الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- كتب - قصة قصيرة

طالب عباس الظاهر

2013 / 9 / 5
الادب والفن


" كتب "

قصة قصيرة

طالب عباس الظاهر

( الى صديقي الناقد: محمد علي النصراوي)

لم تعصف بي من قبل ضائقة مالية شرسة مثل هذه ، أو يتعسّر بي الحال الى هذه الدرجة الخانقة، لأقف على حافة الانهيار، ولأجد نفسي فجأة أسبح في خضم أزمة نفسية حادة جداً، وتياراتها تجرفني الى دوّامات التوتر العصبي الشديد ... بل والهذيان أحياناً.
فارتعبت زوجتي المسكينة من هكذا وضع مخيف لم تألفه، خاصة وإن زواجنا لم يمض عليه سوى بضع شهور فقط، والأمرّ... تزامنه مع بدء الحصار الاقتصادي على البلد. ومن ثم وفاة أخي الوحيد الشاب بشكل مفاجئ وهو في الخامسة والثلاثين من العمر، فقد كنت أتقاسم معه مرارة الفقر، وقسوة الحرمان، والأهم ايجار هذا البيت المتواضع، فكان يدأب كثيراً على مواجهة مشاكل الحياة العاصفة بالسخرية، ويقابل الآلام بالضحكات، على النقيض مني تماماً، وكان يصرّح مبتسماً وهو يشير الى جيبه ودماغه قائلاً: هذان مرتبطان ارتباطاً عضوياً على خلاف فسيولوجية جسم الإنسان؛ فإن تعب أحدهما أطاح ـ لامحالة ـ بنظام عمل الآخر...!
ثم راحت تتقاذفني التجارب المتخمة بالجراح، بعد أن تمزقت برحيله أقنعة الزيف عن وجوه كثيراً من الأشياء، وأزيلت عنها براقع الوهم اللذيذ، فبان عُري المصالح، وتجلّت دكتاتورية سلطة الدينار بشكل فاضح... حينما توقف أمر انقاذ حياته على بضع آلاف فقط، وهي لا تعدو تكلفة وليمة دسمة للأهل أو الأصدقاء في بيت أحد الميسورين لا غير، ولكنها لم تتيسر من أجل ارساله للمعالجة الى مدينة الطب في العاصمة، وكما نصح طبيبه المعالج ... فخسرناه وهو في أوج ريعان الشباب.
ولمحت الأهل والأقارب بالخصوص... بل والناس عموماً، وراعني تهافتهم على الغني الموسر كتهافت الذباب على قطعة سكّر، والعجيب استعدادهم لأن يهبوه الكثير عن طيب خاطر وهو مستغنٍ عنهم، بينما يفرون من الفقير المعدم المحتاج كفرارهم من وباء لعين داهم...! فأبصرت غربة الفقراء ـ أحباء الله ـ في فلاة الأرض الموحشة، وبين وعود مسالك السماء... ويا... يا لهول ما أبصرت...!!
وقد كان وقع أنياب الإفلاس بي أرحم قليلاً ...آه عفواً، أقصد أخفّ قليلاً، فأية رحمة أرجوها من أنياب؟! وسبب وقعها الأخف، إنني (مَوْضَعت) زوجتي عند أهلها، وهو مصطلح عسكري يشير الى اتخاذ القطعات الحربية مواضعها المناسبة في مواجهة قوات العدو، كجزء من الموقف التكتيكي الذي اتخذته تجاه شراسة الهجوم ، للسيطرة على نصف ساحة المعركة على الأقل، وتوفير عمقٍ استراتيجي للانسحاب بأقل الخسائر الممكنة، والحقيقة فإني منحتها مضطراً إجازة مفتوحة من جنوني، ومن الموت الفارد جناحيه على حياتنا الزوجية الوليدة تواً في أحضان (الحبايب) من بؤس، وفاقة، وحرمان، والمجدبة من كل أسباب الحيــ....................!!
عفواً... إلا من مروحة منضديه لا تعمل إلا بدفعة ابتدائية باليد، ربما لسوء في تغذية (حُصانيتها الأندولية) المُتْعَبة جداً، رغم انحدارها من أصول عشائرية مجيدة في اليابان ...! وطباخ بعين واحدة ، لكن أحداً ـ والحق يقال ـ لم ينعته يوماً بالأعور... لا من قبل معسكر الحلفاء، ولا من الأعداء، رغم شيوع ظاهرة التنابز بالألقاب بشكل واسع، فلم يسلم من نارها وشنارها كائن حي أو ميت أو حي شبه ميت أو ميت شبه حي...!
وهنالك أيضاً بعض الأواني المعدنية القديمة جداً... ذات الأصالة المنقطعة السند، فرغم ذهاب السلف الى دار الحق، إلا إنها باقية تستدر الرحمات - وأحياناً اللعنات ربما- على الأرواح الأليفة من الأموات التي أورثتنها مشكورة مثل هذا الفقر المدقع.
وأخيراً هنالك أوراق ... وأوراق ... وأوراق، هي بالطبع لا تصلح لشيء ... لأنها ملطخة الوجه والقفا بنزيف الكلمات، وبقايا كتب من مكتبة بيتية كانت ـ فيما مضى - عامرة، قبل أن يضربها زلزال الحصار، فلم يبقٍ من تقلّصها المستمر سوى هيكلها الخشبي العتيق، ربما يصلح للبيع لسدّ الرمق الأخير لعوزي المستفحل... بعدما أنزلتُ المجموعة الأخيرة من كتبها العزيزة، وأنا ألعن اليوم المنحوس الذي أصبت فيه بداء القراءة العضال ذاك، والساعة (السودة) التي سكنت جيبي هوية اتحاد الأدباء هذه، فصرت أنوء تحت طائلة مثل هذا ( العوق الأدبي المزمن...!).
ومثل فاتح لم يحالفه الحظ في كسب الجولة هذه؛ تأبطت كتبي مع أحساس مرير بالانكسار، قاصداً مركز المدينة، ومودعاً إياها الوداع الأخير ـ كما هو دأبي في مناسبات عديدة ـ بقراءة جملة هنا، وسطر هناك، كمن يخطف قبلة من خدّ طفل ريّان، مستذكراً لحظات بحثي عنها، وابتهاجي بالعثور عليها وشرائها من شارع المتنبي أو سوق السراي أو سواهما من أمكنة بيع الكتب، وكأني أعثر على كنز مفقود، مبشراً كل من يصادفني من الأصدقاء صارخاً: وجدته... وجدته...!!
ولأني لا أملك أجرة السيارة ، وبالرغم من بعد المسافة عن مركز المدينة، فقد قطعت طريق الحي مشياً، مردداً مع نفسي : سأذهب الى أصدقائي الأدباء ممن افترش بكتبه قارعة الرصيف، حتماً إنهم يقدّرون، وبالتأكيد فإني واجد لديهم أفضل ما سيكون، ومن ثم: (الأقربون أولى بالمعـر........................!).
وبالطبع لم ولن يكن ليخطر لي على بال في خضم تفاؤلي المشوب بالحزن ذاك، بأني سأتلقى من أحدهم وكان صديقي ويكفي بأنه معروف بالنسبة لي، تلك الصفعة الأعنف بوجه كبريائي المجروح، وكانت المفاجأة الأغرب من كل خيال، فبعد أن تفحّصها جيداً، وكرر فحصها ثانيةً، دون الالتفات لوقوفي مركوناً على صفيح الانتظار الساخن، فإذا به يفجر قنبلته الصوتية بوجهي بأعصاب باردة دون أدنى رحمة قائلاً: ( متفيد...!!).
ندّت مني شبه شهقة كأنها لغريق فقد آخر بصيص من أمل في النجاة : (ههـاه...!)
وببرود قاتل أردف قائلاً وهو يعطيني قفاه، متشاغلاً بترتيب بعض الكتب، وتنظيف بعضها الآخر: ( هاي كتب ما تمشي...!).
صرخت : ماذا... سارتر... كافكا ... البرتو مورافيا ... سهيل إدريس... و... و... كلها متــــ ........... !!
قال مقاطعاً بلا مبالاة قاسية : السوق واقف هذه الأيام.
تساءلت بحيرة: واقف؟!
.........................!!
ثم ازدرتُ ريقي الجاف بصعوبة، وكأني قطعت مسافات شاسعة في عمق صحراء قاحلة، وبرباطة (يأس) لم أتوقعها من نفسي قلت محاولاً تصنّع اللامبالاة مثله تماماً، ولبس رداء البلادة في الظاهر، لكنه ملتهب الجذور: حسناً بسعر ورقها إذن؟!
تكرّم مقبلاً بوجهه عليّ، ولأول مرّة ألمح حماسة ما، واستجابة في حركته، ربما أغراه عرضي البخس لأن يتفحصها من جديد، ليزن ثقلها الأدبي القديم بخبرته الورقية الجديدة، قاذفاً بوجهي بالسعر الذي سيدفعه بها، وبشكل قاطع لا يقبل المساومة، إلا إني وجدت نفسي أصرخ به بلا وعي بعدما صحوت من هول المفاجأة : ماذا ... كلها بـ( ..................) فقط...؟!
ولشدّ ما كانت دهشتي عظيمة تجاه السعر الحقير الذي ذكره، ووجدتني في حيرة من أمري، وحينئذ أحسست بروحي تتوجع متألمة من صميم انسانيتها وهي تبسط كرامتها لتدوسها الأقدام ... صائحة في خلدي: يا ناس... أيها العالم ... إني لا أستجدي ... صدقوني ، ويشهد المتنبي والرصافي والسياب، وحتى ( عباس همايون*) على ما أقول...!
وأقسمت مع نفسي أن لا أشتري كتاباً بعد اليوم، فهذا فراق بيننا، ورحت ألملم بوائري من الكتب بعجلة والحنق يتلظى في دمي، ومن دون أدنى احتراس مرقت لعبور الشارع، فلم انتبه إلا على صوت زعيق رهيب لكابح سيارة بالقرب مني، واحتكاك إطاراتها العنيف بإسفلت الشارع وهو يصك أذني وأٌذن الكون صارخاً: (عي يـ يــ ــــــــــع...!!).
تمتمت مع نفسي وأنا أحاول التقاط أنفاسي بصعوبة... نتيجة هول الموقف ومفاجأته : يا ساتر...!
فقد كنت مع الموت على بعد خطوة لا غير.
وسرعان ما انهالت عليّ شتائم سائق السيارة العمومية، وكلماته النابية، وكانت من النوع الغليظ جداً ( حداثوي في لغة النقاد وأهل الأدب)، ربما بعضه مبتكر تماماً ... إذ لم يخنّي السماع بالفعل...! ولعله عندي فقط ، فقد يكون شائعاً ومتداولاً في السوق بكثرة (كلاسيكي) كما يقال، ولكن وبتأثير عوقي الأدبي الملعون ذاته؛ صرت لا أستطيع اللحاق بركب التطور في مستجدات علم (السوقيات)، وسرعة تقدم مصطلحات الحداثة وما بعدها، عند (السوّاق) في الشارع...!
بيد إني حاولت أن لا ألتفت ، وأترك ذلك السائق المسكين الذي كدت أوقعه في ورطة كبيرة أن ينفّس عن غضبه المشروع بالطريقة التي يرتئيها، ولأنني بالحقيقة كنت مشغول جداً عنه وعن الوجود برمته، بتداول نيّة أخرى للانتقام بضربة قاصمة من إفلاسي... بل ومن صديقي والأدب معاً...!
وعند عربة أحد بائعي الحلاوة (الدهين) توقفت مزهواً، ورميت بكتبي تلك على حافة عربته المدهونة جيداً بأكثر من طبقة من الأوساخ، وكان في نيتي أن أهبها له مجاناً ومن دون مقابل إذا شاء؛ فإذا بي أجد لديه العزاء، أجل ... وليس عند أصدقائي الأدباء؛ فأنصفني وأنصف الأدب العربي والعالمي، حينما دفع لي بثلاثة أضعاف المبلغ الإستجدائي الآنف الذكر...! فرددت مع نفسي بارتياح: إذن، فالحمد للأدب، والشكر للأدباء.

هامش:
*هو أحد الشعراء الشعبيين ويعدّ من صعاليك المدينة

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي