الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة العالم الهشة في بينالي فينيسيا الخامس والخمسين

يوسف ليمود

2013 / 8 / 11
الادب والفن


القصر الموسوعي
في عام 1955 وضع الفنان الإيطالي ـ الأمريكي مارينو أوريتي تصورا لمبنى هائل الأبعاد يكون بمثابة متحف يحوي كل الاختراعات والمعارف الإنسانية، من العجلة إلى مركبة الفضاء. ولسنواتٍ، عكف الفنان على صنع نموذج مصغر لبرجه الذي بلغ 136 طابقا، وبطبيعة الحال بقى تصوره حبيس هذا النموذج ولم يتحقق في الواقع. من هذا الحلم الأوريتي جاءت تيمة بينالي فينيسيا الخامس والخمسين التي أطلقها القائم على أعماله هذه الدورة ميليسيانو جيوني (وهو بالمناسبة أصغر منظم فني اختير لهذا البينالي العريق في تاريخه الطويل إذ لا يزيد عمره عن الخامسة والثلاثين سنة) والذي افتتح في بداية يونيو ويستمر لنهاية نوفمبر، لتكون المغزل الذي تدور عليه وحوله الأعمال المشاركة لأكثر من مئة وخمسين فنانا يمثلون أكثر من مئة بلد منها عشر دول تشارك للمرة الأولى، من بينهم أنجولا التي حصدت جائزة الأسد الذهبي لأحسن جناح، والكويت، البحرين، ساحل العاج، كوسوفو، باراجواي، المالاديف...


البعد التاريخي
فتحت هذه التيمة المعرض على آفاق وموضوعات وتناولات تلامس كل ما يحتويه العالم من أبعاد معرفية، سواء العلمي ـ الرياضي منها أو الحدسي ـ الروحي، فلم تقتصر الأعمال على ما أفرزته القريحة الفنية المعاصرة فحسب، بل انفتحت على البعد التاريخي عبر أهم التجارب والنتاجات، سواء العلمية أو الفكرية أو الفنية، التي تركت علامة في الجسد العام للعالم والتي أُنجِزت على مدى القرن العشرين أو حتى ما قبله. فها هي مجموعة اللوحات الطباشيرية الملونة الشارحة لنظريات الفيلسوف والفنان المتصوف النمساوي رودولف شتاينر تحمل ذبذبات يده. وها هو "الكتاب الأحمر" برسومه التي عكف عليها عالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج 16 عاما، مصوِّرا أفكاره وتأملاته عن الذات. يحضر "الكتاب" كأرشيف أو وثيقة، وكفكرة أو حتى كمفردة بُنيت عليها أعمال فنية مختلفة لفنانين عديدين. كذلك نجد استحضارا لأعمال فنية غشي التاريخ أصحابها، تحكي خطوطهم وأشكالهم عن العوالم الغامضة التي سكنتهم ووجدوا فيها خلاصهم الروحي، عبر محاولات تجسيد اللا مرئي في كونٍ من الهندسة الذاتية الملونة بأقلام الخشب، كالسويسرية إيما كونتز، أو عوالم التشخيصية الرمزية المسكونة بالأشباح كأعمال الفرنسي روجي كايوس... بل إن منسوجة الأعمال اتسعت أكثر لتشمل أشياء وأعمالا لم يكن يُقصد بها حين أنجزت أن تكون فنية بالضرورة، ولكن السياق الذي وُضعت فيه، أدخلها، مفهوميا، في حيز التناول الفني المعاصر.


عالم الأشياء
اللافت للانتباه في المعرض هو ذلك الاحتفاء، وإن بغير وعي ولا قصد، بعالم الأشياء الملموسة، بما فيها اليومي والاستهلاكي وما يدخل في إطار المخلفات والنفايات. فنانون كثر هنا اعتمد عملهم أساسا على دنيا الأشياء يخلقون منها عوالم بديلة مشحونة بهمومهم الفنية وأسئلتهم وتجريباتهم. ومن النماذج التي استرعت انتباهنا في هذا الإطار كان الجناح الأمريكي الذي حوّلته الفنانة الشهيرة سارا زي، بمجموعة من التركيبات الفراغية المدوِّخة بتفاصيلها اللا نهائية من أشياء وعناصر مأخوذة من المحيط والواقع اليومي: علب صفيح فارغة، لمبات إضاءة، أقماع، أواني طبخ، كومات رمل، أسلاك، صور فوتوغرافية وكولاج ورقي... لتخلق منها كوناً موازيا تعتمد جماليته وتعبيريته على حس الهشاشة المتوتر فوق توازنات مرهفة وآيلة للانهدام في أية لحظة. كذلك جناح البرازيل حيث تكدست على عربات خشبية بدائية الصنع كل المفردات والأشياء الشخصية للفنان الراحل أرتور بيبسبو دو روساريو وقد صارت موضوعا للرحيل أو بالأحرى لتآكلات الزمن. ربما أتى هذا الوجود الكثيف لعالم الأشياء اليومية الملموسة كنوع من الحنين إلى لمس جسد العالم الذي سحبت التكنولوجيا سجادته من تحت أرجل إنسان اليوم، أو ربما هي تيمة المعرض التي تبرر هذا الزخم الشيئي، حيث المعارف والاختراعات البشرية منذ السهم الحجري وحتى وقت قريب كانت كلها أشياء ملموسة. الحقيقة المؤكدة هنا هي أن الفن أرشيف ومتحف للعالم ومفرداته.


عالم العناصر
في إشارةٍ جعلتها خشونة المادة المستخدمة مرهفة الشاعرية، اندلق جبل من كسارت الطوب المستنقَذ من حطام المباني وسط الغرفة الرئيسية في جناح اسبانيا، وتمددت أطرافه إلى باقي غرف الجناح التي ضمت في أركانها تلالا صغيرة من مواد أولية كالرمل والتراب والزجاج المفتت، تفتح أفق التعبير على هشاشة العالم وقابليته لأن يصير حطاما، وفي الوقت نفسه تؤكد على الطاقة الكامنة في التراب كأحد عناصر الوجود الأربعة. كذلك يحضر الماء كعنصر وكقوة مهددة بابتلاع المدن واليابسة في الحوض المائي للفنان التشيلي ألفريدو جار. وتتكهرب قطع الأثاث القديمة بالكهرباء وأعمدة النيون في أعمال النيوزيلاندي بيل كولبرت. وترقد "الشجرة العاجزة" هائلة الحجم بطول الجناح البلجيكي، ويرتفع في فراغ الجناح الألماني تركيب معقد من مئات الكراسي الخشبية يحكمه توازن مرهف وعجيب يقلب بتعبيريته وشاعريته الدفينة العالمَ رأسا على عقب. وتأخذ العين والنفس صدمةً صغيرة من لحظة تأمل لا اختيارية ولا متوقعة، داخل الغرفة المظلمة في الجناح الكوري حيث الصمت والظلام التاميْن... واللا شيء. وتنتشر الأجساد البشرية المصنوعة من هياكل حديدية لُفّت حولها مواسير بلاستيك رمادية سالت بفعل النار في الجناح البولندي وكأنها القيامة. أجساد كثيرة بتناولات متعددة الوسائط والأشكال في أركان عديدة في هذا المعرض، من كتل الطين الخام الضحمة المنتشية بثقلها وانعدام الملامح البشرية فيها كما في أعمال الروسي هانز جوزيفسون، إلى حدود الانتشاء بتسجيل الروح الشخصية في لوحات واقعية معاصرة كما في أعمال الفنانة الغانيّة المولودة في لندن لينيت ييادوم بواكي.


الحضور العربي
فيما عدا المشاركة المصرية التي وصفتها جريدة الدايلي نيوز بالهزلية، جاء الحضور العربي في عمومه على مستوى المعاصر، ناهلا من هموم وإشكاليات المنطقة، حيث الهوية، الدين، المرأة، الجنس، الاغتراب... تشكل أبعاد الأسئلة التي تثيرها أو تتلامس معها الأداءات متنوعة الوسائط. فعلى غرار كُتيّب ألبير كامي "خطاب إلى صديقي الألماني" بعد الحرب العالمية الثانية، يكتب أكرم زعتري خطابه بالفيديو، كوسيط، إلى الطيار الإسرائيلي الذي رفض تفجير مدرسة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982. ويحضر الهمّ الفلسطيني في عمل الفلسطينييْن بشير مخول وعيسى ديبي، إذ قدم مخول "الحديقة المحتلة" وهي عمل تفاعلي احتل حديقة كبيرة ملأها بصناديق الكرتون التي تمثل بيوتا يحفر عليها الزائرون ما يريدون من أشكال أو كلمات ويرصّونها كما يريدون. أما ديبي، بعمله الفيديو "المحاكمة"، والذي لا تخفى فيه نبرة السخرية من الواقع السياسي المذري والأليم، يدرك أبعاد المساحة الخيالية البديلة التي يقدمها الفن عن عالم إنساني يتساوى فيه الجميع.

بصهيل أحصنتها البانورامية في لوحتها الضخمة (ثمانية أمتار طولا) تترك مريم حاجي، في جناح البحرين، المشاهدَ لخياله في محاولة فك شفرات لوحتها التي نخال اختيارها لعنوانها "النصر" لا يخلو من سخرية ونقد لثقافة ذكورية ولعالم قوانينه أقرب لتلك التي تحكم الغابة. وفي الجناح نفسه تحضر المرأة بكل الإشكاليات المحيطة بها في ثقافتنا من خلال عدسة وحيدة مال الله، وتحضر الذاكرة الثقافية والمكانية في كولاجات كاميلا زكريا وخربشاته على صوره الفوتوغرافية بحجم كف اليد التي صنع منها انستيليشن حائطيا مؤثرا بصريا. أما الكويت التي تشارك للمرة الأولى فقد مثّلها النحات سامي محمد بنماذج من فنه الوطني بتمثاله الميداني للشيخ عبد الله السالم الصباح وبعض قطع أخرى تتقاطع سياسيا ومفهوميا مع حدث غزو العراق للكويت، والعمل بشكل عام هو موضوع جيد للبحث في إشكالية العلاقة بين الفنان والقائم الفني على اختيار عمله (الكيوريتر).

وتأتي المشاركة المصرية التي اختير لها كل من الفنانيْن خالد زكي ومحمد بنوي لتبرهن على التراجع الحزين والمؤسف الذي بلغ مداه في السنوات الأخيرة. فالعمل الذي مثّل مصر وهو انستيليشن مزيج من النحت التقليدي متوسط القيمة عبارة عن جسم حديدي ضخم مطلي بالذهبي يشبه المومياء وبه فتحات ينظر منها المتفرج فيرى داخله تمثالا صغيرا آخر ولوحا شفافا منقوشا عليه أصفار، تواجه هذه الكتلة، شرائط من الموزاييك مدلاة برتابة على الحائط وحتى أرضية الممشى، وثمة تمثال آخر كبير لدرويش يرقص. غرق صاحب فكرة هذا العمل، خالد زكي، في فانتازياه "دورة الإنسان على الأرض" والتي أراد أن يحكي من خلالها، حسب كلامه في كتالوج الجناح "ملحمة تتجسد فيها معاناة ملايين الكادحين... السائرون الهائمون الذين اختلطت على جباههم قطرات الندى والعرق والدم بتراب الوادي وطميه..." ناسيا اللغة البصرية التي من المفترض أنها هي الأساس هنا.


صورة العالم
في الوقت الذي يغرس فيه الفن مباضعه ومجسّاته في جسد الواقع ومادته وأتفه الأشياء المحيطة به إثارةً لأسئلته الوجودية وانشغالاته السياسية، تكون علامة غير صحية أن يظل فن المؤسسة الرسمية عندنا مطمئنا لقيمه وأداءاته الباهتة وراضيا عن جمالياته التي من كثرة ابتذالها دخلت في عداد القبيح. لقد فازت أنجولا بجائزة البينالي بسبب الفكرة البسيطة الرائعة التي قدمت من خلالها أعمالا فوتوغرافية تصور أشياءً من نفايات العالم: فردة حذاء، كرسي قديم، لعبة طفل، طوبة، شباك بيت... لم تعلق هذه الصور على الحائط كالعادة بل طُبعت كبوسترات على ورق رخيص ووضعت في رزمات على الأرض في أحد القصور الفينيسية العتيقة المكدسة باللوحات الكلاسيكية والجو الارستقراطي، ليأخذ منها الزائر ما يريد. مثل هذه الفكرة التي تنزع القداسة عن مفهوم العمل الفني وتحتفي بتراب العالم العالق في حذاء أفقر إنسان هي ما يمكن أن نقول عليه: هذا هو الفن. روح الهشاشة والبساطة وحس الزوال هذا حاضر ببهاء وقوة في هذا المعرض الكبير كصورة لواقع العالم وحقيقته.

يوسف ليمود
مجلة الدوحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد