الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سؤال المنفى في رواية -القنافذ في يوم ساخن-

ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)

2013 / 7 / 17
الادب والفن



رغم قسوة ومرارة المنفى على الروائي العراقي، إلا أنه شكل إضافة نوعية كبيرة إلى الرواية العراقية. فتخيل كيف سيكون واقعها لو لم يهاجر الروائيون خلال العقود الأربعة الأخيرة؟! حتما ستُثقل جل الروايات بالتهويم والترميز والغموض والتعفف والمهادنة والتبجيل والمجاملة والأدلجة والتحزب الخ، خوفاً وانصياعاً وتملقاً للرقيب بكل أشكاله: سلطوي، أجتماعي، ديني، حزبي الخ. حتى لو لامست الرواية الواقع العراقي المعاش عن كثب لكنها ستبتعد عن الخوض في مشكلات الناس الحقيقية تجنباً الاصطدام بجدار هذه السلطة أو تلك.
بالمقابل توفر للروائي العراقي في منفاه فضاءٌ حرٌ مناسبٌ لإنتاج رواياته بعيداً عن قيود وقمع تلك السلطات، ناهيك عن التلاقح الثقافي مع الأوساط الثقافية المتنوعة التي يعيش فيها المثقف، وهذا مهم جدا لإنضاج التجربة الإبداعية، خصوصا في المنفى الغربي.
كما أن الروائي العراقي المغترب عالج ثيمة المنفى ومحَصْها وفكّكّها وغاصَ في شعابها بصدقِ المجرب والمحترق بنارها. أكاد أجزم أن كل روائي عراقي مغترب قد تناول ثنائية الوطن/المنفى كتجربةٍ ذاتية.
الكاتب فلاح رحيم كانت له تجربته الخاصة بتفريغ قيح المنفى في روايةٍ عنونها "القنافذ في يوم ساخن". وبدءاً من العنوان، العتبة الأولى للنص، يَدخلُ القارئ في معادلة القرب/البعد، الوطن/المنفى. تفسر الرواية عنوانها من خلال الاقتباسات المختلفة عن القنافذ الواردة في البداية. أحد الاقتباسات عن شوبنهور حيث يقول إن هذه الحيوانات تتقارب عندما تبرد، لكن شوكاتها تخز بعضها البعض فتتباعد. لذا يكون أفضل وضعٍ يوفرُ لها الدفء/القرب وفي ذات الوقت النجاة من الوخز/النفي هو في الابتعاد لمسافة معتدلة، لاهي قريبة جداً ولاهي بعيدة جدا.
كما أن القنفذ يتكور على نفسهِ عندما يداهمهُ الخطر وهذه الحالة مُتَمَثَلة بوضوحٍ في شخصية سليم كاظم، الشخصية الرئيسية في الرواية، (...توصلتُ إلى أن المنفى تأجيلٌ مطوَّل نتكوَّر فيه على أنفسنا في عُزلة وانتظار.) الرواية/ ص16.
بعد العنوان تأتي العتبة الثانية وهي الإهداء الذي عزز هذه الثنائية أيضا: (إلى الصديق كامل شياع الذي عاد من المنفى لأنه قرر أن لا يموت). لم يكتف الكاتب بإهداء روايته إليه بل جعله إحدى الشخصيات (شهاب زيدان) التي يلجأ إليها الراوي كلما اشتدت لعنة المنفى، من خلال الرسائل أو تذكر نقاشات قديمة معه أو مكالمات هاتفية. وبهذا يكون للروائي قصب السبق بتحويل شخصية المرحوم كامل شياع إلى شخصية روائية نتعرف عليها عن كثب.
سليم كاظم أستاذ اللغة الإنكليزية يبدأ رحلة المنفى في بداية التسعينات. يعمل كمترجم لثمانية أعوام في شركة نفط بصحراء ليبيا ثم يحصل على عقد عمل كأستاذ في جامعة صُور العُمانية في بداية عام 2006. يسعى جاهدا لتدجين المنفى، معبئاً بقلق البحث عن إجابة لسؤال طالما أرَّقه: (إذا كان هدوء البيت واطمئنانه يدجنِّان الوطن، فما الذي يمكن أن يدجّن المنفى؟) الرواية/ص15. يتوصل إلى الإجابة بعد معاناة كبيرة وخسارات متكررة.
يجد نفسه في مدينة معزولة وصغيرة بين (مَنْفِيِّين) من بلدان مختلفة: فلسطين، تونس، أستراليا، جنوب أفريقيا، أمريكا، بريطانيا الخ. كلٌ منهم له أسبابه التي حَمَلته على ترك بلده واختيار العمل في مدينة صغيرة ونائية.
تكمن حيوية الرواية الأكبر في عنصرين سرديين أجاد الكاتب بصناعتهما؛ الشخصيات والحوار. مَنَحا حياة متحركة إلى واقع مدينة أكثر ما يُميزها السكون والرتابة. على مدى ثلاث وستين فصلاً دوزنَ الراوي إيقاع الروي بوتيرة واحدة ليعكس رتابة الحياة، لكن ما يشوق القارئ للسياحة في عالم هذه المدينة هو فضوله لمعرفة مصير الشخصيات التي أسس علاقة متينة معها، أحب بعضها وكره آخر. فالرواية الجيدة هي التي تصنع شخصية تترك أثرها في ذهن المتلقي سلبية كانت أم ايجابية، شخصية فعالة وليست خاملة.
ساهمت الحوارات في تعزيز عنصر التشويق. لأنها تطرح تساؤلات ما فتئت تؤرقنا وتشغلنا. خصوصا تلك المتعلقة بالطغيان والاحتلال وما تلاه من مشاكل. نقاشات عميقة وغنية تعكس بصدق الحالة الثقافية والنفسية للشخصية المصنوعة في معمل الرواية. كل ما تقوله الشخصيات ناتج عن تكوينها الثقافي والبيئي المرسوم بعناية.
من المعروف أن فن الرواية يسمح بمزج متن الحكاية بعناصر من خارج العالم السردي بشرطين: الأول، أن تستدعيها ضرورات فنية من داخل النص؛ الآخر، أن تُخلط مع العناصر الأساسية وتُعجن بحرفةٍ عالية. رواية "القنافذ في يوم ساخن" استثمرت هذه التقنية واستوعبت وثائق مختلفة (مقالة، رسالتين)، أُذيبتْ في سياق النص وتجانست مع الوحدات التأليفية الأخرى.
الكاتب يعي صنعة هذه التقنية، فجاءت مقالة كامل اشياع (عودة من المنفى) داعمة للثيمة الأساسية، وكانت فرصة مناسبة له لطرح تصوراته عن محنة الوطن وتوثيق رؤيته عن فكرة العودة إلى العراق بعد سقوط النظام البائد.
والحال نفسه بالنسبة لإدراج رسالتين منشورتين في جريدة الأسبوع العُمانية. نسب إحداهما إلى شخصية ساندرا الأستاذة الأسترالية، انتقدت فيها، كردٍ على رسالة أستاذ غربي آخر، بعض الممارسات في المجتمع الغربي وأشادت بما تراه من إيجابيات المجتمع الشرقي، وهو ما جعلها تهاجر شرقاً. تفاعلت الرسالة مع عناصر الحكاية الأخرى، وشرحت حالة النفيّ التي تعانيها ساندرا.
ناقش الراوي الأزمة التي يعيشها العراقي المغترب ولا سيما بعد الاحتلال، حيث صار مهدداً أكثر من السابق باقتحام خصوصيته دوماً. عليه أن يقدم كشفاً مفصلاً بقناعاته السياسية وانتمائهِ الطائفي والعرقي مما يزيد من لوعة الشخصية المحورية الإنطوائية.
ومما يفاقم من انزعاجه بالتورط في نقاشات عقيمة، هو رؤيته الإنسانية المحايدة والمجردة. يقف في بؤرة قصية على مسافة متساوية من جميع الأطراف المتنازعة. وهذا يقوده للاختلاف مع محاوريه بطروحاته المنفلتة من أي أطار حزبي أو عقائدي، وله أيضا رؤيته التحليلية العميقة والمعتدلة بفحص المتغيرات السياسية. في حين تجد محدثيه غالباً ما يتبنون أفكاراً مغلوطة ومتطرفة ولا إنسانية جاهزة وعاطفية.
سافرَ سليم كاظم إلى مدن مختلفة لكنه لم يستحقّ صفة السائحَ (لأنه لم يخرج من أرض ثابتة تحت قدميه تدعى الوطن) الرواية/ ص17، بل زادَ التنقّل من تشتتُّه وضياعه لأنه (يحيا مغامرةَ المنافي المرهقة) الرواية/ ص17. لكن القارئ يحصل على متعة السياحة في سلطنة عُمان بما توفره الرواية من وصف مفصل للمكان، والتعرف على يوميات قسم اللغة الإنكليزية في جامعة صُور، والغور عميقاً في عوالم الشخصيات وتقلباتها النفسية التي تمكن الراوي من نقل انفعالاتها للقارئ بمهارة.
"القنافذ في يوم ساخن" رواية صادرة في عام 2012 عن دار الكتاب الجديد المتحدة/بيروت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202