الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التين في ظلال النخيل- الجزء الرابع

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2013 / 9 / 29
الادب والفن


خفقات المدينة المهاجرة

ترى لماذا لم المح هذا الأثر لهذا الجرح العريق ، على أنف الوالدة طوال هذه السنين ، سني الطفولة و الصبا ، اي حوالي عقدين من الزمان؟ اعتدنا أن نجلس حول المدفأة علاء الدين التاريخية ، والتي كانت من الضرورات الحيوية في أغلب البيوت العراقية . اضافة إلى التدفئة كنا نستخدمها لتسخين الطعام و الماء الشاي ، او تكملة بعض الطبخ عليها والذي أخذ وقتا مطولا بعدما يتم طبخه على الموقد في المطبخ بشكل أولي.
فاجأت في أحد الأماسي أمّي ونحن محلّفين حول المدفأة ، بسؤالي: ماما ! ما هذا الأثر على أنفك؟
فأخذت تسرد عليّ الحكاية من بدايتها إلى نهايتها: حبيبي سيّد حمودي! (و السيّد لقب أسبغه عليّ أخي الأكبر شكر لأنّي كنت ُ أقوم بتقليد الروزه خون في البيت رغم عدم اجادتي التمثيل ) كان جلب الماء من الشريعة على النهر من وظائف النساء في تلك الفترة حيث لم ترتبط بيوت الحيّ بشبكة اسالة الماء الصالح للشرب. وكنت حينها فتاة في مقتبل العمر ، أذهب حين الحاجة إلى الشريعة المقابلة لبستان " العمبارة" لجلب الماء ، في سطل معدني .. في مرة انزلق السطل و ضرب بحافته الحادة على أنفي محدثا جرحا عميقا ، وأخذت الدماء تنزف من أنفي , وأنا أضغط عليه لايقاف النزف و لكن بدون جدوى فرسمت الدماء خطا منقطا من نقطة الحادث التي تبعد عن الشريعة بضعة أمتار حتى البيت الذي يبعد عن النهر حوالي كيلومتر أو أكثر . في البيت ضمدت لي أمي أنفي وتوقف النزف و اندمل الجرح" .... و بقي الأثر خالد .. حقا ، أثرٌ يشهد على حبّ الحياة والاستماتة في سبيل تحقيقها ، رغم كل الصعوبات.
أراك مثل رؤيا الغزال تجري على حوافي التفاح،
أزهار النرجس لا تمنح الأمان للعيون لكي تغفو،
ظلك يفترش سفوح برج المسيح،
ولم يتوفر له الوقت لتعميد جسده في نار المجوس.
أراك تدمدم في الدرب رغبات الحمام،
وأيامك مثل بسمات حورية سمائك الصغيرة،
لن تحتمل رميها في الماء لتبرد.

شقيقي الأكبر شكر رغم أنه لم يكمل الدراسة الابتدائية إلا أنه كان حساسا جدا في حياته ، و كان كاسبا يمتهن العمل في البناء و البقالة و اليوم له محل للبهارات و المطيبات. كان في جامع مصطفى بك في السوق مؤذن طاعن بالسن اسمه محمد الأمين وتوفي في الثمانينات من القرن الماضي، يملك صوتا ملائكيا هادئا يرتعش مع نبضات القلب . كان شكر متأثرا بصوته أيما تأثير بحيث يتوقف عن الأكل و يردد مع نفسه الله يرحم والديك ، الله لا يحرمنا من صوتك ! حين يصله صوته أثناء قراءته أذان العشاء، حتى يكمله. كان صوته يشبه إلى حد كبير صوت مؤذن زاده الرائع.
.... ...................... ........................
وقد علمت ُ أن البيوت الميسورة كانت تكلف السقاءين بتزويدهم الماء ، و بعضهم كانوا يفضلون الشرب من ماء نهر سيروان لكونه أكثر سلالة و يسرا من ماء الوند. ومن أشهر السقاءين في المدينة كان محمود السقا و حسن السقا ، إذ كانوا ينقلون الماء على ظهورهم في قرب مصنوعة من جلود الماعز أو الغنم ليوصلوها إلى دور العوائل الميسورة. في أواسط الأربعينات أنشئت محطة إسالة الماء على الوند بالقرب من الجسر الحجري التاريخي، لكن ظلت دور بعض الأحياء النائية غير مرتبطة بشبكة أنابيب توزيع الماء الصالح للشرب حتى الستينات من القرن الماضي.
في الصيف تنحسر المياه في الوند و تبرز عشرات الجزر تستخدمها بعض الأسر لبناء الأكواخ او ما كنا نسميها بالجرداغات و زراعة الخضار و خاصة اللوبياء ، ويقضون معظم ساعات النهار هناك هربا من قيظ الصيف ، و الحر الشديد داخل الدور في الظهيرة ، حيث لم تتوفر المبردات و المراوح الكهربائية. وهذا التقليد ظل يتبع حتى الفترات القريبة ، حيث جف الماء في النهر بسبب تغيير مجراه من قبل الجمهورية الاسلامية الايرانية ، و التغيير الكارثي في المناخ ، و تفسخ البيئة . متى أنشأت مصانع الثلج ؟ لا أدري بالضبط ، لكنني استنتج من الوقائع أن مصنع كامل خماسة الذي كان موجودا في محلتنا في قصرلي باغ منذ الخمسينات. و كان ثمة باعة يزودون الدور بقطع الثلج كل صباح ، اذ كانوا يطوفون بأزقة المحلة يدفعون عربة مملوءة بقوالب الثلج الكبيرة . و يقطع لكل بيت ما يريدونه ربع أو نصف او قالب كامل. رحم الله عباس و شقيقه محمد المعروف بحبش، لهم فضل كبير في تبريد قلوبنا الحارة .
أتذكر كم كان لذيذا اللوبيا التي يطبخها المرحوم خضير ويبيع منها للزبائن على شكل لفات من خبز التنور أو في صحون مع زلاطة متكونة من فصوص الطماطم و البصل !
ومن العوائل الشهيرة بحيازة تلك الجزر الصيفية في الوند أتذكر عائلة عيسى فرج و أرملته مليحة الخبازة و صهرها محمد جدة ، و بيت دايي أمين ، و أولاد الملا علي و صبري و كثيرين غيرهم.
كان أهلي يقضون أغلب أوقاتهم للترفيه في غابة النخيل التي كنا نستأجرها لسنوات طويلة بما يسمى سرقفلية . كنا في البستان نعمل المراجيح ونطبخ ، و نتسلق الأشجار و نسبح . و نساعد جدنا و خالنا في أعمال جني الثمار و تعلبيها و نقلها إلى الدكان .
سمعت من الكبار أن الشرائع على النهر حيث البنات يقمن بغسل الألبسة والصحون و جلب الماء ، كانت أيضا ملتقى العشق و الحب و اختيار البنات المناسبات للزواج من قبل شباب المدينة، الذين يلقون بالنظر من بعيد نسبيا ، ويتبادلون الحب عن بعد غالبا ما ، اذ يندر أن يلتقي الشاب بفتاة أمام أنظار المارة . كان الشباب يمرون على الشريعة بذرائع مختلفة ، واحيانا تحدث مشاجرات بسبب الغيرة بين أخ لفتاة ما و شاب ما باحث عن فتاة ليحبها و يتزوجها. وأحيانا يحدث عراك بين عشاق متنافسين على كسب قلب فتاة معينة. وحين ترفع القربة المملوءة إلى قمة رأسها ، يظهر جسدها المبلل الملتصق بثوبها المبلل بكل جمالها و كمالها و نقصانها ، وأحيانا تتشبث أصابعها بطرف ردائها وربما عن قصد، لترفعه فتظهر سيقانها وصدرها بأبهى صورها ، فيغتنم الشاب المتربص هذه الفرصة ليفاوض قلبه فيها ، و إن أعجبته الفتاة يفاتح بها أهله و هم بدورهم يطرحون القضية على أهلها و..
ضمّنت ُ مأساة جرح أنف الوالدة في قصة قصيرة نُشرت في مجلة " المسيرة" مكتوبة ومصممة باليد عام 1987 أصدرناها نحن أنصار الحزب الشيوعي العراقي في موقع بيربينان الواقع في وادي خواكورك المتشابك مع سفوح قنديل عن بعد. الشخص الأول في القصة أو المتكلم في القصة شاب يحب زميلة له و هي تحبه ، لكن أهلها يرفضون تزويج بنتهم من شيوعي لا مستقبل له برأيهم سوى السجن و الاعدام و المشاكل، لكن الشاب الذي أصبح اليوم كهلا و أبا و ربما جدا ، يصطدم بخبر تزويجها من ضابط موصلي ، فيجن جنونه و يتصور أن حجة أهلها ضعيفة و سخيفة برفضهم زواجها منه ، و يردد مع نفسه ألا يقتل الضابط في الحرب ، ألا يتعرض إلى سجون و صعوبات حين تحدث انقلابات عسكرية ، و يتغير رؤساؤه ؟؟
بعد فترة من صدور العدد اليتيم من مجلة المسيرة تم نقلي إلى اعلام أقليم كردستان في منطقة كافية التابعة لعقرة . يصادف أن يمر مجموعة آلاي شورش _( راية الثورة ) المنشقة عن الاتحاد الوطني الكردستاني و التي كانت تتشكل أغلبيتها من شباب خانقينيين يعرفونني و يعرفون بطل قصتي القصيرة و قد سمعوا حكاية حبه بتفاصيلها. فينقلون لصديقي أن حميد قد كتب قصته الغرامية و منشورة في مجلة في موقع بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي في بيربينان. صديقي البطل يفرح لذلك و يشتاق لكي يجد المجلة المذكورة و ليسعد بقراءة قصة غرامه . وقد التقيت ُ في استوكهولم صديقي كمال مصطفى وفاجأني بقوله : سمعت ُ أنك كتبت قصة سلام عبد الله الغرامية . لكنني تعجبت ، هل أحدثت هذه الكتابة التي لا اراها قصة فنية كل هذا الأثر وهذه الضجة!
وكمال مصطفى كان شيوعيا أيام الثانوية والكلية ، وقد التحق ببهاء الدين نوري بعد أن قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي طرده مع عبد الله قرداغي المعروف بالملا علي و الراحل نصر الدين هورامي من الحزب بعد توقيعهم اتفاقية "ديوانه" عام 1983 مع الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة ملا بختيار بدون الرجوع إلى المكتب السياسي، لغرض تطبيع العلاقات بين الحزبين و التنسيق في بعض المجالات.
كما قال لي كمال مصطفى في زيارتي له في بيته في استوكهولم عام 1993 او 1994 إنه تلقى رسالة من أبو سلام " بهاء الدين نوري" يصرح فيها أن له أفكار للعمل و النضال. وقد انسحب النظام البعثي من كردستان العراق عام 1991و تشكلت حكومة كردية و برلمان .
بعد سنوات وأنا مقيم في السويد جاءتني مكالمة من ألمانيا فرفعت السماعة و اذا بصديق الصبا و زميل الدراسة و الفكر ( نوعا ما) سلام عبد الله ، و بعد الترحيب وتبادل الاحترامات ذكرني بالقصة المذكورة و قال إنه يحترق شوقا لقراءتها ، و سألني أن كنت احتفظ بنسخة منها. قلت للأسف أن النسخة الوحيدة هي المنشورة في المجلة ، و هي بدورها ربما اتلفت أو احترقت بعد هجمات الأنفال من قبل القوات العراقية على كردستان. وتساءل ان كان بامكاني اعادة كتابتها فكان ردي بالنفي لكوني تعبان و مرت فترة طويلة لم اكتب أي نص وأنني فقدت ُ موهبة الكتابة أصلا، وانني لا أتذكر تفاصيل القصة المذكورة لأعيد كتابتها. مجموعة آلاي شورش عادت إلى حزبه الأصلي بعد انتفاضة 1991 و تشكل حكومة كردستان لتبوء المناصب و حصد الامتيازات و الغنائم ، بعد أن انخدع بهم ناس غرر بهم تحت شعارات الماركسية و تحقيق أهداف العمال و الكادحين ، و تم التضحية بهم في لعبة ماكرة و مناورات خبيثة لا ناقة للكادحين و الفلاحين الأكراد ولا جمل. كان سلام عبد الله عضو اتحاد الطلبة العام و من أشد المعارضين للجبهة الوطنية مع البعث ، إلى درجة ترك الحزب و انضم إلى الجموع الملتحقة بالحركة الكردية بقيادة البارزاني عام 1974 بعد انهيار اتفاقية آذار 1970.
في يوم ما من أواخر أيام الأنصار في موقع قاسم رش ذُكر اسم الراحل سامي حركات المنشق عن الحزب الشيوعي مع بضعة أشخاص ، وما كان من الرفيق سيد علي جباري إلا أن يسأل عنه بقوله : هذا اللي من خانقين؟
فأجبته وهل أن ّ كل من ينشق يكون بالضرورة من خانقين؟
السيد علي جباري محق في ذلك ، إذ أننا عشنا فترة انشقاقات في تلك الفترة يقودها أشخاص من خانقين أو محسوبين على خانقين. كان ملا بختيار من خانقين وحين تناهى إلى جلال طالباني ونوشيروان خبر قيادته انشقاق آلاي شورش قاموا باعتقاله و تعرض إلى سجن ومهانة كبيرة . و كان المرحوم جبار فرمان يشرف على قسم كبير من عمليات التعذيب الجسدي و النفسي. والملا بختيار معروف في خانقين بحكمت و حّكّي للتدليع . كما كان عزيز الحاج صاحب أكبر انشقاق في الحزب الشيوعي العراقي يظن كثير من الناس أنه من خانقين رغم نشأته البغدادية و ولادته في الكوت ، ألا أن أصوله الفيلية و سكن شقيقه الحاج صادق في خانقين خلق هذا الظن عنه.
ولكنني الآن أعود أسأل بدوري لماذا المنشقون يكونون من هذه المدينة على الأغلب؟ سؤال جوابه متعب ويتطلب الجهد الكبير .
إضافة إلى جرح أنف الوالدة ثمة جرح آخر في فؤادي لم ولن يندمل . كنت تلميذ الثاني أو الثالث الابتدائي حين مات شقيقي الأصغر مجيد بسبب الذبحة الصدرية و التي لم يتصور والدي أنها قاتلة . أتذكر الليلة قبل يومين من وفاته لحد اليوم وهو في حضن والدتي و قد تبلل بالعرق و يصيح باوه باوه ، و يجيبه والدي وهو يتمزق حزنا و لا حول ولا قوة له صيح الله يا ابني و كان يعطيه بعض العقاقير ، و في اليوم التالي حين رجع من الشغل متعبا منهكا ورأى حالته تفاقمت سوءً حمله الى المستشفى ، و كنا ننتظر في البيت خبرا سعيدا ألا أن أخي الأكبر وصل البيت و اخبرنا أن مجيد مات . فانفجرنا بكاء وعويلا . وقد اصبحت المرحومة الوالدة بعد هذا المصاب من شدة خوفها علينا تأخذنا فورا إلى الطبيب وخاصة الدكتور خليل السخن الفلسطيني الجنسية و الدكتور عبد الستار مصطفى أو المستوصف حين ينتابنا أي مرض عابر وبسيط.
كان مجيد يمتاز بالذكاء وروح الدعابة وكان ينتظر أن يسجل في المدرسة ليبدأ الحياة الدراسية . وأتذكر كم كان يفرح حين يسمع من الراديو اسم عبد المجيد الملا مقدم برنامج إذاعي لا أتذكره في هذه اللحظة . بعد يومين أو ثلاثة من الفاتحة زارنا جارنا الملا أنور في البيت لكي يقول لنا لا يحق للأحياء أن يقتلوا أنفسهم للميت ، وأخذ يضحكنا بنكاته و حركاته العجيبة . الملا أنور كان يستخيرهم الطلبة ، و يكتب للناس الحجب . و كان أمره عجيبا يشترط من الطالب الذي يستخيره أن يجلب له صورة فوتوغرافية شخصية . كان الملا أنور انهى المرحلة المتوسطة والتي كانت تعادل الكلية من ناحية العلوم والمعارف و الجهل المتفشي في تلك الفترة ، ما أهله الاطلاع على الحياة الثقافية و كيفية التعامل مع الطلبة و الناس البسطاء. بلغني أن الملا أنور في فترة الحصار قد

تحول إلى عملة صعبة ، فيأتيه المريدون من الأقاصي ليأخذوه إلى قراهم و قصباتهم ليقرأ عليهم الأدعية ويكتب لهم التعاويذ و يقرأ طالعهم و يعمل لهم السحر و الشعوذة . حين زرت السليمانية عام 1997 نقل لي صديقي المهندس محمود شاه محمد والذي يهتم كثيرا بأمور السحر و الشعوذة و الدجل أنه عمل مقلبا على الملا أنور في يوم ما بعد أن قام برفقة زميلين بزيارته بحجة الاستخارة و طلب تعويذة .الملا أنور قد صنع معقدا للزائرين بوضع صفيح خشبي طويل على صفيحتين من التنك من كل جهة في باحة الدار . يقول المهندس محمود شاه محمد حين دخلنا البيت و رحب بنا الملا ، سمعنا خرخشة من تحت المعقد الخشبي فقال لنا الملا ها هم أتوا أيضا ، ومقصده أن الجن حضروا ، ويدخل الملا غرفته و في هذه الأثناء رفعنا الخشبة و رأينا في العلبة فئران يرمي لهم الملا ببعض الفتات و حين يسمعون أية حركة طارئة يستفزون ويحاولون الخروج من العلبة فيحدثون بعض الضجيج و الجلبة. و يستطرد المهندس أنه خاطب الملا بقوله: يا ملا ! يا منيوك ! أهذه جرذان أم جنّ .. فيرد الملا : يا حبيبي أنكم بشر عاديون لا يمكنكم رؤية الجن.
لطائف الملالي و المقرئين في مدينتنا لا نهاية لها . المرحوم الملا خليل الضرير وحده يكفي ليكون محور لعشر روايات . وكان معروفا بالشره و الأكل . و كان يضع الدولمة في حلقة وكأنه يرمي بحبات عباد الشمس فيها. و كان ينوّع و يجمّل القراءات بكلمات و ابيات من عنده . في أحد احتفالات المولد النبوي غنّى بالترکمانی-;---;-- :
يا آمنة بشراكي .. دولمه گتر تاکتاکی-;---;-- ( ی-;-ا آمنة بشراکِ اجلبي لنا الدولمة واحدة واحدة!)
أحد ابناء الملا خليل كان بعثيا و وأتذكر تم تعيينه رئيس لنقابة العمال .في أحد الاحتفالات البعثية سمعنا من مكبرة الصوت أن عريف الحفل قرأ والآن كلمة نقابة العمال يلقيها عليكم الرفيق ابراهيم خليل ، ولكن لسوء حظه أنهم لم يهيؤوا له كلمة ليلقيها و لا هو يملك موهبة لكتابة خطابة أو القاء كلمة، فسمعناه يقول لعرّيف الحفل : الله اوغلي نه دييم؟ يا اين الله ماذا أقول؟ كان ابراهيم من أوائل المنتمين لحزب البعث بعد انقلاب 1968. لم يكن عدد البعثيين في البداية يتجاوز عدد أصابع اليدين في بداية حكمهم ، حتى تمكنوا بعد سنوات وخاصة بعد خروج الحزبين الشيوعي الديمقراطي من العمل العلني ، و بالترهيب والترغيب تسجيل معظم الناس في حزبهم . وحين قام النظام تهجير القرى و نقل الموظفين من المدينة بدأ بنقل البعثيين إلى مناطق كردستان بما كان يسمى حينذاك بمنطقة الحكم الذاتي، بعد 1947 و 1975 عام انهيار الحركة القومية الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني اثر اتفاقية الجزائر بين الشاه وصدام ، وتنازل الأخير له عن نصف شط العرب مقابل قطع الدعم للحركة الكردية المسلحة و التضييق عليها. وقد كان الاثنان يحضران مؤتمر اوبك في الجزائر اغتنا الفرصة لعقد الاتفاقية بتشجيع من كيسنجر وبومدين .
كما كان الملا الضرير الذي يعيش أواخر عمره اليوم في كلار ، يملأ الوقفات في قراءة الأذان بدردمة أغنية لوركي لوركي لوركي لوركي هاواره و لوركي للمطرب الراحل حسن زيرك.
طوال سنوات دراستي الابتدائية و المتوسطة والاعدادية لا أعتقد أنني قد غبت ُ عن المدرسة أكثر من بضعة أيام . في يوم ما في مرحلة الرابع ثانوي غبت ُ يوما و لا أدري السبب ، لكن في اليوم التالي حين حضرت درس اللغة العربية ابلغني زميل لي أن الأستاذ فريدون كلاي محمد قام بتوزيع نسخ من ديوان الراحل الشيخ مراد زنگنه . وحين سألت الأستاذ إن كان ممكنا حصولي على نسخة أجابني للأسف بيعت كل النسخ. ومنذ ذلك اليوم كان بودّي أن اقرأ قصائده المكتوبة بالكردية و هي قصائد صوفية و مناجاة ، ولم أحصل عليها إلى اليوم.
للأستاذ فريدون فضل كبير عليّ في تعلم العربية واتقانها. ولن انسى أبدا التصحيح الذي كان يقوم به لأخطائي النحوية التي كنت ارتكبها في نصوصي الانشائية. وكان معجبا بالقائي القصائد و قراءة النصوص وكان حريصا على أن يصحح لي أية هفوة . أتذكر أنني كتبت ُ يوما في نص عبارة " الكلام يجر كلاما" وهي ليست من العربية بل ترجمة من الكردية، فصححها لي بعبارة" الشيء بالشيء يذكر" .و الأستاذ فريدون حسين من عائلة كلاي محمد العريقة المحترمة ، والمحسوبة على الحزب الشيوعي وكذلك الشيعة. أعرف بعض أخوته كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي وهو كذلك كان يتعاطف مع الحزب والشيوعيين.
هكذا لا بد لي من تذكر هذه البيئة التي كانت غنية ليس بطبيعتها الجميلة فحسب، بل بناسها المرحين ، وموقعها الذي جعلها مسرحا لأحداث تاريخية نقرأ عنها في الكتب التاريخية.. مدينة ذات عبق تاريخي ساحر ، غني بالتفاصيل المتنوعة ، كانت دائما مصدرا لحكايات تختلط فيها الحقائق بالأساطير، وتتداخل الوقائع في الخرافات ، خالقة بذلك أبطالا من صواعق و برق ونيران و جبال و سهول.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله