الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتريات الحب والحرب : رواية الفصل22

حبيب هنا

2013 / 8 / 28
الادب والفن


- 22-
لم يحتمل أهل البيت النحيب الداخلي لروح تالا، التي غدا الصمت يلفها بعباءة سوداء دون سماع صوته الصاخب، فعمدت الأخت الصغرى إسراء إلى الإسراع في إخراجها من هذه الحالة عبر الإشارة إلى الطريق الموصل إلى خليل في وقت سدت فيه أمامها كل المنافذ. كيف؟: أشارت عليها الذهاب إلى منزله والسؤال عنه في الوقت والحال، ثم وضعت كل مفردات العراقيل أمامها. لا يجوز الذهاب إليه قبل أن يسأل عنك. الموت يتربص في مختلف الطرق والشوارع الرئيسية والفرعية وأخاف عليك من فاجعة مفاجئة . الدمار قريب جداً حسب آخر الأخبار من منزلهم وأخاف عليك من شبهة تطالك عندما يتساءل البعض ما الذي يدفع صبية شابة في هذا الوقت من الموت والمخاطرة السير في شوارع مهجورة من الحياة.
وغرقت الشقيقتان في مغطس مثير من الاحتمالات أقلها التخلي عن خليل الذي لم يتصل حتى اللحظة، وأكثرها صعوبة الانفصال في أجواء الحرب التي لم تنته بعد والتي من الممكن أن يكون موعد الزفاف قبل نهايتها. وفي كلا الحالتين ستبقى ذكريات الحب بينهما تطارد كلاً منهما بمقدار تمثل الحالة وانعكاسها .
غير أن انسداد الأفق كان دافعاً موضوعياً للصراخ عند أتفه الأسباب. لم يكن الدافع ولهها بإثارة الأعصاب بقدر ما هو تعبير عن فقدان التوازن في ظل استمرار غياب خليل عن ساحة البيت وما يترافق معه من هدوء قل نظيره .
دون شك، انطبع على وجه تالا آثار العذاب والغياب، فتعرى تماماً، وغدا هشًّا لا يستطيع مقاومة التغيرات التي تزداد إثارتها يوماً بعد يوم . لقد كان خليل أكثر من مجرد حبيب، كان الأمل الوحيد الذي تستطيع قطع مشوار الحياة معه وهي مطمئنة حتى النهاية دون الافتراق .
هذا الوضع جعلها تنتقل من مكان إلى آخر، داخل البيت، أملاً في الإفلات من الألم الذي يقتحمها ويتفاقم كل لحظة، ومع ذلك، كان يأبى إلا أن يستمر في مطاردتها حيثما حلت، حتى وصلت درجة كادت فيها أن تفقد صوابها . لماذا يختارها العذاب من دون الأخريات؟
وعلى غير توقع من أحد، قررت أن تمشي في الشوارع التي غدت مظلمة أكثر من أي وقت آخر بسبب ويلات الحرب، اعتقادا منها أن الظلمة كفيلة بإعطائها الفرصة للتفكير بعمق لم يستطع الفضاء توفيرها .
وعندما خطت بضع خطوات شعرت بوحشة لم تعهدها من قبل . إذ كيف لها أن تسير في الشوارع التي تحف بها المخاطر من كل صوب؟ هل سيصار إلى اتهامها بفقدان العقل؟ لم تأبه بكل هذه الخواطر. كان قرار المشي قراراً لا رجعة عنه حتى لو صبت السماء غضبها كما هي العادة كل يوم في هذا التوقيت منذ اندلاع الحرب. وعندما حاولت أمها منعها من الخروج من البيت كاد صوتهما المرتفع يصل إلى مسامع الجيران، فتراجعت الأم خوفاً على سمعة ابنتها.
مضت دون النظر خلفها في الوقت الذي كانت تعلم فيه أن إلقاء نظرة إلى الوراء ستدفعها للتراجع عن قرارها جراء الرعب الذي سيجتاحها بقوة التمسك بالحياة مهما كانت قاسية. وفي لحظة لا يمكن أن تتكرر وصلت إلى نقطة فيها بصيص من نور وأمل في الوقت الذي كانت فيه ضعيفة إلى حد أنها لا تستطيع السير أكثر من ذلك، في هذه اللحظة بالذات، شاهدت مجموعة من الناس متجمهرين عند باب أحد المنازل المضاءة وهم يرددون "إنا لله وإنا إليه راجعون" عندها عرفت أن شخصاً ما قد فارق الحياة بشكل مفاجئ، دون الحاجة إلى رصاصة أو قذيفة دبابة أو صاروخ طائرة. أو ربما مصيبة ما حلت على أحد الأشخاص.
عادت أدراجها إلى البيت وهي ما تزال تتساءل: الناس يموتون هكذا دون سبب. إذن، ما قيمة الحياة التي لا نستطيع فيها أن نسيطر على أرواحنا ؟
حاولت جاهدة التقاط صورة عابرة لشخص ممدد على سريره فاقداً للحياة، ولكنها لم تستطع . كما لو أن جملة "إنا لله وإنا إليه راجعون" تذكرها بشيء ما، غير أنها لم تفلح في الوصول إلى ما كانت تصبو إليه، ثم أقنعت نفسها بالنسيان حتى لا تكدر حياتها بمزيد من المآسي .
ومع ذلك، قالت لنفسها: إن القوة التي يمنحها الغموض أشد إثارة من الغموض نفسه . كيف؟ قد نعطي للغموض معني لم يخطر على بال صانعه، فنضيف من حيث لا ندري فعلاً غير وارد في الحسبان، والإثارة التي يعنيها الغموض هنا بالضبط تكمن مفاعيلها باعتبارها غير معروفة على وجه التحديد .
في اليوم التالي، وفي نفس التوقيت تقريباً، قررت المشي من نفس الدروب التي سارت بها بالأمس.
كانت تستمد قوتها من قصة الأمس، القصة التي جعلتها تقرر العودة، قصة الشخص الذي مات فجأة دون أن يتعرض للرصاص أو القذائف، مات موتاً طبيعياً، هذا الموت الذي أوصلها إلى قناعة أن الحرب ليست هي وحدها المسؤولة عن الموت، ربما تكون مسؤولة عن الويلات والدمار وتشريد الناس من بيوتهم وقتل العشرات بل المئات على نحو ما، ولكنها ليست مسؤولة عن كل حالات الموت الموجود في هذا الكون . هذا إذا كنا قد تأكدنا أن هناك فعلاً حالة موت طبيعية تعرض لها شخص . سارت في الشوارع وهي مستمتعة بطمأنينة الليل ومفاجأته على عكس الأمس تماماً. تنظر يميناً ويساراً، وكان بين الحين والآخر يمر من أمامها بعض الأشخاص، أو السيارات التي لسبب ما تحركت في هذا الليل المحفوف بالمجازفة و المخاطر جراء استمرار الطائرات في السماء ترقب أي تحركات، ترصدها بعين ثاقبة كمن يترصد أهدافاً محددة، بل هي كذلك في كل الأحوال، علماً بأن الكثير من السيارات تعرضت لصواريخ الطائرات في وقت لم تكن تشكل فيه خطراً على العدو، بل وكذلك كل ركابها من الأبرياء .
وفجأة، سمعت صوت انفجار شديد أعقبه تلاطم الحجارة جراء انهيار العديد من الجدران المجاورة .
وخيم الصمت لحظة ما لبث أن تبدد مع صفارات سيارات الإسعاف . كان الانفجار قريباً منها، ولكنها لم تشاهده، كانت تحجبه المباني المجاورة التي تفصل بينها وبينه لدرجة لم تعرف أين هو بالضبط، وعندما واصلت السير لبضع أمتار شاهدت ألسنة اللهب تتصاعد من بين الركام التي خلفها الانفجار.
لحظة، لا غير، نظرت خلالها إلى ألسنة اللهب، حين سمعت صرخة مدوية مبعثها الحفرة التي أحدثها الصاروخ في باطن الأرض، وعلى ضوء الاشتعالات رأت وجوهاً كثيرة جميلة تتلألأ في قلب الحفرة لدرجة أرادت فيها أن تقفز إلى وسطهم، أن تصرخ في وجه العالم، ولكن عبثاً، كان الأمر، لم تستطع إيقاظ صوتها من ثباته.
بهرتها سيارات الإسعاف بأضوائها ووصولها السريع، وتجمهر الناس من حولها، انسحبت سريعاً عائدة إلى البيت لا تقوى على قول كلمة واحدة، ابتلعت كل شيء في جوفها وصمتت .
ولما وصلت البيت، استيقظ كل ما رأت في عقلها بما في ذلك انحباس الصوت في حلقها، وأخذت تستمع إلى تصاعد الولولة من الحفرة التي شاهدتها كما لو أنها ما زالت هناك..
في ذات لليلة، حلمت بثلاجة الموتى في مستشفى دار الشفاء. كانت مليئة بالجثث لدرجة لم تعد تستوعب المزيد من الضحايا، غير أنها فجأة، رأت وجه خليل ممدداً داخل سيارة الإسعاف وهي تشق طريقها وسط الناس بغرض الوصول إلى الثلاجة ووضعه إلى جوار الآخرين، بغية عدم التعفن جراء عدم تمكن أقربائهم من الوصول إلى المستشفى ونقلهم إلى الصحراء ومواراتهم التراب .
قفزت من نومها مذعورة وصرخت بأعلى صوتها في الوقت الذي هرع أفراد العائلة يستجلون الأمر: جلست القرفصاء واضعة رأسها فوق ساقيها وبين ذراعيها وهي تبكي غير قادرة على الرد على أسئلة أمها التي لم تنقطع . ثم فجأة، أخذت تضرب صدرها بقبضتي يديها كي توقع في جسدها ألماً ينسيها آلام الحالة النفسية التي ألمت بها عندئذ، أحاطتها الأم بيديها ووضعتها في حضنها منعاً لاستمرار الضرب إلى أن هدأت ودخلت بوابة النوم قبل أن تغلق تماماً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-