الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القاهرة الجائعة للحياة بعين الفنان السويسري فيرنر فال فراي

يوسف ليمود

2013 / 10 / 4
الادب والفن


أربعة شهور قضاها الفنان السويسري فيرنر فال فراي في القاهرة، بين مرسمه في جزيرة القرصاية، ومسكن آخر في وسط البلد، كانا نقطتي انطلاق مسح منهما بعينه الفنية جغرافيا المدينة الهادرة بكل أبعادها: المعمارية والتاريخية والبشرية والنفسية... ليعود بعدها إلى بلده يلتقط الجواهر من تلال ما التقتطه عدسته وعينُ ذاكرته ويشتغل عليها في ظل المسافة الضرورية للعمل التأملي. أربعة شهور تُحسب، لا بالأيام، بل بعدد الخطوات والأنفاس: حركة لا تهدأ ونهم لتسجيل كل التفاصيل باللغة الفنية المشفّرة والغنية بالدلالات، حدس معرفي هائل وكينونة ملتحمة بروح المكان وروائحه، وكأن المكان، أي هذا البلد تحديدا، يحوي بين عناصره عنصرا غامضا يتحاور مع الكائنات الأصيلة والمبدعة التي تجيء لزيارته من أربعة أرياح الأرض. إلى جانب الفوتوغرافيا الآسرة التي تجعلنا نقف مندهشين أمام المناظر والتفاصيل، وكأننا نتعرف عليها للمرة الأولى، خرج الفنان علينا بأكثر من عشرين لوحة، بين الواقعي والتجريدي والرمزي بل وحتى الممسوس بحسٍ سريالي رقيق، ترتجف سطوحها بالأزيز القاهري، يعرضهم حاليا ولمنتصف سبتمبر في "أتيلييه أليكساندر" بمدينة فينتر تور، المتاخمة لمدينة زيوريخ.

من الناحية الشكلية، ما كان لفنان انشغل طوال مشواره الفني الطويل بتجسيد الواقع من حوله، عبر الإلتقاط البصري لعلامات ومفاتيح هذا الواقع التي تمكّن من قراءته وانتقاد ما يدور في كواليسه، ألّا يسحره الأفق الملحمي لأسطح القاهرة المرشّقة بأطباق الساتالايت (الدش). والحال أن هذا الانبهار بملحمة السطوح وأطباقها، والتعامل معها فنيا، جاء ليصب، على المستوى المفهومي، إلى جانب المستوى الشكلي، في صميم الهمّ الفني والمشروع الذي يعمل عليه هذا الفنان منذ سنوات طويلة والذي بلغ أوج رمزيته وبلاغته في رسم المباني الشاهقة التي تحت الإنشاء، بصروح السقالات التي تحزّمها والقماش الشبَكي المنسدل عليها والذي يخلق غلالة من لا وضوح في الرؤية تثير السؤال عما يُخَبّأ ويدور خلف هذه الستائر الحضارية. من هذا المنطلق المفهومي يُثار التساؤل عما تعنيه صفوف الأطباق العشوائية واللا نهائية في سماء القاهرة، ما تحمله عبر الأثير من صنوف الميديا المسيّسة والمعلومات المحسوبة والتسليات وبرامج الترفيه المنوّمة، مما يشكّل أدمغة الملايين من البشر "جوعى المعلومات، جوعى التسلية..." حسب العناوين التي أطلقها الفنان على لوحاته، وكذلك عما تخبئه.

الغلالة التي انسدلت على العمائر والمباني التي رسمها الفنان طوال سنوات عديدة في مشواره الفني، صارت هنا أطباقَ الأسطح القاهرية، وهي نفسها الاهتزاز الأثيري لتكتّلات العشب وتكوينات الطبيعة التي صورها الفنان على جزيرة القرصاية العائمة كقطعة حياة بدائية في قلب نيل القاهرة، وسط كوارث إسمنتية ترتفع وتحجب الأفق من حولها، وهي نفسها ليل المدينة الهائل الذي لا تنجح لمبات الشوارع إلا في إضاءة هالة الهواء المحيطة بها، مستسلمة لكثافة الليل وجثامته، وللشرارات الفنية التي تخربشها حساسية الفنان على سطحه، وهي نفسها سحابة الغاز المسيّل للدموع التي يجري في قلبها الثوريّ بكمامته، وتخفي من خلفها حشدا من الجنود المدججين بالسلاح "الجوعى للحرب" حسب عنوان اللوحة.

السؤال: ما الذي يضيفه تنفيذ اللوحات، الواقعية، هنا، رسما بالفرشاة والألوان، بينما هي تحت يد الفنان بالفعل كأعمال فوتوغرافية قائمة بذاتها لا تنقصها القيمة الفنية؟ سؤال إشكالي لا يحسمه المنطق قدر ما يُعوَّل فيه على رمزية فعل الرسم نفسه المشحون بالطاقة التأملية التي تمثَل حركة عكسية مضادة ومناقضة ومناهضة للطبيعة الاستهلاكية للواقع أو للموضوع الذي يعمل عليه الفنان. من هنا يأخذ الجهد الإنساني الجاد المبذول في تجسيد شيء هزلي معناه، ويصبح أكثر تأثيرا في النفس من مجرد ضغطة سريعة على زر كاميرا. يؤكد على أهمية ومعنى فعل الرسم هنا انصهار التكدّس والزخم القاهري، في بعض اللوحات، في بوتقة التجريد، الذي يجسّد البعد الموسيقي في كيان الفنان، في أبهى صور تموّجاتها. يظهر هذا البعد الموسيقي أيضا في عدد من المجسمات المركّبة من أشكال خشبية صغيرة الحجم وملونة، تبدو وكأنها أوركسترا من آلات موسيقية مبعثرة في الهواء، أو كأوكواريوم حالم وعائم في الفراغ.

السؤال الآخر الذي يؤكد على معنى وإنسانية فعل الرسم هنا هو: لماذا اختار الفنان الحجم المتوسط ليصور عليه بانوراما الأطباق الخرافية تلك، ولم يقم بتنفيذها على مساحات كبيرة ربما كانت ستبدو مبررة، وبلا شك كانت ستكون مبهرة؟ يقينا، الطاقة التأملية الكامنة خلف نسيج هذه اللوحات الهادئة رغم كهربيّتها التي تئز على سطحها، تنفر بطبيعتها من فكرة الاستعراض التي كان يمكن أن تشوب تنفيذها على مساحات كبيرة. وهذا ملمح لوعيٍ وتفكيرٍ واختيارٍ نادر الحساسية، في زمن يحكمه الصراخ ويتبجح بالاستعراضات.

تجربتان أخريان تضيفان إلى السياقين السابقين: الواقعي والتجريدي، بعدا رمزيا، وتذهبان مباشرة إلى العمق التاريخي: اللوحة الأولى تصور حائطا فرعونيا تحت قدم تمثال رمسيس الثاني، وتربطه بالواقع الثوري المصري الذي عاش الفنان بعض أحداثه أثناء إقامته الفنية. فالحائط المنقوش بالرموز والكتابات الهيروغليفية، يسيل عليه رسم جرافيتي بالأحمر لمينا دانيال، الذي دهسته الدبابة في أحداث ماسبيرو المؤلمة. اللوحة الأخرى، ليست من نتاج هذه المرحلة، بل تعود إلى عام 1980، ما يؤكد على أن اهتمام الفنان بمصر سابق بسنوات بعيدة على عبوره بها، تصور القناعَ الذهبي الشهير للملك توت عنخ آمون وقد جعل الفنان نصفه ترابيا ضربه التحلل والتفسخ، ونصفه الآخر كما هو من ذهب. اللوحتان، رغم أن أكثر من ثلاثين عاما تفصل بين تاريخ إنجازهما، تشتركان في جمعهما بين عالمين نقيضين: الضحية والفرعون، التحلل والخلود.

التجربة الأخيرة الممسوسة بحس سريالي مرهف، هي لوحة كانت في الأصل صورة فوتوغرافية التقطتها عدسة الفنان، تصوّر رجلا يحمل فوق رأسه خبزا ويقود دراجته في ظهيرة الشارع المصري المزدحم. في اللوحة حذف الفنان الرجلَ من الصورة وترك قفص الخبز طائرا في الفضاء، راميا ظله كسجادة من العوز على أرض مدينة جائعة للحياة.

يوسف ليمود
مجلة الدوحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا