الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى كان للإخوان تصور للدولة؟

بودريس درهمان

2013 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


مفهوم الدولة العميقة الذي يتبناه تيار الإخوان المتأسلمين هو مفهوم مستمد من التحليل النفسي الفرودي الذي يعتقد بشكل افتراضي في وجود شيء يسمى العقل الباطن. مفهوم الدولة العميقة الإخواني هو نوع من الاسقاط لمفهوم العقل الباطن الذاتي للفرد المطلق على العقل المجتمعي الدولتي المتعدد، المقيد و المنظم وفق معطيات العلوم الحديثة سواء كانت هذه العلوم قانونية، سياسية اجتماعية أو علوم عصبية.
الاعتقاد في وجود العقل الباطن للدولة، أي ما يسمى الدولة العميقة يلغي كل القوى الفاعلة و يلغي كل القوانين و المساطر و تعدد السلطات المعمول بها بداخل الدول الديمقراطية الحديثة. بالنسبة للإخوان المتأسلمين علاقة العقل الباطن للدولة مع باقي القوى الفاعلة الاخرى كعلاقة العبد و السيد او علاقة الخالق بالمخلوق و هذا لا يمكن ان يتقبله عاقل.
مفهوم الدولة العميقة هو تصور خاطئ لكيفية اشتغال الدول الحديثة و هو مفهوم تخيلي يتم الاستناد اليه من اجل تبرير العجز و تبرير عدم القدرة على مواجهة قوى الكساد الاقتصادي و حركات الفساد السياسي التي تتكاثر كالفطر بسبب الموارد المتعددة للاقتصاد الاسود، كما يتم الاستناد الى هذا المفهوم الخاطئ كذلك لتبرير عدم الدخول في التحالفات الضرورية لمواجهة القوى التي يعمل المجتمع الدولي عبر تشريعاته المختلفة على محاربتها و تجريمها.
هذا التمثل الخاطئ لكيفية اشتغال مؤسسات و اجهزة الدولة الحديثة هو الذي خلق للإخوان المتأسلمين انتكاسة سياسية في مسارهم السياسي خصوصا لما مارسوا انتهازية غير مشهود لها في التاريخ السياسي الحديث حينما قاموا بالاستفراد بالسلطة التنفيذية لجهاز الدولة و حاولوا في ما بعد الاستحواذ على جهاز الدولة بل و عزموا على تحقيق جهاز الدولة الدينية الشمولية الذي يشرع و يقاضي و ينفذ في نفس الوقت، بدون اي مراعات لمبدأ فصل السلط.
هذا التمثل الخاطئ من طرف الإخوان المتأسلمين لكيفية اشتغال الدولة المدنية الحديثة جعلت بعض القوى الدولية الذكية تقوم بتوظيفهم من أجل تحريك التاريخ في الاتجاه الخطأ أي في اتجاه خلق حمام دم كما حدث في الجمهورية المصرية و في اتجاه خلق العجز الاقتصادي كما حدث في المملكة المغربية و لربما حتى في اتجاه خلق الانتكاسة الحضارية كما بدا يتجلى في الجمهورية التركية اللائكية.
الاعتقاد في وجود شيء اسمه الدولة العميقة المتماثل مع العقل الباطن الذي استند اليه التحليل النفسي الفرويدي لثلاثينيات القرن الماضي لا يمكن بتاتا ملامسته و معاينته في كيفية اشتغال الدول الديمقراطية الحديثة، لأن أي واقعة سياسية إلا و يمكن استخلاص بأنها خلاصة لتفاعلات قوى سياسية متعددة و حتى لو افترضنا بوجود حقيقي للدولة العميقة فهذه الدولة العميقة ستجد نفسها في مواجهة مع قوى سياسية و اجتماعية أخرى و ستتحول هي الاخرى الى قوة سياسية من بين القوى السياسية المتنافسة على نسبة التمثيلية الديمقراطية في الجهاز التنفيذي. الاعتقاد في وجود الدولة العميقة هو اعتقاد مناور فقط و يتوخى المساهمة في تعجيز القوى السياسية و الاجتماعية من اجل عدم بناء نموذج حقيقي للدولة الديمقراطية المبنية على التعدد السياسي و احترام القوانين.
مفهوم الدولة العميقة مفهوم مثالي متحايل و بدون اي قوة مادية ملموسة و هو مفهوم مناور يتوخى تحييد القوى السياسية المادية الفاعلة في التاريخ عن طريق التنويم كما تقوم بذلك تقنيات التنويم المعمول بها في نظريات التنويم الفرودية. معاينة معطيات الواقع لا تسمح بالاعتقاد في وجود شيء اسمه الدولة العميقة في حين معاينة هذه المعطيات و في جميع الدول الديمقراطية الحديثة تسمح بالتسليم بوجود شيء اسمه المؤسسات و القوى السياسية و النقابية بالإضافة الى المفكرين و المثقفين و الاعلاميين و القوى العاملة المنتجة. وهذه المؤسسات و القوى المنتجة تتكتل بداخل النسيج الاقتصادي و المجتمعي على شكل اعمدة متينة تستند اليها اجهزة الدولة من اجل حماية الوطن و المواطنين.
اذا كان مفهوم الدولة العميقة مفهوما مثاليا شبحيا و متحايلا على مجريات الأحداث فان مفهوم أعمدة الدولة، هو مفهوم علمي يساعد على معاينة تكتلات سياسية و نقابية متحالفة مع قوى منتجة و فاعلة و هذه الاعمدة هي التي تضمن التحولات الديمقراطية المستمرة و الدائمة و هذه الاعمدة هي التي تضمن استمرارية النموذج الديمقراطي المتعدد.
أعمدة الدولة لا علاقة لها بشيء اسمه الدولة العميقة لأن هذه الاعمدة هي قوة مادية ملموسة في الحقل الاجتماعي و السياسي و على أحد هذه الأعمدة ينبني الجهاز التنفيذي الذي تفرزه صناديق الاقتراع.
كلمة أعمدة الدولة هي جمع لكلمة عمود او عماد و مفهوم العمود او العماد هي ترجمة حرفية لكلمة COLONNE باللغة الفرنسية، و هي مفهوم علمي مشتق من العلوم العصبية الحديثة التي أثبتت حقائقها العلمية أن الخلايا العصبية للدماغ البشري تترابط في ما بينها على شكل أعمدة عصبية COLONNE CEREBRALE، و نفس الشيء بالنسبة للخلايا الاجتماعية و الاقتصادية التي تشتغل على شكل مترابطات تعبر عن نفسها بواسطة تمثلات و تصورات فكرية سياسية و أمنية متراصة. مفهوم العماد هو مفهوم مادي صلب في حين مفهوم الدولة العميقة هو مفهوم اجرائي مخابراتي مناور اقرب في دلالته الى المفهوم الانكلوساكسوني المعمول به في مجال المخابرات و المعروف بتقنية stay behind، بمعنى الوقوف وراء الاحداث و مراقبتها و توجيهها حسب الحالات و التحولات الدولية، هذه التقنية التي يستند اليها مفهوم الدولة العميقة تتوخى الغاء كل القوى السياسية الفاعلة و جعلها رهينة لقوة شبح أشبه بالقوى الشبح التي تتحكم في مفاصل الدول الدينية القائمة على سلطة الفقهاء.
العالم العصبي الفرنسي جان بيير شانجو الذي يعود اليه الفضل في اكتشاف الموصلات العصبية يؤكد في كتابه الانسان العصبوني بان الدماغ البشري يتكون من ثلاث انواع من الخلايا هذه الخلايا هي: الخلايا الهرمية، الخلايا على شكل نجوم و الخلايا المغذية. الخلايا الهرمية تخترق الدماغ البشري من النخاع الشوكي على مستوى الجذع الى الجبهة الامامية على مستوى الفص الأمامي و هذه الخلايا يؤكد معظم علماء الاعصاب بأنها تترابط في ما بينها على شكل أعمدة في حين الخلايا على شكل نجوم فهي موضعية و تقتصر على ترابطات محلية محدودة.
مفهوم اعمدة الدولة هو اشبه بتلك الخلايا الهرمية التي تخترق كل مفاصل المجتمع و ثنايا الاقتصاد و البنيات الذهنية و التصورات المتعددة و هذه الخلايا الهرمية تنتظم على شكل أعمدة تساهم الاحزاب السياسية و النقابات و المثقفيين و الاعلاميين في الانصهار معها وفق التحولات الدولية و الضرورات الاقتصادية.
مفهوم الاعمدة العصبية هو اكثر اداء و اكثر نجاعة من كل التنظيمات الاخرى بما فيها تنظيم حزب الطبقة الاجتماعية أو تجمع الاخوانية الدينية المتعالي على المجتمع بالإضافة الى شيوخ العشيرة و القبيلة.
مفهوم الاعمدة العصبية هو مفهوم تتداخل فيه كل الانشطة السياسية الاقتصادية الفكرية و الثقافية و كل عمود من هذه الاعمدة إلا و يتميز بالانسجام على مستوى الرؤيا بين كل مكوناته و القاسم المشترك بين كل الاعمدة العصبية للدولة هي الهوية الوطنية المكونة من الثقافات الوطنية المتعددة بالإضافة الى العقائد الدينية التي تكون في بعض الاحيان عقائد دولة و في احيان أخرى عقائد مجتمع.
مفهوم الدولة العميقة مفهوم تنويمي مثله مثل العقل الباطن الذي يعمل التنويميون على تنويمه من اجل العلاجات النفسية و هو نفسه العقل الذي يعتمد عليه المتأسلمون من اجل التقاط اشارات و فلتات لسان السلطة و زلاتها من اجل تبرير الافعال المرتكبة و اعتبارها من تخطيط العقل الباطن للدولة.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ومتى كان للعسكر والانقلابيين مفهوما للدولة؟
عبد الله اغونان ( 2013 / 8 / 23 - 15:53 )
الدولة أرض ونظام وقانون وأرقى انواعها الصادرة عن اختيار شعبي بالانتخاب المباشر
واختار جل المصريين الاسلاميين؟ اذا فاختيارهم شرعي ومشروع وديمقراطي
ولايفترض في أية دولة أن تكون مثالية تلبي كل الرغبات وتحل كل المشاكل خاصة في المنعطفات
اذ لو درسنا أية ثورة لوجدنا أنها يلزمها وقت وهدوء من أجل العمل الجاد وذلك مالم يتوفر لمحمد مرسي اذ عارضه خصومه حتى قبل انتخابه
الثورة الفرنسية كم لزمها من الوقت والتضحيات والأخطاء والسنوات كي تحقق الاستقرار
المشكلة ليست في الخلاف السياسي بل في انعدام الحوار بين الانتهازيين والحاقدين العنصريين الاستئصاليين لاحوار معهم بل مواجهة بكل أنواع الأسلحة

اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي