الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خالو مروان

عصام سحمراني
(Essam Sahmarani)

2013 / 8 / 2
الادب والفن


صبيحة الإثنين من كلّ أسبوع؛ عند السابعة تماماً، أصل إلى عملي في المسبح الخاص. أقف في الممر الطويل، بين صفوف غرف التغيير الرجالية والنسائية، بمراياه الضخمة المعلّقة على الجدران، تشهد مرور مئات الأشخاص أمس وقبله أمامها، تعكس صورهم، وتخزن بعض آثارهم؛ أحمر شفاه هنا، وبصمة يد هناك، ونقاط ماء متجمدة على امتداد سطوحها الملساء.

مرايا لطالما انتصبت مكانها وشهدت مرور أجيال عديدة منذ خمسين عاماً. شهدت مرور الفتاة الصغيرة الشقراء "المهضومة" منذ عشرين عاماً، تحاول الوصول إلى حافتها لرؤية رسمها فلا تتمكن إلاّ بعد أن أساعدها على ذلك، فتضحك بانتعاش مَن تلحّف بغيمات الصبح، وهي تنظر تارة إلى صورتها وطوراً إلى صورتي أبتسم لها.

تكبر الطفلة وتبقى المرآة أمامها.. تأتي مع صديقاتها بعد أهلها في الصبا، لتودّع الصديقات بعدها، وتأتي برفقة خطيبها، الذي سرعان ما يصبح زوجها والد ابنتها الشقراء الجميلة البريئة، تحاول مجدداً الوصول إلى المرآة فلا تتمكن، حتى تساعدها والدتها تنظر إليّ وأنا أراقبهما بزهو وتقول: لا تظنني قد نسيت يا عمّو .

لأجيبها وأنا أردّ لها كلمة "عمّو" التي لم تنادني بها إلاّ في سنوات صغرها، حين كانت تظنني عملاقاً طيباً، يعينها على الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه، ويبادلها شعور الزهو بصورتها: سبحان الله.. لا شيء يرجع إلى الوراء يا عمّو. ليحمِها الله لكِ.

أقول ذاك ولا أعرف ما الذي يعتريني حين أسمع كلماتها التي لم تزل على براءتها؛ أهي النشوة بذكرياتها التي تحفظ لي مكاناً فيها- وهي السيدة الناجحة الشهيرة بأعمالها الأدبية على مستوى بلاد بأكملها! أم هو أسف ما على سنوات شباب لي، ضاعت أمام تلك المرايا بالذات، في الممرّ نفسه. لا يعنيني الأسف فضحكة "الأم الصغيرة" وصغيرتها أقوى من كلّ ذلك.

إحدى المرايا كذلك شهدت مرور طفل لطالما سخرنا منه، وهو يرقص على أنغام موسيقى تنبعث من روحه، ولا يسمعها أحد سواه، فينسلخ عن كلّ شيء إلاّ عن صورته المتلألئة في المرآة. سخرنا منه مراراً وربّما لم يزل بعضنا يسخر، رغم أنّه أصبح واحداً من أهمّ المسرحيين في لبنان!

إذاً فالإثنين، كما العادة، إجازة معلّمي الأسبوعية، أمّا بالنسبة لي فهو يوم التنظيف العالمي، حيث يجب أن يكون المرفق جاهزاً لاستقبال روّاد المسبح ابتداء من الثامنة صباحاً. إذاً فالرقم القياسي يجب أن أحققه كلّ مرة خاصة في ظل دعائنا المتواصل يومي السبت والأحد: اللهم ابعث الرزق! والرزق هو عشرات إضافية من الزبائن تحتلّ عشرات الغرف الإضافية، التي يتوجب عليّ تنظيفها بالكامل الآن.

وأبدأ كلّ مرة؛ أكنس أكثر من مئة وخمسين غرفة، وأمسح الملح والغبار عن أبوابها، وأحمل أكياس النفايات إلى المستوعب. أباشر بعدها بالحملة المائية، حيث يتوجب عليّ أن أغسل الممرّ الكبير الذي يصل طوله إلى أربعين متراً بعرض أربعة أمتار، ومن بعده ممرّات الغرف التي لا يزيد عرضها عن متر واحد بطول عشرة أمتار، وكذلك السلالم الثلاثة المؤدّية إلى المكان. أنشر فوق بلاط الممرات والسلالم الصابون والماء، لأفركها بعد ذلك بالمكنسة الخشنة، وأعمد إلى طرد المياه إلى البالوعات بالجلدة ، وتجفيف ما تبقى بالمماسح الجافة، دون ان أنسى المرايا بالذات التي أشعر حين أمسح الصابون عنها بأوراق الجرائد بارتياح يناسب إتمامي للمهمة كأفضل ما يكون، وأزيح عن كاهلي كلّ التعب، خاصة أنّ الوقت لم يصل بعد إلى الثامنة.

تلك كانت الحالة النموذجية لديّ، لا يعكّر خطواتها أيّ أوامر من مدير المسبح، تولد في باله حين يراني فجأة! ولا يقلقها وصول أحد السيّاح الأوروبيين، ممّن يحلم باسمرارٍ مكثف، فيرصد له يوماً وحيداً مكتملاً لا يخسر من شمسه نتفة أشعة، فينال آخر النهار لوناً مختلفاً بالفعل، لكنّه لا يقترب أبداً من السمرة، بل يتراوح بغرابة بين البندورة والفروج المشوي!

وحده مروان كنت أنتظر زيارته ولا يهمّني إن كنت مشغولاً أم لا. لم أعرف عنه الكثير، ولا أعلم حتى اليوم لماذا لم أكن أهتم بمعرفة المزيد عنه! رغم أنني كنت أجد في حديثه نكهة جميلة محبّبة، وفي تعبيراته الكلامية فرادة.

أنهمك في تجفيف البلاط، وألمحه يركض كعادته بثياب بيضاء كاملة؛ من الفانلة والسروال القطنيين إلى الحذاء الرياضي... حتى عصابة الرأس الخاصة بلاعبي كرة المضرب لا يغفل عنها. أبيض بأبيض كالعادة يثير في مروره الخاطف أمامي تساؤلاً إن كان هو أم لا، أنظر مجدداً وأناديه: مروان، يا كابتن مروان! أين تمضي!؟

يلتفت إليّ دون أن يتوقف عن الجري ليصرخ بصوت منهك: آتٍ إليك.. غطسة وأعود! حضّر القهوة..

وككلّ مرّة أنهي مهماتي بسرعة أكبر وأجده أمامي يحاول تجفيف رأسه من الخلف دون أن يتوقف يوماً عن الإدلاء بما أسميتها قضيته الكبرى: التنشيف أصعب شيء بالحياة!

وأقول له بسخرية واضحة اعتادها مني، بعد محاولات كثيرة للإستيضاح منه عن سر نزوله إلى الماء بكامل ثيابه بعض الركض دون أن يفصح لي يوماً: معك حق والله! لكن ما ذنبي أن تعيد تبليل البلاط مجدداً!؟ قف على هذه الممسحة!

يمسك الممسحة برجله ويفردها تحته وهو يبتسم ويقول: الحق عليك! أنت من ناداني.

يناول أحد الفتية العمال مفتاح سيارته ويطلب منه جلب حقيبته، بينما أفتح له إحدى الغرف، ليعيد مجدداً حديثه الذي لا ينتهي عن التنشيف، مضيفاً إليه هذه المرة مسألة أخرى: ما هذا البخل بأصحاب المسبح، قل لهم أن يبنوا غرفاً أكبر!؟ كيف سأتمكن من التنشيف الآن!؟

ينتهي من ارتداء ملابسه هذه المرة كرجل أعمال لا يزيد على أبيضه إلاّ سلسلة وساعة ذهبيتين في عنقه ويده اليسرى، يقف أمام المرآة، يسرّح شعره الأشيب الكثيف بيده فحسب، ويرش رشات قليلة من عطره المفضّل "كريستيان ديور" دون أن يغفل عن رش من يمر قربه كائناً من كان! ليضع بعدها نظاراته الشمسية ويجلس قربي كعادته، على كرسيّ المعلّم الخيزرانية المطليّة بالأبيض.

في إحدى المرات، ضحك كثيراً حتى تبلّل جبينه من العرق، حين قلت له ساخراً: كلّ هذا الأبيض، وتطلب قهوة!! ألم يكن من الأجدى أن تشرب حليباً أو سحلباً؟؟

قال يومها: القهوة شراب الجميع منذ قديم الزمان... الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والتاجر والفلاح، والموظف والأجير، والمؤمن والملحد، وأنا أحد هؤلاء أو جميعهم في آن!

لا يفصح مروان عن أكثر من ذلك، فهي مسألة تخص ثقته بنفسه وتعامل الناس معه على هذا الأساس كما قال يوماً. لكنني عرفت يوماً أمراً واحداً عنه استغربته، حيث علمت أنّه "مقطوع من شجرة"، فالوالدان توفيا منذ زمن طويل، وتركا له ثروة مالية كبيرة ورصيداً مرموقاً على الصعيد السياسي لم ينازعه أخ أو أخت أو عم أو خال عليهما، فلم يكن لديه أحد منهم يوماً.

عرفت عن ذلك بعدما رأيت صورته في إحدى الجرائد وأنا أهمّ بمسح إحدى المرايا، حيث يظهر خلف رئيس الجمهورية خلال تدشينه لمشروع ريّ في إحدى ضواحي العاصمة. قرأت ما كُتب فلم أجد كلمة عنه، تضاف إلى أبيضه الذي يزيّن الصورة، وينافس خبر الرئيس!

انتظرت مجيئه بفارغ الصبر عسى أن يتكلم هذه المرّة أكثر من عادته بعد أن أواجهه بالصورة. وبالفعل فقد جاء ومارس طقوسه المعتادة قبل أن يخبرني أنّها المرة الأولى التي تظهر صورة له في الجرائد، ولم يكن يريد الظهور لولا إلحاح الرئيس. وأخبرني بعدها بقصة عائلته دون أن يفصح عن هويته، وصدّقت كلّ كلمة قالها، فلا شيء يوحي فيه بأدنى مجال للشك.

لكنّ مروان بعدها لم يعد يظهر أبداً، وظهرت بالنيابة عنه عشرات الفتيات تأتي كلّ واحدة وحدها وتقول لي بعد تأكدها من هويتي: خالو مروان يرسل لكَ سلاماً.

استغربت الأمر في المرة الأولى ولم أطل الكلام معها أكثر من سؤال عام عن أحواله، عساني أحدثه في موضوعها لاحقاً. لكنّ مروان لم يظهر وتكرر مجيء الفتيات اللواتي ينادينه بـ"خالو مروان" إلى المسبح. كنّ جميلات للغاية، بل إنّ كلّ واحدة منهن أجمل من سابقتها، أما الأجمل بينهن فيتكرر حضورهن عدّة مرات على مدار الأسبوع؛ يرتدين ملابس السباحة، ويتلونن تحت شمس النهار الذهبية، ويرحلن دون أن يتحدثن إلى أحد أبداً، رغم أنّ كثيراً من الأشخاص حاولوا الحديث إليهن وخاصة من الشبّان. فلا يعرف مدير المسبح ولا المرتادون ولا الموظفون عنهن شيئاً، وكنت الشخص الوحيد الذي يعلم عن صلة لهنّ بمروان لكنني لم أخبر أحداً بذلك.

طال الأمر على هذه الوتيرة شهرين كاملين، حتى انقطع فجأة وصول أيّ فتاة منهن أعرفها، وأيّ فتاة جديدة ترسل سلاماً من "خالها مروان"، فكأنّ أيّ وجودٍ له ولهن تبخّر كلياً. وليس الأمر أنّني بحثت خارج المكان أو سألت، فأنا هنا داخل المسبح، وهم من يأتون إليّ، وحين ينقطع وصولهم أفقد أي صلة لي بهم تلقائياً.

هكذا فكرت، أمّا ما قدّرته فهو أنّ مروان قد يكون سافر نهائياً من البلد.. ومعه الفتيات اللواتي لسن ببنات أخواته، هذا ما كنت متأكداً منه على الأقل من مروان نفسه قبل ظهورهن.

قد يكون سافر ومعه الفتيات إلى أحد الشواطئ الذهبية، ولطالما قال لي: أحلم بالفردوس، لكنّ جنّة الله بعيدة كلّ البعد عنّي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى