الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإضراب الجماهيري - الجزء الثاني

روزا لوكسمبورغ
(Rosa Luxemburg)

2007 / 8 / 29
الارشيف الماركسي


5- دروس الحركة العمالية في روسيا التي تنطبق على ألمانيا

لنبحث الآن إلى أي مدى يمكن للدروس المستخلصة من الإضرابات الجماهيرية الروسية أن تنطبق على ألمانيا. إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتاريخ ومنزلة الحركة العمالية مختلفة جدا في ألمانيا عنها في روسيا. وقد يبدو أول وهلة أن القانون الداخلي للإضرابات الجماهيرية الروسية، كما أوضحناه بخطوطه العريضة، مجرد نتاج للظروف الروسية المخصوصة وأنه لا حاجة بالبروليتاريا الألمانية إلى أخذ هذه الإضرابات بعين الاعتبار. هناك في الثورة الروسية صلة داخلية وثيقة بين النضالين السياسي والاقتصادي، وتصبح وحدتهما حقيقة واقعة في فترة الاضرابات الجماهيرية .ولكن أليس ذلك ببساطة نتيجة الحكم المطلق في روسيا ؟ ففي بلد يحظر فيه كل شكل من أشكال التعبير على الحركة العمالية ويعتبر ابسط الاضرابات جريمة سياسية ، لابد ان يصبح النضال الاقتصادي منطقيا نضالا سياسيا .

عدا ذلك ، لم تكن تصفية الحسابات الشاملة بين الطبقة العاملة الروسية وأصحاب العمل نتيجة أول اندلاع للثورة السياسية سوى نتيجة الظروف الخاصة بالعمل الروسي الذي كان حتى ذلك الحين يعيش في مستوى معيشي منخفض حدا والذي لم يكن قد خاض بعد نضالا اقتصاديا واحدا لتحسين حالته. وبذلك كان على البروليتاريا الروسية أولا أن تجد إلى حد ما طريقها للخروج من هذه الظروف التاعسة، فما الذي يدعو للعجب إن كانت هذه البروليتاريا قد استخدمت بحماس الشباب أول وسيلة لبلوغ هذا الهدف حالما جعلت الثورة أول نسمة عليلة تهب في هواء الحكم المطلق الثقيل؟

وفي النهاية يفسر السبل الثوري العاصف الذي سلكته الإضرابات الجماهيرية الروسية وكذلك طابعها العفوي الغالب بالتخلف السياسي في روسيا من جهة وبضرورة الإطاحة أولا بالاستبداد الشرقي، ومن جهة أخرى بحاجة البروليتاريا الروسية إلى التنظيم والانضباط. أمّا في بلد تملك فيه خبرة ثلاثين سنة من الحياة السياسية، وحزبا اشتراكيا ديموقراطيا قويا يبلغ عدد أعضائه ثلاثة ملايين بالإضافة إلى ربع مليون مختارين ومنظمين في نقابات، في بلد كهذا لا يمكن للإضراب الجماهيري ولا للنضال السياسي أن يتخذا الطابع العاصف الجائح كما فعلا في دولة نصف بربرية قفزت لتوها من العصور الوسطى إلى النظام البرجوازي الحديث. هذا هو المفهوم السائد اليوم بين أولئك الذين يقرأون مرحلة نضوج الظروف الاجتماعية لبلد ما من نصوص القوانين المكتوبة.

فلنبحث المسألة بالترتيب. أولا من الخطأ تأريخ بداية النضال الاقتصادي في روسيا باندلاع الثورة فقط. ففي الواقع، كانت الإضرابات والنزاعات على الأجور قد أصبحت مطروحة على جدول الأعمال في روسيا باضطراد منذ تسعينات القرن الماضي وفي بولندا الروسية منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد استطاع هذا النضال في النهاية تحصيل الحقوق المدنية للعمال. وبالطبع كثيرا ما كانت هذه الإضرابات والنزاعات تتبع بإجراءات بوليسية فظة، ولكنها مع ذلك كانت ظواهر تتكرر يوميا. مثلا كان في كل من وارسو ولودز صندوق إضراب كبير يعود إلى وقت مبكر هو العام 1891 وكان الحماسة للنقابية (التريديونيونية) في هذه السنوات بالغا لدرجة أنه خلق الوهم «الاقتصادي» في بولندا، وبعد ذلك ببضع سنوات ساد هذا الوهم في بطرسبرج وباقي روسيا.

كذلك فإن هناك قدرا كبيرا من المبالغة في القول أن البروليتاري في الإمبراطورية القيصرية كان يعيش قبل الثورة في مستوى معيشة العالة على الغير. فقد كانت شرعية العمال في الصناعات الكبرى في المدن الكبيرة، وهي التي كانت الأكثر حماسا ونشاطا في النضال السياسي وكذلك في النضال الاقتصادي، تعيش من حيث الظروف المادية في مستوى لا تكاد يقل عن مستوى مثيلتها في ألمانيا، وفي بعض المهن كانت الأجور في روسيا تتساوى مع الأجور في ألمانيا، حتى أنها كانت تفوقها هنا وهناك. أمّا فيما يتعلق بمدة يوم العمل فقد كان الفارق في الطاعات الكبرى بين البلدين غير هام هنا وهناك. كذلك فإن الفكرة التي تفترض أن الطبقة العاملة الروسية كانت تعيش حالة من العبودية الاقتصادية والثقافية فكرة لا أساس لها في الواقع. فهذه الفكرة تتعارض كما يتبين بقليل من التفكير مع الثورة ذاتها ومع الدور البارز الذي لعبته البروليتاريا فيها. فما من ثورة بهذا القدر من النضج السياسي والذكاء الفكري يمكن أن تقوم بمن هم عالة على الغير، والعامل الصناعي في بطرسبرج ووارسو وموسكو وأوديسه الذي وقف في طليعة النضال أقرب ثقافيا وعقليا إلى النمط الأوروبي الغربي أكثر بكثير مما يخيل لأولئك الذين يعتقدون أن البرلمانية البورجوازية والممارسة النقابية الدائبة هي المدرسة التي لا غنى عنها ،وحتى المدرسة الوحيدة، لتثقيف البروليتاريا. إن التطور الرأسمالي الحديث الواسع في روسيا والتأثير الفكري الذي مارسته الاشتراكية الديموقراطية عقدا ونصف، شجعت فيه النضال الاقتصادي ووجهته، قد خلقا عملا ثقافيا هاما بدون الضمانات البرانية التي يعطيها النظام القانوني البرجوازي.

بيد أن التباين يقل عندما ننظر من جهة أخرى نظرة أدق إلى مستوى معيشة الطبقة العاملة الألمانية. لقد استثارت الاضرابات الجماهيرية السياسية الكبرى في روسيا أوسع شرائح البروليتاريا منذ البداية ودفعت بها إلى نضال اقتصادي محموم. ولكن أليس هناك في ألمانيا قطاعات جاهلة تماما بين العمال لا يكاد ينفذ إليها حتى الآن دفء الضوء الذي تبعثه الحركة النقابية، وقطاعات كاملة لم تحاول حتى اليوم أن ترفع نفسها فوق عبوديتها الاجتماعية بواسطة النضالات اليومية من أجل الأجور، أو أنها حاولت ذلك عبثا؟

لنبحث فقر عمال التعدين. لم يعبر نضال عمال التعدين من أجل الأجور في ظل يوم العمل الهادئ وفي جو الرتابة البرلمانية البارد في ألمانيا –وكذلك في الأقطار الأخرى وحتى في بريطانيا العظمى جنة التريديونونية- لم يعبر عن نفسه إبدا إلاّ بانفجارات عنيفة بين الحين والآخر في اضرابات جماهيرية ذات طابع نموذجي عاصف. وهذا يبين أن التناقض العدائي بين العمل ورأس المال حاد وعنيف لدرجة لا يمكن معها أن يسمح لنفسه بالاضمحلال نتيجة نضالات نقابية هادئة مستمرة وجزئية. إن تعاسة عمال التعدين، بتربتها المتفجرة التي تشكل مركزا عاصفا لأعظم العنف، لا بد أن تنفجر حالا في نضال اقتصادي اشتراكي مع كل عمل سياسي كبير تقوم به الطبقة العاملة ومع كل اهتزاز عنيف يحدث خللا في التوازن اللحظي للحياة الاجتماعية اليومية.

ولنأخذ أيضا حالة فقر عمال النسيج. هنا أيضا تعطي الانفجارات المريرة للنضال من أجل الأجورالتي كانت تجتاح فوجتلاند كل بضعة أعوام، والتي غالبا ما كانت عقيمة، تعطي فكرة أولية عن العنف الذي لا بد أن تنفجر به الكتلة الكبيرة من عبيد رأس المال المتمركز في تروستات، خلال كل تشنج سياسي وخلال كل عمل سياسي قوي جريء تقوم به البروليتاريا الألمانية. مرة ثانية لنأخذ فقر عمال البيوت وعمال الملابس الجاهزة وعمال الكهرباء، تلك المراكز العاصفة الحقيقية التي ستندلع فيها النضالات العنيفة بصورة أكيدة مع كل اختلال في الجو السياسي في ألمانيا، فكلما قلت نضالات البروليتاريا في أزمنة الهدوء، كلما قلت فرص نجاحهم في النضال في أي وقت من الأوقات وكلما أجبرها رأس المال بشراسة على العودة إلى ربقة العبودية وهي تصك أسنانها.

بيد أنه يجب أن تؤخذ بالاعتبار قطاعات كاملة كبيرة من البروليتاريا، تلك القطاعات التي لا يمكن لها أن تستطيع، إذا سارت الأمور «سيرا طبيعيا» في ألمانيا، الاشتراك في النضال الاقتصادي السلمي لتحسين ظروفها ولا تستطيع كذلك الحصول على حقها في الانتظام. وهنا نضرب مثلا ساطعا بموظفي سكك الحديد والبريد أولا وقبل كل ما عداهم. فهؤلاء الموظفون الحكوميون يعيشون في ظروف روسية في ظل الدولة الدستورية البرلمانية الألمانية أي في ظروف روسية كما كانت هذه الظروف قبل الثورة خلال الاشراقة الهادئة للحكم المطلق. لقد كان عمال سكك الحديد الروس بإضرابهم العظيم في تشرين الأول/أكتوبر 1905 في روسيا التي كانت حينئذ تحكم رسميا حكما مطلقا يتفوقون على الألمان فيما يتعلق بالحرية الاجتماعية والاقتصادية التي تتمتع بها حركتهم. لقد حصل عمال سكك الحديد الروس على اعتراف واقعي بحقهم في الانتظام وذلك في خضم المعركة، وإذا كانت المحاكمة تلو الأخرى والاضطهاد هي القاعدة فإن ذلك لم يكن ليؤثر على وحدة العمال الداخلية.

بيد أن من الخطأ في الحساب السيكولوجي الافتراض، كما تفعل الرجعية الالمانية، بأن الطاعة الخانعة التي يبديها موظفو سكك الحديد والبريد في ألمانيا ستستمر الى الأبد وأنها صخرة لن تتحطم. إن قادة النقابات الألمانية اعتادو على الظروف القائمة الى حد أنهم ينظرون بعين الرضا الكامل إلى نتائج النضال النقابي في ألمانيا غير آبهين لعدم الاكتراث الذي ليس له مثيل في كل أوروبا. ولكن مع ذلك فإن الكراهية العميقة التي كبتت طويلا وتاتي تعتمل في صدور عبيد الدولة غير الواعين ستجد حتما متنفسا لها في انتفاضة عامة يقوم بها العمال الصناعيين. وعندما تحصل الطليعة الصناعية للبروليتاريا بواسطة الإضرابات الجماهيرية على حقوق سياسية جديدة أو تحاول حماية حقوق موجودة، فإن أفراد جيش موظفي سكك الحديد والبريد العظيم سيفكرون بالضرورة في تعاستهم الخاصة، وينهضون في النهاية ليحرروا أنفسهم من القسط الإضافي من «الحكم المطلق الروسي» المخصص لهم خصيصا في ألمانيا.

إن المفهوم التعليمي الذي يعتقد أن الحركات الجماهيرية العظيمة تقوم طبقا لخطة ووصفة يعتبر أن حصول عمال سكك الحديد على حقهم في الإنتظام ضروري قبل أن «يجرؤ» أي كان على التفكير في إضراب جماهيري في ألمانيا. إلا أن سير الأحدات الواقعي والطبيعي لا يمكن إلا أن يكون معاكسا لذلك: إذ لايمكن في الواقع أن يولد حق الإنتظام لعمال سكك الحديد وكذلك لعمال البريد إلا من إضراب جماهيري عفوي عظيم القوة. وستجد المسائل التي لاحل لها في الظروف القائمة في ألمانيا حلا مفاجئا بتأثير وضغط عمل سياسي جماهيري شامل تقوم به البروليتاريا.

وأخيرا هناك الأمر الأعظم والأكثر أهمية: فقر العمال الزراعيين. فإذا كانت النقابات البريطانية تقتصر على العمال الصناعيين، فذلك أمر يمكن فهمه بالنظر إلى الطابع الخاص للاقتصاد البريطاني والدور غير الهام الذي تلعبه الزراعة بشكل عام في الحياة الاقتصادية لبريطانيا. أما في ألمانيا، فإن نقابة تحتوي على العمال الصناعيين فقط ويتعذر دخولها على جيش العمال الزراعيين العظيم ستعطي مهما بلغ حسن بنائها صورة مجزوءة وضعيفة لأوضاع البروليتاريا. ولكن ثانية، أنه لوهم قاتل أن يظن المرء أن الظروف في البلد لا تتغير ولا تتحرك، وأن العمل التثقيفي الذي لا يكل ولا يمل الذي يقوم به الاشتراكيون الديموقراطيون، وكذلك السياسة الطبقية الداخلية كلها في ألمانيا، لا تقلل باستمرار من السلبية الظاهرية للعمال الزراعيين، أو أن هذه الأمور جميعا لا تجذب البروليتاريا الريفية إلى حلبة الصراع.

وبشكل مشابه، تتغير إلى حد كبير صورة ما يدعى من تفوق البروليتاريا الألمانية اقتصاديا على البروليتاريا الروسية، عندما نشيح النظر عن جداول الصراعات والمؤسسات المنظمة في نقابات، ونلقي نظرة على تلك الجماعات الكبيرة من البروليتاريا التي تقف خارج النضال النقابي بكامله، أو التي لا يسمح لها وضعها الاقتصادي الخاص بأن تحشر في الأطار الضيق لحرب العصابات اليومية التي تشنها النقابات. فهناك نرى حلبة هامة إثر أخرى وصلت فيها حدة التعاديات درجتها القصوى وتراكم فيها فيض غزير من المواد السريعة الاشتعال، حيث يتبدى هناك قدر كبير من «الحكم المطلق الروسي» بأكثر أشكاله عريا، وحيث يجب أن تحدث أولا أكثر المجابهات الاقتصادية مع رأس المال أولية.

إذن، لا بد أن تقدم كل هذه الحسابات إلى النظام السائد في إضراب جماهيري سياسي عام تقوم به البروليتاريا. ولذا فإن تظاهرة تقوم بها البروليتاريا المدينية وترتب بصورة مصطنعة وتحدث مرة واحدة، ومجرد إضراب جماهيري ينبثق عن الانضباط وتوجهه بعصى المايسترو اللجنة التنفيذية للحزب قد يترك جماهير واسعة من الشعب غير مبالية ويجعلها تقابل الامر بالبرود .ولكن عملا قتاليا شجاعا وقويا تقوم به البروليتاريا الصناعية و يولد من وضع ثوري سيفعل بالتأكيد فعله على الشرائح الأعمق ، ويجتذب في النهاية إلى حلبة النضال الاقتصادي العاصف كل اولئك الذين يقفون في الأوقات العادية بعيدا عن النضال النقابي اليومي.

ولكن من جهة أخرى، عندما نعود إلى الطليعة المنظمة للبروليتاريا الصناعية الألمانية، ونأخذ بالاعتبار أهداف النضال الاقتصادي التي كافحت من أجلها الطبقة العاملة الروسية، فإننا لا نجد إطلاقا سببا يدعو للتقليل من هذه الأهداف الشابة، كما تفعل الاتحادات النقابية الألمانية الشائخة. هكذا فإن أهم مطلب عام تناضل الإضرابات الروسية من أجله منذ 22 كانون الثاني/يناير، ألا وهو يوم عمل من ثماني ساعات، ليس برنامجا لا تستطيع البروليتاريا الألمانية تحقيقه، بل هو في معظم الأحيان هدف جميل بعيد. وينطبق هذا أيضا على برنامج «السيادة على المصانع» وعلى النضال من أجل إدخال لجان العمال إلى المصانع وإلغاء العمل بالقطعة وإلغاء العمل الإضافي المنزلي في الحرف اليدوية والمحافظة التامة على الراحة في أيام الآحاد والاعتراف بحق العمال في الانتظام في نقابات. نعم، يتضح بتفحص أكثر دقة للأهداف الاقتصادية التي تناضل البروليتاريا الروسية من اجلها أن هذه الاهداف حقيقية بالنسبة للطبقة العاملة الألمانية، وتمس نقطة حساسة جدا في حياة العمال.

لذا يتبع حتميا مما سبق أن الإضراب الجماهيري السياسي في ألمانيا ليس سوى خطة نظرية لا حياة فيها. أما إذا نجحت الإضرابات الجماهيرية بطريقة طبيعية عن هياج ثوري قوي ونتج عنها نضال سياسي حازم يقوم به عمال المدن، فإنها ستتحول بطريقة طبيعية أيضا وكما حدث في روسيا إلى فترة كاملة من النضالات الإقتصادية الأولية. من هنا فإن مخاوف القادة النقابيين من أن النضال من أجل المصالح الإقتصادية، خلال فترة كفاح سياسي عاصف وفي فترة إضرابات جماهيرية، يمكن ببساطة أن يطاح به جانبا ويقمع، هذه المخاوف تقوم على مفهوم سطحي ولا أساس له البتة لسير الأحداث. إن فترة ثورية في ألمانيا ستحول طابع النضال النقابي وتطور إمكانياته إلى حد تصبح معه حرب العصابات الراهنة التي تخوضها النقابات الهية صبية بالمقارنة. ومن جهة أخرى فإن النضال السياسي سيبقى على الدوام قوة دافعة وعزما جديدين من العاصفة الاقتصادية الأولية التي تثيرها الإضرابات الجماهيرية. أمّا الفعل المتبادل للنضالين السياسي والاقتصادي، الذي يمثل العمود الفقري للإضرابات الحالية في روسيا ويمثل في الوقت ذاته الآلية الضابطة للعمل الثوري البروليتاري، فسينشأ في ألمانيا بصورة طبيعية عن الظروف ذاتها.




6- تعاون العمال المنظمين وغير المنظمين ضروري للنصر

تتخذ مسألة التنظيم فيما يتعلق بمشكلة الإضراب الجماهيري في ألمانيا منحى مختلفا جوهريا بالعلاقة بما سبق.

يمكن بشكل عام تلخيص موقف الكثيرين من قادة النقابات في الجملة التالية: «لسنا أقوياء بما فيه الكفاية لنخاطر بالدخول في تجربة للقوة خطيرة كالإضراب الجماهيري». إن هذا الموقف يتعذر الدفاع عنه، إذ لا يمكن، بطريقة سلمية وبعدّ الرؤوس، تحديد الوقت الذي تصبح فيه البروليتاريا «قوية بما فيه الكفاية» للقيام بأي نضال. فقبل ثلاثين سنة كان عدد أعضاء النقابات الألمانية 50 ألفا. وهذا عدد من الواضح أنه يجعل الإضراب الجماهيري على النطاق المشار إليه آنفا أمرا لا يمكن أن يخطر ببال. لكن النقابات أصبحت بعد 15 سنة من ذلك الحين أقوى بأربع مرات وأصبح عدد أعضائها 237 ألفا. بيد أنه لو سئل قادة النقابات حينداك ما إذا كان تنظيم البروليتاريا إذ ذاك ناضجا بما فيه الكفاية للإضراب الجماهيري ، لأجابوا بالتأكيد أن الأمر أبعد ما يكون من ذلك وأنه يجب أولا أن يبلغ عدد المنظمين في النقابات الملايين.

واليوم دخل عدد أعضاء النقابات مليونه الثاني؛ ولكن آراء القادة النقابيين لا يزال كما في السابق بالضبط، وقد تظل كذلك حتى النهاية. فالافتراض الضمني هو أن الطبقة العاملة الألمانية كلها حتى آخر رجل وآخر امرأة يجب أن تنضم إلى المنظمة قبل أن تصبح المنظمة «قوية بما فيه الكفاية» للاقدام على اضراب جماهيري، وحينذاك وحسب المعادلة القديمة يصبح الإضراب الجماهيري أمرا «لا حاجة له». بيد أن هذه النظرية طوباوية لسبب بسيط هو أنها تعاني من تناقض داخلي وأنها تدور في حلقة مفرغة. يجب أن ينظم العمال جميعا قبل أن يستطيعوا خوض أي نضال طبقي مباشر. ولكن ظروف وأوضاع التطور الرأسمالي والدولة البورجوازية تجعل مستحيلا في الحالة العادية وبدون نضال طبقي عاصف تنظيم قطاعات معينة من البروليتاريا هي القطاعات الأكبر والأهم والأدنى والأكثر تعرضا للاضطهاد من جانب رأس المال. ففي بريطانيا حيث قرن كامل من الجهد النقابي الذي لا يكل ولا يمل دون «إزعاجات» – إلاّ في بداية فترة الحركة الشارتية – ودون أية أخطاء أو غوايات «ثورية رومانتيكية»، نرى أنه لم يكن من الممكن فعل شيء أكبر من تنظيم أقلية من القطاعات البروليتارية التي تتلقى أجرا أفضل.

ومن جهة أخرى، لا تستطيع النقابات، ككل منظمات البروليتاريا النضالية، أن تحافظ على نفسها دوما بغير النضال، لا النضال من نوع الحرب بين الضفادع والفئران في مياه الفترة البرلمانية البرجوازية الراكدة، بل النضال في فترة الإضراب الجماهيري الثورية المضطربة. إن المفهوم الميكانيكي البيروقراطي لا يستطيع تصور النضال إلاّ نتاجا للتنظيم في مرحلة معينة من القوة. وعلى العكس من ذلك فإن التفسير الجدي الحي يرى أن التنظيم ينبثق نتيجة للنضال. ولقد رأينا مثلا عظيما على هذه الظاهرة في روسيا حيث استطاعت بروليتاريا تكاد تفتقر إلى التنظيم تماما خلق شبكة شاملة من الخلايا التنظيمية في سنة ونصف من النضال الثوري العاصف.

ويعطي تاريخ النقابات الألمانية مثلا آخر من هذا النوع. فقد كان عدد النقابات في العام 1878 يبلغ 50 ألفا. وكان هذا التنظيم كما قلنا سابقا وطبقا لنظرية قادة النقابات الحاليين غير«قوي بما فيه الكفاية» للدخول في نضال سياسي عنيف. ولكن النقابات الألمانية برغم ضعفها قامت بالنضال – بالتحديد النضال ضد القانون المعادي للاشتراكية – وبرهنت على أنها كانت «قوية بما فيه الكفاية» لا للخروج من النضال منتصرة فحسب بل لزيادة قوتها خمس مرات أيضا، فأصبح عدد أعضائها في العام 1891 بعد إلغاء القوانين المعادية للاشتراكية 227659 عضوا. صحيح أن الوسائل التي انتصرت بها النقابات في هذا النضال لا تتفق مع مثال عملية مسالمة غير متقطعة: فقد تحطمت النقابات تماما وأصبحت أنقاضا لترتفع في موجة ثانية فتولد من جديد. ولكن هذه هي بالتحديد الطريقة التي تنمو بها التنظيمات الطبقية للبروليتاريا: ان تختبر بالنضال وتتقدم من النضال وقد ازدادت قوة.

إن تفحصا أدق للظروف الألمانية ولظروف القطاعات المختلفة من الطبقة العاملة، تبين بوضوح أن فترة النضالات السياسية الجماهيرية العارمة لن تؤدي إلى الانهيار المريع للنقابات الألمانية، بل ستؤدي على العكس من ذلك إلى فتح آفاق لامتداد مناطق قوتها لم يحلم بها حتى الآن، وسيتسع هذا الامتداد بسرعة وبقفزات كبيرة. ولكن لا تزال للمسألة وجه آخر. إن خطة القيام بإضرابات جماهيرية كعمل سياسي طبقي جدي بالعمل المنظمين فقط خطة لا رجاء فيها إطلاقا. ذلك أنه إذا أريد للاضراب الجماهيري، أو بالأحرى الإضرابات الجماهيرية، والنضال الجماهيري أن تنجح فإنها يجب أن تصبح «حركة الشعب» حقا، أي أنها يجب أن تجتذب إلى ساحة القتال أوسع قطاعات البروليتاريا. حتى في الوقت الراهن، لا تقوم قوة الصراع الطبقي البروليتاري في الشكل البرلماني على المجموعة الصغيرة المنظمة بل على جماهير البروليتاريا ذات العقلية الثورية المحيطة بالمنظمة. ولو كان الاشتراكيون الديموقراطيون يدخلون المعركة الانتخابية معتمدين على بضعة مئات الآلاف من الأعضاء المنظمين، لقضوا على أنفسهم بالعقم. وعلى الرغم من ميل الاشتراكية الديموقراطية حيثما أمكن إلى اجتذاب الجيش العظيم ممن يدلون بأصواتهم في صالحها إلى تنظيم الحزب، فإن جماهير منتخبي الاشتراكية الديموقراطية لم يزيدوا بعد ثلاثين سنة من تجربتها عبر نمو التنظيم الحزبي. بل على العكس من ذلك، تشكل قطاعات البروليتاريا التي يجري اليوم كسبها عبر النضال الإنتخابي الأرض الخصبة للتنظيم في المستقبل. هنا لا تقدم المنظمة قوات للنضال، ولكن النضال هو الذي يقدم بدرجة تتزايد على الدوام مجندين للمنظمة.

ومن الواضح أن هذا ينطبق بدرجة أكبر بكثير على النضال الجماهيري السياسي المباشر أكثر من النضال البرلماني. وإذا كان الاشتراكيون الديموقراطيون بصفتهم النواة المنظمة للطبقة العاملة، هم الطليعة الأكثر أهمية لكل العمال، وإذا كان الوضوح السياسي للحركة العمالية وقوتها ووحدتها تنبثق جميعا من هذه المنظمة، فإنه ليس من المسموح به أبدا تصوير الحركة الطبقية للبروليتاريا على أنها حركة الأقلية المنظمة، إن كل نضال طبقي كبير وحقيقي لا تأخذ هذا التعاون في حسابها وتقوم على فكرة المسيرة المنظمة بدقة المسرحية يقوم بها الجزء المدرب جيدا من البروليتاريا مقضي عليها سلفا بأن تتمخض عن مهزلة تاعسة.

لذا فإن الإضرابات الجماهيرية والنضال الجماهيري في ألمانيا لا يمكن أن تتحقق بالعمال المنظمين فقط،ولا يمكن تقييمها بـ«التوجيه» المنتظم من جانب اللجنة المركزية للحزب. ففي هذه الحالة، كما في روسيا بالضبط، لا تعتمد الإضرابات على «الانضباط» و«التدريب» وعلى أدق قدر ممكن من الضبط المسبق لمسائل الدعم والثمن، بقدر اعتمادها على العمل الطبقي الحازم الثوري الذي يستطيع أن يكسب ويجتذب إلى النضال أوسع قطاعات العمال غير المنظمين طبقا لظروفهم ومزاجهم.

إن التقدير المبالغ فيه والتقدير الخاطئ لدور التنظيمات في الصراع الطبقي للبروليتاريا يتعززان في العادة بالتقليل من دور الجماهير البروليتارية غير المنظمة والتقليل من شأن نضجها السياسي. ففي الفترة الثورية وخلال عاصفة النضالات الطبقية العظيمة التي لا تهدأ يظهر كل الفعل التثقيفي للتطور الرأسمالي السريع وللتأثيرات الاشتراكية الديموقراطية على أوسع قطاعات الشعب، ذلك الفعل الذي لا تعطي جداول المنظمين في أوقات السلام وحتى الإحصائيات الإنتخابية سوى فكرة شاحبة عنه. لقد رأينا في روسيا وخلال قرابة عامين أن العمل العام العظيم للبروليتاريا يمكن أن ينبثق من أصغر الصدامات الجزئية بين العمال وأصحاب العمل ومن أتفه أعمال الوحشية من جانب الأجهزة الحكومية. إن الجميع بالطبع يرون ذلك ويؤمنون به، لأن «الثورة» في روسيا قائمة حقا. ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أن الحس الطبقي، الغريزة الطبقية، حية وفعالة جدا في البروليتاريا الروسية، لدرجة تجعلها على الفور تعتبر كل مسألة جزئية تتعلق بأي مجموعة صغيرة من العمال مسألة عامة وأمرا طبقيا، وسرعان ما تبدي بسرعة البرق رد فعل موحد تجاه تأثيرها. بينما لا تكاد أعنف النزاعات النقابية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا تحفز أي عمل عام من جانب الطبقة العاملة، وعندما تفعل فإن الجزء المنظم من العمال هو الذي يتحرك، أمّا في روسيا فإن أصغر نزاع يثير عاصفة. ولا يعني هذا شيئا غير أن الغريزة الطبقية للبروليتاريا الروسية الأصغر والأقل تدريبا والأسوأ تثقيفا وتنظيما أقوى بما لا يقاس من غريزة الطبقة العاملة المنظمة المدربة المتنورة في ألمانيا أو أي قطر آخر من أقطار أوروبا الغربية –على الرغم من التناقض الظاهري لهذا الأمر. ولا يجب أن يعتبر هذا ميزة خاصة «للشرق الشاب غير المستنفد» بالمقارنة مع «الغرب البليد». فهو ببساطة نتيجة العمل الثوري الجماهيري المباشر.

أما في حالة الطبقة العاملة المتنورة في ألمانيا فإن الوعي الطبقي الذي تغرسه فيها الاشتراكية الديموقراطية وعي نظري وكامن: فهو في فترة البرلمانية البرجوازية لا تستطيع كقاعدة الاشتراك بنشاط في عمل جماهيري مباشر، فهي المجموع المثالي لأربع مئة عمل متوازية في الدوائر الانتخابية خلال النضال الانتخابي وللكثير من الإضرابات الاقتصادية الجزئية وما إلى ذلك. ولكن وقت الثورة، وعندما تظهر الجماهير ذاتها في المعركة السياسية فإن هذا الوعي الطبقي يصبح عمليا وفعالا. ولذا فإن سنة من الثورة منحت البروليتاريا الروسية «دربة» لا تستطيع ثلاثون سنة من البرلمانية والنضال النقابي منحها للبروليتاريا الالمانية .وبالطبع ستتضاءل حدة شعور البروليتاري الطبقي الفعال الحي هذا، أو بالأحرى يتحول هذا الشعور إلى حالة مخفية كامنة، بعد انتهاء فترة الثورة وإقامة الدولة البرجوازية البرلمانية الدستورية.

من جهة أخرى وبالمثل، لا بد أن يؤثر الشعور الطبقي البروليتاري الحي القادر على العمل على أوسع وأعمق شرائح البروليتاريا في ألمانيا في فترة المجابهة السياسية الحادة، وحينئذ سينفذ عمل الاشتراكية الديموقراطية التثقيفي إلى هذه الشرائح بسرعة أكبر وعمق أكبر وحيوية أكثر. إن هذا العمل التثقيفي، بالإضافة إلى الأثر المثور والمستثير لسياسة ألمانيا الراهنة كلها، سيعبر عن نفسه في الفترة الثورية الجدية بالعمل على الجماعات التي لا تزال في الوقت الراهن، في غباوتها السياسية الظاهرة، غير مستجيبة لكل المحاولات التنظيمية من جانب الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، فيؤدي بها فجأة إلى السير وراء علم الاشتراكية الديموقراطية. إن ستة أشهر من الفترة الثورية ستتم تدريب الجماهير التي لم تنظم بعد .وهذا ما لا تستطيع عشر سنوات من التظاهرات العامة وتوزيع المنشورات. وعندما تصل الظروف في ألمانيا إلى المرحلة الحرجة من فترة كهذه، فإن القطاعات التي لا تزال اليوم مختلفة وغير منظمة ستبرهن بالنضال أنها ليست بالعنصر الذي يجر جرا، بل إنها العنصر الأكثر راديكالية والأكثر اندفاعا. إذا قدر للاضرابات الجماهيرية في ألمانيا أن حدث، فإن من سينمون في أنفسهم أعظم طاقة للعمل لن يكونوا بالتأكيد العمال الأفضل تنظيما –ليس عمال الطباعة بالتأكيد – بل العمال الأسوأ تنظيما أو غير المنظمين – عمال التعدين وعمال النسيج وربما حتى العمال الزراعيين.

وبهذه الطريقة نصل بالنسبة لألمانيا إلى النتائج ذاتها التي توصلنا إليها في تحليلنا للأحداث في روسيا فيما يتعلق بالمهام المحددة «للتوجيه» بالعلاقة مع دور الاشتراكية الديموقراطية في الاضراب الجماهيري. فإذا طرحنا جانبا الخطة غير العملية للاضراب الجماهيري التظاهرية التي تقوم بصورة مصطنعة طبقا لأوامر الأحزاب والنقابات، واتجهنا إلى الصورة الحية لحركة شعبية تنبثق بطاقة جبارة من تفاقم التناقضات الطبقية العدائية ومن الوضع السياسي – حركة تنتقل سياسيا واقتصاديا إلى نضالات جماهيرية وإضرابات جماهيرية – فإنه يتضح لنا أن مهمة الاشتراكية الديموقراطية ليست الإعداد التقني للاضرابات الجماهيرية أو توجيهها بل القيادة السياسية للحركة كلها أولا وقبل كل شيء.

إن الاشتراكيين الديموقراطيين هم طليعة البروليتاريا الأكثر تنورا والأكثر وعيا طبقيا. وهم لا يستطيعون أن ينتظروا مكتوفي الأيدي وبطريقة قدرية قدوم «الوضع الثوري»، أن ينتظروا ذلك الذي يهبط من السماء في كل حركة شعبية عفوية. على العكس من ذلك، يجب عليهم الان، كما على الدوام، أن يعجلوا تطور الأمور ويحاولوا تسريع الأحداث، ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك بأن يطلقوا فجأة «شعار» الإضراب الجماهيري عفوا وفي أية لحظة يريدون، بل إنهم يستطيعون ذلك أولا وقبل كل شيء بأن يوضحوا لأوسع قطاعات البروليتاريا «القدوم المحتوم» لهذه الفترة الثورية و«العوامل الاجتماعية» التي تفعل ذلك و«النتائج السياسية» له. وإذا كان للاشتراكيين الديموقراطيين أن يكسبوا إلى نضالهم السياسي الجماهيري أوسع شرائح البروليتاريا، وبالعكس إذا كان للاشتراكيين الديموقراطيين أن يقبضوا على زمام القيادة الحقيقية للحركة الجماهيرية ويحتفظوا به –أي إذا كان لهم أن يصبحوا بمعنى سياسي حكام الحركة كلها، فإن عليهم أن يعلموا البروليتاريا الألمانية بتاكتيكاتهم وأهدافهم في فترة النضال القادم وأن يفعلوا ذلك بأكبر قدر من الوضوح والاتساق والتصميم.




7- دور الإضراب الجماهيري في الثورة

رأينا أن الاضراب الجماهيري في روسيا ليس نتاجا مصطنعا لتاكتيكات جرى التفكير فيها مسبقا من جانب الاشتراكيين الديموقراطيين، بل إنه ظاهرة تاريخية طبيعية على أرض الثورة الراهنة. والآن ما هي العوامل التي أدت في روسيا إلى قيام هذا الشكل الظاهري phanomenal الجديد من الثورة؟

المهمة التالية للثورة الروسية هي إلغاء الحكم المطلق وخلق دستورية برلمانية بورجوازية حديثة. وهذه المهمة هي في الشكل كتلك التي جابهت ثورة مارس في ألمانيا، والثورة الكبرى في نهاية القرن 19 في فرنسا. ولكن الظروف والوسط التاريخي التي حدثت فيها هذه الثورات المتشابهة شكليا تختلف اختلافا أساسيا عن ظروف روسيا اليوم ووسطها التاريخي. والاختلاف الأكثر حسما هو أن دورة كاملة من التطور الرأسمالي اكتملت بين تلك الثورات البرجوازية في الغرب والثورة البرجوازية الراهنة في الشرق. ولم يأخذ هذا التطور برقبة البلدان الأوروبية الغربية فقط بل برقبة روسيا ذات الحكم المطلق. فقد أصبحت الصناعة الصناعة الكبيرة بكل نتائجها – الانقسامات الطبقية الحديثة والتناقضات الاجتماعية الحادة والحياة الحديثة في المدن الكبيرة والبروليتاريا الحديثة – الشكل السائد في روسيا أي النمط الإنتاجي المقرر في التطور الاجتماعي.

وينشأ عن ذلك وضع تاريخي هام متناقض هو أن الثورة البورجوازية طبقا لمهامها الشكلية ستقوم بها بروليتاريا حديثة واعية طبقيا وفي وسط عالمي سمته المميزة هي دمار الديموقراطية البورجوازية. فليست البورجوازية اليوم هي الصفر الثوري القيادي كما كان الأمر في الثورات السابقة في الغرب حيث كانت الجماهير البروليتارية المشتتة ضمن البورجوازية الصغيرة توفر مددا بشريا لجيش البورجوازية. على العكس من ذلك، إن البروليتاريا الواعية طبقيا هي العنصر القيادي والدافع بينما البرجوازية الكبيرة مضادة للثورة مباشرة في جزء منها وليبرالية بضعف في الجزء الآخر وليس هناك سوى البورجوازية الصغيرة الريفية و انتلجنسيا البورجوازية الصغيرة المدينية من يتخذ موقفا معارضا أو حتى يتمتع بتفكير ثوري.

بيد أن البروليتاريا الروسية التي قدر لها أن تلعب الدور القيادي في الثورة البورجوازية تدخل القتال متحررة من كل أوهام الديموقراطية البورجوازية متمتعة بوعي قوي نام لمصالحها الطبقية المحددة، في وقت وصل فيه التعادي بين العمل ورأس المال أوج حدته. ويجد هذا الوضع المتناقض تعبيره في أنه في هذه الثورة البورجوازية شكلا يصبح التناقض العدائي بين المجتمع البورجوازي والحكم المطلق محكوما بالتناقض العدائي بين البروليتاريا والمجتمع البورجوازي، وفي أن نضال البروليتاريا يتجه في الوقت ذاته وبالقدر ذاته من القوة ضد الحكم المطلق والاستغلال الرأسمالي معا، وفي أن برنامج النضال الثوري يركز بالقدر ذاته من التأكيد على الحرية السياسية وكسب يوم عمل من 8 ساعات والوصول إلى مستوى إنساني لمعيشة البروليتاريا المادية. إن هذا الطابع المزدوج للثورة الروسية يجد تعبيره في الاتحاد الوثيق بين النضال السياسي والنضال الاقتصادي وفي تفاعلهما المتبادل الذي رأينا أنه ظاهرة مميزة للأحداث الروسية والذي يجد تعبيره المناسب في الإضراب الجماهيري.

لقد كانت معركة المتاريس القصيرة الأمد هي الشكل المناسب للنضال الثوري في الثورات البورجوازية الأولى، حيث كانت الأحزاب البورجوازية هي التي تتولى القيادة والتدريب السياسيين للجماهير الثورية وحيث كانت المسألة فحسب مسألة الإطاحة بالحكومة القديمة. أمّا اليوم حيث تعي الطبقات العاملة وتتنور عبر النضال الثوري وحيث يجب على هذه الطبقات أن تجمع قواها وتقود نفسها بنفسها وحيث تتوجه الثورة ضد سلطة الدولة القديمة بقدر ما تتوجه ضد الاستغلال الرأسمالي فإن الإضراب الجماهيري يصبح السبيل الطبيعي لتجنيد أوسع الشرائح البروليتارية للنضال وفي الوقت ذاته سبيل إضعاف سلطة الدولة القديمة والإطاحة بها واجتثاث الاستغلال الرأسمالي. إن البروليتاريا الصناعية المدينية هي اليوم روح الثورة في روسيا. ولكن يجب على البروليتاريا كي تقوم بالنضال السياسي المباشر ككتلة أن تتجمع أولا ككتلة، ولذا يجب عليها أن تخرج من المصنع والمشغل من المنجم والمسبك وأن تتغلب على التحلل والانسحاق الذي تتعرض له يوميا تحت وطأة النير الرأسمالي.

إن الإضراب الجماهيري هو الشكل الطبيعي الأول لكل نضال ثوري عظيم تقوم به البروليتاريا، وكلما كان التناقض العدائي بين العمل ورأس المال أكثر تطورا كلما وجب أن تصبح الاضطرابات الجماهيرية أكثر فعالية وحدة. أمّا الشكل الرئيسي للثورات البرجوازية السابقة الا وهو القتال عند المتاريس والصدام المباشر مع القوة المسلحة للدولة فليس في ثورة اليوم إلاّ نقطة الأوج، ليس إلاّ لحظة في عملية النضال البروليتاري الجماهيري. وبذلك في هذا الشكل الجديد للثورة نصل إلى تمدين وتخفبف الصراع الطبقي الذي تنبأ به انتهازيو الاشتراكية الديموقراطية الألمانية – البرينشتاينيون والدافيديون الخ. صحيح أن هؤلاء رأوا تمدين وتخفيف الصراع الطبقي سيتقلص لينحصر تماما في نطاق برلماني وسيذهب قتال الشوارع بكل بساطة أدراج الرياح. لكن التاريخ وجد الحل بطريقة أفضل وأدق وأكثر عمقا في حلول الاضرابات الجماهيرية الثورية، وهذه لا تحل بالطبع محل معارك الشوارع ولا تجعلها غير ضرورية ولكنها تقلصها لتصبح لحظة في فترة طويلة من النضال السياسي وفي الوقت ذاته توحد ما بين الفترة الثورية وبين عمل ثقافي عظيم بأدق معنى لكلمة «ثقافي» : رفع الطبقة العاملة كلها ماديا وفكريا عبر «تمدين» الأشكال البربرية للاستغلال الرأسمالي.

هكذا يتبين لنا أن الإضراب الجماهيري ليس نتاجا روسيا مخصوصا انبثق من الحكم المطلق بل شكلا من أشكال الصراع الطبقي البروليتاري ينجم عن المرحلة الراهنة من التطور الرأسمالي والعلاقات الطبقية. ومن هذا المنظور تمثل الثورات البورجوازية الثلاث –الثورة الفرنسية الكبرى وثورة مارس الألمانية والثورة الروسية الراهنة- سلسلة متصلة من التطور يظهر فيها مصير ونهاية القرن الرأسمالي. ففي الثورة الفرنسية الكبرى أعطت التناقضات الداخلية، التي لم تكن قد نضجت أبدا، مجالا لفترة طويلة من النضالات العنيفة، تفجرت فيها دون معيق ودون تحفظ وبروح راديكالية شجاعة كل التناقضات التي نشأت ونضجت أولا في حرارة الثورة. وبعد قرن من ذلك جاءت الثورة البورجوازية الألمانية التي انفجرت في منتصف التطور الرأسمالي فكانت أن أعاقها من الجانبين تناقض مصالح رأس المال والعمل وتوازن القوة بينهما، لتسوى هذه الثورة بحل وسط بين الإقطاع والبورجوازية وضع حدا سريعا لفترة قصيرة تاعسة انتهت بكلمات.

وبعد نصف قرن آخر جاءت الثورة الروسية الراهنة لتقف في خط التطور التاريخي على نقطة تخطت بالفعل القمة، نقطة على الجانب الآخر من نقطة ذروة المجتمع الرأسمالي. نقطة لا يمكن أن تسوى فيها الثورة البرجوازية ثانية بفعل التناقض العدائي بين البرجوازية والبروليتاريا. بل على العكس من ذلك ستتسع الثورة لتشمل فترة طويلة جديدة من النضالات الاجتماعية العنيفة، ستبدو فيها تصفية الحسابات مع الحكم المطلق الروسي أمرا تافها بالمقارنة مع الحسابات الجديدة الكثيرة التي تفتح الثورة ذاتها آفاقها. إن الثورة الروسية الراهنة تحقق، في الظروف الخاصة لروسيا الحكم المطلق، النتائج العامة للتطور الرأسمالي العالمي، وهي لا تبدو الخلف الأخير للثورات البورجوازية القديمة بقدر ما تبدو السلف لسلسلة جديدة من الثورات البروليتارية في الغرب. ومن هنا فإن أكثر البلدان تخلفا، بسبب تأخره الذي لا يغتفر في القيام بثورته البورجوازية، يضع أمام بروليتاريا ألمانيا وأكثر الأقطار الرأسمالية تقدما سبلا ووسائل جديدة للصراع الطبقي.

من هنا، إذا نظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فإنه يبدو من الخطأ الفاحش اعتبار الثورة الروسية مسرحية جيدة أو أمرا «روسيا» مخصوصا، أو في أحسن الأحوال الإعجاب ببطولة المناضلين. فالأهم من ذلك بكثير أن يتعلم العمال الألمان النظر إلى الثورة الروسية على أنها مسألة تخصهم، لا كمسألة من مسائل التضامن الأممي مع البروليتاريا الروسية فحسب، بل أولا وقبل كل شيء كفصل من تاريخهم السياسي والإجتماعي. إن القادة النقابيين ورجال البرلمانية الذين يعتبرون البروليتاريا الألمانية «أضعف من» أن تقوم بنضالات جماهيرية وأن الظروف الألمانية «ليست بعد ناضجة بما فيه الكفاية» لهذه النضالات، إن هؤلاء لا يعرفون إطلاقا أن مقياس درجة نضوج العلاقات الطبقية في ألمانيا وقوة البروليتاريا فيها ليس احصاءات النقابات الألمانية ولا الأرقام الانتخابية، بل إن هذا المقياس هو أحداث الثورة الروسية. فتماما كما انعكس نضج التناقضات الطبقية العدائية في فرنسا تحت حكم ملكية يوليو وكذلك معركة يونيو في باريس في ثورة مارس الألمانية وفي ألمانيا في أحداث الثورة الروسية وفي قوتها. إن بيروقراطيي الحركة العمالية الألمانية يوسعون إدراج مكاتبهم بحثا عن معلومات تتعلق بقوة البروليتاريا ونضجها وهم لا يعلمون أن ما يبحثون عنه موجود أمام أعينهم في ثورة تاريخية عظيمة. ذلك أن الثورة الروسية هي من وجهة تاريخية انعكاس لقوة الحركة العمالية العالمية ولذا وفي المقام الأول إنعكاس لقوة الحركة العمالية الألمانية.

ولذا فإن نتائج الثورة الروسية ستكون غير ذات بال وغير مهمة إطلاقا لو أن البروليتاريا الألمانية لم تستخلص سوى الدرس الذي يريد لها الرفاق فروهم والم وغيرهم ان تستخلصه. وهذا الدرس هو ان يستخدم هذا الشكل المتطرف من النضال، الإضراب الجماهيري، في حالة سحب التصويت البرلماني، وبالتالي أن تضعف البروليتاريا ذاتها لتصبح مجرد قوة احتياطية ووسيلة سلبية للدفاع البرلماني. عندما نحرم من التصويت البرلماني فإننا سنقاوم. إن هذا قرار واضح بذاته. ولكن ليس من الضروري لاتخاذ قرار كهذا أن يتخذ المرء مظهرا بطوليا كما فعل الرفيق الم مثلا في يينا. ذلك أن الدفاع عن أبسط أوجه الحق البرلماني ليس اختراعا هائلا كان من الضروري لتشجيعه قيام المذابح المريعة في الثورة الروسية، بقدر ما هو أبسط وأول واجبات أي حزب معارض. ولكن الدفاع المجرد لا يستنفد سياسة البروليتاريا في فترة ثورة. وإذا كان من الصعب من جهة التنبؤ بأي قدر من اليقين بما إذا كان تدمير الاقتراع العام سيخلق في ألمانيا وضعا يستدعي القيام بفعل إضرابي جماهيري فوري، كذلك من جهة أخرى فإن من المؤكد بصورة مطلقة أننا عندما نلج في ألمانيا فترة أعمال جماهيرية عاصفة فسيكون من المستحيل على الاشتراكيين الديموقراطيين إقامة تكاتيكاتهم على مجرد الدفاع البرلماني.

ليس بمقدور الاشتراكية الديموقراطية أن تحدد سلفا السبب الذي سيؤدي إلى اندلاع الإضرابات الجماهيرية في ألمانيا أو اللحظة التي ستندلع هذه الإضرابات فيها، وما ذلك إلاّ لأنه ليس بمقدور الإشتراكية الديموقراطية أن تحدث أوضاعا تاريخية باتخاذ قرارات في مؤتمرات الحزب. ولكن ما تستطيع وما يجب أن تفعله هو توضيح الاتجاهات السياسية عندما تظهر وصياغتها في تاكتيكات منسقة وحازمة. إن الإنسان ان يؤخر الأحداث التاريخية حتى يقوم بوضع وصفات لها ولكنه يستطيع أن يرى سلفا نتائجها الظاهرة التي يمكن حسابها وأن يرتب نمط عمله طبقا لذلك.

لقد كان الخطر السياسي الأول الذي شغلت به البروليتاريا الألمانية نفسها عدة سنوات في خطر انقلاب رجعي ينتزع من الجماهير العريضة أهم حق سياسي لها وهو حق الإقتراع العام. وعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا الحدث المحتمل، إلا أن من المستحيل، كما رأينا سابقا، أن يؤكد المرء بأي قدر من اليقين أن حركة جماهيرية ستنفجر بعد الانقلاب مباشرة. وذلك لأن عوامل وظروفا عدة يجب أن تؤخذ بالإعتبار. ولكن عندما نأخذ بعين الاعتبار الحدة البالغة للظروف في ألمانيا، ومن جهة أخرى ردود الفعل العالمية المتعددة الأوجه للثورة الروسية ولروسيا المستقبل وقد استعادت شبابها، فإنه يصبح من الواضح أن انهيار السياسة الألمانية الذي قد ينشأ عن إلغاء حق الإقتراع العام لن يؤدي وحده إلى وقف النضال من أجل هذا الحق. والأغلب أن هذا الإنقلاب سيستتبع في فترة قصيرة أو طويلة وبقوة الأعاصير تسوية حسابات سياسية عامة من جانب جماهير الشعب المنتفعة المستيقظة .تسوية حسابات مع الربا ومع ندرة اللحم المفتعلة ومع الانفاق على المؤسسة العسكرية والأسطول بشكل واسع وفساد السياسة الكولونيالية، مع المهانة القومية لمحاكمة كونيكسبرج وتوقف الإصلاحات اإجتماعية وفصل عمال سكك الحديد وموظفي البريد والعمال الزراعيين، مع إهانة عمال التعدين ومخادعتهم ومع الحكم على لوبتاو وكل نظام العدالة الطبقي، مع نظام اقفال المصانع تحديا لمطالب العمال، وباختصار مع ثلاثين سنة من الاضطهاد الذي يمارسة الحكم المشترك لليونكرز ورأس المال المتمركز في تروستات.

ولكن إذا بدأت الكرة مرة تتدحرج فلن تستطيع الاشتراكية الديموقراطية أن توقفها ثانية سواء أرادت ذلك أم لم ترد. لقد أعتاد معارضو الاضراب الجماهيري على إنكار أن دروس ومثل الثورة الروسية يمكن أن تكون معيارا لألمانيا وذلك أولا وقبل كل ما عداه لأن روسيا يجب أن تقفز من الاستبداد الشرقي إلى النظام القانوني البرجوازي الحديث. ويقال أن المسافة الشكلية بين هذين النظامين السياسيين القديم منها والحديث تشكل تفسيرا كافيا لعنفوان وعنف الثورة في روسيا. أما في ألمانيا فقد حصلنا منذ أمد على معظم أشكال وضمانات الدولة الدستورية، ويتبع من ذلك أن الإنفجار العنيف للتناقضات العدائية الاجتماعية مستحيل هنا.

إن أولئك الذين يتوقعون الأمور على هذا النحو ينسون أنه عندما تصل المسألة في ألمانيا إلى إنفجار النضالات السياسية فإن الهدف المحدد تاريخيا سيكون مختلفا تماما عن الهدف في روسيا. وذلك بالضبط لأن النظام القانوني البورجوازي وجد في ألمانيا منذ أمد طويل ولذا فقد كان لديه الوقت الكافي ليستنفذ نفسه تماما ويمثل إلى نهايته، ولأن الديموقراطية والليبرالية البرجوازية قد أخذت وقتا كافيا لتضمحل، لم يعد هناك مجال للحديث عن ثورة برجوازية في ألمانيا ولذا لا يمكن أن يكون الهدف التاريخي الضروري النهائي في فترة نضالات شعبية سياسية عالمية في ألمانيا غير ديكتاتورية البروليتاريا، بيد أن المسافة بين هذا الهدف والأوضاع الحالية في ألمانيا أكبر من المسافة التي تفصل النظام القانوني البرجوازي عن الاستبداد الشرقي، ولذا لا يمكن تحقيق هذا الهدف بضربة واحدة بل إنه يجب أن ينجز عبر فترة طويلة من النضالات الاجتماعية العملاقة.

ولكن أليس في الصورة التي رسمنا تناقضا ضخم؟ فهي من ناحية تعني أنه في فترة عمل سياسي جماهيري في المستقبل البعيد ستحصل الشرائح الأكثر تخلفا من البروليتاريا الألمانية – العمال الزراعيون، عمال سكك الحديد، وعبيد البريد – أولا على حق الانتظام، وأن الاستغلال الأكثر بشاعة يجب أن يقضي عليه أولا، وهي من ناحية أخرى تعني أن الهدف السياسي لهذه الفترة هو استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية! من جهة نضالات اقتصادية ونقابية من أجل المصالح المباشرة، من أجل رفع المستوى المعيشي المادي للطبقة العاملة، ومن جهة أخرى الهدف النهائي للاشتراكية الديموقراطية! ان هذه تناقضات كبيرة بالنتأكيد، ولكنها ليست تناقضات في تفكيرنا، بل تناقضات نجمت عن التطور الرأسمالي. وهي لا تسير في خط مستقيم جميل بل في خط متعرج تعرج البرق. فكما أن الأقطار الرأسمالية المختلفة تمثل مراحل تطور متنوعة جدا، كذلك تتمثل الشرائح المختلفة للطبقة العاملة ذاتها في البلد الواحد. ولكن التارسخ لا ينتظر بصبر حتى تلتقي الأقطار المتخلفة والشرائح الأكثر تقدما معا، فتتقدم الجماهير جميعا إلى الأمام بطريقة متوازنة وكأنها بنيان مرصوص بل أنها تؤدي بالإجزاء الأكثر استعدادا إلى الإنفجار حالما تنضج الظروف لذلك، ومن ثم وفي عنفوان الفترة الثورية تستعاد الأرض المفقودة وتتساوى الأشياء غير المتساوية وتتضاعف بضربة واحدة سرعة خطى التقدم الإجتماعي.

وكما أن كل مراتب التقدم وكل مصالح الشرائح المختلفة من الطبقة العاملة في الثورة الروسية تتحد في البرنامج الاشتراكي الديموقراطي للثورة وكما أن النضالات الجزئية التي لا تحصى تتحد في العمل الطبقي العظيم المشترك للبروليتاريا، كذلك فإن هذا سيكون هو الأمر في ألمانيا عندما تنضج الظروف لذلك، وعندئد تصبح مهمة الاشتراكية الديموقراطية تنظيم تكتيكاتها لا طبقا لأكثر مراحل التطور تخلفا بل طبقا لأكثرها تقدما.




8- الحاجة إلى عمل موحد بين الاشتراكية الديموقراطية والنقابات

إن أهم الأماني التي يؤمل من الطبقة العاملة الألمانية في فترة النضالات العظيمة التي ستأتي آجلا أو عاجلا هي، بعد الحزم والتنسيق الكاملين للتكتيكات، القدرة القصوى على العمل وبالتالي أكبر قدر ممكن من وحدة الجزء الاشتراكي الديموقراطي القيادي من الجماهير البروليتارية. أمّا اليوم فقد تكشفت المحاولات الضعيفة الأولى للإعداد لأعمال جماهيرية ضخمة عن عطب خطير فيما يتعلق بهذا الأمر: الانفصال الكامل لمنظمتي الحركة العمالية واستقلالهما عن بعضهما، وهاتان المنظمتان هما الاشتراكية الديموقراطية والنقابات.

يتضح لنا من تفحص أدق للاضرابات الجماهيرية في روسيا وكذلك للظروف في ألمانيا ذاتها أن أي عمل جماهيري كبير لا يمكن أن يجري التفكير به على أساس ما يسمى بالاضراب الجماهيري السياسي، هذا إذا أريد لهذا العمل أن لا يقتصر على مجرد تظاهرة تدوم يوما واحدا بل أن يكون عملا قتاليا حقيقيا. وكل عمل كهذا في ألمانيا سيشمل النقابات يحسبون أن الاشتراكيين الديموقراطيين، بالنظر إلى كون منظمتهم أصغر من تنظيم إتحادات العمال، لن يكون لهم من مصدر للدعم غير مليون وربع المليون من أعضاء النقابات، وأن الإشتراكيين الديموقراطيين لن يستطيعون شيئا دون هؤلاء. بل إن ذلك يعود إلى سبب أعمق بكثير: لأن أي عمل جماهيري مباشر في فترة النضالات الطبقية المفتوحة سيكون في الوقت ذاته عملا سياسيا واقتصاديا. وإذا ما حدثت في ألمانيا لأي سبب وفي أي وقت نضالات سياسية كبيرة وإضرابات جماهيرية، فإن مرحلة من النضالات النقابية العنيفة ستبدأ في ألمانيا دون أن تنتظر الأمور موافقة القادة النقابيين على الحركة. وإذا ما وقف هؤلاء جانبا أو حاولوا مقاومة الحركة فإن النتيجة ستكون ازاحتهم من الطريق بفعل اندفاع الأحداث وستستمر الجماهير في نضالاتها السياسية والاقتصادية دونهم، تماما كما يحدث لقادة الحزب في أية حالة مماثلة.

في الواقع ليس فصل النضالين السياسي والاقتصادي واستقلالهما عن بعضهما البعض غير نتاج مصطنع للفترة البرلمانية، حتى ولو كان هذا النتاج محددا تاريخيا. ومن جهة أخرى يتفتت النضال الاقتصادي ويتحلل خلال مسيرة المجتمع البرجوازي المسألة «الطبيعية» إلى عدد كبير من النضالات الفردية في كل مصلحة وفي كل فرع من فروع الإنتاج. ومن جهة أخرى لا توجه الجماهير ذاتها النضال السياسي في عمل مباشر بل طبقا لشكل الدولة البرجوازية بطريقة تمثيلية بواسطة وجود التمثيل التشريعي. ولكن حالما تبدأ فترة نضالات ثورية أي حالما تظهر الجماهير على مسرح الصراع يتوقف تفتت النضال الاقتصادي إلى أجزاء عدة كما يتوقف الشكل البرلماني غير المباشر للنضال السياسي. ففي العمل الجماهيري الثوري يصبح النضالان السياسي والاقتصادي كلا واحدا وكذلك يتحطم الفاصل المصطنع ما بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية كشكلين منفصلين مستقلين تاما للحركة العمالية. ولكن ما يجد تعبيره الملموس في الحركة الجماهيرية الثورية يجد أيضا تعبيره في الفترة البرلمانية كأمر واقع. وليس هناك نضالان طبقيان مختلفان للطبقة العاملة أحدهما اقتصادي والآخر سياسي، بل هناك فحسب نضال طبقي واحد يهدف في الوقت ذاته إلى الحد من الاستغلال الرأسمالي داخل المجتمع الرأسمالي وإلى إلغاء الاستغلال والمجتمع البرجوازي معا.

عندما يفصل هذان الجانبان من النضال الطبقي أحدهما عن الآخر في الفترة البرلمانية لأسباب فنية، فإنهما لا يشكلان عملين متوازيين يحدثان في الوقت ذاته بل يشكلان وجهين أو مرحلتين من مراحل النضال من أجل انعتاق الطبقة العاملة. إن النضال النقابي يشمل المصالح المباشرة للطبقة العاملة بينما يشمل النضال الاشتراكي الديموقراطي مصالحها المستقبلة. يقول البيان الشيوعي أن الشيوعيين يمثلون المصالح المشتركة للبروليتاريا ككل بعكس المصالح الجزئية المتعددة سواء أكانت محلية أو قومية، وهم في المراحل المختلفة لتطور الصراع الطبقي يمثلون مصالح الحركة كلها أي يمثلون الهدف النهائي الا وهو تحرير البروليتاريا. أمّا النقابات فتمثل فقط المصالح الفئوية وفي مرحلة واحدة من مراحل تطور الحركة العمالية. إن الاشتراكية الديموقراطية تمثل الطبقة العاملة وهدف تحررها ككل. من هنا فإن علاقة النقابات بالإشتراكية الديموقراطية هي علاقة الجزء بالكل. وعندما تجد نظرية «السلطة المتساوية» للنقابات والاشتراكية الديموقراطية هذا القدر من الصدى الإيجابي بين قادة النقابات فإنها تقوم على سوء فهم أساسي لماهية النقابية ولدورها في النضال العام من أجل حرية الطبقة العاملة.

غير أن نظرية العمل المتوازي للاشتراكية الديموقراطية والنقابات، وسلطتها المتساوية ليست بدون أساس إطلاقا، فإن لها جذورها التاريخية. إنها تقوم على الوهم الذي تشيعه الفترة المسالمة «الطبيعية» للمجتمع البرجوازي حيث يبدو النضال السياسي للاشتراكية الديموقراطية مستنفدا في النضال البرلماني. بيد أن النضال البرلماني وهو الجزء المقابل للنضال النقابي نضال يشن على أساس النظام الاجتماعي البرجوازي كما النضال النقابي ذاته. فهو بطبيعته عمل اصلاحي سياسي كما أن العمل النقابي عمل إقتصادي إصلاحي. إنه يمثل العمل السياسي في الوقت الراهن كما أن النقابات تمثل العمل الاقتصادي في الوقت الحاضر. إنه، كما النقابات ذاتها مجرد وجه ومرحلة من التطور في عملية كاملة هي عملية الصراع الطبقي البروليتاري الذي يتخطى هدفه النهائي النضال البرلماني بالقدر الذي يتخطى به النضال النقابي. وما النضال البرلماني بالعلاقة مع السياسة الاشتراكية الديموقراطية غير جزء من كل، كما العمل النقابي. إن الاشتراكية الديموقراطية اليوم تضم النضالين البرلماني والنقابي في نضال طبقي واحد يهدف إلى إلغاء النظام الاجتماعي البرجوازي.

وبالمثال فإن نظرية «السلطة المتساوية» للنقابات والاشتراكية الديموقراطية ليست مجرد سوء فهم نظري وليس مجرد تشوش، بل هي تعبير عن اتجاه الجناح الانتهازي المعروف جيدا من الاشتراكية الديموقراطية والذي يحصر النضال السياسي للطبقة العاملة في النطاق البرلماني والذي يريد أن يحول الاشتراكية الديموقراطية من حزب بروليتاري ثوري إلى حزب إصلاحي برجوازي صغير.(1)»

وإذا كان للاشتراكية الديموقراطية أن تتقبل نظرية «السلطة المساومة» لاتحادات العمال، فإنها بذلك تكون قد قبلت ضمنا وبصورة غير مباشرة ذلك التحول الذي طالما كافح من أجله ممثلو الاتجاه الانتهازي.

ولكن في ألمانيا تبادل في العلاقات داخل الحركة العاملة لا يمكن أن يوجد في أي قطر آخر. إن المفهوم النظري الذي تكون النقابات بموجبه مجرد جزء من الاشتراكية الديموقراطية يجد تعبيره في الوقائع في ألمانيا في الممارسة العملية، وذلك في ثلاثة اتجاهات.

أولا- النقابات الألمانية نتاج مباشر للاشتراكية الديموقراطية، فالاشتراكية الديموقراطية هي التي خلقت بدايات الحركة النقابية في ألمانيا وهي التي مكنت هذه الحركة من أن تأخذ أبعادا كبيرة، والاشتراكية الديموقراطية قي التي تزود النقابات إلى يومنا هذا بقيادتها وأكثر منظميها نشاطا.

ثانيا- النقابات الألمانية نتاج للاشتراكية الديموقراطية أيضا بمعنى أن التعاليم الاشتراكية الديموقراطية هي روح ممارسة النقابات. فالنقابات مدينة بتفوقها على كل منظمات العمال البرجوازية لفكرة الصراع الطبقي. ونجاحها العملي وقوتها نتيجة مباشرة لكون ممارساتها تهتدي بنظرية الاشتراكية العلمية فترتفع بذلك فوق مستوى الاشتراكية الضيقة الأفق. إن قوة «السياسة العملية» للنقابات الألمانية تكمن في تبصرها بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية العميقة للنظام الرأسمالي وهي مدينة بهذا التبصر لنظرية الاشتراكية العلمية التي تقيم ممارستها عليها كليا. إن كل محاولة لتحرير النقابات من النظرية الاشتراكية الديموقراطية لصالح هذه «النظرية النقابية» المضادة للاشتراكية الديموقراطية أو تلك ليست من وجهة نظر النقابات ذاتها ومن وجهة نظر مستقبلها غير محاولة انتحار. ففصم الممارسة النقابية عن نظرية الاشتراكية العلمية يعني للنقابات الألمانية فقدانها الفوري لكل تفوقها على جميع أنواع اتحادات العمال البرجوازية ووقوعها من عليائها الحالية إلى مستوى التجريبية الخاملة والتمرس المتذبذب لطريقها.

ثالثا- وفي النهاية، إن النقابات نتاج للحركة الاشتراكية الديموقراطية وللتحريض الاشتراكي الديموقراطي حتى فيما يتعلق بصددها،على الرغم من أن قادتها قد غفلوا عن هذه الحقيقة. صحيح أن التحريض النقابي يسبق في كثير من المناطق التحريض الاشتراكي الديموقراطي وأن عمل النقابات لعمل الحزب .فالحزب والنقابات من وجهة نظر الأثر تساعد بعضها إلى أكمل حد. ولكن عندما ينظر إلى صورة الصراع الطبقي في ألمانيا ككل وعندما ينظر إلى ارتباطاتها الأعمق فإن النسب تتغير إلى حد بعيد. لقد اعتاد كثيرون من قادة النقابات النظر بزهو من علياء تعداد أعضاء نقاباتهم البالغ مليون وربع على العدد القليل لأعضاء الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي لم يبلغ بعد نصف مليون، وذلك عندما يتذكرون كيف كان الاشتراكيون الديموقراطيون قبل عشرة أو اثنتي عشر سنة ينظرون بتشاؤم إلى احتمالات تطور النقابات.

وهم يرون بين هذين الأمرين – العدد الضخم لأعضاء النقابات المنظمين والعدد القليل للاشتراكيين الديموقراطيين المنظمين – علاقة سببية إلى هذا الحد أو ذاك. فآلاف مؤلفة من العمال لا تنضم لمنظمات الحزب لأنها تنضم للنقابات. وطبقا لهذه النظرية يجب أن يكون العمال جميعا بصورة مزدوجة فيحضرون نوعين من الاجتماعات ويدفعون تبرعات مضاعفة ويقرأون نوعين من الصحف العمالية الخ. ولكن من الضروري لهذا وجود مستوى أعلى من الذكاء ومن المثالية التي تجعل العامل، بسبب من احساسه بالواجب تجاه الحركة العمالية، مستعدا للتضحية اليومية بالوقت والمال، كما أن من الضروري له الاهتمام الحماسي بالحياة الفعلية للحزب، ذلك الاهتمام الذي لا يمكن أن يتحقق بالانخراط في عضوية منظمة للحزب. وكل هذا ينطبق على الأقلية الذكية والمتنورة من العمال الاشتراكيين الديموقراطيين في المدن الكبيرة حيث حياة الحزب غنية وجذابة وحيث مستوى معيشة العمال مرتفع. ولكن من الصعب تحقيق الشكل المزدوج من التنظيم بين القطاعات الأوسع من الجماهير العمالية في المدن وكذلك في المقاطعات والمدن الصغيرة والصغرى حيث الحياة السياسية المحلية ليست أمرا مستقلا بل انعكاسا لسير الأحداث في العاصمة، وبالتالي حيث حياة الحزب خاوية ورتيبة وحيث المستوى الاقتصادي لمعيشة العمال تاعس في غالب الأحيان.

يجد العامل ذو التفكير الاشتراكي الديموقراطي حلا للمسألة بالانضمام إلى نقابة. فالمصالح المباشرة لنضاله الاقتصادي التي تضعها طبيعة النضال ذاته لا يمكن أن تتحقق بأي وسيلة غير العضوية في تنظيم نقابي. فالتبرع الذي لا يمكن أن يتحقق بأي وسيلة غير العضوية في تنظيم نقابي. فالتبرع الذي يدفعه، غالبا بالتضحية بمستوى معيشته، يؤدي له نتائج مباشرة مرئية. وفي الوقت ذاته تسير له ميوله الاشتراكية الديموقراطية الاشتراك في أنواع متعددة من العمل دون أن ينخرط في إحدى منظمات الحزب وذلك بالتصويت في الانتخابات البرلمانية وحضور الاجتماعات الاشتراكية الديموقراطية العلنية، ومتابعة التقارير عن الخطب الاشتراكية الديموقراطية في الهيئات التمثيلية وقراءة صحف الحزب. وللدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين عدد الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين أو عدد المشتركين في صحيفة «فوروارتز» في برلين بعدد أعضاء الحزب المنظمين.

والأهم من ذلك أن العامل العادي ذا التفكير الاشتراكي الديموقراطي لا يمكن لكونه رجلا بسيطا أن يفهم تلك النظرية المعقدة الدقيقة المسماة نظرية الروح المزدوجة، فهو يشعر في النقابة أنه منظم في الاشتراكية الديموقراطية. وعلى الرغم من أن اللجان المركزية للنقابات ليس لها صفة حزبية رسمية، إلاّ أن العامل من بين جماهير كل بلدة ومدينة يرى أن أكثر القادة نشاطا على رأس النقابة التي ينضم إليها، هم زملاء يعرف أنهم أيضا رفاق واشتراكيون ديموقراطيون. فهم حينا ممثلون في الرايشتاغ أو اللاندفتاغ أو ممثلون محليون، وهم حينا آخر رجال الاشتراكية الديموقراطية الثقاة وهم حينا ثالثا أعضاء انتخابية وحينا آخر محررون في صحف الحزب أو أمناء لفروعه او يعرفهم ، على أنهم مجرد خطباء ومحرضين. أكثر من ذلك، يسمح العامل التحريضي الذي تقوم به النقابة الأفكار المحببة لديه والتي يفهمها تماما، أفكار الاستغلال الرأسمالي والعلاقات الطبقية الخ، وهي أفكار أتت إليه من التحريض الاشتراكي الديموقراطي. وبالفعل، أن أكثر من تحبهم الجماهير من خطباء الاجتماعات النقابية هم الخطباء الاشتراكيون الديموقراطيون ذاتهم.

هكذا يتضافر كل شيء ليعطي العامل العادي الواعي طبقيا إحساسا بأنه بانتظامه في نقابته إنما ينتظم ذلك في حزبه العمالي ويصبح منظما اشتراكيا ديموقراطيا. وهنا تكمن قوة النقابات الألمانية عدديا. فالنقابات المركزية لم تستطع إحراز قوتها الراهنة بسبب من تظاهرها بالحياد بل بسبب حقيقتها الاشتراكية الديموقراطية في الواقع. وقد حدث هذا ببساطة عبر التعايش مع النقابات المختلفة التي أنشأتها الأحزاب البرجوازية والتي سعت إلى إقامة ضرورة ذلك «الحياد» السياسي. وعندما يكون للعامل الألماني ملء حرية الاختيار في الارتباط بنقابة مسيحية أو كاثوليكية أو إنجيلية فلا يختار أيا من هذه بل يختار «نقابة حرة» بدلا من ذلك أو يترك إحدى النقابات الأولى لينضم إلى هذه الأخيرة، فإنه إنما يفعل ذلك لأنه يعتبر النقابات المركزية منظمات مكرسة للصراع الطبقي الحديث أو أنها نقابات اشتراكية ديموقراطية وهذا هو الشيء ذاته في ألمانيا.

في كلمة واحدة، إن مظهر «الحياد» الموجود في مختلف قادة النقابات غير موجود إطلاقا بالنسبة لجمهور أعضاء النقابات المنظمين، وما هذا إلاّ من حسن حظ الحركة النقابية. ذلك أنه ما قدر للمظهر «الحيادي»، أي انفصام وانفصال النقابات عن الاشتراكية الديموقراطية، أن يصبح حقيقة واقعة في نظر الجماهير البروليتارية، فإن النقابات هنا إذن ستخسر كل ميزاتها على الاتحادات البرجوازية المنافسة وبالتالي تخسر قوتها العددية أي وقودها الحيوي. وهذا أمر تثبته الوقائع المعروفة جيدا فمظهر «حياد» النقابات سياسيا عن الحزب يمكن أن يؤدي كوسيلة اجتذاب خدمة لا تقدر بثمن للنقابات في بلد لا تتمتع فيه الاشتراكية الديمقراطية نفسها برصيد بين الجماهير،أي بلد لا تضر فيه وصمة ارتباط المنظمة العمالية بالحزب المنظمة بدلا من أن تفيدها، وباختصار في بلد يتعين فيه على النقابات أن تجند قواها من بين جمهور غير متنور أبدا وذي تفكير برجوازي.

لقد كان افضل مثل على هذا البلد خلال القرن الماضي وإلى حد ما حتى اليوم هو بريطانيا العظمى. أمّا في ألمانيا فعلاقات الحزب مختلفة تماما. ففي بلد كهذا، الاشتراكية الديموقراطية هي أقوى حزب سياسي فيه وحيث تتمثل القوة التي يمكن للحزب أن يجند منها بجيش يربو عدده على ثلاثة ملايين بروليتاري، فإن من السخف الحديث عن التأثير الرادع للاشتراكية الديموقراطية وعن ضرورة التزام منظمة قتالية للعمال الحياد السياسي. إن مجرد مقارنة أرقام الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين بأرقام المنظمات النقابية في ألمانيا يكفي لأن يبرهن لأكثر الناس سذاجة أن النقابات الألمانية لا تستمد قواها كما في إنجلترا من جمهور غير متنور ذي تفكير برجوازي، بل من جمهور بروليتاري عبأته الاشتراكية الديموقراطية وكسبته لفكرة الصراع الطبقي. إن كثيرين من قادة النقابات يرفضون هذه الفكرة – وهذا شرط لازم «لنظرية الحياد» – ويعتبرون أن النقابات مدرسة تجنيد للاشتراكية الديموقراطية. يصبح هذا الافتراض المهين في الظاهر، الباعث على الزهو في الحقيقة، مجرد خيال، لأن الأمور معكوسة، فالاشتراكية الديموقراطية هي مدرسة التجنيد للنقابات.

بالإضافة إلى ذلك، إذا كان العمل التنظيمي للنقابات في معظمه من نوع صعب جدا ومزعج، فإن ذلك، باستثناء بضع حالات وبعض مناطق، لا يعود لأن الأرض لم يمهدها المحراث الاشتراكي الديموقراطي فحسب، بل أيضا لأن بذار النقابات ذاتها والبذار كذلك يجب أن يكون جميعا «حمراء» أي اشتراكية ديموقراطية قبل أن تزدهر الغلال، ولكننا عندما نقارن بهذه الطريقة أرقام عدد أعضاء النقابات، لا بتعداد المنظمات الاشتراكية الديموقراطية، بل كما يجب بتعداد جماهير الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين، فإننا نستخلص نتيجة تختلف كثيرا عن وجهة النظر السائدة الان بالنسبة للمسألة. إذ نتبين أن «النقابات الحرة» لا تمثل في الواقع سوى أقلية من العمال الواعين طبقيا في ألمانيا وأنها حتى بأعضائها المنظمين البالغ عددهم 2,25 مليون لم تستطع بعد أن تجتذب إلى صفوفها نصف أولئك الذين استطاعت الاشتراكية الديموقراطية أن توقظهم. إن أهم نتيجة تستخلص من الحقائق التي أوردناها هي أن الوحدة الناجزة بين الحركة النقابية والحركة الاشتراكية الديموقراطية، تلك الوحدة الضرورية ضرورة مطلقة للنضالات الجماهيرية القادمة في ألمانيا، موجودة بالفعل ومتضمنة في الجماهير العريضة التي تشكل في وقت معا أساس الاشتراكية الديموقراطية والنقابات والتي يلتحم جزءا الحركة في وعيها وحدة عقلية. وبذلك يتقلص التناقض المزعوم بين الاشتراكية الديموقراطية والنقابات إلى تناقض بين الاشتراكية الديموقراطية وجزء معين من رسميي النقابات، وذلك التناقض الذي هو في الوقت ذاته تناقض داخل النقابات ذاتها بين هذا الجزء من القادة النقابيين وبين الجمهور البروليتاري المنظم في النقابات.

لقد أدى النمو السريع الذي شهدته النقابات في ألمانيا خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، وخاصة في فترة الازدهار الاقتصادي الكبير 1895-1900، أدت إلى تمتع النقابات بقدر كبير من الاستقلال وبتخصص في أساليبها النضالية وفي النهاية إلى إيجاد موظفين يعملون في اتحادات العمال بصورة منتظمة. إن هذه الظواهر أمر يمكن فهمه، وهي نتائج تاريخية طبيعية لنمو النقابات في فترة الخمسة عشر عاما وخلال الازدهار الاقتصادي والهدوء السياسي في ألمانيا، وهي بلا أدنى شك شر لا بد منه تاريخيا على الرغم من كونها ترتبط ارتباطا وثيقا ببعض النكسات. ولكن جدل التطور يؤدي أيضا إلى وضع تصبح معه الوسائل الضرورية لتنمية النقابات عقبات في سبيل تطورها اللاحق في مرحلة معينة من التنظيم وفي درجة معينة من نضج الظروف.

إن تخصص قادة النقابات في النشاط المهني، وكذلك الأفق المحدود بطبيعته المرتبط بالنضالات الاقتصادية المتناثرة في فترة سلمية يؤدي بقدر كبير من السهولة إلى انتشار البيروقراطية وحد معين من ضيق الأفق بين موظفي النقابات. وكلاهما على أية حال يعبر عن نفسه في سلسلة من الاتجاهات قد تكون مضرة إلى أقصى حد بمستقبل الحركة النقابية. فهناك أولا وقبل كل شيء المبالغة في تقدير التنظيم الذي تحول تدريجيا من وسيلة إلى غاية بحد ذاته، إلى شيء ثمين يجب أن تخضع له كل مصالح النضالات، ومن هذا تنبثق الحاجة التي يعترف بها علنا للسلام والتي تتخاذل أمام المخاطر العظيمة والأخطار المفترضة لتتقوقع في استقرار النقابات. كما ينبثق منها أيضا المبالغة في تقدير الوسيلة النقابية في النضال وآفاقها ونجاحاتها. إن قادة النقابات ينهمكون باستمرار في حرب العصابات الاقتصادية التي تضع لنفسها هدفا هو جعل العمال يعلقون قدرا هائلا من الأهمية على أصغر المكتسبات الاقتصادية وعلى كل ازدياد في الأجور وعلى كل تخفيض في يوم العمل. وبذلك يفقد هؤلاء القدرة على رؤية الارتباطات الأكبر وعلى القيام بمسح شامل للموقف كله. وبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نفسر لماذا يشير كثير من قادة النقابات بأعظم الرضى إلى إنجازات الأعوام الخمس عشرة الأخيرة. بدلا من أن يفعلوا العكس ويؤكدوا على الوجه الأخر للمسألة: الانخفاض الكبير الذي طرأ في الوقت ذاته على مستوى المعيشة البروليتاري بفعل الربا وبفعل السياسة الضريبية والجمركية وبفعل جشع الملاك الذين زادوا ايجار البيوت إلى حد مخيف، وباختصار بفعل كل الوجهات الموضوعية للسياسة البرجوازية التي وازنت إلى حد كبير إنجازات خمسة عشر عاما من العمل النقابي. إن الحقيقة الاشتراكية الديموقراطية كلها يجب، في الوقت الذي تؤكد فيه على أهمية العمل الحالي وضرورته المطلقة، ان تعلق الأهمية الرئيسية على نقد هذا العمل وتبيان حدوده. إلاّ أن النقابات تأخذ بالاعتبار نصف الحقيقة فتؤكد على الجانب الايجابي للنضال اليومي.

في النهاية، فإن اخفاء الحدود الموضوعية التي يضعها النظام الاجتماعي البرجوازي أمام نضال النقابات يولد عداء لكل نقد نظري يشير إلى هذه الحدود بالعلاقة مع الأهداف النهائية للحركة العمالية. وبذلك يعتبر التفاؤل الذي لا حد له ودغدغة الغرور واجب كل «صديق للحركة النقابية». لكن وجهة نظر الاشتراكية الديموقراطية تتكون بالضبط من النضال ضد تفاؤل النقابات غير النقدي وكذلك من النضال ضد التفاؤل البرلماني غير النقدي. ولذا فإن جبهة تتشكل في النهاية ضد النظرية الاشتراكية الديموقراطية، فيتلمس البعض طريقه إلى «نظرية نقابية (تريديونيونية) جديدة» أي نظرية تفتح أفقا غير محدود للتقدم الاقتصادي أمام النضال النقابي ضمن النظام الرأسمالي ضد العقيدة الاشتراكية الديموقراطية. ولقد وجدت نظرية كهذه بالفعل منذ بعض الوقت، نظرية البروفيسور سومبارت التي أذيعت وكان هدفها المعلن دق أسفين بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية واجتذاب النقابات إلى الموقع البرجوازي.

وتظهر بالعلاقة مع هذه الاتجاهات النظرية ثورة في العلاقات بين القادة والقاعدة. وبدلا من التوجه الرفاقي عبر اللجان المحلية، مع كل عدم كفاية هذا الأسلوب، يظهر أسلوب جديد هو توجيه قادة النقابات لهذه النقابات على طريقة رجل الأعمال. وبذلك تقع مهمة المبادرة وسلطة اتخاذ القرارات على عاتق الاختصاصيين في النقابات، بينما يقتصر دور جماهير القاعدة على الالتزام بالفضيلة السلبية، فضيلة الانضباط. إن هذا الجانب المظلم من البيروقراطية يخفي وراءه أيضا أخطارا عظيمة تتهدد الحزب. فالابتكار الجديد وهو إقامة هيئات أمانة عامة لمحليات الحزب يمكن أن يؤدي إلى ذلك بسهولة إذا لم تحرص الجماهير الاشتراكية الديموقراطية على إبقاء هذه الهيئات مجرد أدوات لتنفيذ القرارات وعدم اعتبارها بأي شكل هيئات معينة للقيام بالمبادرة في حياة الحزب المحلية وتوجيهها. ولكن طبيعة الأمور ذاتها وطبيعة النضال السياسي تضع للبيروقراطية في الاشتراكية الديموقراطية حدودا ضيقة ليست كتلك التي في حياة النقابات.

ولكن التخصص الفني لمناضلين يتلقون أجرا، كثيرا ما يعني كما حدث في المصادقة على اتفاقات التعرفة وما شابهها منع جمهور العمال المنظمين من القيام «بمسح للحياة الصناعية بكاملها» وبذلك تتقنن عدم قدرة هذا الجمهور على اتخاذ القرارات. وإحدى نتائج هذا المفهوم هي الحجة التي تحرم كل نقد نظري لاحتمالات وآفاق الممارسة النقابية بزعم أن نقدا كهذا يهدد بالخطر المشاعر الجماهيرية الموالية للنقابات. ومن وجهة النظر هذه استخلصت نتيجة فحواها أن الجماهير لا يمكن كسبها إلى التنظيمات النقابية وإبقائها فيها إلاّ بالإيمان الطفولي الأعمى بفعالية النضال النقابي. إن الاشتراكية الديموقراطية تقيم نفوذها على اتحاد الجماهير في خضم تناقضات النظام القائم وعبر الطابع المعقد لهذه التناقضات، وكذلك على اتخاذ الجماهير موقفا نقديا تجاه كل عوامل ومراحل نضالها الطبقي ذاته. أمّا النقابات فقد أقامت سلطتها ونفوذها على النظرية المقلوبة رأسا على عقب والقائلة بعدم قدرة الجماهير على النقد واتخاذ القرارات. «تجب المحافظة على إيمان الشعب»، هذا هو المبدأ الأساسي الذي يستخدمه الكثيرون من النقابات ليصموا كل نقد كفاية النقابية موضوعيا بأنه محاولة لقتل الحركة النقابية.

والنتيجة الأخيرة لهذا التخصص والتبقرط بين قادة النقابات هي الاستقلال الكبير و«الحياد» الذي تتمتع به النقابات في علاقاتها مع الاشتراكية الديموقراطية. لقد نشأ الاستقلال الكبير لتنظيم النقابات كنتيجة طبيعية لنموها، وكعلاقة نجمت عن الفصل التقني بين الشكلين السياسي والنقابي للنضال. أمّا «حياد» النقابات الألمانية فقد نشأ من جهته عن تشريع النقابات الرجعي الذي أصدرته الدولة البوليسية الألمانية-البروسية. ولكن بمرور الوقت تحولت طبيعة هذين طبيعة هذين الوجهين. فانبثقت من حالة «حياد» النقابات السياسي التي فرضها البوليس نظرية حياد طوعي كضرورة مبنية على الطبيعة المزعومة للنضال النقابي نفسه. كما أن استقلال النقابات استقلالا فنيا يقوم على تقسيم العمل ضمن النضال الطبقي الاشتراكي الديموقراطي الموحد وفصل النقابات عن الاشتراكية الديموقراطية وعن وجهات نظرها وقيادتها تحول إلى ما يدعى نظرية السلطة المتساوية للنقابات والاشتراكية الديموقراطية.

بيد أن هذا الانفصال الظاهري والمساواة الظاهرية بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية قد تجسد بصورة رئيسية في قادة النقابات وتعزز عبر الجهاز الإداري للنقابات. فوجد هيئة كاملة من موظفي النقابات ولجنة مركزية مستقبلة تماما وصحافة مهنية متعددة ومؤتمر نقابات قد خلق وهما بوجود ما يوازي بالضبط الجهاز الإداري للاشتراكية الديموقراطية واللجنة التنفيذية للحزب وصحافة الحزب ومؤتمر الحزب. وقد أدى هذا الوهم بتساوي الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، من بين أمور أخرى، إلى مشهد مريع هو أن جدولي أعمال متماثلين جزيئا يبحثان في مؤتمرات الحزب ومؤتمرات النقابات وأن قرارات مختلفة وحتى متعارضة تماما تتخذ بصدد المسائل ذاتها. ومن تقسيم العمل الطبيعية بين مؤتمر الحزب، الذي يمثل المصالح والمهام العامة للحركة العمالية، وبين مؤتمر النقابات، الذي يعالج مجالا أضيق بكثير من المسائل والمصالح الاجتماعية، اصطنع انقسام مفتعل بين وجهة نظر الاشتراكية الديموقراطية ووجهة نظر النقابات مسائل ومصالح الحركة العمالية العامة ذاتها.

ومن هنا نشأ وضع شاد هو أن الحركة النقابية التي تشكل من تحت وبالنسبة لجماهير البروليتاريا كلا واحدا بصورة مطلقة مع الاشتراكية الديموقراطية، تفترق عن الاشتراكية الديموقراطية من فوق في البنية الفوقية للإدارة، وتضع نفسها كقوة عظيمة مستقلة. ولذا فإن الحركة العمالية الألمانية تأخذ وضعا شاذا على شكل هرم مزدوج تتكون قاعدته وجسمه من كتلة واحدة متراصة بينما تفترق قمتاه.

من هذا التصوير للحالة القائمة تتضح الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تحقيق الوحدة المتراصة للحركة العمالية الألمانية بطريقة طبيعية وناجحة، تلك الوحدة الضرورية التي لا غنى عنها بالنظر إلى النضالات الطبقية المقبلة والمصالح المحددة لتطوير النقابات. ولن تكون هناك طريقة أكثر شذوذا وعبثا لتحقيق الوحدة المرجوة من إجراء مفاوضات متفرقة ودورية بين قيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي واللجان المركزية للنقابات بصدد المسائل المتفرقة التي تؤثر على الحركة العمالية. فكما رأينا، أن الدوائر الأعلى لشكلي الحركة العمالية هي التي تجسد انفصالهما واكتفائهما الذاتية، وهما بالتالي من يشجع وهم السلطة المتساوية والوجود المتوازي للاشتراكية الديموقراطية والنقابية.

إن الرغبة في تحقيق الوحدة عبر اتحاد اللجنة التنفيذية للحزب واللجنة العامة للنقابات تعني الرغبة في بناء جسر بين ابعد نقطتين حيث العبور اصعب ما يكون. فضمان الوحدة الحقيقية للحركة العمالية لا يكمن فوقا بين رؤوس المنظمات القيادية الموجهة وعبر تحالفها الفيدرالي بل يكمن تحتا بين الجماهير البروليتارية المنظمة، فالحزب والنقابات تشكل في الواقع كلا واحدا في وعي أعضاء النقابات المليون وهما تمثلان شكلين مختلفين من أشكال النضال الاشتراكي الديموقراطي لتحرير البروليتاريا ومن هنا تنبثق بصورة أتوماتيكية الحاجة إلى القضاء على كل أسباب الاحتكاك الذي نشأ بين الاشتراكية الديموقراطية وجزء من النقابات وإلى تكييف علاقاتهما المتبادلة طبقا لوعي الجماهير البروليتارية، أي إلى إعادة ربط النقابات بالاشتراكية الديموقراطية. وبذلك يجري التعبير عن تركيب التطور الحقيقي الذي قاد من اندماج اتحادات العمال بالاشتراكية الديموقراطية إلى انفصالها عنها، وسيكون السبيل ممهدا لفترة النضالات الجماهيرية البروليتارية العظيمة القادمة وخلال فترة النمو القوي لكل من النقابات والاشتراكية الديموقراطية سيصبح اتحادهما من أجل مصالحهما كليهما ضرورة.

ليست المسألة بالطبع مسألة دمج تنظيم النقابات بالحزب ولكنها مسألة إعادة توحيد الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، تلك الوحدة تنطبق على العلاقة الواقعية بين الحركة العمالية ككل وبين تعبيرها النقابي الجزئي. ولا شك أن ثورة كهذه ستجد لا محالة معارضة شديدة من جزء من قيادة النقابات. ولكن حان الوقت لجماهير الاشتراكية الديموقراطية العاملة أن تتعلم كيف تعبر عن قدرتها على التقرير والفعل. فتبين بالتالي نضجها للنضالات العظيمة والمهام العظيمة التي ستكون الجماهير جوقتها الفعلية بينما تلعب الهيئات القيادية دور الأجزاء الناطقة فقط، أي أنها ستكون فحسب المترجمة لإرادة الجماهير.

إن الحركة النقابية ليست ذلك الوهم اللاعقلاني الذي يعيش في مخيلة أقلية ضئيلة من قادة النقابات. ولكن تلك الحقيقة التي تعيش في وعي جماهير البروليتاريين الذين تم كسبهم للصراع الطبقي، والحركة النقابية في هذا الوعي جزء من الاشتراكية الديموقراطية. «وكما هي يجب أن تجرؤ على الظهور».


--------------------------------------------------------------------------------

(1) يشعر المرء بالامتنان للصراحة التي صاغ بها الاتجاه الانتهازي حديثا أهدافه، وذلك لأن وجود مثل هذا الاتجاه داخل الاشتراكية الديموقراطية الألمانية ينكر بشكل عام. في اجتماع حزبي عقد في 10 أيلول / سبتمبر 1909 تقدم الدكتور دافيد بالاقتراح التالي:
«في الوقت الذي يفسر فيه الحزب الاشتراكي الديموقراطي إصلاح ثورة بمعنى التطور المسالم لا بمعنى الإطاحة العنيفة أي بمعنى التحقيق التدريجي لمبدأ اقتصادي جديد، فإن الاجتماع العلني للحزب يستنكر كل نوع من أنواع الرومانتيكية الثورية.
«يرى الإجتماع أن الاستيلاء على السلطة السياسية لا تعدو كسب أغلبية الشعب لآراء ومطالب الاشتراكية الديموقراطية وهذا الإستيلاء لا يمكن أن يتحقق بواسطة العنف بل فحسب بتثوير العقل بواسطة الدعاية الفكرية والعمل الاصلاحي في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
«إعتقادا منا بأن الاشتراكية الديموقراطية تزدهر أكثر بكثير عندما تستخدم الطرق القانونية مما تزدهر عندما تعتمد على الوسائل غير القانونية والثورة، فإن الاجتماع يشجب العمل الجماهيري المباشر، كمبدأ تكتيكي ويتمسك بشدة بمبدأ العمل الاصلاحي البرلماني، أي أن الاجتماع يرغب في أن يحاول الحزب في المستقبل كما في الماضي تحقيق أهدافه بالتشريع بالتشريع والتطور التدريجي المنظم.
«إن الشرط الذي لا غنى عنه لهذه الطريقة الاصلاحية في النضال هو أن لا تقلل امكانية اشتراك الجماهير المفقرة من الشعب في التشريع للامبراطورية وللولايات المختلفة بل تزاد إلى أقصى حد ممكن. ولهذا السبب فإن الاجتماع يعلن أن حق الطبقة العاملة في الامتناع عن العمل مدة تطول أو تقصر في وجه الهجمات على حقوقها الشرعية أو لكسب حقوق أخرى هو حق لا يناقش عندما تفشل كل الوسائل الأخرى.
«ولكن بما أن الاضراب الجماهيري السياسي لا يمكن أن ينتصر إلاّ إذا أبقي ضمن الحدود القانونية وعندما لا يعطي العمال المضربون للسلطات أي عذر للجوء إلى القوة، فإن الاجتماع يرى أن الاعداد الحقيقي والضروري لممارسة هذه الوسيلة في النضال هو توسيع المنظمات السياسية والتعاونية والنقابية فبذلك فقط يمكن أن تخلق بين الجماهير العريضة الظروف التي تضمن تنفيذا ناجحا للاضراب الجماهيري: الانظباط الواعي والدعم الاقتصادي الكافي»

اسم الكتاب كاملا: الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات
كتبته روزا لوكسومبرغ سنة 1906
المصدر العربي: دار الطليعة – الطبعة الاولى 1970
تحويل رقمي: : جريدة المناضل-ة (أبريل 2005)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا


.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024




.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال


.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري




.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا