الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة قانونيــة: لجنــة صياغــة الدستور بين الاستحقاقــات الانتخابيــة ومستقبــل الدولــة

فلاح اسماعيل حاجم

2005 / 5 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


اثار تشكيل الجمعية الوطنية العراقية للجنة صياغة الدستور العراقي الدائم نقاشاً واسعاً في صفوف السياسيين والحقوقيين والمهتمين بالشأن العراقي بشكل عام. ويتأتى الاهتمام الكبير باللجنة المذكورة ليس فقط لانها ستقوم بانجاز واحدة من اكثر القضايا اهمية في تأريخ العراق؛ بل ولان اسلوب تشكيلها بدأ يلقي ضلالاً من الشك حول مدى امكانية انجازها لتلك المهمة العسيرة و بالشكل الذي يؤمن انتقالا سليما لوطننا من حالة اللاقانون والدولة منقوصة السيادة الى دولة الحق والمؤسسات؛ تلك الدولة التي يراد لشعبها ان يكون مصدراً حقيقيا للسلطات. لكن الاسلوب الذي ذهبت اليه الجمعية الوطنية في تشكيلها للجنة كتابة الدستور العراقي الدائم يجعل الحريصين على مستقبل التجربة السياسية في بلادنا ينظرون بقلق مشروع لما سيتمخض عن اللجنة المذكورة. فتشكيلها من الكتلتين البرلمانيتين الرئيسيتين سيجعل قراراتها مرهونة بايديولوجية وتطلعات التيارين المذكورين مما يشكل خروجاً عن التوافق الوطني والذي اريد له ان يكون مبدأً فاعلاً؛ على الاقل في الفترة الانتقالية والشديدة الحراجة التي يمر بها بلدنا.
ان من الحقائق الجلية والمسلم بها في علم القانون الدستوري هي ان الدستوركوثيقة سياسية يراد لها تثبيت وتنظيم العلاقات بين مختلف القوى الاجتماعية؛ اي صراع تلك القوى واساليب اتفاقها( وفق القانون الفلسفي وحدة وصراع الاضداد). وفي احيان اخرى على العكس؛ يقوم الدستور بتثبيت سيطرة قوى اجتماعية معينة وحتى مجاميع عسكرية- سياسية صغيرة تقف بالضد من ارادة شعوبها؛ وهذا ما يمكن تلمسه في الدساتير التي تتم صياغتها واقرارها في دول الانقلابات العسكرية وبلدان الانظمة الشمولية. وفي جميع الاحوال فان الدستور باعتباره القانون الاساسي للدولة يقوم بعكس مستوى تطور البلد السياسي ويتضمن؛ وان بمستويات متفاوته؛ الخطوط البرنامجية العامة لتطور المجتمع. وهذه الخاصية بالذات ما يجعل الدستور مقبولاً لدى الكثير من مكونات المجتمع ذلك انها تجد فيه برنامجاً مستقبلياً تتفق بنوده مع سياسة تلك القوى وبرامجها. هذا من جهة؛ ومن جهة اخرى ليس عجيباً ان تجد اتفاقا لتلك القوى مع جوانب في الدستور واختلافاً (وحتى معارضة) لجوانب اخرى. لكن الحقيقة التي تبقى قائمة هو التزام الجميع بالقانون الاساسي للدولة؛ ذلك ان الاخلال بقواعد ذلك القانون من هذا الطرف او ذاك قد يؤدي الى الاخلال بمجمل النسيج الاجتماعي والمؤسساتي للدولة وهذا ما يحصل اثناء الانقلابات العسكرية؛ او خلال الازمات السياسية التي عادة ما تفضي الى ما يطلق عليه في لغة السياسة الانقلاب الدستوري؛ حيث تقوم كتلة برلمانية ما بالانقلاب على القواعد الدستورية؛ وحتى التنصل للقرارات التى سبق وان اقرت من ذات الكتلة (جورجيا واكرايينا مثالاً). لا شك ان الانتخابات العراقية التي اجريت في نهاية كانون الثاني المنصرم شكلت خطوة هائلة في تأريخ العراق المعاصر؛ وليس هنالك من شك ايضاً في التاثيرات المتنامية لهذه التجربة الجبارة ليس على مستقبل العراق فحسب؛ بل و على تحديد مستقبل العملية السياسية في الكثير من بلدان الشرق الاوسط ايضاً. الا ان ذلك لا يعني بأي حال ان يُرتهن مستقبل العراق السياسي بنتائج تلك الانتخابات؛ رغم قدسيتها ومشروعية نتائجها؛ سيما وان تداول السلطة بوسيلة الاقتراع الشعبي العام سيكون تقليداً طبيعيا في النهج السياسي للعراق الجديد. بمعنى آخر ان القوى التي اوصلتها صناديق الاقتراع وفي ظل اوضاع شاذة كالتي اجريت فيها تلك الانتخابات قد تجد نفسها حتى خارج الاجهزة التمثيلية للدولة؛ وتلك من شروط اللعبة السياسية المعروفة للجميع. في حين يراد لقواعد القانون الاساسي للدولة ان تكون منظماً دائم الحضور؛ غير متأثرٍ بموسميّة القوى السياسية وتقلبات لعبتها السياسية. وعليه فان الارتهان الى الاستحقاق الانتخابي في ايجاد آليات كتابة الوثيقة الاهم في الدولة سيدفعنا الى الوقوع في مطب المتطلبات الراهنة والمؤقتة مما يتعارض مع مبدأ ديمومة وثبات القواعد الدستورية. بالاضافة الى ذلك فان كتابة دستور الدولة تحت ضغط المزاج الجماهيري العام ستكون له اثاراً سلبية بالغة الخطورة. ولنا في التجربة الدستورية للبلدان التي نشأت على انقاض الاتحاد السوفيتي السابق خير مثال؛ حيث وجدت تلك الدوّل نفسها اسيرة قواعد دستورية جامدة اريد لها آنذاك معالجة وضع استثنائي طارئ فأصبحت عقبة كأداء في وجه متطلبات الظروف الناشئة مما يدفع اصحاب القرار؛ في اغلب الاحيان؛ الى استنباط وسائل مختلفة للالتفاف على القواعد الدستورية التي عجلت في سنها واقرارها تحت تأثير (نشوّة النصر العابره)؛ وربما تكون الخطوات التي اتخذها الرئيس الروسي خلال السنوات القليلة الماضية والهادفة الى توسيع اختصاصات الاجهزة المركزية للدولة على حساب الصلاحيات الدستورية لاطراف الفيدرالية خير دليل على ما ذهبنا اليه. وما زلنا بصدد الحديث عن الانتخابات العراقية السابقة لابد من الاشارة الى المعضلات السياسية الكبيرة التي اعقبت تلك الانتخابات والتي لا زالت تلقي بضلالها على مجمل العملية السياسية في بلادنا؛ وربما كانت مسألة تشكيل الحكومة الانتقالية في مقدمة تلك المعضلات؛ حيث اعتمد اسلوب المساومة بين جناحي البرلمان الرئيسيين لتوزيع الحقائب الوزارية وتهميش مؤسف لقوى سياسية فاعلة شاءت شروط اللعبة الانتخابية وتشتتها وقصورها في ادارة تلك اللعبة ان تجعلها قليلة التمثيل في الجمعية مما يؤدي الى ابعادها عن المساهمة في صياغة الدستور الدائم للبلاد رغم ما تمتلكه (تلك القوى) من خبرات وامكانيات وحرص لا غبار عليه على مستقبل الوطن بجميع مكوناته. وهنا اجد لزاما الاشارة الى ان الخلافات التي رافقت تشكيل الحكومة الانتقالية ولجان الجمعية الوطنية واتباع اسلوب المحاصصة والمساومة ستنسحب دون شك على كيفية صياغة الدستور؛ خصوصاً وان موضوعات كثيرة يمكنها ان تصبح مادة لتلك المساومات ومن ضمنها؛ على سبيل المثال لا الحصر؛ الموقف من العلاقة بين الدين والدولة وموقع الشريعة في سلم المصادر القانونية بالاضافة الى نوع الفيدرالية القادمة ومعضلة المدن والقصبات المتنازع عليها وحجم وكيفية توزيع الاختصاصات بين المركز الفيدرالي والاطراف. وهنا ارى ان اشد ما يمكن خشيته في الوقت الراهن هو فقدان القضايا التي قد تبدو صغيرة للوهلة الاولى (الحريات الشخصية للافراد) في خضم الصراع من اجل "الغنائم الكبرى". وبهذا الخصوص تبدو لي عسيرة ؛ وربما مستحيلة؛ مهمة اقناع احد طرفي المعادلة في الجمعية الوطنية بأن فصل الدين عن الدولة وتحويل مؤسساته الى مرافق اجتماعية خيرية والاستفادة من تعاليمه الانسانية لاغناء وتربية القيم الاخلاقية لدى المواطنين بدلاً من اعتبار قواعده بديلاً للقواعد الوضعية وخصوصاً اذا تمت صياغة الاخيرة بالشكل الذي لا يشكل اساءة لمتطلبات المواطن الروحية. مثلما هي عسيرة مهمة اقناع الطرف الآخر في المعادلة بأن قضايا مثل الامن والدفاع وما يتفرع عنهما من مؤسسات تدخل ضمن الاختصاص الحصري للسلطات المركزية وان مبدأ التدخل؛ وحتى الاجتياح اذا تطلب الامر؛ ماخوذ به في اغلب الدوّل التي اتخذت من الفيدرالية شكلاً للدولة. انني ارى ان انجاز مهمة خطيرة وبالغة الاهمية بالنسبة للدولة العراقية وفي الاجال التي حددها قانون ادارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية وهي منتصف شهر اب (اكتوبر) من العام الجاري ستكون بالغة الصعوبة؛ ان لم تكن مستحيلة؛ مالم يتم الاتفاق على الثوابت الاساسية لدولة الحق المرتقبة دون الارتهان الى استحقاقات اللعبة الانتخابية المؤقتة.


٭- استاذ جامعي مختص بالقانون الدستوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال