الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الرابع

عبدالوهاب حميد رشيد

2013 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية



البنية الاقتصادية
يعتبر الجانب الاقتصادي بمؤسساته، بالإضافة إلى أفكاره ومنهجيته وطبيعة النظام الاقتصادي الملائم ثاني المحاور البنوية للمسيرة الديمقراطية. ولعلَّ أبرز معايير هذا المحور هو تحسين دخل ومستوى معيشة عامة الناس بصور نمطية مستمرة ومكافحة كافة أشكال البطالة، وتقليص فجوة الدخل- الثروة وخلق بيئة تقوم على تكافؤ الفرص والضمانات الاجتماعية واعتماد معيار الكفاءة الإنتاجية باعتباره المعيار الأشمل للمشاركة في التنمية وثمارها، علاوة على خلق مصالح اقتصادية مشتركة بين كافة الأطياف الاجتماعية على طريق تحقيق التكامل الاقتصادي الداخلي والمصالح المشتركة المتبادلة.
1- أزمة التنمية الاقتصادية في العراق
لا يمكن عزل ممارسات التنمية بالعراق، طبيعتها، انجازاتها، اخفاقاتها عن أبعاد الصراع التاريخية، الإقليمية، الدولية، الاجتماعية، الايديولوجية، وفوق ذلك كلها البترول، حيث حكمت هذه القوى مسيرة التنمية بالبلاد. فالتنمية باعتبارها تخصيص الموارد من قبل الدولة للأغراض الاستثمارية كانت ولا زالت متغيراً تابعاً يتم تحديده عِبر تفاعل القوى المذكورة.(1)
يتصف الاقتصاد العراقي بالقطبية الأحادية، متمثلة في الأهمية الضخمة للقطاع النفطي باعتباره محور تمويل ماكنته الاقتصادية من زراعية وصناعية وهياكل أساسية وخدمات عامة. فالعوائد النفطية وفَّرت تاريخياً نسبة قد تصل إلى 99% من العملات الأجنبية. كما أن المساهمة المباشرة لهذا القطاع لم تقل عن ثلث الناتج المحلي الإجمالي. وتتضاعف هذه النسبة عند حساب الآثار غير المباشرة للنفط في الاقتصاد العراقي. وهذا الاعتماد الكبير على القطاع النفطي، وارتباطه بالأسواق الخارجية، يعني أن الاقتصاد العراقي هو اقتصاد مفتوح ومعتمد على الخارج، فاقد لأِبسط مقومات الاعتماد على النفس أو الاستمرارية الذاتية. وهذا هو محور ضعفه.
ومع أن الحكومات الملكية والجمهورية أنفقت ما لا يقل عن 60 بليون دولار في مجال الاستثمارات العامة، لكن سياساتها التنموية فشلت في إعادة بناء وتنويع هيكل الاقتصاد العراقي وتقليص فجوته البنيوية لصالح إسراع نسبي لتنمية القطاعات التقليدية مقارنة بالقطاع النفطي المتطور. إذ تدهورت الأهمية النسبية لمساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي من 24.6% عام 1953 إلى 8.9% عام 1990. بينما بقيت مساهمة قطاع الصناعة التحويلية دون 10% من هذا الناتج، كما استمرت مساهمة القطاعات الخدمية ضئيلة نسبياً، بخاصة السياحة، رغم أن العراق- بلد نشوء أولى الحضارات البشرية- يضم نحو نصف مليون موقع أثري.(2)
كما شكلت قضية الأمن الغذائي واحدة من الأوجه الأكثر خطورة في هذا "التطور"، إذ انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي لكل من القمح والحبوب من 101% و 106% لمتوسط الفترة 1950- 1957 إلى 26% و 37% لمتوسط الفترة 1980-1990. وهذه المؤشرات تكشف عن دلالات خطيرة تتمثل في أن الفرد العراقي أصبح في حدود ثلاثة أرباع خبزه اليومي معتمداً على الأسواق الخارجية.
ماذا تعني هذه الأرقام للاقتصاد العراقي؟ إنها تفسر ببساطة: عجز الماكنة الاقتصادية العراقية توفير الحد الأدنى من المتطلبات الحياتية- السلعية والخدمية- للسكان في غياب القطاع النفطي والتعامل الخارجي.. افتقاد الحد الأدنى الآمن من الاكتفاء الذاتي.. استمرار خلل جهود التنمية أياً كانت السياسات التنموية وبغض الاعتبار عن ادعاءاتها.. التوسع في الظاهرة الاستهلاكية المعتمدة على الخارج في ظروف تجاوزها قدرة الاقتصاد الوطني. وهذه الحقائق جسّدت في مفهومها "تطور تخلف الاقتصاد العراقي" أكثر من ادعاءات تحقيق تنمية بنيوية شاملة.
فشلَ الاقتصاد العراقي في أدائه بعد الطفرة النفطية الأولى (1951- 1952) لأسباب تراوحت بين طبيعة السياسة الاقتصادية في العهد الملكي وتأثيرات السلطة البريطانية. واستمر فشل الاقتصاد العراقي في أدائه خلال العهود الجمهورية الأولى لأِسباب تقدمتها غياب الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي.
كذلك فشلَ الاقتصاد العراقي في أدائه بعد الطفرة النفطية الثانية (1973-1974)، رغم أن نظام البعث أفلح في خلق استقرار نسبي خلال هذه الفترة، لأِسباب تقدمتها: الهرولة السريعة نحو تحقيق إنفاقات ضخمة وفق نظرة قصيرة تقوم على حرق المراحل في ظروف محدودية الطاقة الاستيعابية capacity للاقتصاد العراقي مما تسببت في حالات تبذيرية واسعة، مع ما رافقت هذه المرحلة من صرخات "التنمية الانفجارية" وأساليب المشروعات الجاهزة "تسليم المفتاح" وسياسات الانفتاح الاستهلاكي التبذيري وتضخم الإنفاق العسكري والعمولات ومشكلات العمالة.
برزت قيود محدودية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد العراقي في ضوء نقص تكامل موارده والمهارات المطلوبة، بالإضافة إلى نقص هياكله الأساسية والإجراءات البيروقراطية، خاصة في القطاع العام المسيطر، علاوة على سياسة العسكرة، وتصاعد نفقات الجيش خلال الفترة 1975- 1980 وبشكل سريع من 3.1 بليون دولار إلى20 بليون دولار ولترتفع من 22.5% إلى 39% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تقف معضلة الاقتصاد العراقي عند فشل جهود التنمية في السير على طريق أهدافها، خاصة ما تعلق بمشكلته البنيوية، بل تفاقمت مع اندلاع الحروب والمقاطعة.
فرغم احتياطيه الكبير نسبياً من العملة الأجنبية ، والتطوير السريع نسبياً لهياكله الأساسية خاصة في مجال الإنشاءات والنقل، إلا أن الاقتصاد العراقي لم يكن مرناً أو قوياً، لأَِن التراكم السريع لاحتياطيه من النقد الأجنبي لم يتحقق بفعل نشاط إنتاجي بل من مصدر واحد ريعي هو النفط. من جهة أخرى، فرغم إنشاء صناعة عسكرية كبيرة نسبياً إلا أن البلاد استمرت إحدى أكثر الدول المستوردة للسلاح في العالم. كما بلغت نفقاتها العسكرية 198 بليون دولار خلال الفترة 1980- 1990 وهو ما يتجاوز مجمل عوائده النفطية (196 ب.د) منذ بدء إنتاج النفط وحصول البلاد على عوائدها النفطية (1931) ولغاية 1990.(3)
وفوق ذلك لم تكن للصناعة العسكرية روابط تداخلية محورية مع بقية القطاعات عدا توليد طلب العمل على حساب القطاعات المدنية خاصة الزراعة. باختصار، لم يكن العراق في هذا الوقت بالذات- حيث بلغ ذروته في الادعاءات الرسمية لقوته الاقتصادية والعسكرية- إلا في أكثر درجات ضعفه بالعلاقة مع تعاظم اعتماده على الخارج.(4)
إن البلاد التي تواجه مثل هذه الظروف وبتلك المواصفات لا تستطيع دخول الحرب. ففي عام 1980 كان الاقتصاد العراقي أكثر من أي وقت مضى رخواً وحساساً تجاه أي صدمة خارجية. فالعراق عانى دوماً من غياب قدرته على إيجاد بدائل داخلية لتقليل دور النفط أو تعويض خسارته في حالة تدهور الأسعار. ومع ذلك فإن حرباً ضروساً اندلعت بينه وبين إيران. وواجه القطاع النفطي منذ السنة الأولى للحرب أكثر الأضرار، وخسر هذا القطاع قدرته على تمويل الحرب. ففي خلال الفترة 1980- 1981 انخفضت عوائد النفط من 26 بليون دولار إلى 10 بليون دولار في حين قفزت الواردات العسكرية من 7ر8 الى 21 بليون دولار. أفرزت هذه الظروف ظهور العجز في الحساب الجاري العراقي بعد سنتين من الحرب. كما أن استمرار الحكومة في زيادة الواردات المدنية في ظلِّ شعارها الذي عبَّر عن الجهل الاقتصادي (سياسة البندقية والزبدة) زادت من حالة العجز. وبدلاً من إصلاح الوضع الاقتصادي، بعد تلك الحرب المهلكة، وتخفيف النفقات العسكرية والتأكيد على المجالات الإنتاجية السريعة العوائد لامتصاص البطالة وتقليل التضخم، أُقحِمَتْ البلاد في حرب جديدة: حرب الخليج 1990- 1991، مؤدية إلى تدمير هياكلها الأساسية- الاقتصادية والاجتماعية- مع مواجهة مقاطعة دولية شاملة.
وهكذا لم تقف معضلة الاقتصاد العراقي عند فشل جهود التنمية في: تنويع الهيكل الإنتاجي.. تعزيز الأمن الغذائي.. بلوغ استقرار نسبي متصاعد في دخول ومستويات معيشة الناس.. بل تعدت ذلك إلى التدهور الاقتصادي مع الدخول في حرب الثماني سنوات (1980- 1988)، وبلغت حدود الإنهيار في أعقاب حرب الخليج (1990- 1991)، وأخيراً انهار الاقتصاد العراقي في ظل الاحتلال مع انهيار الدولة العراقية.
لما كان الهدف العام للتنمية هو رفع مستويات المعيشة وتحسين نوعية الحياة للسكان، فإن سياسة التنمية تدعو إلى تواجد نظام سياسي يستوعب كافة الأطياف الاجتماعية، ويستند إلى قواعد اجتماعية- إنتاجية واسعة، وقادرة على تنظيم النشاط الاقتصادي وتنمية الموارد الوطنية بكفاءة وبطرق مؤسسية مناسبة، وفي إطار اجتماعي تتوازن فيه المصالح المختلفة وتتوزع الدخول والثروات على نحو يتسم بالعدل.(5)
ويعمل هذا النظام على توفير فرص متكافئة ومشاركة أوسع الطبقات والفئات الاجتماعية لدعم جهود التنمية، الحكومية والخاصة، في ظل ضمانات اجتماعية أساسية في مجال الخدمات الصحية والتعليم وتقديم الإعانات في حالة البطالة والشيخوخة والتي تساهم بدورها في تعزيز المسار السياسي للتحول الديمقراطي. كما أن مقياس نجاح النظام السياسي هو قدرته على تحقيق نتائج إيجابية تتمثل في زيادة النمو الاقتصادي والإسراع بالتنمية الاجتماعية بما يرفع مستويات المعيشة بمعايير زيادة الدخول الفردية والتشغيل وتوسيع الخدمات الأساسية وتوفير الضمانات للحياة الإنسانية الكريمة.
وبهذا المعنى، فإن الأزمة في الاقتصاد السياسي للتنمية هي الحالة التي تعجز عنها الأنظمة الحاكمة عن توفير الشروط الضرورية لزيادة النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية باتجاه تقليص فجوة التخلف مع البلدان المتقدمة. أي أن الأزمة تنشأ عند فقدان الشرط السياسي المتمثل بوجود الانسجام بين سياسات السلطة السياسية والمصالح التي تمثلها من جهة، وبين أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة من جهة ثانية. وعلى الصعيد العملي، فإن الخلاص من الأزمة بموجب هذا التعريف، يعني توسيع نطاق مشاركة المواطنين عبر منظمات المجتمع المدني في عمليات اتخاذ القرارات الاقتصادية والانمائية العامة. أما الشرط الاقتصادي الموضوعي لنجاح النظام السياسي في التغلب على الأزمة فهو قدرته على إدارة وتنمية الموارد الاقتصادية والبشرية الوطنية بما يجعل الفعاليات الاقتصادية المحلية قادرة على خلق فوائض اقتصادية ومالية متزايدة من خلال المنافسة والبقاء في السوق المحلية والدولية والتي يمكن إعادة توظيفها في إستثمارات جديدة.(6)
وهذا يتطلب أساساً تعبئة المدخرات الوطنية، وتوجيهها للاستثمار الإنتاجي من أجل تحقيق نمو مستمر في الناتج القومي بمعدلات تتجاوز معدلات زيادة السكان. إن التباين بنمو المؤشرين لصالح الأول ينعكس على تحسين المستوى المعاشي للسكان. ولإنجاز هذه المهمة يستلزم توجيه الانفاق الاستثماري بطريقة تؤمن تحقيق أعلى معدلات نمو ممكنة للناتج من ناحية، والسعي الجاد لتحاشي الهدر والضياع لهذه الموارد من ناحية أخرى.(7)
بدأت الأزمة الاقتصادية غير ظاهرة خلال عقد السبعينات بسبب الانتعاش الاقتصادي ووفرة الإيرادات النفطية آنذاك، وأصبحت مكشوفة مع الانجراف في حرب الثماني سنوات (1980-1988)، وانفجرت عام 1990 مؤدية إلى تردي مستويات المعيشة ونوعية الحياة في البلاد. فالدخل الفردي انخفض بمئات المرات، وتدهورت قيمة الدينار العراقي بِأكثر من 60000%، وبلغت كلفة المعيشة الضرورية لعائلة متكونة من أربعة أفراد بحدود 50 دولار، بينما تقاضى الموظف الحكومي من خريجي الجامعة وله أكثر من عشر سنوات في الخدمة الوظيفية ما لا يزيد على ثلاثة دولارات فقط.(8)
وفي مقابل هذه المشكلات الكبيرة، ومع الخراب الواسع الذي أصاب البنية التحتية ومرافق الخدمات الاجتماعية العامة وتزايد الاختلال الاقتصادي الهيكلي والافلاس المالي وانحطاط المؤسسات والإدارات الاقتصادية والمالية الحكومية على كافة المستويات، فإن العراق لا يزال غني بكثير من الموارد والإمكانات البشرية ويمتلك من الإرادة السياسية الوطنية المستقلة التي يمكن توحيدها وتعبئتها في إعادة تعميره والمضي من جديد في إدارة البلاد وتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية شاملة.
تتجسد الأزمة الاقتصادية العراقية في عدد من الظواهر التي لازمت عملية التنمية الاجتماعية بمفومها الشامل منذ إنشاء الدولة العراقية الحديثة، وأهمها: عيوب اقترنت بالبنية المؤسسية السياسية في ظروف الاحتكار السياسي التي أثرت بشدة في الاستقرار الاجتماعي وعملية التنمية وأعاقت عملية التحول الديمقراطي بما خلقتها من الصراعات العنيفة بين مختلف القوى السياسية.. استمرار الفجوة بين أهداف وانجازات التنمية.(9).. تصفية الفترة السابقة مع كل عهد سياسي جديد، بما ولدتها هذه الظاهرة من خسائر بشرية ومادية في كل مرحلة جديدة عبّرت عن تراجع المسيرة الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية في البلاد.. بقاء قطاع النفط خارج سيطرة الدولة في سياق التقلبات في إنتاجه وأسعاره في السوق الدولية، وتأثيرات هذه الظاهرة في عدم استقرار الدخل الفردي ومستويات معيشة المواطن، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية في مدخرات الدولة واستثماراتها ومسيرة التنمية.
فرغم نجاح التأميم، زيادة أسعار البترول، التأكيد على تطوير القطاع النفطي كدعامة أساسية للتنمية السريعة بالعراق، فإن الإيرادات النفطية ومعها مشروعات التنمية ومعيشة المواطن بقيت غير مستقرة. ذلك أن مجرد تحويل الملكية النفطية للسلطات الوطنية لا يعني بذاته تحرر البلاد من حالة عدم التأكد من قوى التغير المستمرة في العرض والطلب على نطاق الاقتصاد العالمي بأسره. وهذه الظاهرة تجلَّت بالاعتماد الكبير للدولة على أداء قطاع منفرد، يقع خارج سيطرتها. من هنا كان على الدولة تقليص هذه الفجوة باتجاه إسراع خطوات تحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال تنويع مصادر الإيرادات، أي تنويع وتطوير هيكل الإنتاج الوطني في بقية القطاعات على نحو أسرع من القطاع النفطي، بما يعنيه من تسريع عملية التنمية. وهذه المهمة، حتى على افتراض نجاح عملية التنمية، تتطلب مراحل زمنية بعيدة الأمد في ظلّ الاستقرار السياسي.(10)
تتجه الأهداف الستراتيجية للقوى الخارجية الكبرى، وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الغربية الكبرى نحو السعي لإيجاد مراكز نفوذ لها في العراق وفي منطقة "الشرق الأوسط"، وتتركز على هدفين رئيسين. الأول تأمين الحصول على مصادر طاقة من النفط والغاز من العراق ومن بلدان منطقة الخليج بما فيها إيران، حيث أن الإيرادات النفطية المالية الوفيرة تجعل من البلدان المنتجة للنفط أسواقاً مضمونة لتصريف منتجاتها. والهدف الثاني سياسي جغرافي يتمثل في سعي تلك الدول استمرار فرض هيمنتها على سياسات دول المنطقة للحيلولة دون تطور أي منها بدرجة يجعلها تسيطر لوحدها على مصادر انتاج النفط الخام وتقرير السياسة الخارجية للمنطقة إزاء الدول الكبرى المستهلكة للنفط. وينطوي هذا الهدف أيضاً على ضرورة الحفاظ على أمن الدولة الإسرائيلية، التي كانت منذ تأسيسها عام 1948 تقوم هي الأخرى بدور ستراتيجي لحماية مصالح الدول الغربية الكبرى في المنطقة. وترتبط هذه الأهداف السياسية الإقليمية بالستراتيجية السياسية للدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، لفرض هيمنتها العالمية من خلال منع العراق ودول المنطقة، باستثناء حليفتها الستراتيجية إسرائيل، من إنتاج أسلحة الدمار الشامل.(11)
من هنا كان على السلطة الحاكمة في العراق الاقتناع بِأهمية وأسبقية التغيير السياسي والاقتصادي الجذري لإتاحة الفرصة للقوى الوطنية للبدء في شروط التنمية والديمقراطية وتقليص الأضرار المتأتية من نتائج الصراع الدولي والإقليمي القائم. وعند بدء المشروع الوطني للتغيير بعد تصفية الاحتلال، على السلطة العراقية المنتخبة الجديدة أن تمتلك الشروط السياسية ومتطلبات تنفيذ البرنامج الاقتصادي والإنمائي، وأن تتفهم قواعد اللعبة الخطيرة وتأثيراتها على مستقبل البلاد. بما في ذلك القدرة على استغلال التناقضات الفرعية سواء بين القوى الغربية أو بينها وبين القوى الكبرى الأخرى، وكذلك التناقضات الإقليمية. ذلك أن ميزان القوى الراهن كفيل بِأن يبقي دور العامل السياسي الخارجي مؤثراً في العراق لفترة طويلة.
2- تداعيات الاحتلال على الاقتصاد العراقي
تُعبِّر السياسات الاقتصادية للاحتلال عن مشروع اقتصادي جذري ينطلق من مصالح ستراتيجية ومن الايديولوجية اليمينية للمحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية التي تعمل باتجاه الهيمنة على السياسة الاقتصادية الدولية، رغم ما تواجهها من معارضة متزايدة من الاوساط الشعبية على النطاق العالمي.
وفي إطار هذا المشروع جرى تحديد طاقمه الإداري (المستشارين) ممن يحملون الايديولوجية الاقتصادية والاجتماعية للمحتل، وتم اختيارهم بحكم ارتباط الإدارات الأمريكية بالمؤسسات الرأسمالية الكبرى، مما سيضع مستقبل الاقتصاد العراقي، ليس عرضة للهيمنة الرأسمالية بشكل عام، حسب، بل ولصراعات النفوذ والتنافس السياسي أيضاً، أو حتى لهيمنة شركات محدددة بعينها، كما حصل في أعقاب الاحتلال البريطاني للعراق في القرن الماضي. وهؤلاء المستشارون حالياً في موقع سلطة "مطلقة" خالية من أي ضوابط مؤسسية عراقية، أو محددات اجتماعية، أو التزامات معينة تجاه الشعب العراقي، في حين يمارسون سطلتهم تجاه العراقيين بحرية وفي غياب المحاسبة.
وفي هذه البيئة الجديدة، تحول الحديث عن التنمية الاقتصادية والسياسات الاقتصادية لدى سلطة الاحتلال إلى الحديث عن إعادة البناء وإعادة الإعمار بمفهومه الهندسي، اي خالياً من مضامينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ودون تقييم فعال لمتطلبات المرحلة أو الترابط بين المشروعات وتأثيراتها فيما بينها وبالعلاقة مع الاقتصاد الكلي.
بل أن ما تطرحه السياسة الاقتصادية الجديدة لمستقبل العراق هو ربط سياسة إعادة إعمار البلاد بسياسات الانفتاح، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي، وإلغاء أو تقزيم دور القطاع العام والتخلي عن سياسة دعم السلع الاستهلاكية الأساسية، وإطلاق الاسعار وأسعار الفائدة، وتخفيض الضرائب على الشركات والضرائب الجمركية على الواردات، وإلغاء التميز الذي كان قائماً لصالح الشركات الوطنية في عقود ومناقصات الدولة، وفتح باب الملكية الأجنبية على مصراعيه في غياب سياسة انتقائية لاختيار ما هو مفيد وتوظيفه في أهداف مرغوبة، وفتح القطاع المصرفي للرأسمال الأجنبي دون إمكانية تقييد رؤوس الأموال عند الحاجة، وإدخال القطاع الخاص والمعايير التجارية ورأس المال الأجنبي إلى قطاعات الخدمات والمنافع العامة والقطاع الزراعي دون ضمانات أو قيود أو رقابة كافية، وخصخصة النفط والسيطرة على الصناعة، وإهمال حقوق العمال ودور الدولة في التقاعد والضمان الاجتماعي، وأيضاً التخلي عن دورها في حماية البيئة وإدارة الموارد الطبيعية، بما يعنيه من السيطرة الشاملة على الاقتصاد العراقي. يضاف إلى ذلك توجيه الإيرادات النفطية- قدر الإمكان- نحو المجالات الاستهلاكية والتبذيرية على حساب الاستثمارات. وبذلك لن يحقق مشروع الاحتلال التنمية حتى وفق المفهوم الليبرالي، ناهيك عن بناء اقتصاد عراقي قادر على المنافسة في الأسواق العالمية.(12)
وفي ظل هذا الوضع، أخذ القطاع الصناعي الخاص، الذي يستخدم نحو عشر القوة العاملة المحلية، يترنح أمام السلع المستوردة. كما أن الضحية الكبرى من هذا الانفلات الجمركي هي مصانع القطاع العام التي كانت تستخدم أكثر من مائة ألف عامل. كما أعلنت سلطة الاحتلال عن نيتها توزيع جزء من إيرادات النفط العراقي على المواطنين العراقيين في صورة نقدية وفق الطريقة المتبعة في ولاية الاسكا الأمريكية.(13)
تتجاوز مثل هذه الدعوات البون الشاسع بين اقتصاديات تلك الدول التي تقوم على قواعد إنتاجية متقدمة تحتاج إلى خلق مزيد من الطلب لاستمرار نموها وبين حالة العراق المعاكسة تماماً الذي يحتاج إلى بناء قاعدته الاقتصادية أولاً ليكون بإمكان الاستهلاك من التوسع. أن منح الأولوية للاستهلاك في غياب قاعدة إنتاجية، ووفق سياسة تأخذ في اعتبارها تبعية الإنتاج للاستهلاك، يعني بناء اقتصاد استهلاكي يعتمد على الخارج لتوفير متطلباته المحلية على حساب الاستثمار والتنمية. وتكون النتيجة الاستمرار في الاعتماد وحيد الجانب على استهلاك النفط في غياب تعويضه.(14)
وبالعلاقة مع مدى تكالب الولايات المتحدة على النفط العراقي، كشف عضو الكونغرس الديمقراطي لولاية كاليفورنيا عن فضيحة منح مقاولة بمبلغ سبعة مليارات دولار لإعادة بناء تجهيزات للصناعة النفطية العراقية قبل أن تطأ القوات الأمريكية أرض العراق. مُنحت المقاولة لشركة هاليبرتون الأمريكية التي دفعت 36 مليون دولار مكافأة نهاية الخدمة إلى رئيسها ديك تشيني (نائب الرئيس الأمريكي)، وهي متورطة في أعمال نصب حسابية وتلاعب بالأسهم. والمقاولة مُنحت للشركة في شكل عطاء مغلق، ودون أن تخضع أعمالها لمراقبة الجهات العراقية!(15)
في واقعة مماثلة أقل حجماَ مالياَ لكنها تُعبر بدرجة أكبر عن السرقة والنهب بتضخيم تكاليف إعادة البناء، تضمنت: شركة هندسية عراقية تلقت طلباً من سلطة الاحتلال في نهاية شهر مايو/أيار 2003 تقديم عرض حول نفقات إعادة تأهيل جسر ديالى الذي أُصيب بأضرار من جراء الحرب. والشركة الهندسية معروفة بِأعمال تصاميم وبناء الجسور في جميع أنحاء العراق. شكلت الشركة فريقاَ لفحص الجسر وتقدير تكاليف إصلاحه. وبعد الفحص والدراسة توصل الفريق إلى تقدير تكلفة أولية لإصلاحه (لضآلة الأضرار التي أصابته) بنحو 300 ألف دولار. أعلنت سلطة الاحتلال- بعد أسبوع واحد من الانتظار- عن منح المقاولة لشركة أمريكية لإعادة بناء الجسر بمبلغ خمسين مليون دولار!! حدث هذا وفي العراق 130 ألف مهندس تخرج الآلاف منهم وتدربوا خارج العراق. كما عمل الكثيرون منهم مع شركات أجنبية في بناء مختلف الجسور وإنشاء شبكات المرور السريعة في العراق الأكثر تقدما في هذا المجال مقارنة بدول المنطقة، وقاموا لوحدهم بإعادة بناء ما دمرته حرب الخليج!(16)
وفي مجال استشراء الفساد الإداري، كشف خبير النفط الدولي الدكتور وليد خدوري عن عروض قدمها سياسيون عراقيون لشركات نفطية تتضمن حصولهم على عمولات كبيرة مقابل تسهيل منح تلك الشركات حقوقاً استثمارية في قطاع النفط العراقي. وأن هؤلاء السياسيين ضالعون في الحصول على العمولات بعد أن قاموا بتأسيس شركات نفط في الخارج لتحقيق هذه الغاية.(17)
كما قُدّرت خسارة العراق جراء الاحتلال الأمريكي بحدود أربعمائة وعشرون بليون دولار، عدا الخسائر البشرية. وتمثلت تلك الخسائر في تدمير المنشآت والمواقع العسكرية والمطارات والأسلحة ومصانع التصنيع العسكري بأجهزتها ومخزونها ومئات المصانع والمنشآت المدنية الأخرى وتدمير البنى التحتية، في حين تم تفكيك وتهريب و بيع المرافق الأخرى إلى الخارج بأثمان بخسة صادرها أعوان الاحتلال. وقد استثمرت الإدارة الأمريكية انهيار مؤسسات الدولة العراقية فاستولت على الأموال العراقية المجمدة التي تجاوز رصيدها 17 بليون دولار مضافاً إليها الرصيد المتراكم للعراق من برنامج النفط مقابل الغذاء والبالغ 11 بليون دولار. واستولت قوات الاحتلال على الاحتياطيات النقدية للدولة العراقية المقدرة بمايزيد عن 7 بليون دولار.(18)
انطلقت دعوات بتحويل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص المحلي و/ أو الأجنبي (الخصخصة) تحت مبررات مختلفة تتراوح بين مخاطر تركز الموارد بيد الدولة على مسيرة الديمقراطية وتعزيز النزعة الدكتاتورية، وبين ضرورة بناء مناخ اقتصادي جذاب للاستثمارات الأجنبية. هذه الادعاءات تثير عدداً من الأسئلة: هل انبثقت أنظمة ديمقراطية في دول العالم الثالث التي لا تمتلك نفطاً أو موارد غنية؟ وهل تقترن الديمقراطية بمجرد الموارد أم بإعادة تكييف البيئة الاجتماعية؟ وهل أن موارد العراق وصناعته النفطية غير جذابة للاستثمارات الأجنبية؟ ألم تتزاحم الشركات الأجنبية على توقيع العقود العديدة مع النظام العراقي في ظل الحصار؟ وهل أن تحويل ملكية الدولة للقطاع الخاص المحلي و/ أو الأجنبي سيساهم في استقرار البلاد ومسيرة التنمية؟ وهل أن هذه الدعوات تأخذ في اعتبارها المبادئ الاقتصادية والحس الوطني العراقي؟
من وجهة النظر الاقتصادية الليبرالية، فإن الهدف الرئيس من الخصخصة privatization هو خلق شروط موائمة لسوق اقتصادي حر تعكس الأسعار بصورة حقيقية مدى ندرة الموارد المتاحة، لتقود المستثمرين والمنتجين والمستهلكين نحو اتخاذ قرارات رشيدة rational تتسم بالكفاءة efficiency. وإذا كانت فعاليات المشروعات العامة لا تتسم بالكفاءة في تشغيل الموارد عندئذ قد يكون مبرراً خصخصتها. وعلى أي حال، فإن تحديد الكفاءة الاقتصادية والحاجة إلى الخصخصة في ظل الاقتصاد الحر يمكن الحكم عليها عند توفر "شروط المنافسة الكاملة" وفي اقتصاد منتج ومتطور (وهو غير قائم في العراق حالياً). وما لم تعكس الأسعار السائدة مدى ندرة الموارد المتاحة (وهي ليست كذلك في حالة العراق) فمن المستحيل أو الصعوبة تحديد قيمة موجودات المشروعات العامة بغرض بيعها. من هنا لا يجوز اتخاذ قرار بالخصخصة على نحو منفصل عن الأسس الاقتصادية والإصلاح الاقتصادي الشامل أو لمجرد دوافع سياسية أو آلية لخلق أرصدة لتمويل المالية العامة (كما حدث في العراق خلال ثمانينات القرن الماضي)، أو إرضاءً لسياسات قوى دولية. ذلك أن خصخصة المشروعات العامة هي جزء من عملية تحرير السعر لتحسين كفاءة تخصيص الموارد. يضاف إلى ذلك أن خصخصة المشروع العام في اقتصاد تنتفي فيه شروط المنافسة الكاملة تتطلب استنفاد الصيغ الإصلاحية، تتقدمها إصلاح الإدارة الاقتصادية لهذه المشروعات. كما أن خصخصة أي مشروع عام، من الناحية العملية، لا يمكن المبادرة بها قبل تنفيذ بقية البرامج الإصلاحية لبناء السوق الحرة. الأكثر من ذلك أن تقييم مشروعات القطاع العام شرط أولي للخصخصة.(19) علاوة على أن سيادة السوق غير الحرة لأِسباب تتعلق بعدم نضوج الاقتصاد وضعف قدرته من جهة، ومسؤولية الدولة التدخل لغاية بلوغه مرحلة تحقيق متطلبات الأمن الاقتصادي الوطني من جهة أخرى، ترتبط بعناصر عميقة تجذرت في المجتمع العراقي، وتتطلب مراعاتها عند رسم السياسات الاقتصادية. وأخيراً، إذا بقيت الدولة تمارس دوراً فعالاً في التوجيه العام للاقتصاد الوطني في أكثر الأنظمة ليبرالية لتصل في تفصيلاتها إلى القيود والسياسات الجمركية، فهل من المنطق أن يطلب من العراق تخلي الدولة عن ملكية الثروة الوطنية وحصر مهامها في حراسة مصالح الشركات الأجنبية؟
هناك علاقة بين الخصخصة وبين البطالة، متمثلة في الاستغناء عن جزء من العاملين. ويرتبط بذلك تباين أهداف القطاع العام التي تقوم على دوافع سياسية- اقتصادية- اجتماعية مقارنة بهدف القطاع الخاص- تعظيم الربح. ويمكن القول بشكل عام أن الخصخصة تقود في الأمد القصير إلى زيادة البطالة. كما تزداد فعالية الخصخصة تجاه البطالة في المشروعات كثيفة العملlabour intensive بينما تكون غير مؤثرة في المشروعات كثيفة رأس المال capital intensive.
وبالعلاقة مع المعايير المقترحة للبدء بالخصخصة من وجهة النظر الليبرالية وخلق الشروط الملائمة لتنفيذها تدريجياً لصالح تحسين الكفاءة الاقتصادية، تتطلب الخصخصة، وبدرجة أكبر في حالة العراق، ربطها بمعيار امتصاص البطالة، أي زيادة فرص العمل. وتبين الشواهد الكثيرة في أنحاء العالم والمستندة إلى دراسات وتقارير عديدة بأن الخصخصة تؤدي مباشرة إلى الاستغناء عن جزء من العاملين. وفي السطور التالية بعض الشواهد التي تشير إلى أن الظروف التي أعقبت الخصخصة قادت إلى الاستغناء عن النسب التالية من العاملين حسب الدول الموضحة: المشروعات الصناعية في الأرجنتين 81% و 75% في كافة المشروعات خلال الفترة 1987- 1990 و 1997.. بنغلاديش 22000 عامل خلال الفترة 1990-1993.. البرازيل 90%- الخطوط الحديدية عام 1996.. غينيا 48%- إدارة قطاع الماء.. بوليفيا أكثر من 60% بعد خصخصة شركات الطاقة الكهربائية و 43% فقدوا أعمالهم بين 1995- 2000 بعد خصخصة قطاع الاتصالات و 20% في قطاع الخدمات المحلية.(20)
كما أن النقطة المركزية بشأن الحملة الموجهة نحو الخصخصة مرتبطة باستنباطاتها القائلة أن المشروع المملوك من قبل القطاع الخاص، بالتعريف، هو أكثر كفاءة من نفس المشروع المملوك من قبل القطاع العام. ويقصد بـ: أكثر كفاءة، تحقيق إنتاج أكبر من كمية معطاة من المدخلات أو تحقيق نفس الإنتاج باستخدام كمية أقل من نفس تلك المدخلات لتحقيق ذات الغرض. وعلى أي حال تفترض هذه الآراء أن الكفاءة هي متغير تابع للملكية سواء كان المالك هو الدولة أو القطاع الخاص، في حين أن الكفاءة الاقتصادية مستقلة عن ملكية عوامل الإنتاج، وأن حدوث فضائح وأعمال فساد تؤكد بشكل كاف أن عدم كفاءة تخصيص الموارد يمكن أن تكون سائدة في القطاع الخاص.(21)
وبشكل خاص تثير دعوات الخصخصة السريعة مخاوف من أن مقاصدها الحقيقة قد تخفي هدفها في تسهيل دخول الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد العراقي لممارسة الهيمنة والاستغلال. ويرتبط بذلك أن نمط الاستثمار الأجنبي الذي وجد مجالاً للتشجيع من قبل الاحتلال هو بالضبط ذاك النمط الذي لا يحتاجه العراق في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخه الاقتصادي. فالمطلوب هو الاستثمار الحقيقي الذي يضيف ويوسع من طاقته الإنتاجية للسلع والخدمات، وليس الاستثمار الوهمي الذي يقوم على شراء مشروع جاهز وبما يؤدي فقط إلى تبديل المالك المحلي بمالك أجنبي دون أن يغير مستوى الناتج المحلي الإجمالي.
كذلك يمكن مناقشة أن الخصخصة موضوع البحث قد تكون لها أثر تراجعي آخر، هو أن رأس المال الأجنبي في موقع يمكنه تجاوز رأس المال المحلي في ملكية المشروعات الحكومية. وهذا بدوره يحفز على هروب رأس المال العراقي إلى الخارج وخلق عقبة في وجه الاقتصاد العراقي.
بالإضافة إلى هذه المشكلات الاقتصادية هناك مشكلة مدى قانونية هذا النظام نفسه. ذلك أن قرار الخصخصة الصادر عن المحتل يواجهه القانون الدولي. مثل هذا الاستنتاج تم توضيحه من قبل المدعي العام البريطاني عندما أعلم رئيس وزراء بريطانيا أن القانون الدولي يفرض على القوة المحتلة احترام القوانين محل التطبيق في البلد المحتل، وأن الإصلاحات الواسعة للهياكل الحكومية والإدارية لن تكون قانونية، وأن فرض إصلاحات هيكلية رئيسة لا يسمح بها القانون الدولي. ومن الواضح جداً أن قرار خصخصة المشروعات الحكومية والسماح للاستثمار الأجنبي الدخول للعراق بدون قيود وشروط أو تحفظات، وتخفيض حاد لمعدلات الضرائب والرسوم الجمركية لا تعني أي شيء، طالما أن هذه الإصلاحات الاقتصادية هي نمط من المحرمات في القانون الدولي. والأكثر من ذلك، فإن اتخاذ خطوة ضخمة كما في الخصخصة كان يجب أن ينتظر لغاية انبثاق حكومة دستورية منتخبة، وإنهاء الاحتلال، وإعطاء هذا الموضوع وقتاً كافياً لتقييم الكلفة والمنفعة لمثل هذا المعيار بالعلاقة مع عدد من البدائل المتاحة.
وبالعلاقة مع المضامين الاجتماعية للخصخصة، فالمسألة الواضحة هي أنها تقدم عنصر عدم التوكد لكل هؤلا المرتبطين بمشروعات القطاع العام من مدراء وعاملين ومجهزين ومستهلكين، الخ.. وعدم التوكد هذا هو آخر شيء يحتاجه الاقتصاد في ظروف أصبح فيها الاستقرار والأمن حالة نادرة. بكلمات أخرى أن البلد سيكون في وضع أسوأ مع انخفاض الإنتاج والاستخدام والذي يقود بدوره إلى مزيد من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية.
من هنا ضرورة عدم وجوب تنفيذ خصخصة مشروعات القطاع العام في هذه المرحلة الزمنية. وهذا لا يعني إلغاء فكرة الخصخصة في المستقبل. أن صانعي السياسة يمكن أن يأخذوا في الاعتبار مثل هذا الخيار عندما يكون الحكم بِأنها لا تؤدي إلا إلى أقل درجة من الارباك الاقتصادي. في الحقيقة فأن البنك الدولي، كما أشارت اليه صحيفة "وول ستريت"، حذرت من فعل سريع تجاه ألـ 192 مشروع حكومي وقالت بوجوب الحفاظ عليها ضمن القطاع العام "للحفاظ على الاستخدام والاستقرار الاجتماعي" قبل تحضيرها لإمكانية الخصخصة وخلال أربعة أو خمسة أعوام تالية. وباختصار، أن الاقتصاد العراقي ليس في موقع مناسب وليس جاهزاً ليصبح اقتصاداً مفتوحاً للاستثمار الأجنبي والاستيرادات في هذا الوقت.(22)
وبالمقابل، اتصف قرار وزير مالية العراق المحتل في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للاعمار (دبي- أيلول/سبتمبر 2003) بالسرعة والشمولية، متضمناً: حق الأجانب الامتلاك إلى حدود 100% في كافة القطاعات العراقية دون حدود أو استثناء أو ضوابط، ووفق نفس الشروط المطبقة على المستثمر العراقي (عدا الثروة النفطية والطبيعية الخاضعة لسلطة المحتل). ويكون بذلك قد خرج على المبادئ الاقتصادية للإصلاح الاقتصادي، وبشكل أذهل حتى ممثلي تلك المؤسسات الدولية التي لم تُعلن وصفاتها وشروطها لـ "مساعدة" الاقتصاد العراقي بعد!(23)
المفارقة في هذا القرار أنه صدر تحت دعاوى الإصلاح الاقتصادي، في حين أن الإصلاح الاقتصادي غرضه أصلاً تحسين أوضاع المنشآت والشركات والعملية الإنتاجية الوطنية في سياق برنامج اقتصادي شامل متكامل، وفي سياق عملية تدريجية تتحقق وفق متطلبات الحاجات المحلية، وتخضع للدراسة والتخطيط، وتوازن بين موارد التمويل وبين القدرة الاستيعابية الاستثمارية للاقتصاد الوطني، وتنطلق من القرار العراقي الشرعي. بينما المطروح هو إعادة تكييف هيكل الاقتصاد العراقي بما يتوافق ومتطلبات المصلحة الاقتصادية الخارجية. يُضاف إلى ذلك أن القرار المذكور تعدى في تطرفه، كشف الاقتصاد العراقي على الخارج، حتى مقارنة بِأكثر الدول الرأسمالية تطوراً!
3- الثروة النفطية*
يمتلك العراق أكبر احتياطي من النفط الخام بعد السعودية وبواقع 11% من الاحتياطي النفطي المؤكد وجوده في العالم. أن التطورات التي حصلت في مجال الاستكشافات النفطية داخل البلاد قد تجعل من العراق مالكاً لأِكبر احتياطي نفطي في العالم. ففي خلال الفترة 1990- 1993 أعلنت الجهات الرسمية العراقية أكثر من مرة زيادة الاحتياطي المستكشف من 100 ليصل إلى 112 بليون برميل نتيجة اكتشاف حقول نفطية جديدة وبما يعادل ثلاثة أضعاف ما أكتشفته شركات النفط الأجنبية في العراق على مدى خمسين عاماً. أي أن فترة نفاد النفط العراقي وفق معدلات إنتاجه قبل المقاطعة الدولية ( 2.5 م ب/ي) سوف تمتد إلى حدود 124 سنة. بينما يقدر بعض خبراء النفط أن العراق يمتلك مكامن نفطية بحدود 300- 450 بليون برميل. بمعنى أن فترة نفاد النفط العراقي على افتراض إنتاج ستة ملايين برميل يومياً- وعلى أساس هذه التخمينات- تتراوح بين 139- 208 سنوات.(24)
وهذه البيانات تؤيد مقولة "أن إنتاج آخر برميل نفط في العالم من المتوقع أن يكون مصدره العراق". كما أنها تعني أن أي تحسن في عمليات تكنولوجية الإنتاج سيقود إلى زيادة معدلات الاسترداد الحالي. أن عامل الجذب الآخر لصالح النفط العراقي هو مواصفاته المتعددة من الثقيل إلى الخفيف وبدرجات متنوعة. وفوق ذلك مزية انخفاض تكلفة الإنتاج. أما المعنى الآخر لهذه التوقعات فهو أن الأولوية المحورية لنهضة العراق اقتصادياً واجتماعياً في المستقبل لا تقف عند مشكلات تمويلية، بل وبالدرجة الأولى والأساسية سترتبط بمسألة الاستقرار الاجتماعي وطبيعة النظام السياسي.(25) عليه، وبغض النظر عما قد يحدث من تطورات سياسية في العراق خلال الفترة المقبلة، سيبقى النفط المصدر الأعظم لتوفير العملات الأجنبية ومحور تشغيل ماكنته الاقتصادية. وهذا يفرض بالحاح صيانة وتوسيع الصناعة النفطية العراقية.
استخدمت الحضارات القديمة لأِرض ما بين النهرين الإسفلت والقار كمواد تكسية ومواد عازلة في البناء منذ الفترة السومرية الحديثة (نهاية الألف الثالث ق.م)، واستمرت هذه الاستخدامات في الحضارات العراقية القديمة. ويعتبر ذلك أول عمليات استخراج واستخدام الهايدروكربونات في تاريخ العالم. عليه يمكن وصف بلاد "مهد الحضارات" أيضاً "بلاد مهد الحضارات والصناعة النفطية".
بدأت الاستكشافات النفطية في العراق منذ أواخر العهد العثماني في القرن التاسع عشر بإنشاء شركة النفط التركية (بريطانيا، ألمانيا، هولندا) التي توقف نشاطها خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبح العراق تحت الانتداب البريطاني، ثم تم منح امتياز (1925) يغطي 192 ألف ميل متر مربع إلى شركة النفط التركية التي أصبحت تعرف بـ "شركة نفط العراق" بمساهمات بريطانية وفرنسية وهولندية وأمريكية وكولبنكيان (5%). وبعد اكتشاف حقل كركوك العملاق (1927) توسعت مساحة امتياز شركة نفط العراق تدريجياً لتغطي كامل مساحة البلاد عدا 800 ميل2 مجاورة للحدود مع إيران والتي كانت منطقة امتياز لشركة انكلو إيرانيان. وفي عام 1947 تم اكتشاف حقل نفط الزبير ثم حقل الرميلة العملاق جنوب العراق عام 1954. هذه السنة التي تمثل من الناحية الفعلية نهاية العمليات الاستكشافية الجدية لشركة نفط العراق وفروعها.
مع صدور القانون رقم 80/1961، بدأ الطريق إلى تأميم النفط العراقي بعد ثورة 1958، بتحديد مساحة امتياز شركة نفط العراق بالمناطق المنتجة فقط، وبما يعادل نصف بالمائة (0.5%) من مساحة العراق. وفي شباط/ فبراير 1964 تأسست شركة النفط الوطنية العراقية Iraqi National Oil Company-INOC لتنفيذ الأهداف العامة للسياسة النفطية الوطنية. أخفقت الشركة في سنوات عمرها الأولى نتيجة افتقارها للصلاحيات القانونية المناسبة، ومحدودية مواردها المالية. شرَّعت الحكومة عام 1967 قانونين منحت بموجبهما للشركة حقوقاً شاملة لاستغلال وتطوير الاحتياطات النفطية، بما في ذلك إنتاج وتسويق النفط المستخرج من الحقول المشمولة بالقانون رقم 80 لسنة 1960.
بالإضافة لإنتاج النفط وتسويقه وطنياً، حققت الشركة كذلك إنجازات واسعة لتطوير البنية الضرورية لصناعة نفطية وطنية متطورة شملت تدريب الكوادر المتخصصة، إقامة أنابيب نقل النفط، توسيع شبكة المصافي، بناء منشآت التصدير ومحطات التحميل، امتلاك ناقلات النفط، إضافة إلى شبكة تسويق المنتجات داخلياً وخارجياً. وأصبحت شركة النفط الوطنية الجهاز المسؤول عن تنفيذ ذلك الجزء من السياسة النفطية الذي استهدف خلق وتطوير صناعة نفطية وطنية متكاملة راسخة، وبذلك شكّلت الدعامة الأساسية للتنمية الاقتصادية في العراق.
نجحت الشركة الوطنية توقيع أول عقد خدمة مع شركة ايراب الفرنسية. عبّر هذا الإنجاز عن نقطة انطلاقها باتجاه اختراق جبهة الشركات العالمية. وبعدها جاء استِغلال آبار في جنوب الرميلة بمساعدة سوفيتية وتنفيذ شركة هنغارية لحفر أول بئر للنفط الوطنية. وهكذا بدأت عمليات تصدير النفط على أساس الاستثمار الوطني المباشر وتوجت هذه الجهود بتحميل أول ناقلة في 7/4/1972.
وأخيرا عبّر القانون 69- تموز/ يوليو 1972 عن نهاية خط طويل لمسيرة إخضاع الثروة الوطنية للسيادة الوطنية بتأميم شركة نفط العراق ثم شركة نفط البصرة (1973). وهكذا تمكن العراق لغاية 1975 من إنهاء الرقابة الأجنبية المباشرة على موارده البترولية التي دامت ما يقارب (50) عاماً.
إن أحد أسباب نجاح تأميم النفط كان الكادر العراقي الذي زج في شركة نفط العراق منذ عام 1958 بفعل القانون. كما أن نجاح العراقيين في مجال التسويق أدى إلى إنهاء "أسطورة صعوبة التسويق الوطني للنفط". كذلك ساهم في نجاح هذه العملية، تأسيس التسويق العراقي على أساس موضوعي ومهني بعيداً عن البيروقراطية الزائدة أو الإقحام المفرط للسياسة في العمل. كما أن توقيع عقود الخدمة، خاصة مع "ايراب" و "بتروباس"، شكل فعلاً اختراقاً لجبهة الشركات، إلا أن إنهاء هذه العقود رغم أنه تم بالمفاوضة والتعويض المجزي، لم يكن موفقاً، وربما كانت إحدى نتائج هذه الخطوة، بقاء حقل "مجنون" العملاق المكتشف من قبل (بتروباس) غير مطور لغاية الوقت الحاضر.(26)
جسَّدت الفترة 1980- 2003 مرحلة مظلمة في تاريخ الصناعة النفطية العراقية، وما كان استمرارها إلا نتيجة الزخم الهائل الذي ساد عملياتها في سبعينات القرن الماضي. استهدفت هذه الفترة الإنتاج بأقصى الطاقات الممكن تصديرها، وبأي ثمن. ومع ذلك تقتضي الضرورة الانتباه إلى المفارقة التي ولدها الاحتلال، ففي عام 2002 كان العراق يصدر ما لا يقل عن 2.5 م ب/ي ويعالج حوالي خمسة ملايين طن مكافئ/ السنة من الغاز الجاف، ومكتفياً ذاتياً بجميع المشتقات النفطية مع وجود فائض كبير للتصدير أو التهريب. أما بعد الاحتلال ورغم الملايين التي قيلت أنها تصرف لاستعادة عافية صناعة النفط العراقية، بقيت الصادرات النفطية دون مستواها لما قبل الاحتلال، وتحول العراق إلى حالة عجز يستورد نصف احتياجاته من المنتجات النفطية جميعاً ما عدا زيت الوقود، مع تدني فاضح لمستوى الخدمات لمواطنيه وارتفاع كبير في أسعار السوق السوداء. هذا رغم أن طاقة إنتاج المحروقات النفطية للاستهلاك المحلي تزيد على 700 ألف برميل يومياً وتمثل ضعف معدلات الاستهلاك المحلي.(27)
إن تسييس "برنامج النفط مقابل الغذاء" بتأثير الولايات المتحدة وبريطانيا، أوقفت إرسال المعدات والأدوات الاحتياطية، وأضعفت البرامج النفطية على نحو فعال وجعلت قطاع النفط غير قادر على زيادة طاقته الإنتاجية. حيث لم تتجاوز العقود العراقية التي سمح لها بالتنفيذ عن 30% من مجمل العقود التي أبرمتها الحكومة العراقية في ظل البرنامج المذكور.(28)
علاوة على المقاطعة الدولية وحرمان القطاع النفطي العراقي من مواكبة التطورات التكنولوجية العالمية، ساهمت الحرب وأعمال التخريب التي أعقبتها في إحداث خسائر إضافية. فعلاوة على أضرار القصف المباشر أثناء الحرب للأنبوب الستراتيجي لمحطة ضخ K3، عانت المختبرات المركزية ببغداد من النهب وفقدان الكثير من البيانات والمعلومات الاستكشافية التي كانت تضم السجلات الجيولوجية وشكلت حصيلة ثمانين سنة من الجهد المتراكم وكلفت بلايين الدولارات. كما أن الإدارة الرئيسة لشركة الحفر قد سرقت. وهوجمت كافة الأجهزة والمعدات في الجنوب، ونُهبت الإدارة الرئيسة لشركة نفط البصرة مع سجلاتها.(29) شملت هذه الممارسات أيضاً استمرار سرقة النفط من أنابيب الجنوب.
من جهة أخرى، واستمراراً في تصفياتها، ركزت سياسة المحتل على تطهير الإدارة وتغييرات في الكوادر العاملة، حيث تم فصل 1500- 2000 من العاملين في مختلف التخصصات ضمن النهج الذي سار عليه مجلس الحكم الانتقالي "اجتثاث البعث". ومن الصعب فهم كيف أن مثل هذه السياسة يمكن أن تساهم في أية نتائج إيجابية، خاصة في هذه الصناعة حيث الخبرة والكفاءة مطلوبة بدرجة عالية.(30)
كما أن طريقة إدارة سلطة الاحتلال لنفط العراق تقتصر على هدف واضح هو تصدير أكبر كمية ممكنة من النفط، رغم احتمالات خطورتها على المكامن النفطية قبل تحديثها، وجمع إيراداتها تحت سيطرتها، واستيراد كميات كبيرة جداً من المنتجات النفطية إلى العراق لزيادة استنزاف موارده. وفي الوقت الذي توجد فيه مؤسسة عراقية متخصصة ومؤهلة للقيام باستيراد المنتجات النفطية، يلاحظ أن جزءاً كبيراً من هذه العمليات تقوم بها شركات أمريكية أصبحت فضائحها تزكم الأنوف.(31)
ما هو الطريق لتأهيل وتحديث الصناعة النفطية، وتمويل إعادة بناء العراق؟
إن الخطوة الأولى هي في عودة هذه الصناعة إلى مستواها السابق (3.5- 3.7 م ب/ي قبل آب/ أغسطس 1990)، وتأهيل وتحديث القطاع. لكن بلوغ هذا الهدف خلال السنتين أو الثلاث سنوات التالية على الاحتلال، يواجه جملة مشكلات، منها:(32)
.. إن البيانات التاريخية لمختلف البلدان المنتجة للنفط تشير إلى تراجع إنتاج النفط عقب كل هزة اجتماعية وتغيير القيادة السياسية، وأن عودة الإنتاج إلى مستواه السابق تطلبت بحدود ثلاث سنوات. وتزداد المشكلة تعقيدا في حالة العراق نتيجة آثار المقاطعة والحرب الأخيرة وغياب الأمن.
.. كان إنتاج النفط العراقي يتقرر من قبل رأس النظام دون اعتبار للكفاءة والاعتبارات الفنية. كما أدى الحصار إلى تفاقم تلك المشكلات بإجبار العراقيين على تفكيك cannibalization معدات لصيانة إنتاج حقول أخرى.
.. ضعف البنية التحتية infrastructure القائمة والتي لا تدعم استمرار العملية الإنتاجية. فحتى قبل الغزو الأمريكي، عانت صناعة النفط العراقية لسنوات من فقر الأجهزة والمعدات. كما أن أحداث التدمير والنهب امتدت للمنشآت النفطية.
.. إن أي زيادة في إنتاج النفط العراقي تتطلب تطوير حقوله النفطية، وهذه المهمة تدعو بدورها إلى: حكومة دستورية، استقرار سياسي، استثمارات ضخمة، بما في ذلك فترة المفاوضات وتوقيع العقود وبدء عمليات التنفيذ ومراحل الإنجاز، وهي متطلبات تأخذ فترة زمنية لبلوغها.
وبالمقابل، فإن تحديث هذه الصناعة وفق مستوياتها التكنولوجية العالمية سوف يؤدي إلى زيادة مضاعفة في احتياطاته وتطوير إنتاجه. يكفي ملاحظة أن في العراق أكثر من 80 حقلاً، في حين أن الإنتاج قاصر على 15 حقل فقط.(33) من هنا تتفق التوقعات على إمكانية زيادة صادرات النفط العراقية إلى 6 م ب/ ي. بل وزيادة الطاقة الإنتاجية إلى 7- 10 م ب/ي. لكن السؤال كيف وبأية سرعة؟ لقد كان هدف زيادة الإنتاج إلى 6 م ب/ يوم ضمن خطط وزارة النفط العراقية: 1976- 1980، 1989- 1990، 2003- 2012 لكنها لم تنفذ بسبب الحروب والحصار والاحتلال. ورغم أن تحقيق هذا الهدف ما زال ممكناً بالعلاقة مع احتياطيه الضخم، وحاجة العراق لاِستعادة مكانته في سوق النفط الدولي، إلا أنه يتطلب تأمين الاستثمارات.(34) كما أن عملية التنفيذ، تواجه جملة مشكلات، خاصة ما تعلق بصعوبة قبول الشركات الدولية توقيع عقود طويلة الأمد قبل قيام حكومة شرعية، والإقرار بخلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وضمان الأمن.(35)
يضاف إلى ذلك ضرورة تقرير مصير العقود التي أبرمتها الحكومة العراقية في ظل الحصار مع شركات أجنبية عديدة. بالإضافة إلى الحاجة للوقت بغية الوصول إلى اتفاقية مع الكويت بالعلاقة مع مشكلات الحدود- النفط التي ساهمت في الغزو (1990). مثلاً أن الحقل النفطي "رتقة" Ratqa في الكويت هو قطعة من حقل الرميلة في العراق.(36)
حسب ورقة عراقية قُدمت إلى مؤتمر الطاقة العربي في القاهرة عام 2002، قُدرت حاجة صناعة النفط والغاز وقطاع الطاقة في العراق بـ 40 بليون دولار، على الأقل، لغاية 2010. لكن تلك التقديرات تمت في ظروف تقشف وعلى أساس الخبرة العراقية. من هنا فإن ظاهرة تضخيم التكاليف في ظل الاحتلال، والرغبة في تعجيل توسيع هذه الصناعة ستفرض تكاليف إضافية.(37)
أن دراسة بسيطة لمواصفات قطاع النفط العراقي، ربما توضح بشكل مقنع إمكانية إعادة بناء هذا القطاع وفق أحدث أشكال التكنولوجيا وبفترة زمنية قياسية وبمستوى من الإنتاج 6- 10 مليون برميل يومياً دون أن يتطلب من العراق توفير موارد مالية ذاتية لإعمار قطاع النفط أو توفير جزء يسير فقط من التكاليف المطلوبة ذاتياً. وتفسير ذلك يكمن في المبررات التالية:
+ أن الكميات الضخمة من الاحتياطي النفطي المتاحة في العراق تعني أن أي تحسن في عمليات تكنولوجية الإنتاج سيقود إلى زيادة معدلات الاسترداد الحالي.
+ قرب النفط من سطح الأرض مقارنة بالدول النفطية عموماً.
+ ويرتبط بذلك أن تلكلفة إنتاج البرميل من النفط العراقي هي واحدة من أكثر التكاليف انخفاضاً في العالم.
+ تتواجد في العراق أكثر من 80 حقلاً مكتشفاً، في حين أن الإنتاج قاصر على 15 حقل فقط، كما سبقت الإشارة. والمعنى الاقتصادي لهذا الوضع من وجهة نظر التكاليف، غياب مخاطرة مرحلة الاستكشافات وانخفاض تكاليف تطوير الحقل النفطي، مقابل تصاعد عوائده في مرحلة الإنتاج.(38)
+ يضاف إلى ذلك أن ارتفاع سعر برميل النفط (اكتوبر/ت1/2004- حزيران/ يونيو 2005) بين 50- 60 دولاراً (MEES,Oct., 2004.., June, 2005) في أسواق النفط الدولية، يعني أن الشركات التي تحصل على عقود تطوير الحقول النفطية العراقية ستتمتع بتوقعات العوائد العالية التي ستنجم من انخفاض تلكفة الإنتاج من جهة وتصاعد أسعار النفط من جهة أخرى.
وهذه المواصفات توفر فرص تأمين الاستثمارات المطلوبة بِإتباع أساليب معمول بها في دول نفطية أخرى في المنطقة وفي العالم، مثال ذلك، عقود الخدمات وعقود المشاركة مع شركات وبيوت تمويل أجنبية، على أن تطرح هذه العقود من قبل المفاوض العراقي للمنافسة بين الشركات النفطية الدولية، وتوزيعها بشكل مناسب بين أكبر عدد منها تحاشياً للاحتكار من جهة وتوفير سبل سرعة الإنجاز من جهة أخرى، علاوة على أن هذه الطريقة يمكن أن تضع مسؤولية توفير الموارد المالية الاستثمارية المطلوبة على عاتق الشركات المتعاقدة. ومن المتوقع في ظل هذه العقود المضمونة الربحية أن يكون التنافس حاداً لصالح العراق، سواء من حيث الشروط أو سرعة الإنجاز، طالما هي مربحة وبدرجة عالية للشركات المعنية أيضاً.
وفوق ذلك فإن تصاعد أسعار النفط يعني تصاعد الدخل السنوي للنفط العراقي. فعلى فرض إنتاج العراق 2 مليون برميل (وهو دون مستوى إنتاج فترة ما قبل الاحتلال) وبيع هذا النفط بسعر 40 دولار للبرميل عندئذ سيتجاوز دخل العراق السنوي من النفط 29 بليون دولار. وهذا الدخل المرتفع يمكن أن يوفر جانباً هاماً من التمويل الذاتي، ويعزز موقف البلاد في توفير الاستثمارات لمختلف القطاعات، على فرض قدرة الاقتصاد العراقي استيعاب هذا القدر من الاستثمارات سنوياً. وكذلك على فرض قدرة العراق السيطرة على عوائده النفطية ومنع كافة أشكال التلاعب والتجاوزات، سواء بالعلاقة مع الاحتلال أو الفساد الإداري- العمولات والسرقات. من هنا يحق السؤال: هل بعد كل هذا يحتاج العراق إلى الخصخصة أو استجداء المعونات من الدول الأجنبية!؟.. ولكن هل أن العراق يسيطر على قطاعه النفطي وعوائده النفطية؟
يرى بعض الخبراء أن مشكلة الإصلاحات وإعادة تأهيل البنية التحتية القديمة للصناعة النفطية ستكون أكثر تكلفة مالياً وزمنياً مما تظهر للعيان. لذلك يدعو إلى وقف الإنفاق على الحقول النفطية القديمة وبناء نظام إنتاجي جديد مواز في سياق تطوير حقول جديدة. لكن هذا الرأي يقابله اعتراض قوي، ويطرح حقل كركوك مثالاً للرد عليه. هذا الحقل الذي يعود عمره إلى أكثر من سبعين سنة وهو ما يزال يمتلك احتياطاً ضخماً، ويرى أن إدارته بشكل مناسب ستساعد على استمرار إنتاج الحقل بين 500- 700 ألف ب/ي لسنوات عديدة قادمة. وهذا يدعو إلى الواقعية عند محاولة معالجة هذه المشكلة، لصعوبة استبدال ما تم بناؤه عبر ثمانين سنة. من هنا يفضل بناء خطة مفصلة وطويلة الأمد لإصلاح وصيانة مصادر الطاقة واستهلاكها بهدف التحديث والترشيد وزيادة استهلاك الغاز على حساب النفط الخام ومشتقاته.(39)
وبالعلاقة مع عضوية العراق في أوبك، حيث كانت بغداد محط اجتماع المؤسسين وتوقيع اتفاقية تأسيسها وإعلان إنشائها عام 1960، فإن أي قرار عراقي متسرع للخروج من المنظمة، سيضر بمصلحة البلاد. يضاف إلى ذلك فمنذ إنشاء نظام الحصص quota system في أوبك عام 1983 بقيت طاقة صادرات نفط العراق دون حصته، عدا فترة قصيرة جداً أوائل عام 1990 قبل الغزو. أما آخر مرة حصل العراق على تحديد لحصته (3.7 م ب/ي) فكان في تموز/ يوليو 1990 ولا زالت قائمة وهي مماثلة لحصة إيران في أوبك. وإلى أن يبدأ العراق تجاوز حصته، هناك وقت كاف لإعادة النظر في هذا الأمر من قبل الطرفين. فمن مصلحة أوبك مساعدة العراق للحصول على أسعار وعوائد مجزية بالعلاقة مع سنوات الحرمان التي مرَّ بها، كما أنه لن يكون من مصلحة العراق تحدي أوبك وإغراق السوق.(40)
أثناء وبعد احتلال العراق تصاعدت أصوات داخل وخارج إدارة بوش تدافع عن خصخصة قطاع النفط العراقي. لكن دعوات الخصخصة هذه لم تكن قائمة على أسس الحقائق التاريخية أو تحليل منهجي مقنع. بل أنها عبّرت عن ايديولوجية القوى المحافظة الجديدة لسلطة المحتل.
أن معارضة خصخصة قطاع النفط العراقي هي أقوى من مثيلتها في المشروعات الحكومية المارة الذكر من النواحي التاريخية والاقتصادية والسياسية، وأيضاً بالعلاقة الشديدة مع الظروف العراقية الخاصة جداًً على مدى ألـ 23 سنة السابقة. تقوم دعوات الخصخصة على أنها ستشجع الاستثمار الأجنبي التدفق في الاقتصاد العراقي. لكنها دعوات زائفة false طالما أن هذا التدفق ليس مقيداً constrained بشكل الملكية، كما سبقت المناقشة في المبحث السابق. وهناك حقيقة سبق توضيحها، وهي انخفاض التكلفة الاقتصادية والمخاطر الاستثمارية في قطاع النفط العراقي. من هنا وقعت شركات نفط عالمية عديدة اتفاقات لتطوير الموارد النفطية العراقية في فترة المقاطعة دون طرح مسألة ملكية الموارد النفطية.
هناك أيضاً البعد القانوني الدولي في مواجهة الخصخصة. فكما سبق ذكره، لا يسمح القانون الدولي بفرض تغييرات هيكلية أساسية. بل أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 كان واضحاً جداً في تأكيد "حق الشعب العراقي السيطرة control على ملكية موارده الطبيعية.
وفيما عدا المجادلات القانونية والاقتصادية، هناك اعتبارات أخرى ضد الخصخصة. أحد هذه الاعتبارات يقوم على أساس العلاقة المشتركة الوطيدة بين قطاع النفط وبين التطور السياسي في البلاد منذ بدء النظام السياسي العراقي عام 1921. فالتطورات في قطاع النفط على المستويات المحلية والدولية كان لها آثار عميقة على شعب العراق ومؤسساته. إن التمزيق المفاجئ sudden rupture لهذه العلاقة التاريخية سيقود إلى خلق كافة أشكال عدم استقرار الأوضاع في العراق.
كما أن واحدة من النتائج الأكثر خطورة لفرض إجراءات الخصخصة بدوافع أجنبية ستبرز في تقييد حرية الحكومة على تصحيح ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الهيكلية الناجمة عن ظروف الحرب، والتي تعمقت أيضاً بفعل الانهيار الاقتصادي والاحتلال. ذلك أن خصخصة القطاع النفطي سيحرمها (الحكومة) الدخول أو التعامل access مع القسم الأكثر ثقلاً وأهمية من الناتج الوطني الذي يشكل ضرورة حيوية لمعالجة تلك المشاكل.(41)
والملفت للانتباه، أن البعض تجاوز مخاطر الدعوة إلى الخصخصة بالدعوة إلى رهن الإنتاج المستقبلي، أي خصخصة "الاحتياطي النفطي" بدعوى أن هذا الأسلوب أكثر قدرة على جذب التمويل الخارجي وأسهل عند البيع. ويظهر أن أصحاب هذه الدعوة ممن قدموا أفكارهم بطريقة دعائية، لم يبذلوا بعض الجهد لقراءة تاريخ العراق الحديث، ولم يحاولوا فهم واستيعاب نمط تفكير العراقيين وموقفهم فيما يخص الثروات والموجودات الوطنية. وحتى إذا أخضعنا هذه الفكرة للمناقشة فهي تواجه معضلة اقتصادية أكبر لتحديد القيمة السوقية لهذا الاحتياطي النفطي وهو تحت الأرض مقارنة بالصعوبات الجمّة التي تواجه مشروعات القطاع العام. كما أن الاحتياطي النفطي ثروة وطنية لا تعود إلى الجيل الحالي، حسب، بل هي ملك للأجيال اللاحقة أيضاً. من هنا لا توجد جهة في الدولة تمتلك حق بيع جزء أو كل الثروة الوطنية.(42)
رغم الحاجة إلى تعاون شركات النفط الدولية لتأهيل وتحديث صناعة النفط العراقية، يجب أن لا تكون هذه الطريقة مظلّة للتلاعب بالملكية الوطنية للثروات العراقية. ذلك أن من الخطورة جداً افتراض أن العراقيين سيقفون متفرجين على تسليم صناعتهم وثروتهم إلى الآخرين. إن الشعب العراقي يعتبر النفط- الذي كان سبباً للكثير من أتراحه وأفراحه في سياق استعادته من الامتيازات الأجنبية- رمزاً وطنياً مقدساً يجسد نضاله الطويل. وبغض الاعتبار عن الإطار السياسي الشرعي الذي سيظهر في نهاية المشوار، فأن صناعة النفط لا بد وأن تبقى مركزية ويتم تشغيلها بطريقة موحدة ككل، لأِنها الصيغة المتوافقة مع قناعة العراقيين، باعتبارها قيمة عليا في ذاتها ورمزاً للوحدة الوطنية.(43)
مقابل رفض الخصخصة السريعة، بعامة، ورفض خصخصة الثروة النفطية، بخاصة، لاعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية، هناك اتفاق على بقاء ملكية الصناعة النفطية للدولة، مقابل توفير مجال للقطاع الخاص المحلي والمشترك المساهمة بشكل مستقل أو من خلال المشروعات المشتركة مع الشركات الأجنبية في عمليات نفطية جديدة مثل: التوزيع والتصفية وخطوط الأنابيب وناقلات البترول وحتى الاستكشافات. ولكن دون أن تتورط هذه المشروعات المشتركة في ملكية الاحتياطي والإنتاج والصادرات التي تخص السيادة.
وفي السطور التالية جملة مقترحات لمستقبل السياسة النفطية في العراق:(44)
.. مطالبة المحتل تحمل كافة نفقات الاعمار وعدم المساس بواردات النفط الحالية لأية أهداف لا تتفق مع القانون الدولي والاتفاقات الدولية ذات الصلة.
.. تفعيل الاقتصاد العراقي وتنويعه وتقليل الاعتماد على النفط وأن يتم الشروع باستغلال واردات النفط تدريجياً بمعزل عن الميزانية العامة.
.. ترشيد الإنتاج العراقي الحالي بحدود تسمح بإجراء دراسات عاجلة للتثبت من وضع المكامن وسلامة إنتاجها بطاقات مثلى وعدم الاندفاع لزيادة الإنتاج قبل ذلك.
.. إعادة النظر بكافة الخطط المطروحة سابقاً بشأن إمدادات الطاقة في العراق وعلى أن تضمن الخطط الجديدة الاستغلال الأمثل للغاز الطبيعي وتقليل كمية النفط الخام للاستهلاك الداخلي.
.. دراسة تحديث المصافي وزيادة نسبة التحويل فيها لإنتاج المنتجات الخفيفة وتقليل فائض زيت الوقود وعلى أن يتم ذلك قبل الشروع بإنشاء مصاف جديدة.
.. رفض تام لخصخصة المصادر الطبيعية وخاصة النفط والغاز وعلى أن ينص الدستور الدائم المنتظر على هذا المبدأ.
.. الشروع العاجل بتطوير حقول جديدة أو تطوير مكامن إضافية في الحقول الحالية للتعويض عن الحقول القديمة التي تدعو الدراسات لإراحتها.
.. أن يكون تطوير الحقول القائمة بالجهد الوطني مع الاستفادة من الشركات الأجنبية لتقديم خدماتها أينما تطلب الأمر ذلك.
.. أن يتم تطوير الحقول الجديدة بالتعاون مع الشركات العالمية وفق صيغ مقبولة ومتعارف عليها تتناسب وخصائص الحقول العراقية بشكل عام وخصائص كل حقل على حدة، وعلى أن يكون ذلك وفق أسس تنافسية تضمن أفضل الشروط للعراق.
.. المحافظة على عضوية العراق في أوبك وتعاونه مع أعضائها لزيادة الاستقرار في السوق النفطية.
4- نقد العولمة*
يصعب صياغة تعريف دقيق للعولمة يحظى بالقبول العام، لكونها ظاهرة عالمية تغطي مختلف جوانب الحياة، وتتأثر بتباين المواقف الايديولوجية للباحثين إزاءها قبولاً أو رفضاً.(45) وبالعلاقة مع معناها اللغوي، فهي تعني "تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله". وفي ظروف الواقع الدولي الحالي، فهي تبغي تعميم النمط الحضاري الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على بلدان العالم. وتشكل مرحلة متقدمة لتطور الرأسمالية الصناعية. وهي عملية موجهة من طرف واحد لفرض نظام الهيمنة القديم. ذلك أن الاتجاه السائد والمقصود من العولمة عند مفكريها ومنفذيها في الولايات المتحدة هي "الأمركة"، بمعنى الهيمنة الأمريكية على العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً في سياق برنامج عمل يتضمن استخدام السوق العالمية للإخلال بنظم التوازن وبرامج الحماية الاجتماعية الوطنية، وإعادة بناء الأسواق الوطنية لتصبح مجالاً لاصطفاء الأنواع وفق النظرية الدارونية "البقاء للأصلح" في مجال الاقتصاد.(46)
أخذ دور العملاق الأمريكي بالبروز في مجال السياسة الدولية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولتمثل أحد قطبي القوة العسكرية في العالم في ظروف اعتمادها اقتصاد الحرب. وبعد انهيار المعسكر السوفيتي (نهاية ك1/ ديسمبر 1990) أصبحت الولايات المتحدة قطباً أوحداً، وأخذت تزين ممارساتها بدعوات تبشيرية مثل حق تقرير المصير والديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا رغم أن ممارساتها أظهرت بصورة متكررة ازدواجية تفسيراتها لتلك الدعوات عندما قدمت، ولا زالت، الدعم لأِنظمة بعيدة عن الديمقراطية طالما رضخت لأِوامر واشنطن.
تعتمد القوة العسكرية الضخمة للولايات المتحدة وممارستها دور الشرطي في الساحة الدولية على قوتها الاقتصادية: تحقيق حوالي 25% من الدخل العالمي.. أكبر مُصَدِّر زراعي.. سيطرة شركاتها العملاقة على حركة رؤوس الأموال والاستثمار والتبادل التجاري.. الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي من خلال سيطرتها على مؤسسات "بريتون وودز": البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. أكبر مُصَدِّر لِلآليات التكنولوجية والمعلوماتية.. تحكمها بالأجهزة الإخبارية والإعلامية العالمية.(47)
لكن الزعامة الأمريكية وقوتها العسكرية المتصاعدة تواجه تحديات اقتصادية: مشكلة الركود والبطالة.. تزايد عجز الميزانية وبلوغ هذا العجز 500 مليار. هذا في حين بلغ فائض الميزانية 800 مليار دولار بداية رئاسة بوش الابن للولايات المتحدة عام 2001.. ارتفاع الدين العام ليصل إلى سبعة آلاف مليار دولار وبما يعادل 65% من الناتج القومي.. تراجع الدولار أمام اليورو وتزايد استخدام اليورو على المستوى المصرفي والدولي.(48) من جهة أخرى، تواجه الولايات المتحدة استمرار اتساع عدم استقرار "النظام الدولي" وما يرتبه من أعباء عسكرية واقتصادية متزايدة، يمكن أن تدفع باتجاه تراجع الدور الأمريكي على المستوى الدولي لصالح التعددية القطبية.
تختلف العولمة Globalization عن العالمية Internationalization في أن الأولى عملية أحادية موجهة لاِختراق الفرد- المجتمع- الدولة وفرض هيمنة ثقافية وحدانية على الآخر بما في ذلك نمط سياسي واقتصادي وحضاري وحيد لتقود في محصلتها إلى تعميق تبعية الدول الأقل تطوراً في ظروف ضآلة قدراتها على المنافسة. بينما العالمية تأكيد لتعايش الايديولوجيات المختلفة، وتجسيد لقضية الإنسان- المجتمع في ظل التعاون المتبادل نحو عالم أفضل يعمل على تقريب مستويات الإنتاجية الحضارية وإعادة بناء نظام دولي أقرب إلى التكافؤ.(49)
ليست العولمة ظاهرة حديثة، بل هي قديمة ظهرت وترعرعت مع نشوء ونمو الحضارة الرأسمالية واستمرار تزايد قدراتها الإنتاجية. بدأت بظهور الدولة الوطنية الموحدة ، ولتتجاوز أسواقها الوطنية مع تكامل ثورتها الصناعية (سياسة حرية التجارة)، وتطورت منذ منتصف القرن الماضي إلى الدعوة للاعتماد المتبادل، وأخيراً ظهرت اللفظة الجديدة (العولمة) منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. وفي إطار هذه المراحل بقيت وظيفة الدولة ثابتة رغم تغير أدوارها وآلياتها وأدواتها، حيث جسدت- حسب ماركس- أداة بيد الطبقة المسيطرة لتحقيق أهدافها. وكان القاسم المشترك لمراحل هذه التطورات السياسية- الاقتصادية هو التقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاجية والإنتاج.
ففي مرحلة ظهور الدولة الوطنية الموحدة منذ خمسة قرون مضت (الرأسمالية التجارية) تميزت الدولة بالمركزية والتدخل الفعال للمساعدة على بناء القدرة الاقتصادية الوطنية، فأكدت على: سياسة الحماية، تشجيع استيراد المواد الخام والذهب والفضة، دعم صادرات السلع المصنعة. وفي عصر الثورة الصناعية تراجعت الدولة عن التدخل بعد استكمال قدراتها الاقتصادية- الصناعية والإنتاج الواسع بطاقات أكبر من طاقة أسواقها المحلية على امتصاصها، فأطلقت سياسة حرية التجارة والمنافسة في ظلّ مبدأ "دعه يعمل، دعه يمر"، خاصة من قبل بريطانيا وفرنسا بعد أن أنجزتا الثورة الصناعية، على خلاف ألمانيا التي أصرَّت على سياسة الحماية والتدخل من أجل بناء قاعدتها الاقتصادية- الصناعية لتتمكن من الدخول في منافسة أقرب إلى التكافؤ. وجاءت الحربان العالميتان امتداداً لحروب مرحلة الرأسمالية التجارية والاستكشافات الجغرافية في إصرار الرأسمالية العالمية الحصول على مزيد من المستعمرات والأسواق الخارجية. ومنذ مطلع الستينات من القرن الماضي قادت المنافسة بين الدول الصناعية وتراخي معدلات النمو في العالم إلى بروز الشركات المتعددة الجنسية، بغية مواجهة ضيق السوق المحلية بالانطلاق نحو الأسواق الخارجية واعتبار العالم كله سوقا لها.(50)
وبالعلاقة مع شمولية العولمة، فهي تفرز آثاراً واسعة في مجالات السياسة والاقتصاد والمعلومات والاتصالات والثقافة والفكر. وتعمل على التخفيف من حضور الدولة عن طريق نزع ملكيتها ونقلها للقطاع الخاص المحلي والأجنبي والحد من مفهوم الاستقلال والسيادة باتجاه الإحلال التدريجي للشركات العملاقة المتعددة الجنسية محل الدولة، ولتتحول الدولة إلى جهاز أمني لحماية مصالح تلك الشركات.
ولما كانت العولمة تعبر عن مرحلة عالمية متقدمة، وتفرض نمطاً اقتصادياً يقوم على المنافسة وعدم التدخل باتجاه الانتقال الحر للعمل ورأس المال في ظلّ سوق عالمية موحدة، لذلك فهي تتطلب، على الأقل، استكمال المرحلة الأولى من الثورة الصناعية لتكون البلاد قادرة على المنافسة الأقل إجحافاً بحقوقها في مجال المبادلات التجارية. من هنا تواجه دول العالم الثالث معضلة صعبة، نظراً لضعف قدراتها الإنتاجية في ظروف تخلفها الاقتصادي واعتمادها الأساس على إنتاج وتصدير المواد الخام. فتكون حصيلة الانفتاح غير المنضبط مزيداً من استنزاف موارد الثروة الوطنية والتوجهات الاستهلاكية.
كما أن مرحلة تطور هذه البلدان لا تسمح بالقفز نحو تطبيق النمط الاستهلاكي للدول المتقدمة، وإلا واجهت مزيدا من المديونية وإهدار وارتهان موارد ثروتها الوطنية. يضاف إلى ذلك أن قبولها بالعولمة المطروحة، على إطلاقها، تعني إهمال المبادئ الاقتصادية الأولية المتمثلة في الأسئلة الثلاثة المعروفة: ماذا ننتج؟.. لمن ننتج؟.. كيف ننتج؟ ويرتبط بذلك إهمال الأولويات الاستثمارية وتجاوز ضمان الاحتياجات الأساسية لعامة الناس والتخلي عن مبدأ التنمية من القاعدة وإقصاء وتهميش المزيد من أصحاب الدخول المنخفضة وتوسيع جيوب الفقر في البلاد، وبالنتيجة إضعاف الاستقرار الاجتماعي ومحاولات بناء النظام الدستوري.
يُضاف إلى ذلك أن مسيرة العملية الديمقراطية تتطلب إعادة تكييف البيئة الاجتماعية التقليدية، واستكمال مقومات تكوين بنية الدولة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في حين أن دول العالم الثالث لا زالت تمر بمرحلة التكوين هذه وسط الولاءات الاثنية والمذهبية والطائفية التي تحيطها. من هنا فإن التغيير المفاجئ في دور الدولة، بخاصة مسئوليتها في المساهمة والمساعدة ببناء مقومات وحدتها الوطنية ومؤسساتها البنيوية، يمكن أن تخلق مشكلات تهدد وجودها.
وهكذا ترتبط آثار العولمة بجانبيها الإيجابي والسلبي بمرحلة التطور الحضاري للدول التي تدخل في نطاقها. ويمكن القول بصفة عامة أن هذه الإيجابيات تزداد مع مرحلة التقدم الحضاري، وتقل لتتحول إلى سلبيات في تلك الدول الأقل تطوراً، وذلك لتدني قدراتها على المنافسة. أي أن المعادلة في عالم العولمة هي: كلما كانت للدولة قدرات إنتاجية أكبر وأكثر تنوعاً حققت وفورات أكثر، وكلما كانت قدراتها الإنتاجية أكثر ضعفا وأقل تنوعاً تحملت خسارة أكبر. وفوق ذلك فإن فرض الشروط الانفتاحية للعولمة في مواجهة الشركات المتعددة الجنسية تعني حرمانها من بناء قواعدها الإنتاجية ووقوعها تحت مطحنة الاستهلاك والعجز والمديونية. وهذه الظاهرة قائمة منذ مرحلة الرأسمالية التجارية وقادت إلى استمرار اتساع الفجوة بين الدول الصناعية ودول العالم الثالث.
تعمل العولمة على إزالة العوارض الوطنية التي تواجهها في سياق اختراقها للمفردات الوطنية، وتشييد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع بديلاً عن الصراع الطبقي والوعي السياسي، وتحتضن قيماً ثقافية جديدة تتجاوز الايديولوجيات القائمة وبما يقود إلى إعادة النظر في كافة المفاهيم والخطابات المتعلقة بالوطنية والدولة والاستقلال والسيادة والاستعمار والإمبريالية باتجاه إلغاء أو تخفيف النزعة الوطنية باسم مكافحة التعصب والإرهاب من جهة، ونشر القناعة بتغير طبيعة الدول الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية إلى أنظمة تعمل على إعادة بناء هذه الشعوب نحو الحرية والتقدم والحداثة، وكل ذلك باتجاه نشر ثقافة الاسترخاء/ الهزيمة. وتشكل قضية العراق مثالاً بارزاً عندما قادت أمريكا حربها بزعم إزالة أسلحة التدمير الشامل ومنح الحرية- الديمقراطية للشعب العراقي، وانتهت بإزالة الدولة العراقية ونشر الفوضي وإهانة الناس وقتل عشرات الآلاف من المدنيين.
لكن العولمة باعتبارها ظاهرة عالمية شاملة تتطلب التعامل الواعي معها بديلاً عن موقف الرفض الكلي أو القبول الكلي. ويرتبط بذلك وجود مساحة واسعة للمناورة والتحرك للاستفادة من إيجابياتها وتحاشي أو تخفيف سلبياتها. ذلك أن موقف الرفض الكلي يقود إلى الانغلاق والتقوقع في سياق مفاهيم وأفكار وقيم تكلست عِبر فترات تاريخية طويلة. فالانغلاق موقف سلبي غير فعال في مواجهة الاختراق الثقافي للعولمة، التي تدخل البيوت والعقول وتفعل فعلها بطرق مغرية مدعمة بأجهزة إعلامية وإعلانية ضخمة. ويتماثل الانغلاق مع الاغتراب بقبول ايديولوجية الاختراق والارتماء في أحضان العولمة والاندماج فيها دون تحفظ، لأِن هذا التوجه يقود إلى الفراغ: اللاوعي- غياب القضية والفكر والايديولوجيا- وهذا الفراغ يكون عادة غير قادر على بناء كيان أو هوية ولا يُقدِّر معنى الذات الإنسانية- الوطنية وقيمته واستقلاله. إذن، الموقف المطلوب هو المواجهة العقلانية: العمل الذاتي بتأكيد مهمة إنجاز مرحلة بناء الدولة وأسس التحول الحضاري السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا يدعو إلى عدم الارتماء في أحضان العولمة دفعة واحدة، بل التعامل معها تدريجياً بالعلاقة مع تصاعد نمو البنية الاقتصادية، وعلى نحو متوافق مع مرحلة تطور الاقتصاد الوطني.(51)
بالإضافة إلى القبول بالعولمة بطريقة منهجية تتفق مع مسيرة البناء الداخلي السياسي الاقتصادي والثقافي, تتواجد آلية أخرى يمكن أن تكون متكاملة مع الآلية الأولى، متمثلة في بناء المجتمع المدني. وهنا يمكن للمجتمع المدني بالتعاون مع الأجهزة الحكومية وعلاقته المباشرة مع القاعدة الشعبية تخفيف سلبيات العولمة لمصلحة التعجيل بالبناء السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي، وذلك من خلال جهودها في مجال التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية، وحماية المستهلك والحد من الظاهرة الاستهلاكية الترفيهية التي تتعدى حدود القدرات الاقتصادية المتاحة، علاوة على نشر الوعي الوطني وتعزيز ثقافة تشجيع المنتجات الوطنية.
وأخيراً، فإن الظروف الدولية بما تتخللها من المصالح المتنافرة والمتنافسة، يمكن أن توفر مساحات واسعة نسبياً للدول الأقل تطورا بالمناورة للحصول على أقصى منافع العولمة، مقابل تخفيف سلبياتها. وهذا يعتمد على قوة الفعل داخل هذه البلدان بإقامة أنظمة سياسية دستورية تمثيلية تحرم الاحتكار وتوريث السلطة وأكثر اعتمادا في وجودها ومسيرتها على قوة الداخل، بخاصة في المنطقة العربية.
وختاماً لهذا الجزء من البحث، تُعبر المناقشة الساخرة التالية، عن شيء قليل أو كثير من القيم المزدوجة للعولمة- الديمقراطية الأمريكية:(52)
.. ماذا تُسمّي رجلا يُفجر قنبلة ويقتل ناساً أبرياء؟ إرهابي.
وماذا تُسمّي رجلاً يلقي قنبلة من طائرة ويقتل ناساً أبرياء؟ طيار أمريكي شجاع.
.. ماذا تقول عندما يستخدم فلسطيني العنف ضد يهود يحتلون أرضه من دون أي مبرر شرعي؟ إرهابي.
وكيف تصف طائرة هليوكوبتر إسرائيلية تطلق صواريخ (أمريكية) على فلسطينيين وتقتل شباناً يحملون حجارة؟ دفاع عن النفس.
.. بماذا تصف إعطاء شخص موظف حكومي مالاً في مقابل تقديم خدمات له؟ رشوة.
وبماذا تصف تقديم شركات كبرى المال لموظفين حكوميين في مقابل خدمات خاصة لها؟ تبرع للحملة الانتخابية.
.. كيف تصف ناساً يأخذون القانون بِأيديهم ويقتلون ناساً آخرين من دون محاكمة؟ مجرمون.
وكيف تصف أخذ الولايات المتحدة القانون بيديها وقتلها الناس من دون غطاء شرعي؟ عملية الحرية للعراق.
.. من هو الشخص الذي يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء؟ روبن هود.
ومن يسرق من الفقراء ويعطي الأغنياء؟ الحكومة الأمريكية.
.. ما هو اسم سلاح يستطيع قتل ألوف الناس؟ سلاح دمار شامل.
وما هو اسم سلاح قتل 5ر1 مليون عراقي، بينهم نصف مليون طفل؟ العقوبات.
.. ما هو اسم جيش يُقاتل لمصلحة من يدفع له أكثر؟ مرتزقة.
وما هو اسم جيش في أفغانستان يُقاتل لمن يدفع له أكثر؟ تحالف الشمال.
.. كيف تصف هجوماً على البنتاغون، أو مركز القيادة والسيطرة الأمريكية؟ هجوم جبان على الديمقراطية الأمريكية.
وكيف تصف هجوماً أمريكياً يدمر قرية أفغانية؟ هجوم على مركز قيادة وسيطرة لطالبان.
.. كيف تصف قتل ثلاثة آلاف شخص في هجوم 11/9/2000 في الولايات المتحدة؟ إرهاب.
وكيف تصف قتل خمسة ملايين شخص في حرب فيتنام؟ خطأ.
.. كيف تصف استِغلال الأغنياء للفقراء؟ طمع وأنانية.
وكيف تصف استِغلال الدول الثرية للدول الفقيرة؟ عولمة.
.. كيف تصف قتل شعب كامل؟ إبادة جنس.
وكيف تصف إبادة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) في الولايات المتحدة؟ حقبة مجيدة في التاريخ الأمريكي.
وفي البيت البلاغي الساخر التالي لشاعر عربي أورده الدكتور سعدالدين النعيمي والمشار إليه في الهامش السابق، ما يماثل المفهوم الساخر أعلاه:
قَتْلُ امرئ في غابة جريمة لا تُغتفر وقتلُ شعب كامل مسألة فيها نَظَرْ
5- التنمية والإصلاح الاقتصادي في العراق*
تعني التنمية development هنا عملية مجتمعية مقصودة بغية تحسين ظروف الحياة وتعميق تكافؤ الفرص في المجتمع. وتقوم على تعبئة الإمكانات البشرية والموارد المادية المتاحة بغية تقليص الاستِغلال وتعظيم الإشباع، بما في ذلك تحسين متصاعد لمعيشة عامة الناس واستمرار نمو التراكم.(53)
والتنمية وفق هذا المفهوم تختلف عن النمو growth في كونها عملية نمطية متصاعدة باتجاه تغيير البنية المؤسسية وإعادة بناء هيكل الإنتاج الوطني على نحو متنوع ومتداخل، والنمو المتصاعد لقدرة الاقتصاد الوطني على إنتاج المزيد من السلع والخدمات لمواجهة الطلب المحلي المتنامي وتحسين مستوى الإنتاج والإنتاجية في سياق مبدأ المشاركة. بينما يمكن أن يتحقق النمو مرحلياً وفي ظروف تدني الإنتاجية والتبعية وسوء التوزيع وغياب المشاركة. كما أنها تختلف عن التطور في كون الأخير يفتقد عنصر الإرادة وبالذات فيما يخص الجانب الاقتصادي. وهو بهذا المعنى دالّة للزمن وأقرب إلى لفظة evolution. وتتداخل التنمية مع مفهوم التقدم progress، ذلك أن إنجاز أهداف التنمية في الأمد البعيد ينصب على تحقيق التقدم.(54)
وتبدأ التنمية ببنائها حول الإنسان، التأكيد الاجتماعي لحق العمل، تلبية الاحتياجات الأساسية لعامة الناس، الضمانات الاجتماعية. وهي تنمية ريفية متكاملة تنطلق من القاعدة وتُجسِّد أولوية تحسين إنتاجية القطاعات الاقتصادية والمناطق الجغرافية والفئات الاجتماعية الأكثر فقراً باتجاه تحقيق المقاربة في الإنتاجية وتعميق علاقات التشابك الاقتصادي والاجتماعي على طريق تعزيز التكامل الداخلي ودعم الاستقلال الاقتصادي وتحسين توزيع الدخل والثروة وبناء السلام الاجتماعي وضمان حرية القرار الوطني.
إن تلبية الاحتياجات الأساسية تقود إلى زيادة إنتاجية الأغلبية ومعالجة الفقر هيكلياً، ودعم مبدأ الاعتماد على النفس، وتعميق الحوافز الوطنية لضمان مسيرة التنمية الشاملة، وتحقيق فرص أوسع للعمل، ومعالجة ظاهرة البطالة، وضبط حركة الأسعار والتضخم. أما السيطرة على موارد الثروة الوطنية وترشيد استِغلالها فهي تُعبر عن إحدى قاعدتي مبدأ الاعتماد على النفس (تعبئة الناس والموارد والبيئة الطبيعية). أما القاعدة الإنتاجية فهي مصدر قوة البلاد في التعامل الخارجي، طالما تتحدد قوة هذه القاعدة بدرجة اتساعها وتنوعها وكفاءتها.(55)
تتطلب التنمية تأكيد أربعة شروط ضرورية هي: حرية صنع القرار الوطني في ظل الاستقلال.. المشاركة في إطار الديمقراطية.. العدل في سياق التوزيع.. الأمن في ظل قوة دفاعية متطورة.(56) فالتنمية بدون استقلال مسألة عبثية، لأِن التنمية والاستعمار (الاستغلال) لا يجتمعان . هذا الشرط يدعو إلى تهيئة البيئة المواتية لصنع القرار الوطني وإحداث تغييرات مؤسسية جوهرية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة لمسيرة التنمية. وتشكل الإصلاحات الزراعية والملكية العامة للمصادر الرئيسة لموارد الثروة الوطنية ومؤسسات الخدمة ذات الطبيعة الاحتكارية، التي تدخل خدماتها ضمن الاحتياجات الضرورية لأِغلبية الناس، والمؤسسات الإنتاجية ذات العلاقة بالأمن الاقتصادي الوطني، حجر الزاوية لممارسة الرقابة على وسائل الإنتاج المادي وتحسين سبل توزيع الخدمات الأساسية. هذا مع التأكيد على سياسة تشجيع وتنشيط القطاع الخاص والقطاع المختلط والتعاوني والقطاع الحرفي- التراثي. وفي ظلّ نظرة جديدة ومتطورة للقطاع العام يؤكد على البنية التحتية ومعالجة الانحرافات السوقية، وإدارته وفق أسس حديثة اقتصادية- تجارية بحتة.
ويرتبط بذلك أن الحريات العامة وحقوق الإنسان جزء محوري من الاحتياجات الأساسية للناس. وهي الحاجز المانع لظهور الاستبداد وطغيان الحكم. كما أن قرارات التنمية تزداد غنى بالمشاركة وتزداد فقراً بالاستبداد. علاوة على أن التنمية مشاركة في تصميمها وفي ثمارها على حد سواء.
ومن متطلبات التنمية توزيع الاستثمارات بشكل متناسب لصالح القطاعات والمناطق والفئات الأكثر فقراً أو الأقل إنتاجية لتحسين قدراتها الإنتاجية وتعزيز تشابكها وتكاملها. كما أن معالجة سوء توزيع الدخل والثروة وتقليص فجوة مستويات المعيشة والاقتراب من مبدأ تكافؤ الفرص تتطلب تبني سياسة تحقيق المقاربة في الإنتاجية قطاعياً وجغرافياً واجتماعياً.
والتنمية هي صراع بين قوى الحرية والاستقلال وبين قوى التخلف والاستِغلال. هذا الصراع يتطلب بناء قوة عسكرية دفاعية متطورة قادرة على حماية التنمية من المخاطر الأجنبية، مع تأكيد أولوية تبني خطاب سياسي خارجي سلمي هادئ يتصف بالمرونة وقادر على تجنب الاحتكاكات والصراعات في سياق وضع العلاقات الخارجية في خدمة التنمية.
وأخيراً، تدعو التنمية بناء ستراتيجيات وسياسيات وخطط وبرامج عملية واقعية تستند إلى أولوية متطلبات عامة الناس وقدراتهم وقابلة للتعديل والتطوير في مرحلة التنفيذ. ويرتبط بذلك عدم الفصل بين سياسيات التنمية. فسياسة الاستثمار والإنتاج والتوزيع والاستهلاك تتطلب أن تُصاغ في ظلِّ نظام متكامل لتوجيه العملية الإنتاجية نحو غاياتها المرسومة.
أصبحت قضية الإصلاح الاقتصادي في العراق حاجة فعلية، في ظروف التشوهات العديدة للسوق، نتيجة الحروب والمقاطعة والسياسات الاقتصادية غير المستقرة والظروف المعيشية المتدنية، علاوة على التطورات الاقتصادية الدولية والانفتاح العالمي، إلا أن سياسات الاحتلال، كما سبق الحديث، تُعبِّر عن مشروع اقتصادي ينطلق من المصالح الستراتيجية والايديولوجية اليمينية للإدارة الأمريكية. ذكرت مجلة نيوزويك الأمريكية أن تساهل الإدارة الأمريكية مع شركات مقاولات متورطة في عمليات احتيال بالعراق حوّل بلاد الرافدين المحتلة إلى "منطقة نهب حرة".(57)
تبين الأحداث الجارية في العراق أن السياسات أو المعايير الفعالة لم تؤخذ في الاعتبار بعد لبناء ستراتيجية تنمية شاملة وانعاش اقتصاد البلاد. كما أن المناقشات التي جرت من قبل بعض العراقيين المحترفين بشأن إعادة تأهيل الطاقات الإنتاجية والحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية، تجنبت المبادئ الاقتصادية والتبعات السياسية. الأكثر من ذلك، يرى بعض المؤيدين منفعة لاهتمامات المصالح النفطية الأجنبية في سياق تحقيق شكل من أشكال خصخصة الصناعة النفطية. ومثل هذه المناقشات المحدودة تفتقر إلى تقدير حقيقي للدينامية المتواجدة للسياسة الاقتصادية العراقية، وتعزز الشكوك بشأن ما إذا كان الهدف الرئيس لهذه الدعوات هو إقامة سوق اقتصادية للقطاع الخاص تتسم بالكفاءة، أو مجرد تحويل ملكية القطاع العام.(58)
كما أصبحت قضية التحرير الاقتصادي والسياسة النفطية في العراق محل تركيز المصالح الأجنبية منذ سقوط النظام السابق. ومع صحة حاجة العراق الملحّة لسياسات اقتصادية جديدة، والمباشرة بِإصلاحات هيكلية جذرية، لكن التركيز على معيار الكفاءة واستخدام الأدوات التكنولوجية لصنع القرار يجب أن لا يبرر التوجهات الليبرالية غير المنضبطة. أن هيمنة السوق غير الكاملة imperfection ترتبط عميقاً بجذور العناصر الاجتماعية، السياسية، ونسيج البيئة الاجتماعية التي تتطلب مراعاتها بجدية عالية في السياسات الاقتصادية المراد تطبيقها.
ويرتبط بذلك خطأ فصل إعادة تأهيل هيكل إنتاج وصادرات النفط الخام والسياسة النفطية الجديدة عن مجمل السياسات الاقتصادية الكلية وستراتيجية التنمية في العراق. إن السياسة النفطية ليست قضية مجردة لتنحصر فقط في كفاءة المشروعات العامة. من هنا وجب عدم ترك السياسة النفطية للحكومة للتعامل معها كيفما اتفق على أساس: المصادفة، المعايير الجزئية، تحقيق المصالح الضيقة، الضغوط الخارجية.
أن النفط الخام هو طاقة سلعية ستراتيجية دولية تتضمن قيمة اقتصادية عالية. والثروة النفطية في العراق تمتلك قوة اقتصادية ضخمة يمكن للحكومة استخدامها بسهولة لبلوغ أهداف التنمية العامة الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى التأثير في الظروف السياسية للبلاد. فإذا لم يتم ضبطها من خلال تطبيقات مؤسسية دستورية وطنية، فإن نمط تخصيص الإيرادات النفطية بين استعمالات مختلفة قد تنقلب باتجاه خدمة مصالح مالية وسياسية ضيقة لاولئك المرتبطين بالسلطة الحكومية. بكلمات أكثر دقة، قد يساء استخدام الإيرادات النفطية العامة كقوة سياسية لدعم المصالح السياسية الضيقة وتحقيق أهداف سياسية لمجموعات اجتماعية معينة. من هنا وجب ضمان تخصيص القوة الاقتصادية للنفط لتعزيز قوة الدولة ووحدة المجتمع وليس لمصلحة الحكومة والفئات المرتبطة بها.
تفرز التجربة العراقية ثلاث محصلات: الأولى مكافحة الاستقطاب السياسي الاقتصادي والاجتماعي لصالح بناء وحدة وطنية تضم كافة الأطياف العراقية.. الثانية أن طريقة الانتفاع من ريع النفط الخام والغاز الوفيرة وحصرها في إقامة البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك مشروعات الاحتياجات الأساسية والأمن الاقتصادي الوطني يمكن أن تشكل العنصر الاقتصادي الستراتيجي في إدارة التعايش السلمي المستهدف بين الفئات والطبقات الاجتماعية العراقية المختلفة.. الثالثة إعادة توزيع تخصيصات الإيرادات النفطية بين السلطة التنفيذية (الثلث مثلا) لأِغراض الميزانية العامة السنوية، وتوجيه الباقي للأغراض الاستثمارية تحت إشراف ورقابة السلطة التشريعية.
كما إن تحليل التجربة العراقية الطويلة تشير إلى أن: التنمية الاقتصادية والاجتماعية، العملية الدستورية، السياسة النفطية، تؤسس ثلاثة عناصر مترابطة رئيسة للسياسة الاقتصادية. فالاستثمارات في البنية الأساسية والفعاليات الإنتاجية عنصر أساس في التنمية، والإيرادات النفطية محور التمويل، والعملية الديمقراطية توفر المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي الضروري للتنمية. لذلك فإن متابعة التحرير الاقتصادي، تتطلب إعطاء اهتمام يقظ من قبل السلطة الحكومية لتفعيل هذه العناصر على أساس من التنسيق وبالعلاقة مع سياقه الزمني بدلاً من الجري وراء تحرير سريع. كما وتتطلب عملية إصلاح الاقتصاد العراقي تحديداً واضحاً لسياسة إنتاج وصادرات النفط الخام، ضمن الستراتيجية العامة للبلاد، وبالعلاقة مع مختلف المصالح الأجنبية.
يدعو البعض إلى قيام تحالف ستراتيجي طويل الأمد مع الولايات المتحدة على أساس أن ستراتيجية الاعتماد على احتياطي النفط العراقي ربما تخدم مصالح كل من العراق والولايات المتحدة. وعلى أي حال فإن الطريق نحو هذا التحالف الستراتيجي، في ضوء التناقضات الجذرية القائمة، ينبغي أن يكون محل نقاش وأن يكون واضحاً ويجب أن لا يبدأ بخصخصة الصناعة النفطية. وإذا كانت مهمة تنميط العلاقات الدولية للعراق، بعامة، ومع الغرب، تتقدمها الولايات المتحدة، بخاصة، حاجة فعلية عراقية باتجاه إزالة أو تخفيف ظاهرة العداء والتشنج المستمر التي غطت هذه العلاقات لفترة طويلة وانتهت باحتلال البلاد، فإن بناء علاقات سوية على أساس إنهاء فعلي للاحتلال واحترام استقلال القرار الوطني والتكافؤ في التعامل يجب أن تكون محور هذه العلاقات (ف6/4).
مع وفرة الإمكانات البشرية والموارد المادية وتوقع إيرادات سنوية أكثر من 20 بليون دولار، هل يحتاج العراق إلى مساهمات دول مانحة ومساعدات خيرية أجنبية؟ وفي ظروف الانهيار الكامل للمؤسسات الحكومية والبطالة الواسعة والفقر، هل أن خصخصة الصناعة النفطية أو توزيع إيرادات نفطية نقداً للمواطنين يوفر قوة دافعة لإعادة الاعمار وإنهاض الاقتصاد العراقي؟ إن اقتراح مثل هذه المعالجات (ف4/3) تعبر أما عن طريقة تفكير شديد التبسيط أو سوء فهم لمشكلات العراق الاقتصادية الاجتماعية والسياسية.
يحتاج العراق في هذه المرحلة إلى تبني وتطبيق ستراتيجية اقتصادية واضحة تنبثق عنها حزمة متكاملة من السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الكلية الحكومية المرتبطة بتنفيذ برنامج استثماري واسع لزيادة النمو الاقتصادي والتشغيل. أن مهمة تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الاستخدام التي تتولاها سلطة الاحتلال لن تكون مثمرة، طالما تقوم هذه السلطة على تطبيق مجرد معايير مالية براغماتية، وبخاصة في ظروف تفشي الفساد الإداري والمالي. ففي غياب توجهات ستراتيجية لتحرير الاقتصاد وتحديد السياسة النفطية في إطار الستراتيجية العامة، ووجود سلطة محاسبة فعالة، ليس بإمكان عقود الاعمار المطروحة ولا الممارسات الاقتصادية التجريبية والنظرة التجزيئية القصيرة، ضمان الاستقرار في العراق.
باختصار، ففي حين أن للعراق مصلحة لمواصلة سياسات الإصلاح الاقتصادي وتعظيم إنتاج وصادرات النفط الخام، فإن ستراتيجيته الطويلة الأمد تدعو إلى إعادة بناء اقتصاده جذرياً. وهذه الستراتيجية يجب أن تهدف إلى زيادة نمطية مستمرة لمساهمة النشاطات الاقتصادية غير النفطية في القيمة المضافة. وأن تساهم إيرادات الضرائب من النشاطات غير النفطية، بفعالية، في تمويل الميزانية الحكومية السنوية وبرنامجها الاستثماري السنوي وبنسب سنوية متزايدة.
لبناء ستراتيجية تنمية عراقية مستمرة ذات أهداف محددة، فإن العراق يحتاج إلى تطبيق ثلاث مجموعات متكاملة من السياسات الاقتصادية: الأولى، سياسيات تخص الاقتصاد الكلي، المالية، والاستقرار النقدي التي تهدف السيطرة على التضخم من خلال تخفيض العجز في الميزانية السنوية الحكومية والعجز في ميزان المدفوعات.. الثانية، برامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، وهي تتضمن إصلاحات إدارية ومالية، إصلاح النظام المصرفي، سوق المال والبورصة stock marke، الخصخصة، حرية التجارة الخارجية، وحرية تدفق رأس المال. والهدف من هذه البرامج هو تحرير الأسعار متضمنة الأجور ومعدلات سعر الصرف.. المجموعة الثالثة من السياسات تتضمن برنامج الاستثمار العام. وهدف هذا البرنامج هو تمويل مشروعات إعادة تأهيل وإنشاء مشروعات هيكلية اقتصادية (مادية)، اجتماعية، وبيئية. كذلك فإن الاستثمارات لهيكلة القطاع النفطي تكون ضمن هذه المجموعة.
ومن وجهة النظر الليبرالية، يمكن افتراض أن إصلاح الأنظمة الحكومية الإدارية، القانونية، والمالية، متضمنة الضرائب، هي من أولى الأولويات، وقد تطبق أولاً وفي وقت واحد. ويجب أن يعقب ذلك تقييم مشروعات القطاع العام. ثم تبدأ المبادرات المتعلقة بتقييم إصلاح النظام المصرفي، وأن يقعب ذلك إصلاحات السوق المالية والبورصة. وإذا تحقق هذا الإنجاز، عندئذ فإن برنامج الخصخصة تكون قد طبقت، وتأتي مهمة التحرير الكامل للتجارة الخارجية لاحقاً في ضوء نجاح الإصلاحات المبكرة. بينما مسألة تدفق رأس المال تكون الخطوة الأخيرة للإصلاحات الهيكلية المقصودة. على أن تقترن هذه الخطوات منذ بدايتها بمكافحة كافة أشكال الفساد الإداري والمالي التي تتصدر وتتفشى على نحو سريع وواسع، بخاصة في المراحل الأولى من العملية الدستورية، وتتطلب ضوابط قانونية قوية لمواجهتها.
وفي ضوء هذه المناقشة، تكون القوى الرئيسة الفاعلة في نموذج الإصلاح الاقتصادي العراقي لبناء السوق الحرة، هي: القطاع الخاص الهادف إلى تعظيم الربح، والقائم على نظرة اقتصادية جزئية Micro.. القطاع العام الموجه نحو تحقيق الأهداف الاجتماعية وفق نظرة اقتصادية كلية Macro.. وهناك فعالية ثالثة يمكن أن تكون لها آثار اجتماعية اقتصادية وسياسية شاملة، متمثلة في المجتمع المدني بمنظماته التطوعية التي تغطي مختلف مناحي الحياة، بافتراض بنائه وفق أسس حديثة وفي ظلّ توجهات وطنية بعيدة عن المؤثرات الخارجية.(59)
وارتباطاً بهذا النموذج سيبدأ الاقتصاد العراقي بالتحول، بعد أن اتسعت أجواء الليبرالية والانفتاح الاقتصادي في أرجاء عديدة من اقتصاديات العالم في ظلّ الإدارة الرأسمالية الجديدة. وأن نسق تكويناته وآلياته ستكون محكومة في الاتجاه الليبرالي ذاته بهذا القدر أو ذاك، بهدف الاقتراب من الحالات التنافسية التي تنعكس في "مزايا السوق". وبالنظر إلى المتطلبات الاجتماعية الملحّة لإشباع طلب الفقراء، فإن الأمر يقتضي سيادة الفاعلية العقلانية لـ "دور الدولة" في الشأن الاقتصادي، وهذا ما يدعو أيضاً إلى تفعيل نشاط "المجتمع المدني" للمساهمة في الحفاظ على ثروة المجتمع وتعظيم استِغلالها، إضافة إلى دورها في دعم الأنشطة التعاونية الإنتاجية والاستهلاكية، وتخفيف الآثار السلبية والانحرافات، ومساهمتها في المراقبة والمحاسبة، باتجاه تحسين الوضع الاقتصادي وتعميق المسيرة الديمقراطية، وهذه الأنشطة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي تمارسها منظمات المجتمع المدني تجعلها حلقة وصل فعالة بين القطاع الخاص وبين القطاع العام في سياق المثلث الذي يمثل أضلاعه القوى الثلاثة الفاعلة في السوق: القطاع الخاص، القطاع العام، المجتمع المدني، مع ملاحظة الفروض والقيود التي تعمل في ظلها.
وإذا كانت هذه الفروض والقيود ستؤدي إلى نسق اقتصادي ذي توجهات تتماشى وآليات السوق أكثر من نماذج أخرى (بخاصة النموذج المطروح من قبل الرئيس الأمريكي في إحدى خطبه- بعد آذار- نيسان 2003- بِأن منطقة "الشرق الأوسط" ستكون بعد عشر سنوات جزءاً من المنطقة الحرة المرتبطة باقتصاديات الولايات المتحدة)، فإن محاولات صياغة نموذج يستهدف معدلات نمو مرضية لأفراد المجتمع في إطار من التنوع الذي يشبع رغباتهم، تُعد مسألة مطلوبة.
يرافق الاقتصاد المتجه نحو الاعتماد على السوق احتمالات تمركز رأس المال في المشاريع الاقتصادية الكبرى التي تُعنى بالاستفادة من مزايا "وفورات الحجم" الداخلية والخارجية، وهذا سيقود إلى الإضرار أو حتى تصفية الإنتاج الصغير والمتوسط، والى أنماط سوقية لا تتفق والرفاهية الاقتصادية لعامة الناس ، وذلك من خلال التركيبة السلعية التي يتحكم في بنائها الطلب الفعال أو من خلال نمط توزيع "الفائض الاقتصادي" بين العمل ورأس المال. وهكذا يمكن أن تؤثر "آليات السوق" سلباً في النشاطات الاقتصادية المرتبطة باحتياجات الفئات ذات الدخل المنخفض، والعكس عندما يكون للدولة الدور الأكثر فاعلية في النشاط الاقتصادي، فإن أولوية القرارات في مثل هذه الحالة ستكون للاقتصاد الكلي.
وتشير الاتجاهات الرئيسة في الأفق الاقتصادي العراقي إلى أن السياسات الاقتصادية للاحتلال سوف تبتعد كثيراً عن المسارات المذكورة، وفي ظل القيود والمحددات التي تحيط بالاقتصاد العراقي، فإن تلك السياسة ستؤدي إلى بروز مشاكل عديدة في الأمد القصير والمتوسط في مقدمتها ارتفاع معدلات البطالة وتعميق التشوهات في توزيع الدخل باتجاه الجهات المستفيدة من اقتصاد الحصار والحرب، ونمط التنمية الرأسمالية في المستقبل.
وتتطلب آليات هذا المنهج تفعيل الاستثمار الأجنبي، وما يحفز هذا الاستثمار انخفاض معدلات الأجور المحلية جراء ارتفاع معدلات البطالة، وهذا بدوره يؤدي إلى تخفيض هيكل التكاليف الإنتاجية للاستثمارات المذكورة، بما يترتب عليه من ارتفاع مؤشرات الربحية الاقتصادية للاستثمار الأجنبي في العراق، وأن متطلبات هذا النشاط هي التوسع في القطاع الخاص على حساب المكونات الأخرى للناتج المحلي الإجمالي. إن منهجية اقتصادية من هذا النوع ستعطي الحرية لتحديد نمط الإنتاج لقوى الطلب في ظلّ آلية السوق العراقية، وسيترتب عليه سعي نمط الإنتاج نحو طلب ذوي الدخل المرتفع (الأغنياء) باعتبار أن الفئات ذات الدخل المنخفض (الفقراء) لا يشكلون طلباً فاعلاً في هذا النمط من الأسواق مما يضعهم خارج توزيع ثمار النمو.
وهذا يؤكد مرة أخرى على أن وجود قوة خارج "السوق" تضبط سيرها مسألة ضرورية لتفعيل نموذج التنمية الاقتصادية في ظروف الأوضاع الاقتصادية المتحولة، وتتحدد هذه القوة بدور "الدولة" في صورته المتغيرة وفقاً للفهم الاقتصادي وبعيداً عن التطرف الايديولوجي. كما أن هذا الدور لا يعد ضرورة أبدية بقدر ما هو طبيعة مرحلية تتحدد أبعادها وفقاً لتنمية الاقتصاد العراقي وتطوره باتجاه الرفاهية الاقتصادية من جانب، فضلاً عن أن هذا الدور يعد دالة لندرة الموارد في المجتمع العراقي من جانب آخر. ويستأثر النشاط الاقتصادي للدولة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، مع التأكيد على ضمان "الحاجات الأساسية" و "التنمية البشرية" اللازمة لتحسين مستوى الرفاهية العامة، علاوة على متطلبات الأمن الاقتصادي، كما سبقت الإشارة.
وفي معرض مناقشة هذا النموذج الإصلاحي للاقتصاد العراقي، من المفيد تأكيد الملاحظات التالية:(60)
.. إن أول مطلب لإمكانية تحقيق التنمية في العراق هو إنهاء الاحتلال وقيام حكومة دستورية وطنية. ومع أن رياح العولمة لا تستثني أحداً، فلا بد للعراق أن يحقق اندماجاً في الاقتصاد العالمي شرط أن يكون اندماجاً متوازناً وأن لا يتم على حساب التضحية بالمصالح الاقتصادية الوطنية، أو التضحية بالتكامل الاقتصادي العربي. كما أن الحاجة إلى الاستثمار الخارجي المباشر ليس شرطاً أن يكون هذا الاستثمار بصوره المختلفة. فليس من مصلحة العراق بيع مؤسسات القطاع العام إلى استثمارات أجنبية، بل تشجيع الاستثمارات الأجنبية البدء باستثمارات جديدة تتطلب مبالغ كبيرة يعجز عنها القطاع الخاص العراقي أو الدولة.
.. ضرورة التأكيد على تلك الاستثمارات الموجهة لإقامة المصانع والمؤسسات الجديدة التي تمثل إضافة حقيقية لطاقات الدولة الإنتاجية ولها آثار إيجابية في زيادة التشغيل والناتج والدخل، باعتبارها أهم أنواع الاستثمارات التي يحتاجها العراق في الفترة المقبلة وينبغي التركيز عليها بشكل أساس، مقابل تجنب النشاطات المالية التي تدخل تحت تسمية توظيف الأموال والمضاربات دون أن تحقق زيادة مباشرة في الإنتاج.
.. دراسة إمكانية تطبيق مبدأ استثماري عام تجاه رأس المال الأجنبي، وذات علاقة محورية بمسألة إدارة الاقتصاد الوطني، وهو أن لا تقل حصة رأس المال الوطني عن 51% من رأسمال المشروع.
.. أن أية ستراتيجية للتنمية الاقتصادية في العراق تتطلب تحديد والتزام مجموعة مبادئ، تتقدمها: أولوية تنمية الفئات والقطاعات والمناطق الأكثر فقراً (الأقل إنتاجية) وفق مبدأ التنمية من الأسفل إلى الأعلى.. استمرار تبني الدولة ضمان الحد الأدنى لمعيشة المواطنين، بما في ذلك حاجاتهم الأساسية.. تأكيد احتضان الخبرات والمؤسسات العراقية.. تسريع تنمية بقية القطاعات غير النفطية باتجاه تحقيق الهدف الصعب وهو إعادة بناء وتنويع هيكل الاقتصاد الوطني.
والجدير بالملاحظة فيما يخص الاحتلال والاستثمار الأجنبي، يلاحظ أن الاحتلال أعلن غايته في هدفين أساسيين: نشر الديمقراطية وتثبيت الليبرالية/ الرأسمالية. جاء قرار سلطة الاحتلال رقم 29 خلال السنة الأولى السماح بالامتلاك الأجنبي الكامل في كل الصناعات العراقية باستثناء النفط والموارد الطبيعية الأخرى. المفارقة هنا أن هذا التوجه يناقض ما أقرته سلطة الاحتلال نفسها في ألمانيا المحتلة عام 1945 بتحريم الاستثمارات الأجنبية فيها بداية الاحتلال، بدعوى صعوبة تقييم الموجودات الألمانية في غياب استقرار عملتها، وأن السماح للأجانب شراء موجودات ألمانية سيعيق التركيز على نشر وتثبيت جذور الديمقراطية. وهنا يبدو أن المحتل في العراق أكثر اهتماماً برأسمالية السوق (الليبرالية) على عكس ما اعتمده في ألمانيا. وهذه النتيجة تؤكد ما سبق بيانه بِأن المحتل ليس معنياً بالديمقراطية بقدر ما هو مهتم بالهيمنة على الثروات العراقية.(61)
هوامش الفصل الرابع
(1) عباس النصراوي، الاقتصاد العراقي، ص169.
2. Tore Zettarholm, Igå-;-r hade vi Nebukadnessar-en bok om IRAK,1991,several pages.
(3) بخصوص بيانات الاقتصاد العراقي، انظر للباحث، مستقبل العراق..، العراق المعاصر، صفحات متعددة.
4.Sinan Al-Shabibi,”Prospectfor Iraq s’ Economy Facing Reality”,The Future of Iraq,p.54-55.
(5) صبري زاير السعدي، "الأزمة الاقتصادية الخطيرة في العراق ومأزق التنمية والديمقراطية في البلدان العربية: التحديات الخارجية والقلاقات العربية في المشروع الاقتصادي للتغيير"، دراسات في الاقتصاد العراقي، المنتدى الاقتصادي العراقي، لندن 2002، ص25.
(6) نفسه، ص26.
(7) عباس النصراوي، ص37- 38.
(8) صبري زاير السعدي، ص32- 34.
(9) عباس النصراوي، ص182.
(10) نفسه، ص27.
(11) صبري زاير السعدي، ص43- 46.
(12) كامل عباس مهدي، "سياسات الاحتلال الاقتصادية: نظرة نقدية"، ندوة احتلال العراق، ص875-878.
(13) شبكة اخبار العراق للجميع 2ت1/2003..،
Dr Leo Drollas,”Give Iraqi Oil to the Iraqis”, MEES, No.36, 8.September,2003.
(14) أحمد السيد النجار،"مخطط أمريكي جديد لمصادرة مستقبل العراق", الأهرام 26 مايس/ مايو2003.
15.MEES,No.37,15,September,2003.
16. riverbendblog,”The Promise and the the threat”,28 Aug.,2003..
(17) ايلاف، "خبير دولي يحذر من مساومات تجارية تقصف بالعراق- مسؤومون يطالبون بعمولات مقابل تسهيلات في قطاع النفط" 29 تموز2000.
(18) حركة الكفاح الشعبي، البيان السياسي، المؤتمرالموسع الاول، منتصف تموز2004.
19.Sabri Zire al-Saadi,”Economic Liberation and Oil Policy:Vision and Piriorities”,MEES, No.29, 21.July.2003.
20.A F Alhajji,”Privatization and Employment: Implications for Iraq”, MEES,No.43,27.October,2003.
21. Abas Alnasrawi,”The Case Against Privatization”, MEES 45,10 Nov.,2003.
22. Ibid.
(23) ايلاف، 21 (و) 30 أيلول/سبتمبر2003.
* أنظر للباحث، "الاقتصادالعراقي إلى أين؟ نفط العراق"، موقع علوم إنسانية، العدد الرابع،ك1/ ديسمبر2003.
24.Isaam,A.R.Al-Chalabi,”Prospects for Iraq s’ Oil Industry”, The Future of Iraq,p.51.
.. فترة نفاد النفط: الاحتياطي الثابت والمؤكد وجوده ÷ كمية الإنتاج الفعلي.
25. Bruce O.,Riedel O.,TheFuture of Iraq,p.127.
(26) يعتمد هذاالمبحث بصفة رئيسة على: رمزي سلمان، "السياسةالنفطية"، ندوة احتلال العراق، ص907-936..، التعقيبات والمناقشات بصددها، نفس المصدر، ص937- 958..، عصام الجلبي، السياسة النفطية، ندوة مستقبل العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 25- 28/7/2005.
(27) عصام الجلبي، تعقيب على ورقة "السياسة النفطية"، ص929..، سعدالله فتحي، ص932- 933.
28.Saadalla al-Fathi,”Vision of the Future: What s` next for Iraq”,MEES,7,July,2003.
29.Saadalla Alfathi,Op.cit.., Issam al-Chalabi,MEES,The Future of Iraq..
(30) عصام الجلبي، ص929..،Saadalla al-Fathi,MEES,7,2003.
(31) سعدالله فتحي، ص933- 934.
32.A F Alhajji,”Expansion of Iraq s` Oil Production Capacity:TheChallengesAhead”,MEES,No.27,7,August,20-03.
(33) عصام الجلبي، ندوة احتلال العراق، ص927.
34.A F Alhajji,MEES,27,2003.
35.Ibid.
36.Issam al-Chalabi, “Oil in Post Saddam Iraq”,MEES,25-23.6.2003.., MEES,No.42-18,Oct.,2004.
37.Saadalla al-alfathi, MEES,7,2003.
(38) عصام الجلبي، ندوة احتلال العراق، تعقسيب، ص927..، نفسه، "السياسة النفطية"، ندوة مستقبل العراق 2005.
(39) رمزي سلمان، ص918..، سعدالله الفتحي، ص934(ندوة احتلال العراق).
40.Issam al-Chalabi,MEES,25,2003.., Ramzi Salman,”Oil for Reconstruction after Oil for Food”,MEES,No.43,25,August,2003.
41. Abas Alnasrawi,MEES,45,2003.
42.Saadalla al-Fathi,MEES,7,2003..,Sabri Zire al-Saadi,MEES,29,2003..,Issam al-Chalabi,MEES,25,2003.
(43) الأهرام، ملفات الأهرام 19 أيلول2003..،: سعدالله فتحي، ندوة احتلال العراق، ص933.
(44) سعدالله فتحي، ندوة احتلال العراق، ص935- 936.. عصام الجلبي، "قراءة في: صناعة النفط في العراق والسياسة النفطية"، ندوة "مستقبل العراق"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 25- 28/7/2005، ص42..، تقرير لجنة السياسة النفطية.
* انظر للباحث، "نقد العولمة"، الحوار المتمدن، العدد618- 11ت1/اكتوبر2003.
(45) السيد ياسين، "في مفهوم العولمة"، المستقبل العربي، العدد 228، بيروت 1998، ص6.
(46) محمد عابد الجابري، "العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات"، المستقبل العربي، العدد228، بيروت1998، ص16- 22.
(47) سمير أمين، "يعد حرب الخليج، الهيمنة الأمريكية، إلى أين؟"، المستقبل العربي، العدد170/1993، ص4- 6..، ادريس لكريني، "الزعامة الأمريكية في عالم مرتبك"، المستقبل العربي، العد291/2003، ص12- 22.
(48) خيرالدين حسيب، مستقبل العراق، ص108.
(49) محمد عابد الجابري، "العولمة بوصفها أمركة... وراء الأكمة ما وراءها"، موقع الكادر-10أيلول/ سبتمبر2003.
(50) جلال امين، "العولمة والدولة"، المستقبل العربي 228/1998، ص23-36.
(51) محمد عابد الجابري، المستقبل العربي، العدد 228، 2/1998، ص21..، باقر النجار، "العولمة ومستقبل الأسرة في الخليج"، المستقبل العربي، العدد 308، 10/2004، ص141.
(52) جهاد الخازن، "عيون وآذان"، الحياة 3 مايس/مايو2003..، نعمان سعدالين، تعقيب، ندوة احتلال العراق، ص209.
* أنظر للباحث، "ستراتيجية التنمية المعتمدة على النفس"، دراسات عربية، دار الطليعة، السنة 33، العدد 9- 10، تموز/ يوليو- آب/اغسطس 1997، ص13-25..، نفسه، "الاقتصاد العراقي إلى أين: الإصلاح الاقتصادي"، http://www.uluminsania,No.2,2003.
(53) سعدالدين ابراهيم، ندوة التنمية العربية(تعقيب)، 1987، ص78.
(54) يوسف صايغ، "التنمية العربية والمثلث الحرج"، التنمية العربية الراهن 1984، ص101- 107.., اسماعيل صبري عبدالله، ندوة التنمية المستقلة في الوطن العربي، ص27- 28..، نادر الفرجاني، "عن غياب الديمقراطية في الوطن العربي"، ندوة التنمية المستقلة..، ص44..، للباحث، الانتاحية والتنمية الاقتصادية 1988، ص77- 78.
(55) محمود الامام، ندوة التنمية المستقلة، تعقيب، ص87.
(56) اسماعيل صبري عبدالله، ندوة التنمية المستقلة, ص34.., نفسه، في التنمية العربية، ص25-.2.
57.www.islamonline.org-28.3.2005.
(58) السطور التالية في مناقشة موضوع التحرير الاقتصادي، تعتمد على:صبري زاير السعدي، المنتدى الاقتصادي العراقي..، Sabri Zire al-Saadi,MEES,29,2003.
(59) سالم توفيق النجفي، "التنمية الاقتصادية في العراق: الحاضر والمستقبل"، ندوة احتلال العراق، 857- 873..، نفسه، "مستقبل التنمية"، المستقبل العربي، العدد 305، 7/2004، ص8- 976.
(60) ندوة احتلال العراق، تعقيبات، ص879- 905.
(61) رمزي سلمان، "السياسة النفطية"، ندوة احتلال العراق، ص920- 921.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب