الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اثريات ( فهم الدين ) نقض احتكار الراسمال المقدس او الهيمنة على تأويل الخطاب ( حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية ) 12

يوسف محسن

2013 / 8 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


( حوارات في جهود المفكر الديني الاصلاحي يحيى محمد الفلسفية والمنهاجية ) 12


-;- يوسف محسن
[email protected]

نقد العقل العربي
دراسة معرفية تُعنى بنقد اطروحات مشروع (نقد العقل العربي) لمفكر محمد عابد الجابري
12

اصدر يحيى محمد كتاب (نقد العقل العربي دراسة معرفية تُعنى بنقد مطارحات مشروع (نقد العقل العربي) للمفكر المغربي محمد عابد الجابري ، يتكون من قسمين رئيسيين أحدهما يتعلق بنقد الجابري حول نظرته الكلية اتجاه دراسة التراث ورؤيته الخاصة للعقل العربي بما يتضمن من أنظمة معرفية، وهو يشمل ثلاثة فصول ، الفصل الاول يتعلق بكيفية دراسة التراث من الناحية المنهجية، والفصل الثاني يتعلق بتحديد هوية العقل الذي انطوى فيه التراث إن كان عربياً أم إسلامي، والثالث يتعلق بنقده في تحديد أنظمة العقل العربي وما تتضمنه من علوم ومذاهب. أما القسم الثاني فيختص بموضوع الفصل والقطيعة التي أقامها الجابري في الفكر العربي الإسلامي، وبالتحديد في الميدان الذي يعود إلى الفلسفة والتصوف، حيث يحتوي على فصلين؛ الفصل الأول يتعلق بالفصل الذي أقامه الجابري بين إبن سينا والمشرقيين من جهة، وبين أرسطو والمشائين من جهة أُخرى. أما الثاني فيتعلق بالقطيعة التي صوّرها بين الفكر المغربي والفكر المشرقي من العالم الإسلامي. وفي آخر الكتاب يقدم يحيى محمد مجملاً لأهم المفارقات والتناقضات التي سقط فيها مشروع (نقد العقل العربي)

منهجية القراءة
يقول يحيى محمد : إننا نتناول مشروع (نقد العقل العربي) بنوع من التركيب والتفكيك. فمن جهة إننا لا نقصد به مجرد أجزائه الثلاثة التي دخلت تحت هذه التسمية، وهي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي)، بل نضيف إلى ذلك كل ما كتبه الجابري حول التراث مأخوذاً بنظر الاعتبار طريقته المنهجية في دراسة الفكر العربي الاسلامي، لذلك نحن نأخذ بنظر الاعتبار دراسات قُدمت بهذا الصدد لم تكن منضوية تحت تلك التسمية، وبكيفية خاصة الدراسة الهامة التي جاءت تحت عنوان (نحن والتراث) والتي نُشرت قبل هذا الكتاب ببضع سنوات. أما من جهة أُخرى فقد اقتصر تعاملنا مع كتاب (نقد العقل العربي) على الجزئين الأولين منه دون الجزء الثالث المسمى بـ (العقل السياسي العربي) لقناعتنا بأن الجابري أقام حاجزاً فاصلاً بين نقده للعقل النظري والعقل العملي السياسي من (العقل العربي)، فهما عبارة عن عقلين (منفصلين) لا علاقة لأحدهما بالآخر. إذ الأول يبحث في (العقل العربي) بما هو تنظير وفكر، بينما الثاني لا يعالج موضوعه على هذا المستوى كما يفعل المنظّرون من أمثال الماوردي صاحبـ (الأحكام السلطانية) وغيره، بل يكتفي بمعالجة الواقع السياسي العربي ودوافعه. ولا شك أن الغرض من نقدنا هنا لا يتجاوز الطروحات التنظيرية للفكر، دون أن يكون له علاقة بحركة الواقع السياسي وتطوراته.
ويبين يحيى محمد : ان أهم ما يمتاز به مشروع الجابري هو الطرح المنهجي لدراسة تاريخ الفكر العربي الإسلامي. لكن استراتيجية البحث التي اعتمدها اتصفت بأنها تترصّد هذا الفكر كـ (موضوع في ذاته) بغض النظر عن اعتبارات هامة تتعلق بكون هذا الفكر ليس منفصلاً عن فهمه للخطاب الديني أو الشريعة. إذ كان صاحب المشروع يبحث عن طريق وسند تراثي من ذلك الفكر ليجد ضالته نحو التجديد والتغيير، معتبراً أن تاريخ الفكر العربي الإسلامي يحمل لحظتين مختلفتين، سلبية وايجابية، شرقية ومغربية، لا معقولة ومعقولة، مما دفعه إلى المراهنة بالانطلاق من اللحظة المغربية (المهملة) كخطوة أساسية نحو المعقولية والعقلانية، فالتغيير والتجديد لا يأتي عنده بأكثر من إحياء هذا التراث المهمل والانتظام به مثلما حصل في الغرب. لكنّا في دراسة سابقة عوّلنا على استرتيجية أُخرى لم نبغِ فيها قراءة الفكر العربي الإسلامي كـ (موضوع في ذاته)، بل توخينا بحث هذا الفكر من حيث علاقته بفهم الخطاب. أي أن ما فكرنا به كشاغل أساس هو حل اشكالية هذا الفهم على الصعيد الابستمولوجي (المعرفي العلمي)، فخلق النهضة والتجديد الحضاري لا يمكنهما أن يكونا بمعزل عن هذه الاستراتيجية الضخمة، وليس بالتراث المعرفي وحده. ذلك لأن حضارتنا كما يقول حسن حنفي هي حضارة مركزية، وليست طردية كما هو الحال مع الحـضارة الغـربية وبعبارة أخص هي حضارة كان فيها تاريخ الفكر الإسلامي مديناً بوجوده وصيرورته إلى (فهم الخطاب) وبالتالي فهي عبارة عن حضارة (فهم) قبل أي ممارسة معرفية أُخرى. مما يعني أن أي نهضة وتجديد حضاري يتعذر عليها اجتياز القنطرة ما لم تمر عبر ذلك الفهم، لا بتجاوزه.

مشروع الجابري والتحليل البراني لوحدة العقل
يرى يحيى محمد : ان أهم الدراسات الحديثة التي جسّدت النهج البراني بشكله الأخير هي تلك التي تعود إلى الجابري. فقد اتخذت من وحدة العامل الجغرافي والاستمرارية التاريخية أساساً لتعليل وحدة العقل العربي الإسلامي، فتوصلت إلى أن مردّ آلية البنية والثبات تعود إلى وحدة التكوين والمنشأ التي تحددها البيئة العربية، ومن ثم تجسّدها الصيرورة التاريخية متمثلة بالعامل السياسي. مما يعني أن هذه الدراسة قد جمعت بين التحليلين البيئي والتاريخي كأساس لإثبات الوحدة المعرفية، وعملت على المزاوجة بين ثلاثة أنواع من الطرح هي الطرح البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الآيديولوجي.
ففي الجزء الأول من مشرع نقد العقل العربي (تكوين العقل العربي) كرّست الدراسة جهدها لممارسة التحليل التاريخي والكشف عن الاستمرارية التاريخية كأساس لتجسيد الوحدة المعرفية. وكما يقول الجابري: «نحن مطالبون إذاً باعادة كتابة تاريخنا بإحياء الزمنية والتاريخية بين مفاصـله وفي أصولـه وفروعـه»، مستفيداً في ذلـك من الصيرورة التاريخية للعامل السياسي البراني.
أما في الجزء الثاني من المشروع (بنية العقل العربي)؛ فقد كان الجهد منصباً باتجاه التحليل الجغرافي ومفرزاته كأساس لتحديد الوحدة البنيوية المتمثلة بطبيعة العقل العربي. فقد حاول الجابري في طرحه البنيوي أن يثبت لنا تاريخاً قائماً على الوحدة المعرفية، لكنها وحدة مؤسسة على العامل الجغرافي ومفرزاته اللغوية. فهو لم ينظر إلى التاريخ العربي بأنه تاريخ فرق ومقالات وطبقات، بل رآه تاريخاً استمرارياً ووحدوياً قائماً على أساس بناء الرأي ، ومن ثم قـرأ الفـكر العـربي الإسلامي بوصفـه حامـلاً لأدوات مـشتركـة ثابتـة تـضم مختلف الاتجاهات المعرفية، مما جعله يتجاوز اختلاف موضوعات هذا الفكر ليغور إلى صميم البنية المشتركة للعقل كوحدة معرفية تسترها الاختلافات الظاهرية من الموضوعات. فقد أخذت قراءته الجديدة «تنظر إلى الأجزاء من خلال الكل وتعمل على إبراز الوحدة من خلال التعدد وتعتمد في التصنيف البنية الداخلية وليس المظاهر الخارجية وحدها»، كما أنها تبرز «جوانب الإتصال والارتباط، بل الوحدة العضوية بين قطاعات تعتبر في التصور السائد قـطاعات مستقلـة منفصلـة بعضها عن بعـض». وبهذا فقد استخدم منظاراً كلياً في قراءته لتطور الثقافة العربية، فنظر إلى فروعها مثل النحو والفقه والكلام والبلاغة والتصوف والفلسفة وغيرها «كغرف في قصر واحد متصلة مترابطة يقود بعضها إلى بعض عبر أبواب ونوافذ، وليس كخيام منعزلة مستقلة منصوبة في ساحة غير ذات سور ولا سياج». وهو مع ذلك لم يُخفِ أن أساس هذه النظرة الأكسيمية الجوانية منبعث عن الطابع الجغرافي ومفرزاته الخاصة
هكذا فتلك الدراسة تتناول منوالين متواصلين يستحقان النقد: الأول يتعلق باثبات وحدة التاريخ العربي واستمراريته؛ كموضوع يتحقق فيه البناء المعرفي الوحدوي. اما الثاني فيتعلق بالدور الذي أُعطي للعامل الجغرافي ومفرزاته في تكوين العقل العربي وتحديد بنيته أو وحدته المعرفية. فقد جاء كلا الطرحين ـ الذين شغلا الجزئين الأول والثاني من مشروع نقد العقل العربي على التوالي ـ على حساب المنطق الأكسيمي للمعرفة، ولو من حيث لم يرد المشروع ذلك، لأنه قام أساساً لتثبيت هذا المنطق، كما شهدت عليه محاولته الخاصة بطي تاريخ الفكر العربي ضمن الوحدة المعرفية المتمثلة بالعقل العربي. لكن تأسيسه لهذه الوحدة وإقامتها على وحدة التاريخ والجغرافيا جعلته يضطر إلى أن يمارس حالة الهدم والتفتيت فيها، خصوصاً وقد كان للعامل الآيديولوجي دوره في هذا المجال على ما سيتبين لنا لاحقاً..

المشروع وتقسيم تاريخ الثقافة العربية
أول ما يلاحظ هو أن الجابري قام بتقسيم تاريخ الثقافة العربية إلى لحظتين اعتبرهما منفصلتين بفاصل (القطيعة الابستمولوجية). ويُعدّ هذا المفهوم من أهم المفاهيم التي وظّفها في المشروع خدمة لأغراضه الآيديولوجية. وهو مفهوم يرجع تاريخ استخدامه إلى فيلسوف العلم الفرنسي (باشلار)، فهو أول من استخدمه في مجال العلوم الطبيعية، معتبراً أن العلم لا يتطور بصورة إتصالية تراكمية، بل يتحول بطريقة إنفصالية تسود فيها المفاهيم الجديدة تاركة خلفها تلك المفاهيم التي سبقتها. وقد تسرب استخدام هذا المفهوم الى مجالات أُخرى غير علمية، فطبقه الفيلسوف الفرنسي (التوسير) على العلاقة بين هيجل وماركس، إذ كان هذا الأخير تابعاً للأول، حتى إنتهى به الأمر إلى أن ينقلب عليه منهجياً بعد دراسته وتحليله للاقتصاد الرأسمالي، كما في كتابه (رأس المال). وهذا ما دفع الجابري الى القيام هو الآخر بعملية توظيف وتطبيق للمفهوم على تاريخ الفكر العربي الإسلامي، معتبراً أنه يمكنه بذلك أن يصنع تاريخاً لفلسفة لا تاريخ لها، وهي الفلسفة العربية، من حيث أنها كانت قراءات مستقلة ومتوازية لـفلسفـة معينـة ، فهو بمفهوم القطيعة جعل الفكر العربي منقسماً إلى لحظتين؛ إحداهما مشرقية ترتبط بكل من الاسماعيلية والفارابي وابن سينا والسهروردي والغزالي وصدر المتألهين ثم داخل الفكر الايراني إلى اليوم الحاضر، بينما ترتبط اللحظة المغربية بكل من إبن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون والشاطبي، وكل من يقوم على النموذج الأرسطي باستخدامه طريقة (البرهان) وتحصيل القطع في النتائج من خلال التسليم بمبدأ السببية الحتمية. وهو بذلك المفهوم يقضي على ما هو مسلم به من القول بأن الفلسفة في الأندلس هي استمرار للفلسفة في المشرق. فبرأيه أن الفلسفتين متقاطعتان بكل من الاشكالية والمنهج والمفاهيم والرؤية

الخلط بين مفكري اللحظة المغربية
عرفنا ان منطق الجابري محكوم بهاجس بناء الوحدة والاستـمرارية التاريخية للحظة المغربية طبقاً للتفسير السياسي للدولة في الأندلس. وهذا ما اضطره إلى الخلط بين مفكري هذه اللحظة وضمهم جميعاً تحت سقف النظام البرهاني الأرسطي مع كل من الفيلسوفين الأندلسيين؛ إبن باجة وإبن رشد، رغم أن بعضهم ينتمي صراحة إلى (النظام البياني) أو المعياري، وبعض آخر ينتمي إلى النظام العرفاني. فإبن حزم والشاطبي وإبن خلدون ينتمون إلى النظام الأول، فهم على الأقل لم يركنوا إلى سلطة مفهوم السببية الأرسطية كما توهّم الجابري، بل خضعوا لسلطة أُخرى، هي التجويز (البياني) أو (المعياري). كذلك فإن إبن طفيل لا ينتمي إلى النظام البرهاني، بل هو صريح الميل والانتماء إلى العرفان، كما سيمر علينا تفصيل ذلك فيما بعد.

آيديولوجيا المشروع
يوضح يحيى محمد : إن السبب الذي أفضى بالجابري إلى قلب المفاهيم والخلط بين المفكرين للحظة المغربية، يعود إلى ما يحمله من آيديولوجية (تأسيسية)، فهو يشترط على النهضة العربية التي يدعو لها أن تكون منتظمة طبقاً لتراث وحدوي وتاريخ استمراري، مثلما حصل في العالم الغربي. لكن حيث إنه لا يوجد عنده سوى لحظتين، مشرقية ومغربية، وأن الأُولى ما زالت حاضرة في تفكيرنا إلى يومنا الحاضر، وحضورها قد اقترن مع ظاهرة الإنحطاط الحضاري التي مرت بها الأُمة العربية والإسلامية دون أن تغيّر من الواقع شيئاً، الأمر الذي جعله يصبغ عليها جميع أنواع التهم، فهي بنظره لحظة لا عقلية، قوامها اللا معقول المتمثل أساساً بالنزعة السينية التي أدخلها الغزالي بصوفيته في الإسلام، والتي تمسك بها العرب قروناً عديدة فأخرجتهم خارج التاريخ، بخلاف الحال مع اللحظة المغربية لأنها سرعان ما غُيّبت ولم يظهر لها حضور واقتران مع ظاهرة الانحطاط، بل كان لها تأثيرها العميق على النهضة الغربية، خصوصاً فيما يتعلق بالفلسفة الرشدية.. فكل ذلك جعل من الجابري يراهن على هذه اللحظة التي تضم تلك الفلسفة ذات النزعة (العقلانية) القائمة على (البرهان) ، مما اضطره إلى فرض تأويله واسقاطاته عليها كي تتم عملية الإلتحام والإحياء الحضاري من جديد، شبيه بما فعله العالم الغربي. وكأنه بهذا يستند إلى نموذج شاهد ليقيس عليه ما هو غائب !

العقل في التاريخ
إلى هذا الحد كما يقول يحيى محمد نلمس وجود التضاد بين تأسيس الوحدة الابستمولوجية في التاريخ المعرفي كما يرمي اليه الجابري، وبين تأسيس هذا التاريخ في تلك الوحدة كما ندعو اليه. فالفارق بينهما هو ذاته يعبّر عن التنافس بين أن يكون التأسيس مجعولاً نحو اعتبار العقل في التاريخ أو التاريخ في العقل، أي بين أن تكون قراءة التراث المعرفي برانية أو جوانية. ويتحد هذا الفارق بخصوصية أشد بالبحث عن معرفة هوية التراث. فالمنافسة بين التاريخ والعقل، أي بين أن يكون العقل في التاريخ أو التاريخ في العقل؛ تتحول إلى منافسة تخص البحث عن هوية التراث فيما لو كانت طبيعته قومية (تاريخية) أو متعالية (عقلية)، كإن تكون دينية (معيارية). فحتى العنصر الأكسيمي للتراث ووحدته الجوانية يمكن النظر اليه بالبحث عما إذا كان عرضياً طارئاً على المعرفة من الخارج، كإن يكون مصدره البيئة الجغرافية أو العرق أو ما شابه ذلك، أم أنه ذاتي في النظام المعرفي لا يعلل بالعناصر البرانية؟
ويلاحظ بهذا الصدد أن مشروع (نقد العقل العربي) قد مركز ثقله باتجاه تغليب التاريخ والبرانية الجغرافية على العقل والجوانية المعرفية. فهو مشروع يدافع عن تاريخية العقل العربي وعروبته المستمدة من البيئة الجغرافية ومفرزاتها اللغوية. الأمر الذي دفعنا إلى نقده

عقل: عربي أم إسلامي؟
مبدئياً، وقبل الدخول في تحديد دقيق للمسألة، قد يقصد بالعقل العربي الإسلامي ما يمثل النتاج الفكري لكافة نواحي العلوم العربية والإسلامية كالفقه والكلام والتفسير وغيرها. كما قد يقصد به ما يمثل الطريقة التي تتشكل عليها عملية الانتاج المعرفي لتلك العلوم. وواضح أن الموقف الأخير ليس منفصلاً عن الموقف الأول، فهما مربوطان برباط التوليد والانتاج.
ولأول وهلة، قد يرى الناظر أن التساؤل عما إذا كان العقل الخاص بتراثنا عربياً أو إسلامياً، هو تساؤل ليس له معنى ولا جدوى، فهو عقل عربي إسلامي، لاستحالة التفكيك بينهما مثلما يستحيل التفكيك بين الماهية والوجود في الفلسفة. إذ الثقافة العربية هي في غالبها ثقافة إسلامية، والثقافة الإسلامية غالباً ما تكون ثقافة عربية هي الاخرى، وبالتالي فإن العربية بما تكنّه من خصوصية لغوية وثقافية هي بمثابة الإسلام كشريعة. حتى أن بعض القدماء صوّر هذه العلاقة كما هو الحال مع أبي عمرو بن العلاء بقوله: «علم العربية هو الدين بعينه».
لقد كان من المفروغ منه، أن العقل العربي الإسلامي يستمد روح موضوعه الأساس من النص المقدس كمادة خام، فأداته تنهج نحو توظيف النص في تشكيل الثقافة العلمية وانتاجها. وحيث أن النص المقدس يمتلك في حد ذاته اعتبارين أساسيين، فهو من جهة يمثل ذات اللغة العربية، لكنه من جهة أُخرى له قدسية شرعية خاصة أضفاها الشارع الإسلامي عليه، وبالتالي فهو ليس كأي لغة ولا كأي نص كان، بل هو نص لغوي محمّل ومشحون بالقدسية الدينية.. لذا فإن العقل العربي الإسلامي يصبح ذاته حاملاً لمادة ذات طبيعة مزدوجة، فهي من جهة مادة لغوية قد تساهم بدرجة ما في حمل صورة الواقع العربي وعكسه على صعيد العقل، لكنها من جهة أُخرى عبارة عن مادة دينية ذات صبغة معيارية قائمة في الأساس على نظرية التكليف بما تعبّر عن علاقة المكلِّف بالمكلَّف. فإذا كان هذا الازدواج قائماً في ذات النص والذي ينعكس بدوره على العقل الذي يستمد غذاءه من النص؛ لذا يصبح من الواضح ضرورة التمييز والكشف عن حقيقة البنية الأساسية للعقل وطبيعة العامل الفاعل في النشاط الابستمولوجي الذي يقوم به في عملية الإنتاج المعرفي.
لا شك أن هناك بعض المبررات التي فرضت نفسها على الجابري لجعل مشروعه موسوماً بـ (العقل العربي) بدلاً عن (العقل الإسلامي). وهو وإن لم يتعرض صراحة إلى علة هذا الترجيح والتفضيل ضمن طيّات مشروعه الضخم، الا أن كثرة إلحاح السائلين عن ذلك حدتْ به إلى أن يقدّم لنا عدة مبررات. فذكر في بعض المناسبات أن ذلك يعود إلى ما في اللغة العربية وعلومها من دور كبير وحاسم في تشكيل آليات المعرفة وبناء أُسسها. كذلك فلأن عبارة (العقل الإسلامي) لا يمكن أن تدل في حقل الثقافة العربية الا على مثل ما تدل عليه عبارة (العقل المسيحي) في الثقافة الاوروبية، مع أنه ـ كما يذكر ـ ليس من اهتمامه ولا من اختصاصه التحرك في اطار (العقل الديني) إسلامياً كان أو مسيحياً.
وفي مناسبة أُخرى أوضح أن اختياره هو اختيار استراتيجي، مبدئي ومنهجي، وذلك لاعتبارين؛ أحدهما يتعلق بحدود امكاناته الخاصة، إذ يتصور أن عبارة (العقل الإسلامي) من المفروض أن تضم كل ما كتبه المسلمون أو فكروا فيه، سواء باللغة العربية أو غيرها، مع أنه ـ كما ذكر ـ لا يتقن في هذا المجال الا اللغة العربية. أما الاعتبار الآخر فيتعلق بطموحاته، ذلك لأنه لا يطمح إلى إحياء وانشاء علم كلام جديد، وعبارة (العقل الإسلامي) لا تتجرد من المضمون اللاهوتي، في حين أن مشروعه قائم على البحث الابستمولوجي في أدوات المعرفة وآلياتها، وهو متوفر في اللغة العربية ذاتها، خاصة وأن هذه اللغة وعلومها لها الدور الكبير والحاسم في تشكيل آلية المعرفة ورسم صورة العالم، بعيداً عن مجال الدراسات اللاهوتية الكلامية وغيرها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53