المتفجرات المضادة للدبابات.(42)

(3) السقوط والاحتلال*
مع نجاح الولايات المتحدة احتلال البلاد يكون التاريخ العراقي الحديث قد كرر نفسه ولكن على نحو أسوأ مقارنة بفترة الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني للعراق. تلك الفترة التي عبَّرت عن جبهتين متصارعتين سادتا الساحة السياسية في الفترة المَلكية، انبثقت أولاهما من الثورة العربية والثانية من ثورة العشرين. ومع تصفية الوجود البريطاني والفئة الأولى بعد ثورة تموز 1958، تحولت تلك الصراعات إلى الاحتراب بين القوى السياسية المنتصرة ذاتها في ظروف تصاعد عنف الدولة والإصرار على احتكار السلطة.
يؤشر عام 1968 قيام نظام الحزب الواحد في العراق وليتطور إلى حكم الفرد الواحد لاحقاً، بخاصة منذ عام 1979. اتجه هذا النظام منذ بدايته السيطرة على الفرد والاقتصاد والمجتمع. وبنى علاقاته على أساس الولاء أولاً، ومارس سياسة الترغيب والترهيب مع المواطنين في علاقاتهم مع السلطة، ووسع عضوية حزب البعث إلى 8ر1 مليون عضو.(43) وجاءت الزيادات السريعة في عائدات النفط منذ بداية سبعينات القرن الماضي عاملاً مساعداً قوياً لتوسيع أجهزة القهر الرسمي ومؤسسات الدولة ونمو الطبقة الوسطى، إضافة إلى التوسع الاقتصادي وخلق فئات منتفعة من المشايخ ورجال المال والأعمال من المقربين والموالين. وكذلك توسيع خدمات الدولة في مجال التعليم المجاني والخدمات الصحية وتخفيض أسعار المواد الغذائية والنقل والمواصلات وأسعار الكتب والمطبوعات. كما قادت عمليات التوسع في مجالات الصناعة والزراعة ومشروعات الري والماء والكهرباء والتعليم بما في ذلك الجامعات وفروعها من كليات وأقسام إلى زيادة واضحة في أعداد العلماء والخبراء والفنيين، وأصبح العراق في مرحلة انطلاق جديدة نحو النهضة الصناعية الحديثة قبل أن يبدأ هذا البناء- الممتد منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة- بالانهيار نتيجة السياسات الخاطئة والقرارات الفردية، والتي انصبت لصالح الامبريالية الأمريكية والأنظمة الإقليمية المرتبطة بها، فكانت حصيلتها القتل والحصار والاحتلال.
من جهة أخرى، وفَّر الحصار، رغم آثاره السلبية الضخمة على المجتمع العراقي، فرصة نادرة لترويض الظاهرة الاستهلاكية وإعادة بناء التنمية المجتمعية بالاعتماد على النفس بعد إلغائه. لكن الستراتيجية الغربية بزعامة الولايات المتحدة القائمة على منع بروز أية دولة قوية من العالم الثالث، بخاصة العربية، بحيث يمكن أن تفرض قيادتها على المجموع بالضغط أو الانجذاب. وهو مضمون "ستراتيجية الإجهاض"،(44) دفعت الولايات المتحدة إلى تدمير العراق ثلاث مرات أولاها في حرب الخليج بزعم تحرير الكويت، والثانية فرض الحصار على الشعب العراقي بزعم معاقبة النظام، والثالثة في الحرب الأخيرة (20/3- 9/4/2003) واحتلال البلاد بزعم إزالة اسلحة الدمار الشامل العراقية.(45)
ما هي الأهداف المعلنة وغير المعلنة للمحتل في العراق؟
ربما حظيت الأهداف التالية بمجال أوسع للمناقشة:(46)
.. السيطرة على النفط العراقي، وذلك في محاولاتها استكمال السيطرة على النفط الخليجي ومنابع النفط الدولية، والتحكم بالاقتصاد العالمي، ومنع بروز قوة دولية منافسة.
.. إخراج العراق من دائرة الصراع ضد إسرائيل، وتصفية أحد طرفين لا يتحقق "السلام الشرق أوسطي" بدونهما (العراق وسوريا).(47)
.. بناء قواعد عسكرية في العراق والعمل عن قرب لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة حسب المقاييس الأمريكية.
.. تحويل العراق إلى ساحة استهلاكية (الليبرالية) تحت تسمية الديمقراطية. ذلك أن الولايات المتحدة- كما تشهد ممارساتها- ليست معنية بالديمقراطية في بلدان العالم الثالث ومنها المنطقة العربية، لإن الديمقراطية تعني حق الناس في محاسبة حكامهم ومشاركة الشعوب في اتخاذ قراراتها والتي لن تكون في مصلحة تبذير موارد الثروة الوطنية وتكديس الأسلحة بمليارات الدولارات سنوياً وتلقي التعليمات والأوامر من واشنطن.
علاوة على تلك الأهداف، يمكن إضافة ثلاثة أهداف أخرى غير معلنة بالعلاقة مع الستراتيجية الأمريكية واحتلالها للعراق:
.. بلوغ الحصار على العراق مرحلة لا إنسانية أخذت بشاعتها تنتشر دولياً بإظهار الوجه الإمبريالي الأمريكي القبيح ولتفند مزاعمها في مجال حقوق الإنسان، ولتولِّد المزيد من الحقد والكراهية حيالها. من جهة أخرى اقتراب الحصار من حالة تفكك فعلية، فكان على البيت الأبيض أما الانتظار والتراجع أمام انهيار الحصار وعودة العراق مركزاً للانجذاب أو تكرار تطبيق ستراتيجية الإجهاض، المسماة حالياً ستراتيجية الضربة الاستباقية، وإنهاء النظام والحصار معاً لصالح أهدافها.
.. ظاهرة نمو القدرة التكنولوجية والخبرات العراقية، وصدور إشارات وتحذيرات أمريكية رسمية عديدة من احتضان العراق آلاف العلماء،(48) تشير إلى أن العراق ربما تعدى الخطوط الحمراء المسموح بها لدولة نامية.
.. مبادرة النظام العراقي استبدال القاعدة الحسابية لمبيعاته النفطية من الدولار إلى اليورو شكَّلت تحدياً في وجه الإدارة الأمريكية، ارتباطا بمخاطرها على الاقتصاد الأمريكي. ومع أن هذه المبادرة لم تكن مؤثرة آنياً في ظل استمرار البلدان المصدرة للنفط التمسك بالقاعدة الحسابية- الدولار الأمريكي، لكنها كانت لعبة خطرة لإحدى القنوات الأمريكية الشديدة الحساسية.
إن الاحتلال باعتباره أمراً واقعاً وليس حالة شرعية، وأن سلطاته محدودة بموجب القانون الدولي، ولا يحق له التصرف بثروات البلاد المحتلة- التصرفات السيادية-بل القيام فقط بالإجراءات الاعتيادية اللازمة لإدارة المنطقة المحتلة.. الصلاحيات المحدودة هذه، مقابل رغبة المحتل سرعة استغلال ثروات العراق، والخوف من الملاحقة القانونية الدولية ضدها مستقبلاً، دفعت المحتل اللجوء إلى الأمم المتحدة، بعد أن رفست ميثاق المنظمة الدولية عند إعلانها الحرب على العراق. وهكذا صدر قرار مجلس الأمن الدولي (1834: 22/5/ 2003) بتسمية الولايات المتحدة وبريطانيا قوة محتلة، وتم منح المحتل سلطة الانفراد بصنع القوانين في العراق، رغم أن القرار ألزم ايضاَ الولايات المتحدة وبريطانيا "أن تفيا بالتزاماتهما بمقتضى القانون الدولي، بما في ذلك بشكل خاص معاهدات جنيف لعام 1949 واتفاقات لاهاي لعام 1907 "، إذ تنص هذه المعاهدات على أن يلتزم المحتل بقوانين البلد القائمة..(49)
من هنا كان المأمول من المنظمة الدولية أن تمسك بزمام أموال وثروات العراق لغاية تشكيل حكومة عراقية منتخبة، لكن المحتل حصل على أوسع الصلاحيات في مجال التصرف بالشأن العراقي، بما في ذلك:(50) حصر جهود الأمم المتحدة العمل بمعية السلطة المحتلة لإقامة حكومة مؤقتة والمساعدة الإنسانية.. إنشاء صندوق تنمية للعراق توضع فيه عوائد النفط وأموال العراق تحت إشراف وتصرف السلطة المحتلة.. تخفيض نسبة الاستقطاعات المفروضة على العوائد النفطية العراقية بسب حرب الخليج من 25% الى 5%.. إلغاء الحظر الاقتصادي- التجاري الشامل المفروض على العراق بموجب قرار مجلس الأمن 661/1990.. الإبقاء على الحظر العسكري والاستمرار في نزع أسلحة العراق.
واجه القرار المذكور جملة ملاحظات واعتراضات:(51)
.. تسجيل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بإلغاء أو تجميد سيادة بلد بعد أكثر من سبعين عاماً على استقلاله.
.. تأكيد احترام سيادة العراق وسلامته الإقليمية من جهة، ووضع هذه السيادة بيد سلطة الاحتلال، من جهة أخرى.
.. منح سلطة الاحتلال أوسع الصلاحيات في مجال التصرف بثروات العراق وعلى نحو يتجاوز الصلاحيات المقررة للمحتل في اتفاقات جنيف لعام 1949.(52)
.. الغاء الحظر الاقتصادي في غياب الدولة العراقية، يعني رفع الحظر لصالح الاحتلال بإعفائه من الملاحقة القانونية مستقبلاً نتيجة تصرفه السيادي بالمال العراقي.
.. الدعوة إلى إقامة سلطة عراقية منتخبة دستورياً في غياب آلية الأمم المتحدة للإشراف على هذه الانتخابات وإداراتها بعيداً عن تأثير وتدخلات سلطة الاحتلال. ذلك أن انتخابات تجري في ظل الاحتلال تبقى غير شرعية.
.. تعويم حق الشعب العراقي في تحديد مستقبله السياسي والاقتصادي والسيطرة على ثرواته نتيجة غياب الآلية اللازمة لتمثيله وغياب سقف زمني لخروج المحتل.
.. الإصرار على استمرار العقوبات العسكرية التي تتجاوز أسلحة الدمار الشامل إلى نزع سلاح العراق، بعامة، يعني الإبقاء على عراق ضعيف يلهث وراء المحتل لاستجداء حمايته.
اختارت الولايات المتحدة أسلوب الحكم المباشر للبلاد، وعينت حاكماً عاماً أمريكياً على العراق، كما عهدت إلى أمريكيين آخرين إدارة كافة المرافق الرئيسة، تتقدمها صناعة النفط الحيوية التي تشكل مصدر الدخل الوحيد لبلاد مدمرة تحتاج إلى إعادة الاعمار. مقابل ذلك بادرت سلطة الاحتلال إلى إصدار سلسلة من "الفرمانات" كانت الأول من نوعها في التاريخ:
.. إلغاء الجيش ووزارة الدفاع وملحقاتها وأجهزة الشرطة والأمن كمظهر لإلغاء سيادة الدولة، وهو إجراء يتجاوز ما عُرِفَ عبر التاريخ من فرض تخفيض حجم القوات المسلحة عقب الهزيمة. أما إلغاء الجيش وأجهزة الأمن الداخلي فإن غايته المخططة والمقصودة هي خلق الفوضى.
.. حل وزارة الإعلام وتسريح العاملين فيها بعد تدمير أجهزة البث المرئية والسمعية بقصد انفراد سلطة الاحتلال بالساحة الإعلامية العراقية باتجاه إرساء فكر "شرق أوسطي" جديد وفق المخطط الأمريكي.
.. حل حزب البعث، واعتباره غير شرعي. ورغم التحفظات عليه، فإن القرار حرَّم أعداداً غير قليلة من التنظيم المؤسسي والاستقرار السياسي، وهذا إجراء غير اعتيادي حتى في الثقافة السياسية الغربية. يضاف إلى ذلك أن الحزب، أياً كان، هو مؤسسة اجتماعية فكرية معنوية لا يتحمل أخطاء وجرائم قادته. من هنا جرت الأعراف السياسية- في مثل هذه الحالة- بمحاكمة عناصر الحزب المتهمين بالإساءة لا الحزب نفسه، لأِن الفكرة ظاهرة اجتماعية حرة ليست محل إرهاب أو محاكمة. وحسب الدكتور فالح عبدالجبار: إن حزب البعث لم يكن يمثل فقط وسيلة للحكم ولكنه يمثل أيضاً أداة لهندسة المجتمع، "وهناك خوف مبرر تماماً من أن المنظمات الاجتماعية سوف يتم تدميرها دون وعي".(53)
قادت هذه الممارسات إلى توقف مؤسسات الدولة تقديم خدماتها الأمنية والحياتية، وعمقت حالة الفوضى، وفرضت أعباءً جديدة على كاهل المواطن، وبإضافة البطالة المليونية ، فإنها جميعا اجتمعت مع إرهاب قوات الاحتلال وانتشار مظاهر الفساد. وهكذا حق لمواطن عراقي من عامة الناس أن يصرخ أمام بعض عدسات التلفزيون بقوله "هذه ليست حرية إنها فوضى!" وأخذ الناس يرون الحرية المزعومة وقد تُرجمت إلى حرية سرقة وبيع أجهزة وأثاث الدولة "سوق الحرامية"، ونهب معداتها وعرباتها وتهريبها نحو دول الجوار، وتجارة النخاسة "خطف وبيع الأطفال والبنات"، وانتشار المخدرات، وتجارة تزوير الوثائق الرسمية.. ناهيك عن ممارسات قوات الاحتلال للقتل العشوائي ومداهمات المنازل- الاعتقالات والسرقات، وممارسة الإهانات. وهكذا لم ينطو تحرك "المعارضة الموالية" والغزو والاحتلال على خلاص الناس من الدكتاتورية، بل حلَّت دكتاتورية جديدة.(54)
وعلى خلاف توقعات الإدارة الأمريكية بناءً على المعلومات التي زودها بها عملاؤها أن الشعب العراقي سيرحب بجيوش الاحتلال، جاء الاستقبال بِأشد أنواع المقاومة. كما أن المقاومة المسلّحة تضاعفت بسبب قرارات سلطة الاحتلال وممارسة الإهانات والقتل، علاوة على ممارسات النهب والتدمير التي تمت تحت بصرها. يضاف إلى ذلك أن الاحتلال يولد المقاومة باعتبارها واجباً وطنياً وتستمد شرعيتها من القانون الدولي. بل أن القرار 1483 بتحديده المركز القانوني للقوات الأميركية والبريطانية قوة احتلال يعني بداهة الاعتراف بمشروعية المقاومة المسلحة.(55) وبعد إلغاء البنية المؤسسية للدولة، فقد بادر ممثل الاحتلال إلى تقديم صيغة حكم شكلية، تمثلت في إنشاء "مجلس الحكم المؤقت" بِأعضائه الـ 25 وليواجه جملة انتقادات، تتلخص في:(56) خضوع قرارات المجلس لموافقة سلطة الاحتلال. وهذا الأمر حصل في العراق عام 1920 عندما تم إنشاء أول حكومة عراقية تحت سلطة وإشراف المندوب السامي البريطاني.. إبعاد المجلس عن قطاعات هامة بقيت تحت السلطة المباشرة للاحتلال (الأمن وعقود الاعمار).. اختيار أعضاء المجلس على أساس المحاصصة الطائفية.. شكّل المجلس، بعامة، أغلبية مهاجرة متنافرة.. ما عبَّر عن طبيعة المجلس، قراره اعتبار يوم سقوط بغداد تحت الاحتلال (9/4) عيداً وطنياً، وما أعقبه من مدح وتبجيل وشكر للمحتل الأمريكي. "ولعلَّها المرة الأولى في التاريخ يتماهى فيها معنى الاحتلال مع معنى الاستقلال"!(57)
(4) تداعيات الحرب- الاحتلال: الحصيلة والنتائج*
استخدمت الولايات المتحدة في حربها واحتلالها للعراق أسلحة اليورانيوم الناضب، وربما أيضا أسلحة نووية محدودة. عليه فإن كارثة بيئية شديدة التلوث قد أصابت العراق- فضاء وأرضاً- غطت مساحات واسعة من مدنه وريفه. والمفارقة الأكثر غرابة أن هذه الكارثة التي ستمتد آثارها إلى بلايين السنين، خضعت إلى الإهمال المقصود والتعتيم الشديد، مما يعني أن السموم المنتشرة ستفعل فعلها في نشر المزيد من الأمراض القاتلة بصورة مستمرة. وتمتد آثار هذه الكارثة حتى إلى الأسلحة والعربات المدمرة والمتروكة والأماكن التي تعرضت للقصف، إذ يجب الابتعاد عنها على الأقل مائة متر، وإلا فالإصابة محتملة، وبذلك فهي تشكل مصيدة موبوءة لإصابة الصغار والكبار بالإشعاعات السمية القاتلة.
من المعروف أن البيئة العراقية تلوثت بالإشعاعات النووية بعد حرب الخليج (1991) بما صاحبتها من أمراض خطيرة انتشرت بين الأطفال، بخاصة، وفي البصرة على نحو أكثر تركيزاً لمجرد قربها من ساحة العمليات. استخدمت في تلك الحرب بحدود 375 طن من اليورانيوم الناضب. أما أثناء هذه الحرب فقد استخدمت أسلحة اليورانيوم الناضب بكميات مضاعفة (1100- 2200 طن)!(58)
يضاف إلى ذلك السرقات والعبث التي طالت منظمة الطاقة الذرية العراقية، التي تضم أكبر منشأة نووية عراقية في التويثة للأغراض السلمية، وذلك تحت سمع وبصر قوات الاحتلال وانتشار التسمم الإشعاعي بين سكان المنطقة المحيطة بالمنشأة. وفوق ذلك تعرض المخازن الحكومية في خان ضاري (أبوغريب) التي تخص المواد المستوردة لوزارات الدولة، بما فيها مواد سامة، إلى النهب والتدمير والحرائق. صرح المدير العام لشركة مصافي الوسط الحكومية: دثار الخشاب، "ما حدث كارثة نووية ولكن على نطاق أصغر. وتأثيرات هذه الكارثة مستمرة وستكون هناك مضاعفات صحية وبيئية آنية وأخرى بعيدة المدى".(59)
وهكذا أخذت مستشفى الطب النووي تشكو من توافد مئات العراقيين يومياً من المصابين بالأمراض السرطانية. وحسب الدكتور عبد علي الكاظمي مدير المستشفى، بأن العدد المسجل لدى وزارة الصحة يتراوح بين 120- 140 ألف مصاب، بالإضافة إلى حوالي 7500 إصابة جديدة سنوياً. ويصف الخبير المتخصص في البيئة عدنان خالد الجبوري الحالة البيئية في العراق بالمأساوية، حيث كل شيء فيها ملوث وينذر بنتائج وخيمة على صحة الإنسان والبيئة، الآن وفي الأمد البعيد، في ظروف التعتيم على هذه الكارثة من قبل المحتل والجهات الرسمية العراقية. كما أعلن الدكتور محمود العامري مدير قسم أمراض السرطان في مستشفى اليرموك ببغداد استخدام اليورانيوم والنووي المحدود بكميات كبيرة جداً في الفلوجة والرمادي وحديثة وسامراء والموصل وتل عفر وبعقوبة والنجف..(60)
بينما أشار تقرير الفريق الطبي الأمريكي العراقي المنشور في المجلة الطبية البريطانية Lancet إلى أن عدد القتلى من العراقيين المدنيين نتيجة العمليات العسكرية منذ الغزو بلغ مائة ألف، عدا أرقام الضحايا في مذابح الفلوجة.. وأن نصف هذا العدد نساء وأطفال، قُتل معظمهم نتيجة قصف طيران الاحتلال. وزادت الإصابات بالأمراض المختلفة مثل التيفوئيد والحصبة والنكاف مقارنة بفترة ما قبل الاحتلال. مما دفع الطبيب هورتن إلى السخرية من مزاعم "ديمقراطية المحتل".(61)
قادت قرارات ممثل الاحتلال بإلغاء مؤسسات الدولة إلى فراغ أمني كامل في الساحة العراقية بحيث وفَّرت دخول مختلف أشكال الشبكات الإجرامية عِبر دول الجوار لممارسة النهب والحرق والتخريب لمؤسسات الدولة، علاوة على مافيات المخدرات، وانتشار الفساد الخلقي والبغاء في ظروف الفوضى وغياب القانون. هذه الظاهرة التي تشكل بوضوح جزءاً من مخطط الاحتلال لما بعد الحرب لتليين و/ أو كسر القيم والأفكار والنفوس وتسهيل توجيهها وإعادة تشكيلها وفق نظرة المحتل، حيث تلعب فيها وسائل إعلامه دوراً مركزياً.(62)
وفي السطور التالية بعض المؤشرات التحليلية التي تم استخلاصها لعينة مختارة من جداول مسح الأحوال المعيشية في العراق لعام 2004:(63)
.. أشار 15% فقط من أسر العينة إلى استقرار الطاقة الكهربائية، مقابل 85% ذكروا أنها غير مستقرة/ غير مستقرة غالباً، بينما انخفضت نسبة الاستقرار إلى 4% في بغداد (وكذلك السليمانية، بابل، القادسية)، وفي نينوى 2% فقط (98% عدم استقرار). وفيما عدا محافظة دهوك حيث انخفضت نسبة عدم الاستقرار إلى 33%، ترواحت هذه النسبة في بقية المحافظات بين 93% في أربيل وصلاح الدين وبين 42% في البصرة. (ج1، جدول رقم 2، ص28).
.. شملت درجة سوء التغذية: الطوال إلى العمر (أطفال دون الخامسة) 22.7% من أسر العينة: ريف 25.6%، حضر 21.4%. كما سجلت المحافظات التالية أعلى المستويات: أربيل 35.8%، دهوك 33.7%، واسط 32.1%، ميسان 30%. (ج1، جدول 2- 3، ص57)
.. استمر دخل الفرد على حاله أو ظهرت شيء من الفوارق بين صعود أقل (7 محافظات) وهبوط أكثر (10محافظات) من حيث الأهمية النسبية وعدد المحافظات، فعلى أساس: دخل منخفض/ منخفض جداً/ متوسط بين عامي 2003: 2004 ظهرت النتائج التالية (%): جملة العينة 60: 60, ريف 67: 65، حضر 58: 57، الجنوب 60: 61، الوسط 65: 65، الشمال 55: 50، المثنى 82: 81، نينوى 73: 70، صلاح الدين 68: 74، الأنبار 65: 60، كربلاء 62: 65، ذي قار 65: 70، بابل 63: 67، النجف66: 63، القادسية : 61: 63، ديالى 59: 62، دهوك: 57: 58، السليمانية :52: 58، بغداد 58: 59، ميسان 56: 56، التأميم 55: 54، واسط 54: 63، أربيل 50: 45، البصرة 48: 46. وفي حين كانت أعلى نسبة تحسن في كل من الأنبار وأربيل (5%)، بلغت أعلى نسبة تدهور في واسط (9%)، صلاح الدين والسليمانية (6%)، ذي قار (5%).. (ج1، جدول 4-6، ص132، جدول 5-6، ص134).
.. تشير نتائج مسح العائلة إلى تدهور الأمن في المحافظات العراقية (عدا أربيل 5%، دهوك 2%، السليمانية 1%) مقارنة بالوضع قبل سنة وفق نسب التدهور التالية (%): الأنبار 90%، ذي قار 65%، صلاح الدين 62%، بغداد 59%، كربلاء 56%، ديالى 58%، التأميم 50%، النجف 48%، بابل 48%، القادسية 45%، نينوى 38%، واسط 35%. (ج2، جدول 7-10، ص136).
.. تتأكد مشكلة تدهور الظروف الأمنية من زاوية أخرى: حالات إطلاق النار جوار المنزل يومياً/ أسبوعيا:عدة مرات، مرات قليلة: جملة أسر العينة 79%، الجنوب 85%، الوسط 81%، الشمال 23%، بغداد 98%، الأنبار 97%، ميسان 96%، البصرة 93%، كربلاء 91%، التأميم 91%، ذي قار 89%، النجف 84%، القادسية 78%، بابل 77%، واسط 77%، نينوى 73%، صلاح الدين 68%، المثنى 65%، السليمانية 33%، دهوك 18%، أربيل 12%. (ج1، جدول 2-19، ص50)
كشفت هذه الممارسات والأوضاع الشاذة أن للاحتلال مشروعه الخاص المرسوم لفترة ما بعد الاحتلال. وهذا يدعو إلى مراجعة المقولة الخاطئة التي تكررت، وبخاصة من مصادر سياسية وفكرية عراقية، والقائلة: أن الولايات المتحدة خططت للحرب ولم تخطط لما بعد الحرب. هذه المقولة التي تخفي حقيقة أنها خططت للحرب كما هي خططت لما بعد الحرب، من خلال بث الفوضى ونشر التخريب أسلوباً مقصوداً لإلغاء أسس الدولة وإعادة بنائها وفق مشروعها الاستعماري- الإمبريالي. تذكر نعومي كلاين: إن نظرية لم يكن للمحتل خطة لما بعد الحرب غير صحيحة.. كان يتعين أن يُزال العراق ويختفي.. ينبغي أن لا يُلقى اللوم على غياب خطة.. الأحرى أن اللوم يقع على الخطة نفسها، وعلى الايديولوجيا العنيفة فوق العادة التي بنيت عليها هذه الخطة.. خلال أشهر قليلة فقد كانت خطة ما بعد الحرب لتحويل العراق إلى مختبر للمحافظين الجدد قد تحققت.. وفي حين أن "إصلاحات" بريمر لا تتحقق إلا تدريجياً فإنه أطلقها دفعة واحدة. وبين ليلة وضحاها انتقل العراق من كونه البلد الأكثر عزلة في العالم إلى كونه- على الورق- السوق الأوسع انفتاحاً.(64)
ويذكر الدكتور حميد عبدالله "ما حدث في العراق... مخطط مرسوم بعناية، وتدبير خطط له بدقة، وسيناريو صيغ بخبرة وذكاء! أريد للعراق أن يتخلى عن مكانته، ويترك دوره، ويغترب عن محيطه وبيئته، وينسلخ عن تاريخه، فالعراق هو بروسيا العرب... لذلك فإن المطلوب أن يبقى العراق على الرصيف كماً مهملاً لا نوعاً مؤثراً، وأن يبقى مفعولاً به لا فاعلاً، أن يبقى مبزلاً لا نبعاً أو شلالاً، أن يصير حاوية أزبال لا حقلاً زاهراً وزاهياً بالخضرة والثمار اليانعة".(65)
من الواضح أن اللاعبين الأساسيين في الخريطة السياسية لعراق ما قبل الاحتلال قد تبدلوا ومعهم تبدلت التوازنات القديمة في الساحة العراقية. فليس ثمة تيار قومي عربي في العراق المحتل قادر على استقطاب الجماهير في مجتمع لا يزال يعيش صدمة الانقلاب الفكري في ظل الاحتلال الامبريالي، ولا زالت القوى اليسارية تعاني من انقساماتها، مقابل ليبرالية جديدة قدمت نفسها في كثرة من الأحزاب الصغيرة المشتتة. بينما حلَّت محل القوى القديمة والتاريخية موجة كبيرة هي الموجة الإسلامية في قراءتها الطائفية، مع كل ما يشوبها من العنف والفرض القسري لأِفكارها وقيمها وإلغاء الآخر، خاصة ما تعلق الأمر بحقوق المرأة والحجاب، والاعتداءات الكثيرة على أهلنا في العراق من الطائفة المسيحية المسالمة. وتعمل قوى الاحتلال وقوى خارجية وإقليمية ذات مصلحة على توجيه عنف هذه الجماعات الإسلامية نحو المواطن العراقي والمقاومة العراقية انطلاقاً من العقيدة الرامسفيلدية الصهيونية "اجتثاث البعث". و"يمكن للمرء في هذا النطاق تلمس المنحى السياسي المدمر الذي تتجه إليه تكتيكات المجلس الإسلامي الأعلى وتابعه فيلق بدر وذلك مع قيام الحزب بعمليات تصفية جسدية واسعة...".(66)
ويرتبط بذلك أن الاحتلال قاد إلى الإضرار بالوحدة الوطنية في سياق فرض المحاصصة الطائفية كجزء من مخططه في تشجيع هذه الأشكال من الاصطفافات، لأنه يريد عراقاً "موحداً شكلاً" ومفتتاً واقعاً في صورة كانتونات وطوائف وعرقيات، بعيداً عن الاعتبارات الوطنية العراقية ومحيطها العربي والإسلامي.(67) من هنا فإن إعادة طرح قضية الوحدة الوطنية تشكل حاجة فعلية للرد على مشروع الاحتلال، تفتيت المجتمع العراقي. كما إن مشروع الوحدة الوطنية، كان ولا يزال، الشغل الشاغل الذي ظلّ يُطرح من قبل أحزاب وطنية وباحثين وكتاب عراقيين على مدى سنوات سابقة لوقوع كارثة الاحتلال.(68)
تقوم الوحدة الوطنية بين أعضاء الجماعة رغبة في العيش المشترك، وهذه الرغبة تتولد من وجود مصلحة مشتركة. ومع أنها تستمد أصولها من التاريخ والثقافة والعادات والتقاليد والقيم والدين واللغة والعلاقات العائلية، إلا أن هذه العلاقات في جملتها يُفترض أن تصب في بناء علاقات مصالح مشتركة، فعلى درجة قوة هذه العلاقات تزداد عملية اندماج وتكامل الجماعات الوطنية قوة ومنعة. وتبقى الوحدة الوطنية محصنة عندما ترى الجماعة أن وجودها يحقق مصالحها على نحو أبعد من خروجها. ويرتبط بذلك حاجة الوحدة الوطنية إلى مجموعة شروط ومقومات، تتقدمها:(69)
.. الانفتاح على الرأي العام وتعبئته وتفعيله شعبياً وسياسياً في سياق المصالحة والمصارحة والتسامح. وطرح برنامج وطني لبناء العراق الجديد يستند إلى فكرة المواطنة في ظلّ المساواة، واعتبار رابطة المواطنة هي المعيار المشترك الذي يعلو كافة المعايير والانتماءات الفرعية.
.. تفعيل مشاركة القوى الناشطة في مجال التكافل الاجتماعي باتجاه نشر قيم التعاون ومساعدة العوائل المتضررة من جراء الحروب المتكررة وكوارث القصف المستمرة من قبل قوات الاحتلال، وبما يعمق الوعي الاجتماعي وقيم المحبة بين المواطنين.
.. أهمية إدراك الأحزاب الوطنية أن كثرتها لا تخدم القضية العراقية، لأِنها تقود إلى تفتيت أصوات الناخبين وتسهيل قيام حكومات ضعيفة رخوة غير قادرة على تنفيذ وعودها الانتخابية علاوة على زيادة حالات عدم الاستقرار السياسي.
.. الاهتمام بالنخب الفكرية والعلمية كالأساتذة والعلماء والخبراء والفنيين في مختلف مجالات العلم والحياة بغية جعل الدولة تدار من قبل شرائح مثقفة تكنوقراطية متخصصة.
.. إلغاء كافة أشكال التقديس والتبجيل وعبادة الشخصية في مجال السلطة، لكونها في جوهرها خدمة عامة تخضع للمساءلة والمحاسبة.
.. إقامة جبهة تاريخية عريضة لبناء القاعدة المحورية للوحدة الوطنية وتحت مظلَّة المصلحة العليا المشتركة.
.. تحسين الوضع الاقتصادي للشعب العراقي من خلال كسر حاجز البطالة التي أصبحت تشكل عبئاً ثقيلا على كاهل العراقيين.
.. ضبط الحدود العراقية بِإعادة استدعاء وبناء الجيش العراقي غير الخاضع للاحتلال، والتنسيق مع دول الجوار لمنع دخول المتسللين إلى العراق وتهديد وحدته الوطنية.
.. الغاء ما سمي بـ "قانون اجتثاث البعث".
شكل العلماء والخبراء العراقيون هاجساً قوياً للولايات المتحدة بعد أن أثبتوا قدراتهم العالية سواء في مجال التكنولوجيا العسكرية أوعمليات إعادة بناء وإصلاح ما خربته حرب الخليج (1991) والقصف المستمر للبلاد في سنوات الحصار، وذلك في فترة قياسية وبتكاليف ضئيلة، لا زالت تشكل تحدياً للجهود الأمريكية وتوابعها المحليين في ادعاءاتها إعادة اعمار البلاد في ضوء الفساد الذي دفع حتى سلطات الاحتلال التظاهر بمتابعته.(70)
وهذا يفسر مسلسل الاغتيالات المستمرة منذ بدء الاحتلال لتصفية الخبرة العراقية، إذ تم اغتيال مئات العلماء العراقيين، بالإضافة إلى آلاف آخرين غادروا العراق منذ بداية الاحتلال بعد أن تلقوا تهديدات بالقتل. وتوجه أصابع الاتهام في هذه الجرائم إلى المنظمات الإرهابية للمخابرات الأمريكية CIA والإسرائيلية وبعض دول الجوار، بضمنها إيران والكويت. ولم تقف عمليات تصفيات علماء العراق على تخصصات الذرة والتصنيع والبناء والاعمار، بل تعدتها إلى المتخصيين في اللغة العربية والتاريخ. يذكر تقرير بعنوان "تصاعد ظاهرة خطف العلماء العراقيين واغتيالهم: أكاديميون يشيرون لأِصابع كويتية وإسرائيلية"، أن أساتذة اللغة العربية والتاريخ ضحايا الاغتيالات. ويعتقد بعض الأكاديميين أن هناك حملة لتجفيف المنابع العلمية العراقية وحرمان العراق من باحثيه وأكاديمييه، وذلك لإكمال عملية تدمير الهوية الثقافية العراقية التي بدأت بتدمير المكتبة الوطنية، ونهب المتحف، وحرق مكتبة القرآن والأرشيف الوطني.(71)
ارتفعت أصوات كثيرة تندد بالقوات المحتلة استخدام القسوة المفرطة في التعامل مع المدنيين: المداهمات الليلية العنيفة للمنازل الآمنة وتفجير أبوابها والدخول فيها عنوة وبعنف.. الاعتقالات العشوائية لآِلاف من النساء والرجال، وإلى حدود دفعت بمنظمات حقوق الإنسان الأوربية إلى إدانة هذه الممارسات، ووصفتها بانتهاكات مفرطة في القسوة تشبه التكتيكات التي يطبقها الجيش الإسرائيلي ضد منازل الفلسطينيين. وفوق ذلك فضائح قوات الاحتلال تجاه العراقيات والعراقيين في المعتقلات المختلفة والتي لم يتم الكشف إلا عن جانب صغير منها (سجن أبو غريب)، وتصفية مدن بكاملها، لتتعدى جرائم الاحتلال قتل المدنيين وقصف وتخريب البيوت ودفن ساكنيها تحت أنقاضها، إلى قتل الجرحى والتنكيل بجثث القتلى، والفلوجة مثال ساطع..(72)
وفي السطور التالية جوانب من انتهاكات حقوق الإنسان العراقي والتي وردت في تقرير "بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعة للعراق" (1 تموز/ يوليو- 31 آب/أغسطس 2005):(73)
.. أخبار خطيرة عن إعدامات تمت خارج إطار القضاء، تؤكد تدهور أوضاع القانون والنظام. العثور على جثث 36 رجلاً معصوبي الأعين وموثقي الأيدي وتحمل أجسادهم علامات تعذيب وإعدام فوري، وذلك يوم 25 آب/أغسطس قرب بدرة. تم إبلاغ أسر الضحايا بأن أولئك الرجال كانوا قد اعتقلوا يوم 24 آب/ أغسطس في ضاحية الحرية قرب بغداد في أعقاب عملية نفذتها قوات ترتبط بوزارة الداخلية. حادث مماثل ضم أحد عشر رجلاً اعتقلوا على أيدي قوات ترتبط بوزارة الداخلية يوم 10 تموز/ يوليو في ضاحية سبع أبكار/ بغداد عثر عليهم موتى بعد ثلاثة أيام في معهد الطب الشرعي.
.. تقارير مُحكمة عن استخدام مفرط للقوة فيما يتعلق بأشخاص وممتلكات، وكذلك عن عمليات اعتقال جماعية نفذتها الشرطة العراقية وقوات تعمل بمفردها أو بالتعاون مع القوات المتعددة الجنسيات. وقد استمرت التقارير عن سوء معاملة المعتقلين وعن مخالفات في الإجراءات القضائية. وعلاوة على هذا فإن روايات مباشرة وغير مباشرة من بغداد والبصرة والموصل وكركوك ومن المحافظات الكردية، وكذلك معلومات ذات علاقة من مصادر أخرى لها صدقيتها، تشير دوماً إلى استخدام منتظم للتعذيب أثناء عمليات الاستجواب في مراكز الشرطة وداخل المباني الأخرى التابعة لوزارة الداخلية.
.. قلق متزايد بشأن عمليات أمنية خاصة في مناطق الوسط والشمال. وبالذات في محافظة الأنبار وتلعفر، وهي عمليات ينتج عنها تشريد للسكان. كذلك فإن استخدام القناصين والادعاءات بشأن استخدام أسلحة غير مشروعة/ غير تقليدية في تلك المناطق، هو بشكل خاص مصدر كرب للسكان المحليين.
.. استمرار عمليات الاعتقال الجماعي للأشخاص دون إنذار خلال العمليات العسكرية من جانب الشرطة العراقية والقوات الخاصة في وزارة الداخلية وبواسطة القوات المتعددة الجنسيات. وتستمر التقارير عن ممارسات اعتقال وتوقيف أشخاص بصورة اعتباطية.
.. جرت اعتقالات كثيرة أثناء شهر تموز/ يوليو في الأعظمية- بغداد وأن أُسَرْ المعتقلين، في مناسبات كثيرة، لم يستطيعوا أن يجدوا أقاربهم في إحدى منشآت الاعتقال المعترف بها. وشكا آخرون من أنهم وجدوا أقاربهم قتلى أو وجدوهم قد عانوا التعذيب أثناء اعتقالهم.
.. تستمر الأرقام العالية لأعداد المعتقلين في أنحاء البلاد خلال العمليات الأمنية. وفي حين يتعين أن يتمتع المحتجزون بكافة أنواع الحماية المكفولة لكافة الحقوق التي تضمنتها المعاهدات الدولية لحقوق الانسان، ذكر كثيرون عجزهم الحصول على معلومات تتعلق بذويهم أثناء فترات اعتقال مبدئية.
.. شكا ممثلو الجماعة التركمانية من أن أعضاء الجماعات التركمانية والعربية والكردية في كركوك والموصل وتلعفر هم ضحايا اعتقالات تعسفية بمقتضى اتهام بأنهم "ارهابيون". وفي كثير من الحالات لا تعلم أُسر المعتقلين بأماكن وجودهم لشهور وقد ذكر كثيرون منهم بعد إطلاق سراحهم أنهم عذبوا.
.. شكا مقيمون عرب أجانب لهم فترات إقامة طويلة وكذلك أعضاء من الجماعة المذهبية المعارضة، فتح ملفات لهم والايقاع بهم من جانب قوى الأمن. بالإضافة إلى هذا فإن قراراً اتخدته السلطات العراقية مؤخراً يتطلب من الأجانب أن يجددوا اقامتهم كل شهرين، وتفيد تقارير أن هذا القرار يتسبب لهم في معاناة لا ضرورة لها. كذلك شكا ممثلون عن الجماعة الفلسطينية في بغداد مضايقات السلطة لهم.
وفي مؤتمر بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان في ظل احتلال العراق- جمعية "اعتصموا" الخيرية- طرابلس- ليبيا- يظهر صوت نادر في وطن عربي صامت هو صوت رئيسة الجمعية عائشة القذافي لتشيد بـ "رجال المقاومة العراقية" الذين "حطموا أحلام أميركا على صخرتهم"، ولتدين "الصمت المخزي" بقولها "الصامت عن الحق شيطان رجيم، وما يحصل في العراق لا يمكن لشريف السكوت عليه". ولتشير إلى أن "هناك أرضاً تُحتل وشعباً يموت وماجدات يُغتصبن وعلماء يُغتالون...". ولتضيف "نحن لا نستغرب أبشع أنواع الإرهاب لأِنهم (قوات الاحتلال الأمريكية البريطانية) دوماً يلجؤون إلى العنف لضعف الحجة". ولتُحيي أخيراً "رجال المقاومة الباسلة المرابطين ضد الشر".
شارك في المؤتمر مجموعة من العراقيين من نزلاء معتقل أبو غريب بضمنهم (جبار فرهود) الذي ظهرت صوره وهو يُجَر بالحبل من عنقه، وعلي القيسي رئيس جمعية المعتقلين العراقيين الذي قدَّم صورة قاتمة لأِوضاع حقوق الإنسان في العراق تحت الاحتلال، موضحاً أن عدد السجون التي يديرها الأمريكيون وحدهم في العراق وصل الآن إلى 76 سجنا "تغص بِآلاف المعتقلين من أبناء الشعب العراقي الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يطالبون بالحرية والاستقلال لبلادهم". وأضاف أن "للمليشيات التابعة للأحزاب التي ظهرت بعد الاحتلال وتحظى بحماية المحتل عدد من السجون يصل إلى نحو 200 سجناً تُمارس فيها أفظع الانتهاكات ضد المعتقلين ولا تخضع لأِِي رقابة محايدة"..(74)
وبعد ان تتحدث عن هول تجاوزات المحتل تجاه العراق والعراقيين، تتساءل الدكتورة سعاد خيري "فكيف ننكر على هذا الشعب الأبي حقه في مقاومة الاحتلال الأمريكي الذي يعمل فوق كل ذلك على إذلاله. فدباباته ومصفحاته تجول شوارع بغداد موجهة أسلحتها إلى صدور المواطنين... وتحطم كل من يعترض طريقها وتترك عشرات السيارات التي تسحقها دباباتها بمن فيها من عوائل...". ونددت بـ "الإرهاب الفكري الذي تمارسه القوى المنتفعة واليائسة والمتقبلة للأوضاع المأساوية، والقوى التي تتيه بالأوهام الطوباوية بأن الاحتلال سيرحل بمجرد النضال بالوسائل السلمية التي لم تجرأ حتى على ممارستها مستخدمة شعار بوش الفاشي (من ليس معنا فهو ضدنا)...". بينما يشير شيوعي عراقي مخضرم (حسقيل قوجمان) في محاولته تعريف مفهوم الشعب بقوله "أن تعريف الشعب العراقي اليوم هو كل من يعادي الاحتلال ولا يقبله... وأن كل من يتعاون ويتحالف مع المحتلين هو ليس من الشعب العراقي".(75)
رغم الاتفاق العام بين الأحزاب السياسية العراقية على معارضة الاحتلال وإنهائه، إلا أنها كونت رؤيتها الخاصة لمقاومته باتباع الأسلوب التدريجي، أي المقاومة السلمية أولا، فإذا لم يتحقق الاستقلال والسيادة عندئذ يُنظر في أشكال المقاومة الأخرى لغاية المقاومة المسلحة. من هنا يبدو أن المقاومة المسلحة مسألة مؤجلة بالنسبة لهذه الأحزاب. كما تدعي قيادات أحزاب عديدة أن أحزابها لم يكن أمامها بد سوى التعاون مع الاحتلال (مؤقتاً) وضمن برنامج مرحلي. بينما أحزاب ايديولوجية وإسلامية تبرر تعاطيها مع الاحتلال بحجة "الواقعية والاعتراف بالأمر الواقع" أو على أساس أن الدور الأمريكي يكون قد انتهى (بالإطاحة) بعد أن حققوا أهدافهم، أي أنهم مقبلون على الرحيل وترك العراق.(76)
لكن هذه التبريرات تواجه جملة من الاعتراضات ، خاصة وأن التجارب التاريخية تؤكد فشل التعاطي مع المحتل لتحقيق أهداف وطنية، كما حصل في الفترة الملكية. ولكن هل الواقعية تدعو إلى هذا التعاطي مع المحتل؟ وكم هو منطقي الافتراض بأن مآرب الأمريكان تحققت بسقوط النظام وانتهى دورهم في العراق؟ أليس صحيحاً أن مهمة الاحتلال بدأت بعد سقوط النظام، أي أنه البداية وليس النهاية؟ كيف يمكن التوفيق بين ايديولوجية تعتبر الولايات المتحدة بلداً استعمارياً استكبارياً/ الشيطان الأكبر وبين التعاطي معه؟ وكيف يمكن التوفيق بين ايديولوجية الحزب الداعية إلى القضاء على الرأسمالية/ الامبريالية وبين تحقيق المآرب، بكل هذه الحيادية؟(77)
وقد يرى البعض أن الأحزاب السياسية العراقية المساهمة في السلطة الجديدة لا تنتظر الوعود الأمريكية، بل من خلال مساهمتها الإيجابية تعمل على إنهاء الاحتلال واخراج القوات المحتلة من العراق بطريقة سلمية بدلاً من استخدام العنف.. وهنا ترد ثلاث ملاحظات:
الأولى- تبدل أدوار القوى السياسية مقارنة بفترة نشوء الدولة العراقية في العهد الملكي، حيث مثّل هذا الدور جماعة العهد (أكثرية الشريفيين) تحت دعاوى الواقعية، واتهموا بـ "الخيانة"، وتحقق مصيرهم على يد ثورة 14 تموز 1958.. وإذا قبلنا بهذا التبرير، عندئذ المطلوب من أصحاب هذا الرأي الاعتذار للعهد الملكي، بل وإعادة الاعتبار لنوري السعيد ورهطه!! أوليس التاريخ العراقي الحديث يُعيد نفسه على شكل مهزلة!؟
الثانية- إن سياسة المحتل تقوم على الواقعية (البراغماتية): الربح والخسارة.. فهل سيخرج المحتل قبل أن يتحمل فعلاً خسائر تتجاوز ما يحققه من أرباح؟
الثالثة- ضرورة مد الجسور بين القوى الوطنية العراقية لتنسيق المقاومة السلمية والمسلحة على نحو متكامل.
إن مواجهة الاحتلال على طريق التحرير والاستقلال لا تتحقق بالخنوع وتوزيع الامتيازات بما ولَّدتها من الفساد والإفساد.. ولا بتحويل وزارات ومؤسسات الدولة إلى ملكيات وقفية أصبحت الوظائف فيها تُشترى بصكوك حزبية.. بل وفق الشرعية الوطنية والقوانين الدولية: المقاومة الشاملة المتكاملة من سلمية ومسلَّحة.. وهذه مسؤولية الأحزاب والقوى الوطنية، حتى تتجنب البلاد تكرار مستنقع الصراعات المَلَكية، وما أعقبتها من مآسي التصفيات منذ الثورة التموزية.
(5) المقاومة الوطنية العراقية
لعلَّ أكثر تداعيات الاحتلال وأسرعها والتي هزَّت، ولا زالت، كيان المحتل في البلاد هي المقاومة الوطنية الموجهة ضد قوات الاحتلال والمناصرين لها. كما أنها شكلت ركناً أساسيا من أركان ندوة "مستقبل العراق" التي دعت إلى بناء جبهة وطنية من أجل التحرير والديمقراطية في سياق مناقشة:(78)
.. تحقيق المصالحة بين القوى الوطنية العراقية الرافضة للاحتلال والتأكيد على إلغاء العنف السياسي، وتحريم الوحدانية/ احتكار السلطة.
.. التنسيق بين مختلف أطراف ومحاور المقاومة.
.. أن تمثل الجبهة صوت المقاومة الوطنية وإعلامها، أي إنشاء جهاز إعلامي وطني قادر على مواجهة إعلام المحتل.
.. تحقيق التكامل في عملية المقاومة باتجاهين مترابطين: عمودياً (السياسية والاقتصادية والمسلّحة) وأفقياً (ضم أكبر عدد من القوى المناهضة للاحتلال).
.. مساهمة الجبهة في النشاطات الداعمة للمقاومة من منظور متكامل لمحاورها: إضرابات ومظاهرات، مقاطعة اقتصادية لمنتجات وخدمات المحتل، المقاومة المسلّحة.
.. بناء التعبئة الشعبية لتشكل ظهير المقاومة في الدعم البشري والمالي والإعلامي، بخاصة المقاومة المسلّحة كشرط ضروري لتحقيق النصر النهائي.
وإذا كانت مقاومة المحتل حقاً وطنياً وواجباً مشروعاً تنطلق من دوافع الكرامة الوطنية والشرعية الدولية لتحرير وطن مغتصب وإرادة شعب مغتصبة، فكيف استطاعت أن تنمو وتتطور في مواجهة أكبر قوة غازية في تاريخ البشرية؟ ما هي وسائلها وأساليبها وقدراتها في توجيه الضربات الموجعة والقاتلة لقوات المحتل؟
بتاريخ 22 ديسمبر 2004 نشر خبير أمريكي دراسة بعنوان "العراق.. ما العمل؟" تنبثق أهمية هذه الدراسة، حيث تضم السطور التالية خلاصة مكثفة بِأهم محتوياتها، في أنها تتابع بدقة نشاطات وقدرات المقاومة، وتشرح بتفصيل الوسائل التي تتبعها. ويتبين من قراءة طبيعة تنظيم المقاومة وخططها والتقنية والتكنولوجيا التي تستخدمها أنها على مستوى عال جداً من الكفاءة. وتشرح الدراسة الوسائل التي تستخدمها المقاومة والتنسيق بين تنظيماتها وعملها، وتبين أن المقاومة تتطور، وكلما طوَّر المحتل وسائل لمقاومتها تقوم المقاومة بتطوير وسائل مضادة. وفي أحد تقارير وزارة الدفاع الأمريكية وتقارير مماثلة لجهات أخرى، أنه عندما تنتهي الحرب في العراق ستدرس وزارات الدفاع والمقاومات في العالم تجربة المقاومة العراقية.
ومع أن المقاومة الوطنية تشمل كل القوى الرافضة للاحتلال والعاملة من أجل التحرير والاستقلال والسيادة بما فيها المقاومة السلمية، إلا أن الحديث هنا يدور عن المقاومة المسلَّحة. وهذه المقاومة لا علاقة لها بالأعمال الإرهابية التي تتولاها جهات أخرى موزعة بين: ما يسمى جماعة الزرقاوي- القاعدة، مخابرات أمريكية، موساد، مخابرات إيرانية وكويتية، وغيرها من المنظمات الإرهابية المرتبطة بالمحتل و/ أو تلك التي تصب ممارساتها في خانة المحتل.(79)
نجحت الولايات المتحدة في حربها على العراق لكنها فشلت في بناء سلام يحفظ استقرار وحياة عناصرها من مخاطر الموت والعجز، لكونها ارتكبت جملة إخفاقات قاتلة شكلت الخطأ الستراتيجي الأكبر الذي ساهم في تقوية شوكة المقاومة، تتقدمها:(80)
.. تبريرها الأساس لخوض الحرب بالاعتماد على تقارير مخابراتية كاذبة عن جهود عراقية لصنع أسلحة دمار شامل.
.. الاعتماد المفرط على جماعات متباينة من المنفيين، بما لهم من صدقية محدودة ونفوذ محدود في العراق، والذين بالغوا كثيراً في مستوى التأييد الشعبي لغزو "تحريري" وفي السهولة التي يمكن بها استبدال النظام السابق.
.. الإخفاق في تقديم تقدير دقيق لطبيعة النزعة الوطنية العراقية، والمستوى الحقيقي للاختلافات الثقافية وحجم مشكلات العراق.
.. الإخفاق في توقع آمال العراقيين والاستعداد لها بعد انهيار النظام، وحقيقة أن عراقيين كثيرين سيعارضون الغزو ويرون أي وجود دائم للولايات المتحدة والتحالف احتلالاً معادياً.
.. الإخفاق، ليس فقط في توقع نشوء ونمو المقاومة، بل أيضاً الإخفاق في تقديم تقدير موضوعي لطبيعة المقاومة العراقية وحجمها وهي تنمو وتصبح بإطراد أشد خطورة على القوات المتحالفة.
.. لم يكن هناك فقط إخفاق في التخطيط لمواجهة مقاومة كبرى، إنما أيضاً في التكيف بسرعة وبصورة مناسبة مع المقاومة التي أعقبت عمليات قتالية رئيسة.(81)
.. شغل وظائف سلطة التحالف المؤقتة بأشخاص جندوا قبل ساعات قليلة، واختيروا غالباً من منظور سياسي/ عقائدي، وليس الخبرة والكفاءة.
.. تفاقم الفشل بفعل الافتقار إلى مهارات لغوية وتدريب من جانب معظم القوات العسكرية الأمريكية والقدرات المخابراتية المصممة لتوفير المخابرات البشرية والتجميع التقني والقدرات التحليلية ومراكز "الامتزاج" اللازمة للاستقرار ولعمليات مكافحة المقاومة.
.. الإخفاق في بناء قوات عراقية فعالة بعد إلغاء المؤسسات الدفاعية والأمنية. وهو إخفاق وضع عبئاً كبيراً، كان يمكن تجنبه، على القوات الأمريكية وقوات التحالف، وزاد من تفاقم الشعور العراقي بأن العراق قد احتلته قوات معادية.
.. الإخفاق في التخطيط والتنفيذ الفعال لعمليات واسعة للمعلومات، قبل وأثناء وبعد الغزو بهدف كسب "قلوب وعقول العراقيين" وإقناعهم بأن التحالف جاؤوا محررين سيغادرون وليسوا محتلين يبقون ويستغلون العراق، وأن التحالف سيقدم عوناً ودعماً لحكومة ودولة مستقلة حقاً.
أخفقت الولايات المتحدة في معاملة العراقيين كشركاء في جهود مكافحة المقاومة لما يربو على سنة بعد سقوط النظام، وفي حين كانت المقاومة تشتد عوداً، وتزداد خطورة على القوات المتحالفة والعناصر الموالية، كانت نظرة ومواقف مختلف المسؤولين الأمريكان تجاه حقيقة المقاومة تتلخص في:
* الإنكار كوسيلة في حرب مكافحة المقاومة:
اصرَّت الولايات المتحدة لفترة امتدت لمعظم السنة الأولى بعد سقوط النظام على أنها تواجه عدداً محدوداً من المقاومين بحيث يمكن لقوات التحالف أن تهزمهم قبل وقت كاف من الانتخابات. ولم تلاحظ مستوى الخطر الذي سيظهر، إذا لم توفر وظائف أو معاشات تقاعد للضباط المحترفين العراقيين الذين كانوا يتعرضون لبطالة كاسحة على نطاق البلد أو أن تضمهم إلى جهد بناء الدولة. وفي وقت متأخر حتى ربيع 2004 كانت الولايات المتحدة لا تزال عاجزة عن الإقرار بالمدى الحقيقي لخطر المقاومة والمدى الذي يمكن أن يصل إليه السخط الشعبي من قوات التحالف إذا هي لم تتصرف فوراً لإعادة بناء مزيج جدير بالاقتناع من القوات العسكرية والأمنية العراقية. وهو ما جعل الأمن الشخصي ألهَمّ رقم واحد للشعب العراقي.
* الإخفاق في الاعتراف بأبعاد المشكلة حتى منتصف عام 2004
نتيجة لإخفاق الولايات المتحدة إدراك حقيقة المقاومة العراقية خلال السنة الأولى من الاحتلال، عليه أصبحت في الرد على نموها وتصاعد زخمها، وفي الاعتراف بأن هذه المقاومة داخلية في شخصيتها وتتمتع بتأييد شعبي كبير. باختصار أنها أخفقت في التقدير الموضوعي لحقائق الواقع، وبطريقة تذكر المرء بما جرى إبان حرب فيتنام.
وفي وقت متأخر حتى تموز/ يوليو 2004 كان بعض الأعضاء ذوي المراكز الرفيعة في إدارة بوش لا يزالون فيما يبدو يعيشون في "بلاد العجائب" من حيث بياناتهم العلنية البعيدة عن الواقع. كما ظلَّ كبار المسؤولين والضباط الأمريكيين يشيرون إلى المهاجمين باعتبارهم إرهابيين، ويعلنون تقديرات باتجاه التقليل من حجمهم وأعدادهم وأهميتهم وممارسة التشويه ضدهم.
* تكتيكات الخطر المتطور والضغط على قوات الحكومة
خلال الفترة من حوالي آب/ أغسطس 2003 حتى الوقت الحاضر، برز المقاومون العراقيون قوة فعالة تمتلك تأييداً شعبياً، وطورت مزيجاً من تكتيكات تزداد تقدماً بإطراد. طوال عام 2003 ومعظم النصف الأول من عام 2004 كان هناك توازن تقريبي بين الوسائل الأولية الثلاث للهجوم: الشحنات المتفجرة المرتجلة والنيران المباشرة والنيران غير المباشرة. وقد تنوعت أعداد الهجمات تنوعاً كبيراً شهراً بعد آخر.
ومع تصاعد عدد الهجمات في منطقة الموصل في الشمال. كانت بغداد تشهد قرابة مثلي عدد الهجمات والحوادث مقارنة بالمحافظات الأخرى، حيث وقع 300- 400 هجوم في المتوسط شهرياً. وكان نصيب الأنبار وصلاح الدين ونينوى يتراوح بين ثلث ونصف هذا العدد. وبلغ متوسط عدد الهجمات في بابل وديالى نحو 100 شهرياً. وهناك مستويات دنيا نسبياً من الهجوم في محافظات كربلاء وذي قار وواسط وميسان ومثنى والنجف والقادسية. وكانت أدنى مستويات الهجمات في التأميم والبصرة.
اتجه المقاومون نحوعمليات تكييف وتطوير رئيسة من حيث التكتيكات والوسائل الهجومية: المزج بين تجهيزات تفجير مرتجلة EID الخام والمتطورة. كما وجّه المقاومون انتباهاً شديداً إلى الوسائل الأمريكية في جمع معلومات المخابرات والعمليات المضادة لتجهيزات التفجير المرتجلة، وغيروا أسلوبهم تبعاً لذلك.
في أيلول/ سبتمبر 2004 ذكر الجنرال ريتشارد كودي Richard Cody) نائب رئيس أركان الجيش الأمريكي أن عدداً يتراوح بين 500 و600 تجهيز تفجير ارتجالي تنفجر شهرياً، وأن قرابة نصفها إما ألحق أذى بأفراد أمريكيين أو حطم مركبات أمريكية. وذكر اللفتنانت جنرال جيمس تي كونواي Jamy T. Conway مدير العمليات في هيئة رئاسة أركان الحرب المشتركة الأمريكية في أيار/ مايو 2005 أن نسبة 70 بالمئة من إجمالي الخسائر البشرية في قوات التحالف حتى ذلك التاريخ ومنذ سقوط النظام كانت بسبب تجهيزات تفجير مرتجلة، وهو مجهود بلغ درجة من النجاح بحيث جعل الولايات المتحدة تعلن أنه حتى مركباتها الحربية من طراز همفيز الكاملة التدريع غير مأمونة في مناطق الخطر العالي وأنه يجري استبدالها بشاحنات مسلحة ذات تدريع ثقيل زنة خمسة أطنان.
لقد حسّن المقاومون العراقيون بإطراد قدراتهم على تنفيذ هجمات مركّبة. وبحلول ربيع عام 2005 أصبح المهاجمون يستخدمون بصورة متزايدة الهجمات المختلطة للإغارة على منشآت أمريكية.. تنفيذ سلسلة متعاقبة من الكمائن.. تطوير خليط مركب وكمائن باستخدام أسلحة صغيرة وخفيفة (نيران متعددة في آن).. تقنيات "الهجمات الحاشدة" والهجمات على المركبات (أمكن لهذه التكتيكات أن تقتل أو تفجر حتى مدرعة ثقيلة مثل الدبابة ابرامز وأن تفرض خطراً رئيساً على مركبات أخف تدريعاً، وبالمثل على مشاة مكشوفين).. التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخخة والتفجيرات الضخمة.. استخدام أفضل للأسلحة الخفيفة مثل الأسلحة الأوتوماتيكية (الرشاشة) وقذائف آر. بي. جي. وقذائف الهاون، والمهاجمة من مواقع نائية أو استخدام تجهيزات موقوتة.. استغلال الفضائيات التلفزيونية العربية وكذلك الوسائط الإعلامية التقليدية.. الإبقاء على ستراتيجية استنزاف مستمر.. توجيه ضربات قوية طبقاً لرزنامة من نقاط التحول و/أو إلى أهداف مؤثرة.. كشف واستغلال وضرب نقاط قوة المحتل وتوابعه.. خلق شبكات غير رسمية موزعة لأغراض القيادة والسيطرة والاتصالات وأجهزة الحاسوب IBM.. كشّافة الشوارع والمستطلعون.. جعل المدن والبلدات ملاذات وشراك حضرية.. استخدام دول الجوار والمناطق الحدودية كملاذات جزئية.. خلق عمليات ومراكز متفرقة سريعة الحركة.. استغلال نقاط الضعف في المخابرات البشرية الأمريكية، وتقدير أضرار المعارك وقدرات توصيف الأضرار.. مواجهة المزايا الأمريكية في مجال الأقمار الاصطناعية للتعقب وفي الاتصالات الخليوية.. استخدام "الانبعاث" والتسلل من جديد، والتمركز والاختباء والعودة للظهور.. استخدام تكرارات الحوادث وتوزيع الهجمات والتكتيكات التي تنهك أو تهزم إمكانات المخابرات والاستطلاع والتعقب الأمريكية.. زيادة حجم وقوة تجهيزات التفجير المرتجلة لإبادة تميز الدروع لدى القوات الأمريكية وقوات التحالف (في حادثتين منفصلتين في أوائل كانون الثاني/ يناير 2005 دمرت تجهيزات التفجير المرتجلة مركبة قتالية من طراز برادلي ودبابة من طراز ابرامز. وهاتان المركبتان هما من أكثر المركبات تدريعاً ثقيلاً في الترسانة الأمريكية).. مواجهة إمكانات المخابرات والاستطلاع والبحث الأمريكية والحكومية العراقية بمخابرات بشرية أكثر تفوقاً (وكما حصل في حرب فييتنام، فإن مصادر المخابرات البشرية المعادية مدفوعة غالباً بروابط عائلية و/ أو قيم تقليدية/ قبلية أو خوف من الانحياز للطرف الخطأ "إن تغلغل الولاء المزدوج والمخابرات البشرية في قوات الأمن والقوات المسلحة العراقية يمكن أن يكون القاعدة أكثر مما هو الاستثناء").. استخدام الإعلام والمتسللين/ المتعاطفين والمعتقلين السابقين للمخابرات المضادة.
ذكر الجنرال كيسي في آذار/مارس 2005 أن المقاومين الذين يعملون من مناطق معارضة للاحتلال يملكون من القوة البشرية والأسلحة والذخيرة والمال ما يمكنهم من شن ما بين خمسين إلى ستين هجوماً يومياً. وأن عراقيين كثيرين يدعمون المقاومة بصورة سلبية، ويوفرون دعماً سياسياً لهجماتها على قوات التحالف. يؤكد المصدر التالي هذا الاستنتاج بقوله: أن مستوى نشاط المقاومة اليوم يعادل أربعة أو خمسة أمثال ما كان في أوائل صيف 2003 (10-12) هجوماً يومياً، مقابل نحو 50 هجوماً كل يوم في أيار/ مايو 2005.(82)
وقد أظهر استطلاع للرأي العام أجرته إحدى المؤسسات الخاصة لحساب التحالف، في شباط/ فبراير 2005، أن نسبة تصل إلى 45% من أولئك الذين جرى استطلاع رأيهم يؤيدون الهجمات على قوات التحالف بينما نسبة 15% فقط منهم تؤيد التحالف.
فيما يخص ماهية المقاومة الوطنية العراقية تتكون من تنظيمات متعددة، وأن العمود الفقري للمقاومة هو الجيش العراقي السابق الذي يخطط لمعظمها ويزودها بالتقنية التكنولوجية، وهذا الجيش يتكون من ضباط عسكريين وتصنيع حربي ومخابرات وصنوف أخرى من الجيش العراقي الذي تم حلّه وتسريحه من قبل الاحتلال.
ولدى المقاومة مخابرات كفوءة ومتقدمة كثيراً على مخابرات القوات الأمريكية وحكومة الاحتلال، ولديها قدرة على جمع معلومات عن القوات الأمريكية والقوات العراقية التي تتعاون مع القوات الأمريكية، وهي متغلغلة حتى في القوات الأمريكية. (دراسة كوردسمان).
وحسب معلومات غير رسمية تضم المقاومة الوطنية العراقية عشر مجموعات تالية مع تقديرات بِأعدادهم:(83)
المجموعة الأولى: الجيش العراقي السابق والذي يعمل تحت مسميين: الأغلبية منه تعمل تحت اسم الجيش الإسلامي السري. وهذه المجموعة تتكون من قوى تنظيمية واستخبارية لأِن مجموعهم من قادة وضباط الجيش والمخابرات. تشكيلاتهم مكتملة، لهم ستراتيجية واضحة ووسائلهم واضحة، ومطالبهم السياسية واضحة، وعددهم أكثر من عشرة آلاف شخص، حسب بعض المطلعين، ويسمون أنفسهم أحياناً الجيش العراقي الإسلامي، أو الجيش الوطني العراقي. وقد أمتد نشاطهم إلى الديوانية والناصرية والعمارة حسب بعض المعلومات غير المنشورة.
المجموعة الثانية: جزء من الجيش العراقي تابع لحزب البعث وتعمل باسم جيش محمد.
المجموعة الثالثة: جماعة أنصار السنة، وهي جماعة منظمة، تدرب قسم كبير منهم في أفغانستان وعاد إلى العراق. يتبعون في أسلوب عملهم جماعة القاعدة ولكن ليست لهم علاقة تنظيمية معها بسبب اختلافاتهم الفكرية والاجتهادية حول بعض المسائل، وعدد هذه الجماعة بحدود أربعة آلاف.
المجموعة الرابعة: جماعة أنصار الإسلام، جماعة منظمة، تعلمت في أفغانستان وانتقلت إلى شمال العراق قبل الحرب وخاضت معارك ضد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. تلقت ضربة قوية بداية الحرب. وأكثر هذه الجماعة من الأكراد ومعهم عدد كبير من العرب وخاصة من الكويت والسعودية. وكانت عملياتهم في الشمال تحديداً وانتقلت في الآونة الأخيرة إلى المحافظات في الوسط والجنوب، البصرة والعمارة، ويقودهم الملا غريغار، وهو مثقف وانتماؤه للإسلام أكثر من انتمائه للعنصر الكردي، وعددهم يتجاوز خمسة آلاف.
المجموعة الخامسة: كتائب ثورة العشرين، ويُحتمل أنها مجموعة لها علاقة مع هيئة علماء المسلمين. عددهم قليل (بحدود 1000- 1500) ولكن لديهم إمكانات مادية بسبب المساعدات التي وصلتهم من أطراف عربية ودولية. وكانوا بداية في منطقة الفلوجة والرمادي وانتشروا الآن في الموصل وبغداد وديالى ومناطق أخرى.
المجموعة السادسة: جيش المجاهدين، تشكلت من بعض الجماعات بعد الاحتلال، وكان الرابط بين هذه المجموعات هو المعاملة السيئة لهم من الاحتلال. الغالبية العظمى منهم قوميون عرب ناصريون يجمعون المال لشراء بعض السلاح، إمكاناتهم بسيطة ، عملياتهم متفرقة، يعاونون المجموعات الأخرى عندما تكون العملية أو العمليات في مناطقهم، وعددهم أكثر من ثلاثة آلاف شخص.
المجموعة السابعة: مجلس شورى المجاهدين، تكونت من اتفاق وائتلاف عدد كبير من المجموعات التنظيمية، والغرض منها هو تنفيذ علميات ضد الأمريكان ووقف الأخطاء الحاصلة عند التنظيمات.
المجموعة الثامنة: المقاومة الإسلامية الأصولية الوهابية. كان يرأسها الشيخ مهدي الصميدعي، الذي اعتقل منذ بضعة أشهر، صغيرة الحجم ومحدودة الفعالية.
المجموعة التاسعة: المقاومة المسلَّحة للمسلمين الصوفيين، محدودة العدد لكنها فعالة.
المجموعة العاشرة: تتألف من جماعات إما عائلية أو تنتمي لمنطقة معينة، وهي موجودة في كل مناطق العراق وكل محافظاته، ولكن لا رابط بينها وليس لها علاقة بالمجموعات الأخرى المذكورة.
(6) قضايا عراقية مستقبلية
بعد إعلان ممثل الاحتلال تسليم السلطة للحكومة العراقية المؤقتة قبل يومين من تاريخه المحدد بـ 30/6/2004- ذكرى ثورة العشرين- يكون العراق قد استعاد سيادته "رسمياً" في المحافل الدولية تتقدمها الأمم المتحدة. ولكن يلاحظ أن سلطة الاحتلال تركت أعداداً من المستشارين تغطي وزارات وأجهزة الدولة، واستمرت قواته التي تحولت اسمياً إلى: القوات المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، تقوم بممارساتها دون أن تخضع للقانون العراقي أو للقوانين الدولية فيما يتعلق بجرائم الحرب، وبقيت القضية الأمنية وآلاف المعتقلين العراقيين تحت سيطرة هذه القوات، ومُنحت الأوامر والقرارات التي أصدرها ممثل الاحتلال على مدى أكثر من سنة قوة ملزمة للحكومات العراقية، ومن ثم هناك الكثير من الأعباء التي سيتحملها شعب العراق، وتتطلب زحزحتها ومعالجتها. وفوق ذلك تتطلب المرحلة الحالية فتح ملفات ساخنة توفر إمكانية بناء عقد اجتماعي- دستور دائم- يُعبّر على نحو متوازن عن مختلف مصالح الأطياف العراقية في إطار المصلحة العليا، وكذا الأمر فيما يخص استكمال السيادة المنقوصة ومهمة بناء القوات المسلحة والجيش وأجهزة الأمن، وقضية التنمية ومعالجة أزمة البطالة التي بلغت 67%.(84)
يُضاف إلى ذلك بذل الجهود الحثيثة والمكثفة لحل الخلافلات الحادة بين الأطراف العراقية بشأن طبيعة نظام الحكم: علاقة الدولة بالدين.. مسألة الهوية واللغة.. الأخذ بالنظام الرئاسي أو الوزاري أو المختلط.. مسألة اللامركزية والفيدرالية والأسس التي تقوم عليها.
أن فشل السياسة الأمريكية إقامة حكم ديمقراطي في العراق،(85) يؤكد أن الديمقراطية لا تستورد لأِنها مهمة أهل البلد أنفسهم، وبالنتيجة فإن الطريقة الوحيدة والطبيعية هي أن يبادر شعب العراق تحمل أعباء المسيرة الدستورية- الديمقراطية بقواه الذاتية تسانده حضارته العريقة وخبراته الواسعة دون إهمال الاستفادة من تجارب الآخرين.
بدأت الحركة الدستورية بصورة مبكرة مع دعوة النجف في 30 حزيران/ يونيو2003 (ذكرى ثورة العشرين) المطالبة بضرورة أن يصوغ العراقيون بأنفسهم دستورهم عن طريق انتخاب جمعية تأسيسية، خصوصاً بعد أن سرت شائعات بأن الأمريكيين والإسرائيليين سيكتبون الدستور. هذا رغم أن هذه المبادرة تحولت إلى غزل مع المحتل، على شاكلة الغزل الإيراني (ف6-2/1)، وتقزمت في صورتها الطائفية لاحقاً.
وعموماً، وكما حدث في تعيين "مجلس الحكم"، فقد بادر ممثل الاحتلال إلى إصدار قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، بموجب الأمر المرقم 96- تاريخ 8 آذار/ مارس 2004، بمثابة دستور مؤقت للبلاد، متضمناً رسم خطوات إجراء الانتخابات وإصدار الدستور الدائم وإنشاء حكومة منتخبة، وليواجه جملة اعتراضات تتلخص في:(86) منح الأقلية (كل ثلاث محافظات) حق النقض ضد الأكثرية في تبني الدستور المستقبلي للبلاد.. الصلاحيات الممنوحة للمحافظات واسعة إلى حدود تكاد تخفي معها أية سلطة مركزية في الدولة، وتقود إلى بناء حكومة رخوة في ظروف البلاد غير المستقرة.. منح منظمات المجتمع المدني حق العمل دون رقابة أو موافقة أو تنظيم سجل بالتعاون مع أي شخص أو مؤسسة أجنبية.. النص على براءة المتهم حتى يُدان، في حين أن هناك آلاف العراقيين في السجون والمعتقلات تحت سلطة الاحتلال في غياب حقوقهم القانونية.. يشير القانون إلى أن النظام ديمقراطي، في حين يحرم أعضاء حزب البعث من أي دور ويمنعهم من المساهمة كمواطنين ما لم يوقعوا صك "براءة" كما كان الحال في العهد الملكي مع أعضاء الحزب الشيوعي العراقي.. النص على أن "الشعب العربي" في العراق "جزء من الأمة العربية" يعكس الجهل والخلط بين القومية/ الأمة وبين الدولة/ الشعب، لأن العراق شعب واحد بقومياته المختلفة، ولا توجد دولة تتكون من شعبين!! كما أن تسمية الدولة تطابق عادة انتماء أغلبيتة القومية، وأن وجود قوميات أخرى لا تنفي هويته القومية، كما هو حاصل في إيران وتركيا وغيرهما..(87) تحريم تدخل الجيش في القضايا الداخلية يتنافى مع الواقع الحالي لدور وممارسات طلائع الجيش الجاري تشكيلها والعاملة تحت سلطة الاحتلال في تقتيل الشعب العراقي.
كذلك صدر "قرار/ قانون" تشكيل "مفوضية الانتخابات العراقية المستقلة" من قبل ممثل الاحتلال (4/5/2004)، بل وقام بتعيين أعضائها، وأغلبهم من حملة الجنسية الأمريكية. ومن المعروف أن من يحصل على هذه الجنسية عليه أداء القسم بالولاء الوحيد للولايات المتحدة! يُضاف إلى ذلك أن المحتل لا يملك حق تشريع مثل هذه القوانين السيادية.. كما أن قراري مجلس الأمن 1483/2003 و 1511/2003 ليس فيهما ما يخول ممثل الاحتلال إصدار مثل هذه القوانين، وهي بالنتيجة غير ملزمة للحكومات العراقية. يُضاف إلى ذلك أن ظروف البلاد غير المستقرة في ظلِّ الفوضى القائمة واستمرار وجود وتأثيرات المحتل في توجيه السياسة العراقية كلها تدعو إلى شيء من الانتظار.. من هنا كانت الدعوة إلى "التأني في صياغة وتشريع الدستور..." وسد الفراغ الدستوري بإصدار إعلان دستوي مؤقت أو العودة إلى دستور 14 تموز/ يوليو 1958 بعد تعديله على نحو يتناسب مع عراق دستوري لما بعد إنهاء الاحتلال.(88) عليه فإن إصرار سلطة الاحتلال والحكومة المؤقتة، التى خرجت من رحمها، على إجراء الانتخابات وإقرار الدستور قبل رحيل الاحتلال أو في غياب إشراف دولي مستقل ومحايد ، يثير مخاوف من تلفيق حكومة منتخبة بغية تمرير اتفاقات تكبل الشعب العراقي مستقبلاً.
ورغم غياب الظروف الموضوعية لإجراء انتخابات نزيهة، فقد جرت انتخابات صيف 2004 وسط مقاطعة أطياف واسعة من الشعب العراقي وممارسة مختلف أشكال التزييف، فكانت النتيجة حكومة طائفية- عرقية قدمت مسودة دستور مستنسخ من قانون المحتل لإدارة الدولة العراقية السابق الذكر، لعرضه على استفتاء عام في 15/10/2005، بما فيه من مثالب تتلخص في:(89)
* غياب الشرعية: متمثلة في اغتصاب المحتل لأداة شرعية الانتخابات (إرادة الناس/ المقترعين)، وغياب الأمن/ الاستقرار والسلام الاجتماعي في ظروف عدم شرعية الاحتلال.
* الديباجة:
.. أن الحديث عن المراجع الدينية "العظام" مصدراً للاستلهام..، يعني الاعتراف بها مصدراً للتشريع، ومنحها دور الحكم الفصل في تحديد معنى الإسلام، وحيث أن هذه المراجع منقسمة مذهبياً- طائفياً في غياب مرجعية تعبر عن الوحدة الإسلامية، فهذا يعني أن الحياة الدستورية/ السياسية، سوف تتجه لا محالة نحو الطائفية.
.. كما أن إعطاء "المرجعيات" دور الحكم الفصل في تحديد معنى الإسلام يمكن أن يفتح الباب لإخضاع المؤسسة التشريعية للهيمنة الطائفية إذا ما نجحت الجهود الجارية لتسريب أصحاب العمائم إلى المحكمة الدستورية، أعلى هيئة للبت في دستورية القوانين، وبناء نظام سياسي للملالي أقرب إلى النظام الإيراني وأكثر التصاقاً به.
* شكل نظام الحكم: الأخذ بالنظام الوزاري، وإلغاء صلاحيات النقض الرئاسي كضامن للحد من غل السلطة التنفيذية (وزارة الأغلبية البسيطة)، عوامل يمكن أن تفضي إلى فرض دكتاتورية الأغلبية البسيطة. وهذا سيوفر احتمال يشتد يومياً بفتح بوابات دكتاتورية دينية على غرار النظام الإيراني.(90)
* الفيدرالية العشائرية- الطائفية:
.. ظهرت بوادر الفيدرالية تاريخياً باتجاه توحيد/ اتحاد أجزاء مستقلة من كانتونات (سويسرا) وولايات (أمريكا) ومدن مستقلة (أوربا) لتشكل دولة الوحدة الوطنية بصيغتها الفيدرالية. وبناء حكومة مركزية قوية لا حكومة ضعيفة في ظروف الفوضى. بكلمات أخرى، تحققت الفيدرالية تاريخياً في سياق لملمة أجزاء لتشكيل دولة الوحدة الوطنية وليس العكس.
.. تأكيد وجود لغتين رسميتين مسألة غير اعتيادية.. هناك لغة رسمية واحدة لكل دولة متعارف عليها عالمياً. وهذا لا يمنع حق المجموعات اللغوية استخدام لغاتها الخاصة في ممارسة شعائرها وإحياء تراثها. كما أن هذه الصفة في الدستور تقترب من أحد شروط الكونفدرالية، حيث تحتفظ كل دولة فيها بلغتها الرسمية.
.. توزيع السلطات بين الأقاليم والحكومة المركزية منحت الأقاليم سلطات واسعة تفوق سلطات الحكومة المركزية بما في ذلك إعداد دساتيرها والاستفتاء عليها، بضمنها "حق تقرير المصير" دون الرجوع للمركز. وهذا سيوفر حقاً دستورياً في التقسيم والتفتيت.
.. جوانب أخرى في الدستور المقترح تقوض دعائم التوافق في المجتمع العراقي بالنص على التمييز الطائفي- الديني بتوفير حماية قانونية لطائفة دينية دون الطوائف والديانات الأخرى. وهذا ما يتنافى مع التوصيف القانوني لأِماكن العبادة وفق اتفاقية لاهاي.
* الهوية الدينية للدولة
.. ينص الدستور المقترح في مادته الأولى على: الإسلام مصدر أساس للتشريع (أولاً)، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع "ثوابت أحكام الإسلام" (أ). وبذلك يجعل من الإسلام المصدر الوحيد للتشريع.. ثم يقفز باتجاه آخر: عدم جواز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية (ب)، وعدم جواز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات (ج). وبذلك يجمع الدستور بين نقيضين: القيم الدينية الغيبية الثابتة/ الجامدة في مواجهة القيم الدنيوية الوضعية المتغيرة/ المتطورة!
* الهوية الوطنية للدولة: النص على أن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية (م/3) هو نقل حرفي لما ورد في "القانون المؤقت..." الذي سبق مناقشته. كما أن تغيير هذه المادة في المسودة المنقحة للدستور بالتأكيد على أن العراق: جزء من العالم الإسلامي ومؤسس فعال في الجامعة العربية وملتزم بميثاقها، طريقة تلفيقية لإلغاء هوية العراق وانتمائه التاريخي إلى الوطن العربي.
* اجتثاث البعث: نص آخر منقول من "القانون المؤقت...". يُضاف إلى ما سبق مناقشته، أن التحريم يعني إصرار السلطة على استمرار وتنمية بيئة الصراع السياسي والعنف. علاوة على أن هذا الإجراء سيستخدم وسيلة لتصفية الخصوم السياسيين.
* قطاع النفط والثروة الوطنية: ينص الدستور المقترح على أن: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة (م110- أولاً).. تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الإقليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز... (م110- ثانياً). وحسب العديد من الخبراء تحتوي هذه الصياغة مضامين وآثار سلبية كثيرة تتقدمها:(91)
.. أن مهمة توزيع الثروة النفطية على نحو أكثر عدلاً لا تدعو إلى تقطيع أوصال قطاع النفط، بل توزيع الخدمات العامة ومشروعات التنمية جغرافياً على نحو متناسب وتوزيعات السكان و/ أو مستوى إنتاجية المنطقة الجغرافية/ المحافظة المعنية.
.. غياب رؤية واضحة لقضية النفط إلى حدود الفوضى في ظروف فقد صنع القرار المركزي، علاوة على مسألة التشريع.
.. أن تحديد مسؤولية الحكومة المركزية بالحقول المنتجة حالياً، وهي قديمة، يحد من سلطتها سرعة استغلال الحقول العملاقة، وذلك في ظروف الحاجة إلى ضرورة تطوير حقول جديدة ووضع معايير للتفاوض وقانون للموارد النفطية والتي ستكون مهمة شاقة.
.. وفي غياب السيطرة الكاملة لأِجهزة السلطة المركزية مثل شركة وطنية للنفط، تقود الفيدرالية إلى خلق اضطراب في هذا القطاع وتعويق الاستثمارات، خاصة إذا كانت الأولوية للقوانين الإقليمية على القوانين الفيدرالية.
.. وستضطر شركات النفط العالمية إلى التفاوض على تطوير الحقول في العراق مع الحكومات الإقليمية ومع الحكومة المركزية. كما أن سحب سلطة اتخاذ القرار من وزارة النفط، المتمرسة بكوادرها المؤهلة، والغموض الذي يكتنف مشروع الدستور فيما يتعلق بالسياسة النفطية سيوجه ضربة لتطوير هذا القطاع.
.. وستواجه الشركات مشاكل قانونية ضخمة. فإذا وقَّعت اتفاقاً مع كيان سياسي (إقليم) فربما لا يكون عقدها مصوناً في الأجل الطويل. كما تركت الصياغة الحالية للدستور الباب مفتوحاً أمام التأويل وتنافس المحافظات المختلفة وإضعاف دور الحكومة المركزية في استغلال الموارد النفطية الجديدة.
.. ضرورة الاعتراف بِأهمية إيرادات النفط للحكومة المركزية بغية تخطيط التنمية الاقتصادية وسداد الدين الخارجي وتمويل الميزانية الحكومية.
.. وبغض الاعتبار عن الإطار السياسي الذي سيظهر في نهاية المشوار، فأن صناعة النفط، الذي يشكل رمزاً أصيلاً من رموز نضال العراقيين ومعلماً ساطعاً من معالم وحدتهم الوطنية لا بد وأن تبقى مركزية ويتم تشغيلها بطريقة موحدة ككل، لأِنها الصيغة المتوافقة مع قناعة العراقيين، باعتبارها قيمة عليا في ذاتها ورمزاً للوحدة الوطنية (ف4/3- الثروة النفطية).
* مثالب أخرى:
..غياب الحقوق المتساوية للمرأة مع الرجل، وتراجع مكانتها، لأِنها ستقع تحت تعليمات المرجعيات الطائفية.. فقد بدأت الناشطات النساء حملة تعبئة في أعقاب الأنباء التي ذكرت أن المسودات التي بُحِثَتْ من جانب لجنة صياغة الدستور كانت ضارة بحقوق النساء. وفي يوم 24 تموز/ يوليو استقبل الممثل الخاص (للأمين العام) أشرف قاضي وفداً نسائياً أعرب له عن القلق إزاء خطط لتشريع الحالة الاجتماعية طبقاً لممارسات دينية، وطلب الوفد مساعدة الأمم المتحدة في تأمين احترام المعاهدات الدولية التي صادق عليها العراق، وبصفة خاصة معاهدة ازالة كل أشكال التمييز ضد النساء.(92)
.. النص الوارد في مسودة الدستور على أن: العراقي هو من ولد لأِب عراقي أو لأِم عراقية (م/18- أولاً) مبدأ لا يعمل به إلا في الكيان الصهيوني..
.. تنازلات مقصودة لحق العراق في امتلاك التكنولوجيا الحديثة..
.. غياب النص على تحريم القواعد الأجنبية في المسودة المنقحة بعد أن كان مثبتاً في المسودة السابقة عليها.
في الانتخابات السابقة استخدمت الحكومة الدمية والأطراف الطائفية الدين كوسيلة لدفع الناس إلى التصويت. وكانت الفتاوى الطائفية، بما فيها فتوى السيستاني- الصامت والمنقولة من خلال أعوانه الوعيد بجهنم لكل ممتنع عن التصويت و/ أو تحريم الزوجة على زوجها عند الامتناع عن التصويت، علاوة على الوعود الانتخابية بجدولة خروج المحتل وتوفير الخدمات العامة، وعودٌ شَكَّلتْ عوامل رئيسة في توجه جزء من المقترعين نحو صناديق الاقتراع، فجاءت الحصيلة جمعية تشريعية تقوم على المحاصصة الطائفية، وكانت باكورة أعمالها تقديم طلب إلى مجلس الأمن السماح للمحتل البقاء في العراق ومكافئتها بضمان رواتب التقاعد لأِعضائها مدى الحياة لقاء خدماتها "الجليلة" لبضعة أشهر. وهذه المحصلات أكدت أن الانتخابات لم تكن سوى حركة مسرحية لتنفيذ مخططات المحتل بإضفاء "الشرعية الدولية" على استمرار الاحتلال. وفي المرحلة التالية من الاستعداد للاستفتاء على "الدستور" مارست الحكومة الطائفية ومرجعياتها وقوى الاحتلال كافة الوسائل المتاحة لإظهار القبول بالدستور، وتكريس النظام الطائفي التمزيقي في العراق المحتل.
والجدير بالإشارة أن ندوة:(93) مستقبل العراق ناقشت وأقرّت أربعة مشروعات قوانين: مشروع دستور جمهورية العراق.. مشروع قانون خاص بالجمعيات والأحزاب السياسية.. مشروع قانون انتخاب الجمعية الوطنية العراقية (وفقاً لنظام التمثيل النسبي).. قانون الهيئة الوطنية العليا للأنتخابات في العراق، حيث ساهم في إعدادها نخبة من الخبراء العراقيين- العرب بإشراف ومبادرة المركز، باتجاه بناء عراق جمهوري ديمقراطي موحد، يكفل لجميع المواطنين حرية الفكر والتعبير والعقيدة والعبادة وفي سياق بناء نظام يتصف بالعدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتكافؤ الفرص، والمساواة أمام القانون، ومتابعة الدور الحضاري للعراق في نشر المعرفة وتعزيز قيم الحرية والعدل والسلام.. (ديباجة الدستور).. وهي معدة لأِية حكومة وطنية عراقية مستقلة قادمة للأستفادة منها بالكيفية المناسبة.
إن إخفاق التجربة الدستورية منذ إنشاء الدولة العراقية الحديثة وفشل الدساتير الجمهورية المؤقتة عبَّرت عن فشل القوى العراقية التوصل إلى توافقات وطنية عريضة تتناسب وتتناغم مع مشروع تحديث الدولة- المجتمع. كما أن إعادة الدولة- المجتمع- إلى طور ما قبل المجتمع السياسي المنظم نتيجة الاحتلال، يطرح المهمة الملحَّة أمام النخب والقوى والجماعات والأفراد من كل الأطياف العراقية لإطلاق حركة اجتماعية وسياسية وفكرية كبرى من أجل تمكين العراقيين وحدهم صياغة الدستور. وهذا يدعو إلى التأكيد على ضرورة حصر بناء الدستور بمشاركة كافة الأطياف العراقية، وبعيداً عن دور وتأثير الاحتلال وأعوانه. وفي السطور التالية جملة مقترحات لمضامين الدستور العراقي الدائم المنشود:
.. تأكيد مبدأ إعادة تكييف الأركان الأربعة للبيئة الاجتماعية العراقية بصورة نمطية متصاعدة من: الوحدانية، السرية/ الباطنية، المطلق، العنف نحو: التعددية، العلنية، القناعة النسبية، التعامل السلمي، وذلك في سياق عملية تغيير جذرية مديدة.
.. ضمان مبدأ الفصل بين السلطات في ظلّ التوازن والرقابة المتبادلة.
.. الأخذ بمبدأ اللامركزية بحيث لا تقود إلى التفتت بل التوحد، وليس إلى ضعف الحكومة بل إلى قوتها.
.. التأكيد على ملكية الشعب العراقي لثرواته الطبيعية بِإدارة القطاع العام الذي يجب أن يمارس دوره الأساسي- الاقتصادي والاجتماعي.
.. أهمية تطوير البيئة الطبيعية والحفاظ على نظافتها، خاصة بعد كوارث الحروب التي قادت إلى تلويثها باليورانيوم الناضب.
.. الغاء عقوبة الإعدام وتحسين أحوال السجون باتجاه إعادة تأهيل النزلاء اجتماعياً.
.. فصل الدين عن الدولة- علمانية الدولة- في إطار الحريات الدينية وتنزيه الدين بإبعاده عن اللعبة السياسية.
.. المساواة التامة بين المرأة والرجل. وممارسة كاملة لحقها في العمل بما في ذلك الجيش والشرطة والأمن، وتحقيق استقلالها الاقتصادي والحياتي.
.. تحديد وظيفة رأس الدولة/ السلطة التنفذية بدورتين انتخابيتين.
.. تأكيد المبادئ الدستورية وتثبيتها على نحو واضح بحيث تشكل النواة لإصلاح النظام القانوني وإلغاء القوانين المقيدة للحريات بما في ذلك المحاكم الاستثنائية.
.. ضمان التعددية السياسية والفكرية والثقافية والقومية، والحرص على الوصول إلى صياغات قانونية متوازنة تحدد المعاني والألفاظ والمبادئ والدلالات بشكل واضح وتعكس طبيعة تنوع وتعدد وتركيب المجتمع العراقي وموازييكه.
.. تحريم قانوني للتميز العنصري والشوفيني تحريماً تاماً والتأكيد على المساواة بين المواطنين، وعدم التميز بسبب المواصفات التقليدية/ الوراثية أو الطبقية أو السياسية.
.. الالتزام بالمواطنة العراقية وجعلها معياراً أساسياً، وتحديد ذلك دستورياً وبما يؤدي إلى إعادة النظر بقوانين الجنسية العراقية وفق نظرة وطنية إنسانية.
.. تأكيد أفضلية المواطن على أساس كفاءته وخبرته وخدمته للوطن بعيداً عن أية خلفية طائفية أو اثنية أو محاصصة مذهبية أو عرقية أو عشائرية أو جهوية، تحاشياً لتفتيت المجتمع العراقي.
.. تأكيد مبدأ تداول السلطة سلمياً وشرعياً بموجب الدستور.
.. تثبيت احترام الرأي والرأي الآخر وتحديد حقوق الأقلية والأكثرية بما يؤدي إلى الاحترام المتبادل والمنافسة النزيهة وتأكيد ضمان الأكثرية لحقوق الأقلية.
.. إن جوهر العملية الديمقراطية هو تمكين الشعب من ممارسة حقه في اختيار ممثليه عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة القائمة على المنافسة النزيهة. وجعل صندوق الاقتراع "أداة تغيير وليس أداة تجميل الحكام".(94)
.. تشكيل لجنة مستقلة مالياً وإدارياً تضم ممثلي السلطات الثلاث والمجتمع المدني للرقابة على الانتخابات وضمان نزاهتها وصحة نتائجها ومنح اللجنة سلطة إلغاء حق المرشح وحرمانه من الترشيح لدورتين انتخابيتين في حالة ثبوت تزييف الانتخابات لصالحه.(95)
.. ضمان الحريات الأساسية الأربعة: التعبير والرأي.. الاعتقاد.. التنظيم الحزبي والمهني والنقابي.. المشاركة السياسية في إدارة شؤون الحكم.
.. النص الدستوري على تأكيد حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية.
.. تأكيد مبدأ التسامح والأخاء والمساواة والعدل الاجتماعي ومكافحة العنف والثأر بتعزيز مبدأ سيادة القانون، وتحريم العزل السياسي والاحتكار وتأكيد أسس مدنية المجتمع. وتحويل الجيش إلى مهامه الدفاعية الأساسية لحماية الوطن، والمشاركة في الاعمار وإعادة البناء.
.. تثبيت الصفة القومية للدولة على أساس أن العراق هو جزء من الأمة العربية: يتألف من قوميتين رئيستين هما العرب والأكراد وأقليات قومية أخرى يحفظ الدستور حقوقها الثقافية والإدارية.
هوامش الفصل الثالث
(1) علي الوردي، ج1، ص318.
(2) علي الدين هلال، "مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث"، ندوة أزمة الديمقراطية في الوطن العربي1987، ص36..، للباحث، الديمقراطية والتحول الديمقراطي، السويد، ص60،2001.
ISBN:91-630-9332-4
M. Sherover Charles,Time,Freedom,and the common good, ,1989,p.131-132.
(3) حليم بركات، "الهاجس الأساسي لعلم الاجتماع العربي"، النهج/10،1997، ص48.
(4) خيرالدين حسيب، مستقبل العراق، ص209- 210..، M.Shover Charles,p.75-76.
5.Robert A. Dahl, Political Analysis,1991,p.54.
(6) عصام فارس، النهار، بيروت30/6/2003.
7. M. Shover Charles,p.241.
(8) نادر الفرجاني، تعقيب، ندوة أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، ص95.
9.HansBlomkvistandStenWindmalm,DemocracyinIndia, SIDA, ,1992,p.1-6.
(10) للباحث، حضارة وادي الرافدين 2004.
(11) مجيد خدوري، الاتجاهات السياسية في العالم العربي، ص59- 60..، ندوة أزمة الديمقراطية، ص74..،
Andres Ulen, Democracy and Diffussion, 1995,p.104.
(12) انظر، ف7- المجتمع المدني.
(13) بسام الطيبي، مرجع سابق، ص82..، خلدون حسن النقيب، في البدء كان الصراع، لندن1997، ص88.
14. Charles Issawi, Economic and Social Foundations of Democracy in the Middle East, International Affairs (Royal Institute of International Affairs 1944), Vol.32,No.,1 (Jan.1956),p.27-42.
.. أنظر الترجمة العربية الكاملة للمقالة من قبل الباحث، ومراجعة حسن عبدالله بدر في: علوم انسانية http://www.uluminsania.net السنة الثانية، ديسمبر (ك2).
(15) عصمت سيف الدولة، تعقيب، ندوة أزمة الديمقراطية، ص58.
.. يُقصد بالسلطة authority في هذا البحث: الحدود القانونية للتصرف. أما القوة power فهي آلية تنفيذ هذه السلطة. وأن وجود إحداهما، تعني في الغالب الأعم، وجود الأخرى. بمعنى أنهما وجهان لشيء واحد. ومع ذلك فالأولوية للقوة (المال، المنزلة، التنظيم..) التي تخلق السلطة. وينطبق هذا المفهوم على كل كينونة في المجتمع بدءاً بالفرد ولغاية الحكومة.
(16) بسام الطيب، والمناقشات اللاحقة، ندوة ازمة الديمقراطية، ص73- 111.
(17) الطاهر لبيب، تعقيب، ندوة أزمة الديمقراطية، ص99.
(18) نزار توفيق حسو، الصراع على السلطة في العراق الملكي، ص54.
(19) فايز عزيز اسعد، انحراف النظام البرلماني في العراق، ص32- 33.
(20) نفسه، ص113- 114.
(21) عبدالرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية،ج5، ص153..، نزار توفيق حسو، ص58- 60.
(22) نزار توفيق حسو، ص118.
(23) تم حساب هذه المؤشرات من قبل الباحث من واقع بيانات الأحكام العرفية الواردة لدى: عبدالرزاق الحسني، ج10، ص323- 350.
(24) نفسه، ج6، ص128.
(25) اديث (و) اي، ايف بيزوز، العراق- دراسة في علاقاته الخارجية وتطوراته الداخلية،,ج1، ص277- 282.
(26) حنا بطاطو، العراق، ج1، جدول 5-1، ص76.
(27) للباحث، العراق المعاصر، ص422، رقم الصحيفة98.
(28) سعد ناجي جواد، "الوضع العراقي عشية الحرب", ندوة احتلال العراق، ص214- 218.
(29) للباحث، مستقبل العراق، ص83.
(30) سعد ناجي جواد، ص 216- 220..، جاسم يونس الحريري، تعقيب على ورقة "الوضع العراقي عشية الحرب"، ندوة احتلال العراق، ص228-229..، وللتوسع، انظر أيضاً، جيف سيمونس، التنكيل بالعراق 1998..، الباحث، مراجعة كتاب: التنكيل بالعراق، المستقبل العربي 244/1996، ص160..، فاضل عباس الكعبي، موت النوارس..، هانز كريستوف سبونيك، تشريح العراق- عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو، مترجم، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، تموز/ يوليو 2005، ص165- 166..، هانز فون سبونيك، "ما بعد الحرب وما قبل السلام: العراق.. إلى أين؟"، المستقبل العربي، العدد 317، 10/2005
(31) عماد فوزي شعيبي، "الصورة النمطية للعالم والنظام العالمي في الاستراتيجية الامريكية الجديدة وموقع العراق كساحة عمليات فيها"، ندوة احتلال العراق، ص117.
(32) جعفر ضياء جعفر (و) نعمان سعدالدين النعيمي، "أسلحةالدمارالشامل: الاتهامات والحقائق"، ندوة احتلال العراق، ص165 (و)178 (و)181..، نفسه، الاعتراف الأخير- حقيقة البرنامج النووي العراقي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أيار/ مايو 2005، ص127- 131، ص159، ص298- 299.
(33) نفسه، الاعتراف الأخير..، ص18.
(34) نفسه، ص171..، نفسه، الاعتراف الأخير..، ص228- 229.
(35) نفسه، ندوة احتلال العراق، ص172..، نفسه، الاعتراف الأخير، ص26.. هانز بليكس، نزع سلاح العراق- الغزو بدلاً من التفتيش، مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى، بيروت، آب/ أغسطس 2005، ص266- 270.
(36) عماد خدوري، تعقيب على ورقة "أسلحة الدمار الشامل"، ندوة احتلال العراق، ص182.
(37) عبدالوهاب القصاب، "الجيش"، ندوة احتلال العراق، ص588 (و)596..، نفسه، "الجيش"، ندوة مستقبل العراق..، نفسه، "الجيش"، المستقبل العربي، العدد 305، 7/2004، ص 111- 112، ص119.
(38) قارن، جاسم يونس الحريري، تعقيب على ورقة "الوضع العراقي عشية الحرب"، ندوة احتلال العراق، ص230- 232..، عبدالوهاب حميد رشيد، مستقبل العراق، ص71.
(39) جاسم يونس الحريري، , ص230- 231..، للباحث، مستقبل العراق، ص193.
(40) قارن: سعد ناجي جواد، "الوضع العراقي عشية الحرب"، ص220- 223.
(41) نفسه،224- 226.
(42) خير الدين حسيب، "حوار حول مستقبل العراق"، المستقبل العربي، العدد 304، 6/2004، ص15.
* انظر للباحث، "العراق الى اين؟"، ايلاف 30مايس/ايار2003.
(43) فالح عبدالجبار، "تحليل شروط نشوء الديمقراطية في العراق"، BBCARABIC,17.4.2003
(44) برهان غليون "حرب الخليج والمواجهة الاستراتيجية في المنطقة العربية"، ندوة أزمة الخليج، ص18.
(45) صلاح الدين عامر، "العراق والاحتلال والقانون الدولي- حدود صلاحيات المحتل في إعادة الاعمار وبيع البترول", الأهرام 28مايس/ ايار2003.
(46) خيرالدين حسيب، "المشاهد المستقبلية المحتملة في العراق"، الكادر،4 أيلول2004..، نفسه، ندوة احتلال العراق، ص967-969..، نفسه، مستقبل العراق، ص56، ص73، ص108(و) ص218-219.
47.Giandomenico, Picco,The Battle for Iraq,The Future of Iraq, Conference,The Middle East Institute,1997,p.86.
48.Madeleine K. Albright,Preseving Principle and Safeguarding Stability,The Future of Iraq,p.124..,CNN,9,10,22,May,2003.
(49) نعومي كلاين (كاتبة ومعلقة سياسية أمريكية)، "بغداد- السنة الصفر- نهب العراق سعياً إلى (يوتوبيا) المحافظين الجدد"، المستقبل العربي، العدد 308، 10/2004، ص23.
(50) محمد عنوز، "مقابلة"، ايلاف 7 تموز2003..، محمود سليمان، "هوامش على قرار مجلس الأمن 1483"، الأهرام 7 تموز2003..، http://www.almokhtasar.com-28.4.2005.
(51) منظمة العفو الدولية، "مسؤوليات دول الاحتلال"، وثيقة العراق، المستقبل العربي5/291،2003، ص108- 121.
(52) فالح عبدالجبار، "شروط نشوء الديمقراطية..." 17,April,2003.BBCARABIC
(53) نفسه.
(54) باقر الصراف، "العراق المستقبلي في رؤية البعض العراقي", كتابات 15 تموز2003.
(55) خير الدين حسيب، "حوار حول مستقبل العراق"، ص7..، محمد عارف، " الفكر الأكاديمي العراقي يعيد اكتشاف الدولة"، نشرة اسبوعية، نيسان/ ابريل2005..، وقارن: جوزيف سماحة، "عن المقاومة في العراق"، السفير23 تموز2003.
(56) سعدي يوسف، "مجلس المحكومين"، كتابات 27/8/2003.
(57) عبدالإله بلقزيز، "تواريخ ثورات وتحولات في عراق المضاربات"، السفير 25 تموز2003.
* انظر للباحث، "الوضع السياسي في العراق"، موقع الحوار المتمدن،30 العدد607، أيلول/ سبتمبر2003.
(58) قناة الجزيرة الفضائية، برنامج بلا حدود 23 آذار/ مارس2003CNN,May24,2003..,
(59) الحياة، "كارثة (نووية صغيرة) في العراق" 9/5/2003..، قناة الجزيرة الفضائية، برنامج العراق ما بعد الحرب 26 نيسان2003..، BBC ARABIA,24,June2003
60. Iraq4allnews,7July2004.
(61) محمد عارف، نُشرة أسبوعية، نوفمبر 2004.
(62) عصام نعمان، "العراق على مفترق التعدد والتوحد- المتغيرات والتحديات والخيارات"، ندوة احتلال العراق، ص546..، عبدالحسين شعبان، تعقيب على ورقة "الوحدة الوطنية"، ندوة احتلال العراق، ص689..، محمد ابراهيم منصور، ندوة احتلال العراق، 627.
(63) مسح الأحوال المعيشية في العراق 2004 (ثلاثة أجزاء)، الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات، وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، الطبعة الأولى، بغداد، العراق 2005.
(64) نعومي كلارك، ص26- 29.
(65) حميد عبدالله، شبكة أخبار العراق للجميع-18/12/2004.
(66) فاضل الربيعي، "النتائج والتداعيات على العراق"، ندوة احتلال العراق، 290.
(67) جاسم يونس الحريري،"الوحدة الوطنية"، ندوة احتلال العراق، ص645- 648..، نفسه، "الوحدة الوطنية"، المستقبل العربي، ملف العراق إلى أين؟، 305- 7/2004، ص60- 61.
(68) السيد يسين، "رؤى مستقبلية للديمقراطية العراقية"، موقع ايلاف 15مايس2003..، نفسه، "الديمقراطية العربية بعد الانقطاع والاحياء"، موقع ايلاف 5 حزيران/ يونيو2003.
(69) جاسم يونس الحريري، "الوحدة الوطنية"، ص671- 672..، ..، نفسه، "الوحدة الوطنية"، ملف: العراق إلى أين؟، المستقبل العربي، العدد 305، غ/2004، ص 84- 85.
عبدالحسين شعبان، تعقيب على ورقة "الوحدة الوطنية"، ص690- 691.., عبدالسلام بغدادي، تعقيب على ورقة "الوحدة الوطنية"، ص699.
70 iraq4allnews,24 Nov.,2003.
71 iraq4allnews,2 July2004.., 15 July2004..,, 29 Oct.,2004..,, 2 Nov.2004..,17 Dec. 2004.
وأنظر أيضاً: شبكة أخبار العراق: "تصاعد ظاهرة خطف العلماء العراقيون: أكاديميون يشرون لأِصابع كويتية وإسرائيلية"-15/7/2004..، "عملاء مخابرات إيرانيون يغتالون علماء عراقيين..."-5/12/2004..، "أدلة على دور الموساد في الاغتيالات والخطف..."-10/12/2004..، " وحدات خاصة للقتل والتعذيب في العراق دربتها المخابرات الأمريكية..."-10/12/2004.
(72) فهمي هويدي، الشرق الأوسط10/12/2003.
(73) تقرير لـ "بعثة للأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق" بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق للفترة 1 تموز/ يوليو- 31 آب/ أغسطس 2005، المنشور بتاريخ 8/9/2005- ترجمة المستقبل العربي..، أنظر أيضاً، ماذا حصل في سجن أبو غريب في العراق؟.. التقرير النهائي للمجموعة المستقلة لمراجعة عمليات الاعتقال من جانب وزارة الدفاع (الأمريكية)، المستبل العربي، العدد 308، 10/2004.)
(74) عائشة القذافي، "المقاومة حطمت أحلام أمريكا"، طرابلس، الحياة-29/9/2005.
(75) سعاد خيري، "المقاومة العراقية والإرهاب الفكري"، الحوار المتمدن، العدد 1045- 12/12/2004..، حسقيل قوجمان، أزمة اليسار (من هو الشعب)"، جزأين، الحوار المتمدن- العدد1152 في29/3/2005، والعدد1152 في30/3/2005.
(76) جاسم يونس الحريري، المستقبل العربي (305)،7/2004، ص52.
(77) عبدالحسين شعبان، ص 689-690.، نفسه، "الدستور ونظام الحكم"، ندوة احتلال العراق، ص518..، للباحث، "المقاومة والأحزاب السياسية في العراق المحتل"، الحوار المتمدن (و) الكادر- 24/11/2004.
(78) للباحث، ندوة مستقبل العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 25-28/7/2005 (عرض موجز)، http://www.thawabit.com,2.8.2005.
(79) خير الدين حسيب، "المقاومة تقوى وتنتشر والقوات الأمريكية تضعف"، المستقبل العربي، العدد 317، تموز/ يوليو 7/2005، ص11-12..، نفسه، العربي (مقابلة/ حوار- محطة المستقلة- لندن)، المنشورة في: جريدة الحزب العربي الديمقراطي الناصري، الكترونية، العدد 965، القاهرة 15/8/1462 هـ.)
(80) انتوني كوردسمان، "العراق.. ما العمل؟" المستقبل العربي، العدد 304، 6/2004، ص58-67. ص58-67..
تقرير نشره بالانكليزية "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية http://www.csis.org في العاصمة الأمريكية يوم 5 أيار/ مايو بعنوان: "Iraq:What is to Be Done“
وقامت المجلة بترجمته إلى العربية
(81) ماذا حصل في سجن أبو غريب في العراق؟.. التقرير النهائي للمجموعة المستقلة لمراجعة عمليات الاعتقال من جانب وزارة الدفاع (الأمريكية)، المستقبل العربي، العدد 308- 10/2004، ص70.
(82) كارل كونيتا، "مشروع بحوث الدفاعات البديلة"، (دائرة شريرة): ديناميات الاحتلال في العراق، الجزء الأول- أنماط السخط الشعبي، المستقبل العربي، تقرير، العدد 317- 7/2005.
(83) خير الدين حسيب، العربي، العدد 965..، نفسه، "المقاومة تقوى وتنتشر والقوات الأمريكية تضعف"، المستقبل العربي، العدد 317، 7/2005، ص6- 37).
(84) نعومي كلاين، ص38.
(85) ايريك رولو، "النتئج والتداعيات دوليا"، ندوة احتلال العراق، ص474.
(86)صباح المختار، تعقيب على ورقة "الدستور ونظام الحكم"، ص562- 563..، ندوة احتلال العراق: حمدين صباحي، ص580..، محمد عارف، ص580..، صفوت جميل اسماعيل، ص581..، أمحمد المالكي، ص581..، عبدالحسين شعبان، ص583.
(87) عبدالحسين شعبان، "الدستور.."، ص543- 544.
(88) نفسه، ص505 (و) ص509..، خير الدين حسيب، "بوش سيتمادى في استعمال القوة"، الكادر- 7/12/2004..، للباحث، "شرعية الانتخابات في العراق المحتل"، الكادر- 22/11/2004..، ثوابت- 23/11/2004..، أخبار العراق للجميع: 29/10/2004..، 2/11/2004.
(89) للباحث، "نقد مشروع الدستور العراقي"، الكادر- 10/10/2005.
(90) فالح عبدالجبار، "العراق: صراع العروبة والأسلمة في الدستور"، الحوار المتمدن: 1308- 5/9/2005.
(91) http://www.abutamam.blogspot.com.. ومواقع أخرى.
(92) بعثة الأمم المتحدة.. حقوق الإنسان.. CEDAW
(93) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 25- 28 تموز/ يوليو 2005.
(94) عبدالحسين شعبان، "الدستور.."، ص542.
(95) للباحث، مستقبل العراق، ص132..، ندوة احتلال العراق: محمد علي جواد، ص627..، محمد ابراهيم منصور، ص707- 708.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم