الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحالف الثلاثي ضد الثورة المصرية – الجزء الثالث والأخير

محمود بلحاج

2013 / 9 / 27
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


التحالف الثلاثي ضد الثورة المصرية – الجزء الثالث والأخير

لقد حاولنا في الجزاءين السابقين إبراز دوافع وحيثيات تفاقم الأزمة المصرية على أكثر من صعيد، ولو باقتضاب شديد، كما تناولنا أيضا دور الرئيس المعزول( ذ. مرسي) وحكومته الإسلامية في تأجيج الصراع المذهبي والطائفي عبر نهجه لسياسة الإقصاء واللامبالاة تجاه المبادرات والنداءات المدنية والسياسية التي وجهتها القوى المدنية والسياسية المعارضة، وعبر نهجه كذلك لسياسة الاستعلاء والتمييز الطائفي من جهة ثانية( انظر مثلا مواد الدستور الذي أعده مرسي)، بينما سنحاول في هذا الجزء الثالث والأخير مناقشة طبيعة ونوعية الصراع الدائر الآن بمصر، حيث أنه عادة ما يتم الحديث، والتركيز، على الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الصراع المصري، فيما يتم إقصاء وتهميش الجانب الثقافي / الفكري بشكل شبه كامل. هذا بالرغم أنه يشكل- في تقديرنا وتصورنا – مركز الخلاف والاختلاف بين المكونات المتصارعة – اليوم - في المشهد المصري، خاصة بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي.

لهذا، نرى أنه من الضروري أن يعالج هذا الموضوع؛ أي الجانب الفكري ، بشكل جدي وعميق، نظرا لأهميته القصوى فيما تشهده مصر من الأحداث المتلاحقة والشائكة، تماما كما تعيشها أيضا العديد من الدول " العربية " التي تعيش نفس الأوضاع والظروف القائمة بمصر، صحيح أن الجدل هو جدل سياسي / إيديولوجي في المقام الأول، لكن خلف هذا الجدل يوجد جدل آخر، وهو الجدل الثقافي بامتياز، خاصة إذا ما عرفنا إن " القاع الثقافي العربي مازال دينيا، أو قل مازال الديني من المصادر الأساس لتشكيل معطياته. وبكلمة، إن الديني ما برح يمثل منظومة مرجعية رئيسية ثقافية للثقافة العامة والذهنية العامة .." ( انظر عبد الإله بلقزيز - ص 136 من كتابه" الإسلام والسياسة).

فكل طرف من الأطراف المتصارعة الآن في الحياة السياسية بمصر تحمل خلفية وجذور ثقافية مختلفة عن الأخرى إلى حدود التباين والتناقض الجذري أحيانا، وهذه الخلفيات تصطدم مع بعضها البعض داخل المعترك السياسي الذي ينعكس هو أيضا، وبشكل مباشر ، على المسار العام للبلد وتوجهاته السياسية والقانونية والاجتماعية في حالة فوز احد الأطراف المتصارعة بمهمة تسيير البلد وتدبير شانه العام بعد إجراء الانتخابات ؛ أي أن الطرف الذي يفوز بالانتخابات يحاول تحويل قناعاته الفكرية إلى مشاريع قوانين (الدستور مثلا)، والى سياسات عامة. كما يتم اختزال الخلاف/ النزاع بين الإسلاميين والعلمانيين، وبالتالي فالصراع يدور بين " المؤمنين " و" الكفار " كما يعتقد بعض الإسلاميين، فإلى جانب عدم صواب هذا الطرح/ التحليل من عدة جوانب، أولها هو أن الصراع في أساسه هو صراع ثقافي وسياسي وليس صراع ديني وطائفي كما يتصوره البعض، وبالتالي فالصراع يتعلق بالقناعات الثقافية والسياسية التي يؤمن بها كل طرف على حد، ولا علاقة للموضوع بتاتا بالقناعات والتوجهات الدينية. فعلى سبيل المثال، هناك من يسعى إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية خالية تماما من الدين والتشريع الإلهي، وفي المقابل هناك من يريد بناء دولة دينية محضة يطبق فيها شرع الله بحذافيره !!، فهل هذا الصراع هو صراع ثقافي وسياسي أم أنه صراع ديني؟ خاصة إذا علمنا أن الجزء الأكبر من المدافعين عن الدولة المدنية هم مؤمنون ( مسلمون ومسيحيون) ـ وبالتالي ليسوا كفارا أو ملحدون. وثانيها هو أن العلمانية ليست دين الهي أو وضعي ( بشري) حتى يمكن مقارنتها مع الأديان الإلهية السماوية، أو حتى مع الأديان الوضعية ؛ أي أنها ليست دين معين ومحدد مثلها مثل الإسلام أو المسيحية أو اليهودية على سبيل التمثيل فقط، والفرق بين الاثنين شايع جدا؛ أي بين العلمانية والدين، فالأول هو تصور بشري للحياة، يعتمد فيه على العلم والتجربة الإنسانية وبالتالي فهي قابلة للتطور والتجديد باستمرار، كما أنها قابلة للنقد والطعن أيضا، ومن ثم فهي في تطور دائم ومستمر، بينما الثاني (الدين) هو شيء غير بشري بالنسبة لمن يؤمن به؛ أي دين، حيث أن مصدره ألهي متعالي، وبالتالي فهو مقدس وابدي غير قابل للنقد والطعن، و هذا الاعتقاد الراسخ بالنسبة للإسلاميين ، ولعموم المؤمنين، هو الذي يجعلهم ( = الإسلاميين وباقي المؤمنين/ المسيحيين واليهود) يشعرون بالتفوق المعنوي على الآخرين، لكونهم " يمتلكون " في تقديراتهم الحق المطلق والأبدي، كيف لا يشعرون بهذا وهم يعتقدون أن المجتمع المسلم مجتمع متميز عن سائر المجتمعات بمكوماته وخصائصه، فهو مجتمع رباني، إنساني، أخلاقي، متوازن يقول منظرهم الكبير الدكتور يوسف القرضاوي !! ؟ ( انظر ص 7 من كتابه "ملامح المجتمع المسلم). وثالثها هو أن العلمانيون ليسوا كلهم ضد الدين كما يحاول الإسلاميين تصورهم وتقديمهم للقراء. فالعلمانيون هما صنفين: الأول صنف مؤمن؛ أي أنه يؤمن بوجود الله وبالأنبياء، بغض النظر عن مسألة هل يمارس الطقوس والشعائر الدينية أم لا، والصنف الثاني هم الملحدون الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسول ولا بأي دين كان.

وإذا كان معظم المصريين، اليوم، مؤمنين بأهمية التوافق السياسي للخروج من الأزمة التي تعصف بوطنهم، فإنه سيكون من المفيد والأفضل لهم أن يعرفوا طبيعة الصراع الدائر في بلدهم بين الأطراف السياسية والمدنية المختلفة، حيث أنه من الصعب اكتشافه في ظل التعتيم الإعلامي الممنهج من طرف كافة الأطراف والقوى المتصارعة على الحكم، وفي ظل كذلك سيادة الجانب السياسي والاقتصادي على واجهة الأحداث مقارنة مع الجانب الثقافي الذي يتم تغيبه وإقصائه بشكل ملفت للنظر، صحيح أن الصراع هو بالدرجة الأولى صراع حول تغيير نظام الحكم والدستور وتوفير الشغل والتامين والسكن، والمدرسة ..الخ، لكنه في العمق هو صراع ثقافي/ فكري حضاري، حيث لا يتعلق الأمر بفرض الإرادات السياسية والقانونية/ الشريعة فقط، وإنما يتجاوزه إلى محاولة فرض النمط الثقافي الخاص، أو الذات الثقافية أن صح التعبير، على كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، خاصة بالنسبة للتيار الإسلامي حيث يعتبر ذلك شكل من أشكال مقاومة الغزو الثقافي الغربي، وبالتالي شكل من أشكال الحفاظ على الهوية " الإسلامية" وإعادة الاعتبار إلى الشخصية/ الذات " الإسلامية ". وهذا ما يفسر محاولة وسعي القوى الإسلامية المتطرفة؛ الوهابية والجهادية تحديدا، إلى اسلمة الدولة، بل وأسلمة المجتمع برمته؛ وذلك من خلال إضفاء الطابع الإسلامي على الحياة الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا؛ أي جعله يدين بالثقافة الإسلامية بالكامل، حيث أصبحنا نسمع خلال القعود الأخيرة ب " الزي الإسلامي" و " الأناشيد الإسلامية " و " الجنس على الطريقة الإسلامية " والطبخ الإسلامي " و " المعمار الإسلامي " .. الخ. وربما هذا ما جعل المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي " ينادي مند أربعين سنة بأولوية الإصلاح الثقافي على الإصلاح السياسي، واعتبر الإرهاب تعبيرا عن حالة ثقافية بالدرجة الأولى .." ( انظر ص 73 من كتاب " في تحولات المجتمع المغربي " للمفكر المغربي محمد سبيلا).

تأسيسا على ما سبق، نعتقد أن الوعي بأهمية هذا الموضوع؛ أي أهمية الوعي بمعرفة نوع الصراع الدائر الآن بمصر، قد يوفر على رجل السياسة والمؤرخ أيضا، بل وعلى الإنسان العادي والبسيط، إمكانية تجنب المعارك المصطنعة والوهمية، في سبيل خوض معارك حقيقية، وهي بالأساس معارك فكرية/ ثقافية وليست سياسية أو إيديولوجية كما سبق القول. ففي ظل غياب الثقافة العلمانية الديمقراطية التي تستوعب الجميع دون استثناء، وبالخصوص استيعابها للدين وحمايته من الاستغلال السياسي وليس مناهضته كما يفتري الإسلاميون، بحيث تكون الدولة بدون دين، ولا تتدخل في الشؤون الدينية. قلنا، في ظل هذا الغياب من الصعب تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية بمصر أو في أية دولة " عربية " أخرى في ظل الظروف والشروط الراهنة، كيف يمكن تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية في هذه الدول ؛ أي في الدول " العربية " وهي دول أسست كياناتها على أساس ومبدأ " العروبة والإسلام " ؟ فهذه الثنائية تعتبر - في تقديرنا- من ابرز العوائق التي تعيق تقدم ونهضة الدول " العربية " على جميع المستويات، وخاصة على المستوى السياسي والقانوني والاجتماعي، حيث أنه في سياق نهج هذه الثنائية (( العروبة والإسلام)) يستحيل في نظرنا بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسع لجميع الطوائف والديانات والأجناس والثقافات واللغات التي تزخر بها " الدول العربية "، فالدولة المدنية الديمقراطية هي الدولة التي لا يتم فيها الاعتماد على المرجعية الدينية أو العرقية أو الطائفية.

انطلاقا مما اوضحناه أعلاه حول طبيعة الصراع المصري، وعلى المرجعية السياسية والثقافية ( العروبة والإسلام ) التي تم اعتمادها في تأسيس ما يسمى بالدول العربية بعد مرحلة الاستعمار؛ أي بعد استقلالها، بما فيها جمهورية مصر – موضوع حديثنا - يمكن القول، وبكل وضوح وصراحة، أنه لا يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية حيث يتساوى فيها الجميع بصرف النظر عن الأمور الشخصية والجماعية( الدين، العرق، الجنس، اللغة، المذهب..) دون القطع مع هذه الثانية التي تحمل في طياتها بذور التخلف والصراع على مختلف الجبهات والمستويات الحياتية ( صراع سياسي، اجتماعي، ثقافي، طائفي، أنثي، لغوي.. الخ )، حيث " تكاد تكون نصوص القوميين – المتشددين منهم بصفة خاصة، إعلانا، على الطريقة التراثية، ب : فضل العرب على العجم " يقول الكاتب والمفكر الأمازيغي احمد عصيد في كتابه " أسئلة الثقافة والهوية في المغرب المعاصر " ( انظر ص 93 ).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى دون أن نتوفر أيضا على تعليم حداثي وعلماني، وعلى تربية علمانية وديمقراطية حيث تقطع مع جميع القيم والأخلاق القديمة التقليدانية؛ أي القطع مع جميع الأخلاق والقيم التي تكرس التمييز والتفوق والهيمنة والاستبداد والطاعة والتبعية ، وبالتالي تعميم القيم والأخلاق الحداثية التي تعني عقلية السلوك ومراعاة الضوابط القانونية، والإيمان بتساوي الأفراد، وقدسية الحرية الشخصية، وسمو الحقوق، وإلزامية الواجبات حسب الدكتور محمد سبيلا( المرجع المذكور أعلاه- ص 72).

وبصيغة أخرى، يجب تعميم التعليم والثقافة العلمانية الديمقراطية القائمة على أساس المواطنة والمساواة والحرية والحداثة، حيث لا مكان فيها للهيمنة الدينية التقليدية والمتطرفة، وهذا لا يعنى معارضتنا للدين المتحرر والمقاوم للاستبداد السياسي وسلطة رجال الدين المتحالفين مع الأنظمة الدكتاتورية والرجعية، فلا يجوز أخلاقيا، بل حتى دينيا، أن يحدد مستقبلنا وطريقة عيشنا واختياراتنا انطلاقا من فكرة أن صحابيا ما في العهد الأول للإسلام قال كذا وكذا، أو أن البخاري قال كذا وكذا في كتابه المعروف ب " صحيح البخاري"، ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرون، فما قاله الصحابة رضوان الله عليهم قبل قرون عديدة( قبل 14 قرنا) أو ما قاله البخاري ومسلم أو غيرهم من التابعين المجتهدين في الحديث أو الفقه الإسلامي عموما، كان في سياق ظروف وشروط مادية معينة وبالتالي فإن كلامهم واجتهادهم كان – ربما - يوافق ظروف وسياقات مجتمعاتهم، وبالتالي فإن ما قاله الصحابة دون استثناء أو التابعين لهم ( الفقهاء والعلماء) لا يلزمن في شيء للاعتبارات التالية: أولا الصحابة أو التابعين لهم من الفقهاء والعلماء مجرد بشر اجتهدوا كما يجتهد عامة البشر وبالتالي فإنهم ليسوا معصومين عن الخطأ، ثانيا اجتهادهم كان في سياق وظروف مختلفة عن ظروفنا وسياقاتنا الراهنة، وبالتالي لا يمكن إسقاط اجتهادات الماضي على الواقع الموضوعي الراهن، فلكل زمن ظروفه ومعطياته بطبيعة الحال.

أما المسائل المتعلقة بالشعائر والعبادات ، الخاصة بتنظيم علاقة الفرد/ الإنسان بربه، فهي مسائل ثابت ومعروفة لدى كافة المسلمين، وبالتالي فأننا لا نحتاج إلى كل هذا الكم الهائل من الفرق والتيارات الإسلامية التي تدعى الدفاع عن شرع الله ، فإذا كانت نسبة التوافق الفقهي بين المذهب السني والشيعي الخصمين التاريخيين لبعضهم البعض تصل إلى نسبة 90% حسب القرضاوي، فكم ستصل نسبة هذا التوافق داخل نفس الفريق و المذهب، بين المذهب الشافعي و مذهب أمام مالك مثلا ؟

وقد يقول قائل أن الدين ليس عائقا في تطور المجتمعات، والدليل على كلامهم هذا هو وجود دول دينية في الغرب، وهي دول متقدمة ومتطورة، وهذا صحيح جدا، لكن أين يكمن الخلاف فيما سبق قوله وبين القول بوجود دول غربية متقدمة ومتطورة جدا بالرغم أن مرجعيتها هي الدين؟ صحيح هناك دول دينية غربية ( بريطانيا والنرويج مثلا ) استطاعت أن تبنى أنظمة مدنية وديمقراطية بامتياز، هذا ما لا خلاف حوله، والسبب - في تصورنا - يرجع بالأساس إلى كونها استطاعت، كما اشرنا سابقا، أن تجعل من العلمانية والديمقراطية كأبرز القيم الثقافية والأخلاقية السائدة في مجتمعاتها ومؤسساتها، كما أن وضعية الدين في النصوص الدستورية لهذه الدول هي رمزية فقط ولا يلعب أي دور على مستوى التشريع/ القانون واتخاذ القرارات السياسية. ففي بريطانيا أو النرويج مثلا لا يتم عرض مشاريع قوانينها على هيئة علماء الدين للنظر والبث فيها، كما عليه الأمر في دستور مرسي، وبالتالي فالأمر يختلف تماما عن ما هو موجود مثلا في الدستور المصري القديم أو في الدستور المغربي، ففي بريطانيا أو النرويج مثلا لا يعاقب الإنسان / المواطن إذا اختار ذات يوم أن يغير دينه من المسيحية إلى الإسلام على سبيل المثال، بينما في بلادنا(= المغرب) يعاقب المرء إذا أعلن عن نيته في تغيير دينه ( حالة خالد البلدي المحكوم بسنتين ونصف و5000 درهم على تغيير دينه من الإسلام إلى المسيحية نموذجا)، فهل يمكن المقارنة بين الدولة الدينية في الغرب ( بريطانيا والنرويج مثلا) وبين الدولة الدينية عندنا( السعودية وإيران والسودان والمغرب ..)؟

في ذات السياق نشير إلى وجود فرق شاسع بين الغرب " الكافر " حسب الخطاب الإسلامي، و المسلمين الذين يدعون أن القرآن كتاب العلم ( انظر المرجع السابق القرضاوي – ص 122) ؛ أي أنه يحث على العلم والمعرفة، وهذا الفرق هو أن الغرب " الكافر " لما أراد النهضة على جميع المستويات والأصعدة، وبالتالي لما أرد التطور والازدهار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعسكري والتكنولوجي والرياضي..الخ، وبالتالي القطع مع كل إشكال التخلف والقمع والاستبداد الديني والسياسي اتجه أولا إلى إصلاح وتطوير التعليم والتربية كأساس أي تقدم وازدهار ؛ أي انه استثمر أولا في الإنسان قبل أن يستثمر في المجالات الأخرى ( البنية التحتية)، وأول شيء فعله الغرب " الكافر " هو تعميمه للتعلم واجباريته حتى سنة 18 عشر، وبالتالي عندما يترك المواطن الغربي المدرسة ويندمج بعد ذلك في الحياة المجتمعية( العمل، السياسة...) تكون له نفس القيم والمبادئ الموجود لدى كافة المواطنين، وبالتالي فطريقة تفكيرهم وتعاملهم فيما بينهما تكون متقاربة جدا أن لم تكون متطابقة كليا، بينما عندنا نحن المسلمون فالأمر يختلف كليا، فالتعليم لدينا هو آخر شيء تفكر فيه دولنا ونفس الشيء بالنسبة لمعظم المواطنين، وإذا فكرت فيه؛ أي أن الدولة فكرت في التعليم، فيكون الهاجس الأمني وفرض الذات هو من يتحكم في منهجية أعدادها للمواد التدريس ومحتوياتها العلمية والفكرية والأخلاقية ، وبالتالي في أعداد وتنظيم التعليم هو: كيف ستجعله يخدم مصالحها واستمرارها في الحكم وليس كيف ستجعله يخدم التطور الفكري والأخلاقي والمهني للمواطن، فهكذا نجد مثلا أن أستاذ الفلسفة يدرس الجغرافية أو التربية الإسلامية !!. وبالتالي فمسألة الجودة لا يهمها أطلاقا، وهذا الأمر هو الذي يجعل الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في بلداننا تنتج، بل تقوم بإعادة أنتاج، ثقافة الخضوع، والطاعة، والقمع، وبالتالي تكريس واقع الخرافات والجهل والاستبداد المركب عبر أعداد برامج دينية وفكرية رديئة للغاية، مازال مثلا الطفل المغربي يقرأ عن بركة " الأولياء والشرفاء " وعلى أن الرزق وكل ما يتعلق بحياته مقدر من عند الله ( البطالة قدر) بينما أن الحقيقة شيء آخر؛ وهي أن الدولة ( الحاكمين ) هي التي سرقت أرزاقنا وعبثت بحياتنا حفاظا على وجودها ومصالحها.

مصر وأزمة الهوية:

في بداية هذا المحور نشير إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول: هو أن الصراع الدائر الآن بمصر بين التيار الإسلامي بقيادة جماعة الإخوان، والتيار الليبرالي بقيادة جبهة الإنقاذ والتيار الثوري بقيادة الشباب وبعض الأحزاب اليسارية، هو في المقام الأول صراع ثقافي / فكري حول هوية مصر ما بعد محمد حسنى مبارك، وهو الصراع الذي تجسد بشكل، واضح وصريح، في معركة الدستور الذي تم إعداده في زمن حكومة مرسي، وكذلك في اللجنة الراهنة المكلفة بأعداد الدستور " الجديد ". وتجدر الإشارة هنا إلى وجود ثلاث هويات رئيسية تتقاسم الصراع فيما بينها للفوز والانتصار بقيادة مصر ؛ أي بمعنى الفوز بإقناع النخبة المصرية( السياسية والمدنية والفكرية والإعلامية) والمواطنين بأهمية وصواب تصورها للوضع المصري في هذه الخطة التاريخية الحاسمة من حياة مصر وشعبها، وهي: الهوية الدينية/ الإسلامية - الهوية الليبرالية - الهوية الثورية، لكن، الملفت والغريب في الأمر هو أن جميع التيارات والأطراف المتصارعة داخل المجتمع المصري تتحدث عن ضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية، وهو الأمر الذي يعني وجود "ثلاث " تصورات مختلفة للدولة المدنية الديمقراطية.
الأمر الثاني: هو أننا سنختصر حديثنا هذا عن التيار الإسلامي والليبرالي فقط دون التطرق إلى التيارات الأخرى، نظرا لتوفرهما على فرص وإمكانية الفوز أكثر من غيرها، وبالتالي فرض احد هذه الهويات على مصر وشعبها، وبالتالي سوف لا نتطرق هنا إلى التيار الثوري رغم أهميته وحضوره المتزايد في المشهد المصري، وذلك لكونه أن جزء كبير منه ينضوي في أطار التيار الليبرالي، خاصة الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية، كما أنه سوف لا نتطرق إلى الأطراف الأخرى المعنية بالصراع أيضا : وبالذات الجيش وأمريكا. وذلك لكون أن الموضوع لا يعنيهما كثيرا، بقدر ما يعنيهم بالدرجة الأولى الحفاظ على مصالحهم الإستراتيجية بصرف النظر عن من سيحكم في المستقبل ، فأمريكا، على سبيل المثال، لا يهمها كثيرا الطبيعة الإيديولوجية للحكومة المصرية القادمة ( إسلامية، يسارية، للبرالية، عسكرية ..) وإنما يهمها، أولا وأخير، من سيعمل على حفظ مصالحها ونفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري ( من يشتري السلاح ويحترم المعاهدات مع إسرائيل) ، وبالتالي فاللون الإيديولوجي للحكومة المقبلة لمصر لا يعنيها كثيرا، وكذلك بالنسبة للجيش . والجميع يدرك جيدا كيف تتغاضى أمريكا عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان حينما يكون النظام الذي يرتكب تلك الجرائم والانتهاكات يسهر، ليلا ونهارا، على حفظ مصالحها ونفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة التي يتواجد بها( السعودية مثلا), وعندما يكون العكس فإنها تجهز أسطولها البحري وإعلان الحرب باسم الدفاع عن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان كما حدث في العراق على سبيل المثال.

وعندما نقول أن الصراع المصري الراهن هو في العمق والجوهر صراع ثقافي / فكري و ليس صراع سياسي / إيديولوجي ، فإننا ندرك جيدا أن أي عمل سياسي ناجح يحتاج إلى توفره على خلفية ثقافية صلبة وقوية حيث يستطيع من خلالها تقديم الإجابات الممكنة والضرورية للمعضلات التي تعترض العمل السياسي، حينما يعجز هذا الأخير على تقديم الإجابات المطلوبة لتلك المعضلات. وفي الصراع المصري هناك خلفيتين ثقافيتين مختلفتين، يستحيل الانسجام والتوافق فيما بينها في سياق الظروف الراهنة للبلاد، وذلك لعدة أسباب وعوامل موضوعية، منها ما هو ثقافي، نفسي، ديني ، تاريخي، اجتماعي، تربوي، أخلاقي وغيرها من العوامل التي تعرقل مسيرة التفاهم الثقافي/ الفكري بمصر في الوقت الراهن. فطبيعة العقلية العربية المصرية - على سبيل المثال - تتميز عموما بالتعصب الديني والمذهبي والعرقي، وبالأنانية المطلقة أيضا ( كل طائفة تعتقد بأنها هي صاحبة الحق وان تصورها وموقفها هو الأصح وبالتالي فهي صاحبة الحق المطلق )، وهذا الواقع يؤكد غياب ثقافة الحوار والاختلاف داخل المجتمع المصري و " العربي" عموما. هذا النوع من العقلية لا تساعد أطلاقا على انجاز توافق ثقافي/ فكري استراتيجي ( نتحدث هنا عن التوافق الثقافي وليس التوافق السياسي المرحلي)، الذي يخدم مصلحة الدولة المصرية أولا، ومصلحة الإنسان المصري ( المختلف ثقافيا ودينيا وعرقيا ..) ثانيا، حيث يجب التعامل معه، واعتباره، مواطن مصري بالدرجة الأولى وليس باعتباره مسلما، أو مسيحيا، أو عربيا، أو قبطيا، فكون أن الإنسان المصري هو إنسان مسلم سني في غالبيته العظمي مثلا، لا يعطيه الحق المطلق أو أي تمايز عن الآخرين في فرض هويته وتصوراته الثقافية والسياسة لدولة المصرية التي هي دولة الجميع بعض النظر عن الأمور الشخصية ( الدين/ اللغة/ الانتماء الطائفي والقبلي ..) ، فالإنسان يجب أن ينتمي إلى الوطن أولا.

نظيف إلى هذه الإشكالية العويصة والشائكة في العقل والمجتمع " العربيين " ومن ضمنها العقل والمجتمع المصريين، مشكلة أخرى، وهي الواقع العملي الموضوعي الذي تعيشه مصر الآن ، خاصة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي. فإلى جانب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المصريون، المتمثلة - أساسا - في ارتفاع نسبة البطالة وتدني مستوى العيش وتنامي الظواهر الاجتماعية ( المخدرات، الدعارة، السرقة ، التسول ..) وهي ظروف مثالية ومناسبة جدا لتنامي التطرف بكل أشكاله، واستقطاب الناس على أساس الحاجة وليس القناعة ( هناك تقارير حقوقية تؤكد أن الإخوان المسلمين كانوا أثناء حملة الانتخابات الرئاسية يوزعون الزيت والسكر على الفقراء في الإحياء الشعبية). قلنا إلى جانب هذه الأمور التي تشكل بالفعل عائق موضوعي في تحقيق التوافق الثقافي الذي يجب تحقيقه قبل الحديث عن التوافق السياسي الذي عادة ما يكون مرحليا، هناك مشكلة أكثر خطورة وتعقيدا، وهو ارتفاع نسبة الأمية وتدني مستوى الوعي الثقافي والسياسي بشكل عام( حول الأمية في مصر و" العالم العربي" يرجى مراجعة: ص 181 -184 من كتاب" من النهضة إلى الردة " للكاتب جورج طرابيشي)

اشرنا في السطور السابقة إلى وجود خلفيتين ثقافيتين مختلفتين ومتباينتين داخل الساحة المصرية في اللحظة الراهنة من التاريخ المصري المعاصر، أو الأكثر حضوضا للفوز كما قلنا، فالأول هي خلفية مدنية حضارية تتبنى مبادئ حقوق الإنسان وجميع القيم الإنسانية الحديثة ومنها: الديمقراطية المساواة، العلمانية والحداثة، والثانية هي خلفية دينية تقليدية منغلقة على ذاتها وتسعى إلى الاستحواذ على الدولة والمجتمع باسم تطبيق شرع الله، وبالتالي فالصراع قائم بين مرجعيتين ثقافيتين مختلفتين إلى حد التناقض والتعارض ، الأولى يمثلها كما قلنا التيار اللبرالي ومسانديه من العلمانيين والملحدين والمؤمنين ( إسلاميين ومسيحيين)، والثانية يمثلها الإخوان ومسانديهم من الإسلاميين

وفي ظل هذا الاختلاف المرجعي يطرح سؤال جوهري بخصوص علاقة الإسلام بالديمقراطية، أو بصيغة أخرى هل يؤمن الإسلاميون/ الإخوان بالديمقراطية أم لا ؟ وحينما نطرح هذا السؤال فإننا ندرك جيدا أنه لا يوجد مخرج آخر للازمة المصرية، ولكل الدول " العربية " و الإسلامية، التي تتميز بالتنوع العرقي والطائفي/ المذهبي واللغوي والديني خارج بناء نظام ديمقراطي يعترف بالجميع ويساوي بين الجميع على أساس المواطنة والمساواة واحترام الخصوصيات الذاتية للفرد والجماعة، كما ندرك أيضا أن التيار الإسلامي لم يحسم بعد في العديد من القضايا الفكرية التي تطرح عليها ومن ضمنها مثلا، مسألة الديمقراطية كفكر وسلوك وليس انتخاب فقط، مسألة المساواة بين الرجل والمرأة مسألة الأقليات وحقوقها الدينية والثقافية والعرقية، مسالة التعدد والتنوع الثقافي، مسالة التسامح الديني( هل يمكن أن يحكم مسيحي مثلا( أو ملحد) مصر ؟ ) مسالة الدستور، وغيرها من القضايا التي يجب الحسم فيها قبل أي شيء. فهذا القضايا مطروحة بقوة على التيار الإسلامي أكثر من أي تيار آخر، حيث نلاحظ وجود خلافات جوهرية بين التيارات الإسلامية في تناولها للقضايا التي سبق الإشارة إليها، فهناك مثلا من يؤيد، ويؤمن، بالديمقراطية والعملية الانتخابية وهناك من يرفضها بشكل مطلق ويتشبث بالشورى ، والسؤال المطروح هنا: أين يوجد الصواب؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - في أخلقة الثقافة
أحمد عليان ( 2013 / 9 / 28 - 10:17 )
مقال معتبر من وجوه عدة ..غير أن الحديث عن الثقافة في سياق الوضع المصري، والعربي عموما يستلزم الالحاح على ظاهرة تغييب الوازع الاخلاقي .. و من غير اطالة آخذ الاعلام المصري كنموذج للاعلام الوصولي الذي لا يتورع في تصنيف فرقاء السياسة الى شياطين و ملائكة ، من خلال تضخيم الصفات الايجابية على فريق ، و الصفات السلبية على الفريق المعارض، من غير أدنى موضوعية أو تحفظ . بشكل يعزز عقلية النبذ و الاقصاء ، ويضفي طابع الشرعية على الفكر المصلحي الأناني الذي يتخذ من مبدأ -الغاية تبرر الوسيلة- أسلوب حياة في التعاطي مع الشأن الاجتماعي .. نلاحظ هذا الشطط الاعلامي في شيطنة الاخوان بشكل يتجاوز كل حدود النقد و التحجيم . وبالمقابل نلاحظ ترويجا لخصال الجيش المصري ، و رجالاته بشكل مثير للريبة في جدية ما يقال بصدد معالجة الوضع المتردي للشعب المصري ..كل الشعب المصري بمن فيهم أتباع الاخوان . والغرابة المؤكدة لشطط الاعلام بالصورة المذكورة سرعة التخوين و التحقير لأشخاص معروفين من النخبة التي لا يمكن وصفها بالتطرف الاسلاموي مثل ؛ البرادعي ، و علاء صادق ، و اللاعب الخلوق أبوتريكة ، و كثير غيرهم .

اخر الافلام

.. لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في


.. التوتر يطال عددا من الجامعات الأمريكية على خلفية التضامن مع




.. لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريبات للبحرية


.. اليوم 200 من حرب غزة.. حصيلة القتلى ترتفع وقصف يطال مناطق مت




.. سوناك يعتزم تقديم أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا| #الظهي