الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أي مشروع نحن بصدده الآن كاشتراكيين علميين هل الثورة الاشتراكية ؟ أم الثورة الاجتماعية عل قاعدة النضال الديموقراطي؟

المحجوب حبيبي

2005 / 6 / 1
ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي


أي مشروع نحن بصدده الآن كاشتراكيين علميين
هل الثورة الاشتراكية ؟
أم الثورة الاجتماعية عل قاعدة النضال الديموقراطي؟

واقع مغاير يقتضي معاودة القراءة وتجديد أدوات التحليل؟
يعيش العالم ثورة تحكمية شاملة تمتد سيطرتها الرهيبة لتشمل وبشكل كاسح كل شيء، وكأن العالم لا يعدو أن يكون قرية صغيرة متنوعة المستويات بين شواهق تخترق السماء، ونوازل شديدة المنحدرات. وهي بحجم الثورة الكوبرنيكية أو الاكتشافات الكبرى أو تزيد؛ وعلى أكثر من مسار علمية، تقنية، تواصلية، وبيوكماوية، جنيتيكية، عسكرية، ومخابرتية ...لأجل هدف أساسي وأكيد هو حرية السوق، وسيادة البضاعة الصنم، وسيادة نمط إنتاج ونمط استهلاك واحد ووحيد، وما تبقى من شعارات يكون تابعا ونتيجة. ومن غرائب الصدف أن تتزامن هذه الثورة مع انتصار الرأسمالية، في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية المعروفة بالعولمة؛ ومن غرائبها أنه مهد لها على قاعدة غير مسبوقة وهي التبشير بالموت، موت الإيديولوجية، وموت الفلسفة، وموت الاشتراكية... ولهذا الموت جملة من معاني منها:( موت الفكر، وموت الإنسان بإغراقه في فردانيته وعزلته.) و على مستوى آخر تهديد الإنسان المتخلف والفقير والمهزوم بالموت الفعلي، الذي قد يعيشه كانتحار وتآكل ذاتي، بإيعاز سافر أو متخفي ، يمارس عليه في كل الأحوال بشكل من الأشكال، يمكن تمثيلها في: ( تعطيل الإرادة وسحقها؛ البطالة والتفقير؛ الحرمان أو الإغراء أو الاستلاب، وأزمة الهوية...).
إن هذه الحالة المتناقضة من المعطيات التي تعلن الشيء ونقيضه في نفس الآن، حقوق الإنسان وتدمير الإنسان؛ الغنى الفاحش والفقر المدقع؛ العدل الدولي والجور الدولي؛ الدعوة إلى السلم وممارسة الحرب؛ الدعوة إلى الديموقراطية وتعزيز الدكتاتورية... برزت بشكل حاد وجامح مع انهيار الاتحاد السوفياتي كتجربة اشتراكية فذة أصابتها في الصميم البيروقراطية والجمود العقائدي والشمولية والاستبداد، والإنابة الجبرية عن الشعب المفترى عليه... فاختل بنيان هذا الهيكل الجبار الذي فقد توازنه الداخلي لينهار معلنا نهاية تجربة، كان انهيارها بتلازم مع خيار الشفافية، الذي نزع الستارة عن واقع بدا مجوفا وهشا، فلم تنفع معه معاودة البناء كاختيار ديموقراطي، لم يصمد مع الضغوطات المحيطة، وتقاطع مع عوامل داخلية متمثلة في تشعب العوائق وتراكم المعضلات، التي حصلت بفعل تهميش ركن من أركان الاشتراكية ألا وهو الإنسان، ومصادرته كفاعل ولحام صلب، وقوة تماسك أساسية غيبت بالقهر والقوة، ضمن شعارات معلنة على أن الثورة الاشتراكية جاءت من أجل المساواة ونهاية الاستغلال، وإعلاء الإنسان كأسمى ما في الكون، وإملاكه كطبقة منتجة وسائل الإنتاج، والقضاء على القهر الطبقي من أجل إنتاج اجتماعي ومادي جمعي وتوزيع مشترك وعادل للخيرات... كان من المفروض أن يكون هذا الاختيار رائعا ومكسبا لا تراجع عنه، ولا تبديل له، وتضافرت هذه العوامل الداخلية مع عوامل أخرى خارجية، تحالفت وتكالبت من خلالها كل أدوات الحرب الباردة والقاتلة، فكان الإنسان السوفيتي معطل الإرادة منزوعها أمام لحظة تيه ودوار ونزيف بلغ عتوه، فوقف مشدوها لا مباليا لأنه لا يملك قرارا، أو قل كان قراره المسكوت عنه، (لتتهدم هذه الآلة الجهنمية) التي خالها بداية جنة للحريات ولسمو الإبداع ولحرية النقد والتطوير والإغناء؛ فاستحالت بفعل الجمود والمصادرة والحصار والقمع قلعة باردة يغشاها الرعب ويحفها الإرهاب والصمت، فوقف يتفرج على انهيارها وكانت لامبالاته من هذا الانهيار بالنسبة للكثيرين إن لم نقل بالنسبة للجميع؛ محط سؤال ودهشة واستغراب، وتساءل الاشتراكيون أسئلة كثيرة حول الخيانة والعمالة للإمبريالية، واتهموا وألقوا باللائمة على الكلاسنوست والبيريسترويكا، وكل الأسئلة إلا سؤالا واحدا يرتبط بالتنظيم والحركية المفترضة في التنظيمات الذاتية القرار في الظروف الاستثنائية وهو سؤال:( كيف تخلى ذلك الجيش من الأطر القيادية والمناضلين في القاعدة والخلايا والمركز والجمهوريات من المدنيين والجيش الأحمر والمليشيات والتنظيمات العمالية والشبيبة والنسائية والتنظيمات الموازية... كيف تخلت كلها عن الوطن الاشتراكي الأول ليغتصب ويسقط ويتهاوى؟...كيف سمحت تلك الأعداد الغفيرة التي تحبل بها الإحصائيات لحفنة من (الليبراليين) أن يستولوا هكذا على إرث يصبح بقدرة قادر يُحاكم؟؟... كيف تم تخليهم هكذا وبهذه السرعة عن الوطن وعن المبادئ والاختيارات وعن تاريخ من انتصارات ثورة فريدة في زمننا المعاصر؟ ثورة كانت إلى الأمس القريب يحسب لها ألف حساب وحساب؟ كيف يسمح الشعب السوفياتي في أمجاد و(مزايا) البدايات تلك التي دبجت فيها ملاحم خالدة، وهو الذي ذاد بالغالي والنفيس لحماية الوطن التجربة، من غول النازية المدججة؟) وكنا لا نظن تحت تأثير الدعاية التي كانت تملأنا نحن الاشتراكيين، ولربما الإنسانية جمعاء، بما فيها الأعداء والأصدقاء، أنه لا شيء يمكنه أن يقصم ظهر هذا الجبار الذي كنا نعتقد لزمن طويل أنه النموذج (السرمدي)، لأنه كان حلم الفقراء وفردوسهم المزعوم، ونموذجهم المأمول... فهل نذير الموت العولمي قد بخر هذا الحلم بالرغم من توسع دروب الفقراء وازدياد أعدادهم؟؟. أم هي قوانين الجدل فعلت فعلها فكان ما كان؟... (لأن المجتمعات التي لا يتطور تقدمها المستجيب لحاجيات الناس ومتطلباتهم غالبا ما تنتكس وتتراجع...) إن السياق الذي تندرج ضمنه المعطيات التي نتناول من خلالها مختلف الآفات التي أصابت التجربة السوفياتية وبكل مستوياتها وقدراتها وما أنجزته وحققته؛ ينبغي أن تحررنا نحن الاشتراكيين من استمرارنا سجناء (العقيدة الإيديولوجية) لننتقل إلى رحاب العلم المادي الجدلي والمادي التاريخي بمنهجه الخلاق، الرافض للقوالب الجاهزة والكليشهات والمزايدات، وكل التعاليم المحفوظة عن ظهر قلب والتي تلقى على الموردين بمناسبة وبدونها، من طرف السدنة الجهلة المتبجحين من دعاة الفقه الاشتراكي؛ لأنه مهما كان مستوى إيمان هؤلاء، لن يكونون في مستوى أساتذة الفكر الاشتراكي العلمي السوفيات ولا خبرائهم وبخاصة المناضلين والمفكرين والعلماء من أطر الحزب البلشفي ورثة التجربة العظيمة، وما تجمع لديهم من خبرات ومعارف... ومع ذلك كان الانهيار الرهيب، الذي لازلنا أمامه مشدوهين.
نعتقد أن التجربة النضالية الاشتراكية بمجملها، تنظيرا وتفكيرا وتنظيما وممارسة سياسية ، وما راكمته من نتائج ومعارف وخبرات… تجعلنا كمعنيين مطالبين بإعادة قراءتها القراءة العميقة والمتأنية، وجرد معطياتها: منهجا ومفاهيم ومقولات وشعارات، وتحليلها التحليل العلمي الصريح والشجاع على ضوء المعطيات التاريخية والوقائع الموضوعية والملموسة، بعيدا عن أي استعباد إيديولوجي أو تحكم في الإرادة، أو شل لعملية البحث والدراسة العلمية، تحت أي مبرر من المبررات، أو شعار كيفما كان، أو تحت تأثير أي مقولة من المقولات، أو باعتماد على تلك الاستشهادات التقديسية، التي تعمل على إخراس أصوات المجددين بمحاصرتهم بالمستظهرات من المتون والمقولات بمناسبة وبدونها، أو بنعتهم بالتحريف والردة، تلك الأحكام الناجزة، التي لا تختلف في شيء عن العنعنة والممارسات الأصولية البغيضة ضد العلم والإبداع؛ هدفنا وغايتنا المعرفة أولا، ولأجل النقد والتصحيح والتغيير ثانيا، وإعمال المنهج العلمي المادي التاريخي خارج سياق تلك المحفوظات والشعارات ثالثا، هادفين استخلاص قوانين وقواعد يمكن أن نعتمدها في صياغة رؤيتنا لمختلف مشكلاتنا، تلك الرؤية والتصور الذي سنحدد من خلاله احتياجاتنا ومطالبنا وأشكال التنظيم الملائمة للأهداف والاختيارات التي تقتضيها المرحلة التاريخية وتقتضيها مواقفنا في النضال الديموقراطي، وتقويما للأوضاع الدولية سنرتب على ذلك علاقاتنا النضالية الأممية المتلائمة مع احتياجات المرحلة، وما تعرفه من مستجدات ومتغيرات، وإن اقتضى الأمر معاودة ترتيب التحالفات أو إعادة صياغة علاقات جديدة مع قوى ديموقراطية وإنسانية وحقوقية، كنا نرفض إلى حدود الأمس القريبة أي لقاء معها كلا أو جزءا على الرغم من تقاطع أو تلاقي الأهداف في العديد من النقط، أهمها البناء الديموقراطي، وعلينا أن نقييم الأوضاع التي تجتازها حركة التحرر العالمي، والمآزق التي تعاني منها وأن نمد الجسور معها على قاعدة تجديد أدائنا النضالي المشترك وتضامننا في العديد من القضايا والمستجدات، بما يتناسب وحاجيات شعوبنا في ظل موازن القوى التي يعرفها العالم، وهذا عينه ما قاله لينين للمناضلين الروس محذرا إياهم من الجمود العقائدي إذ قال :( ونحن نعتقد أنه من الضروري بخاصة أن يدرس الاشتراكيون الروس ويطوروا نظرية ماركس بصورة مستقلة لأن هذه النظرية لا تعطي سوى موضوعات توجيهية عامة، تطبق مثلا في بريطانيا على غير ما تطبق في فرنسا، وفي فرنسا على غير ما تطبق في ألمانيا، وفي ألمانيا على غير ما تطبق في روسيا. ولهذا سوف نخصص بكل طيبة خاطر، مكانا في جريدتنا للمقالات في القضايا النظرية وندعو جميع الرفاق إلى مناقشة نقاط الخلاف مناقشة علنية...) وفي اعتقادنا أن حركة اليسار العربي تعاني من قصور في الدراسة النظرية والبحث الميداني وتحديد الأوليات والبرامج، وذلك بفعل وضعية التخلف في الفكري واعتلال الخيال الذي تعاني منه بعض العناصر التي عرفتها شخصيا والتي ابتلي بها الفكر الاشتراكي العلمي فاحتلت في قيادته مواقع نافذة لسبب من الأسباب وهي تتميز بأمية مركبة وقاتلة من جهة لأنها شعبوية تشيع بين المناضلين والجماهير فكرا بئيسا، ومن جهة أخرى فهي تجهل أنها تجهل، فتتميز بغرور وصلف وتعالي عن المناضلين والجماهير، ومن جهة ثالثة تثقن فن الخبث والدعاية الساقطة ضد المناضلين المجتهدين والأكفاء وتصفهم بأنهم برجوازية صغيرة وأنهم محرفون ولهم تطلعات... وما شابه ذلك، وتعمل على ترويج دعيات مسمومة وممارسات أقل ما يقال عنها أنها استفزازية...وهي بذلك تصادر كل اجتهاد وتشيع العداء ضد المثقفين الثوريين، وهذه النماذج هي الاستمرار الستاليني البيروقراطي الرث والقاتل للفكر الاشتراكي العلمي، الذي أوقف الاجتهاد والإبداع وصادر الديموقراطية، وخرب التنوع والتعدد والاختلاف، وكل آليات الجدل، بل وقفز على التاريخ محاولا خنقه ليعمم وصفة واحدة صالحة لكل مراحله وتغيراته ومشاكله بدعوى أنها الأصول والأمهات...
إن مشكلاتنا في البلدان الشبيهة بالمغرب تتلخص في ست ظواهر مترابطة هي: التبعية؛ الاستبداد؛ والتخلف؛ والفساد؛ والتجزئة؛ والأمية ثقافية وفكرية وسياسية وما ترتب عنها من سلبية...
وهذا يجعلنا أمام مسؤولية الانتقال من الممارسة السجالية التي طبعت مرحلة بكاملها والتي كانت لدى البعض ممارسة (سوقية) يعتمد فيها النقد المجاني، التحاملي المشحون بمختلف الاتهامات والدعايات الرخيصة، التي مسخت مستوى الصراع الفكري والإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، ونزلت به إلى الرثاثة والابتذال والسخف، وجعلت الصراع في متناول كل من أراد أن يرتدي زيا نضاليا، ولم لا قياديا، فتجده يجدف ويختلق ويدعي و... وهو يحاضر أو يحاور أو يساجل متدخلا، أو كاتبا، في هذا المحفل أو ذاك الإطار أو تلك الجريدة، وجمهور من الموردين يستمع باهتمام أو يهتف من (فرط النشوة) أو يقرأ بتلهف، وهو ينشئ بذلك اللغو القاتل رصيدا قد يوصله إلى مبتغى أو منصب أو جاه والأمثلة في الموضوع كثيرة... وفي نفس الآن يطبع مورديه باكليشهات تنضاف إلى ما لديهم من محفوظات، لا يحيد عنها إلا محرف أو مندس؛ ولقد استغلت العناصر الشعبوية والبؤسوية والعدمية، مراحل الصراع الحزبي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (المغربي) منذ النصف الثاني من السبعينيات أي بعد (المؤتمر الاستثنائي) ذلك الصراع الذي كان يتبلور على المستوى الفكري والسياسي والتنظيمي بقيادة الشهيد عمر بنجلون... وحادت به عن أهدافه في بناء حزب جماهيري قوي، مروجة مقولات بلنكية وانقلابية وتجريبية... على أنها المبادئ الاشتراكية، ثم انقلبت بعد ذلك لتستغل معاناة المناضلين السجناء وأسرهم، والظروف القاسية لعائلات الشهداء، وهجمات النظام المتوالية التي كبدت الحزب آنئذ خسائر كبرى لتجعل من كل هذه المعطيات أداة للمساومة أو التراجع، وفي غمرة الصراع الداخلي وتشعباته بين الجناح الاشتراكي الديموقراطي والجناح الإصلاحي الاجتماعي، ـ وعلى الرغم من أسبابه الوجيهة والجوهرية ومقتضياتها التاريخية؛ ـ كانت تتأرجح فئة من أولئك المتحذلقين من بقايا امتدادات الستالينية إلى التنظيمات الاشتراكية، مع خليط من الانتهازيين المتأرجحين بين هذا الجناح أو ذاك، والذين اعتمدوا مختلف تلك الوسائل والصيغ الهجينة المشار إليها والتي استمروا يعتمدونها حتى بعد مؤامرة 8 ماي 1983 فحدوا بشكل خطير من الارتقاء والبناء التنظيمي، مستقطبين إليهم نماذج من ذلك النوع الرديء الذي نشّأوه والذي لا يحسن إلا الهدم والتخريب؛ والذي أفسد عمق النقد وسمو الصراع، وهوى بمستوياته العلمية إلى الحضيض، وهذا النموذج الذي قدمته يبين إلى حد كبير ما عاشته وتعيشه الحركة الاشتراكية، والذي جعل العديد من تنظيماتها لا تراوح مكانها، أو هي عاجزة على الانتقال إلى الممارسة العلمية الجدلية التاريخية والممارسة السياسية اليومية، في مختلف المجالات الجماهيرية أو التي لها ارتباط بالقضايا الجماهيرية، مما عرقل النمو الطبيعي للحركة الديموقراطية الاشتراكية وأعاق الانتقال الذي سيؤدي إلى فك التناقض بين تسجيل المواقف، وبين الممارسة النضالية السياسية اليومية، وفي مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية... ونفس الشيء عاشته الحركة الإصلاحية الاجتماعية التي عرفت تمزقات كبيرة بدورها، والتي أدت بها إلى السقوط المريع في أحضان الطبقة الحاكمة قابلة بتناوب مغشوش لم تستطع معه أن تطبق أيا من الإصلاحات التي كانت تدعو إليها... ولم تستطع قوى الاشتراكية والديموقراطية أن توسع تحالفاتها مع القوى والتنظيمات الجماهيرية والهيئات الإصلاحية، الاجتماعية والديموقراطية، لتكبح استسلامها للنظام دون شروط، لأنها استمرت تهاجمها واحتفظت بمواقف متعالية وتحقيرية لهذه التنظيمات والهيئات، لأنها لم تدرك أن ضرورة النضال الديموقراطي، تقتضي مد الجسور عميقا في مختلف تلك التنظيمات، التي يجمعنا وإياها في هذه المرحلة من التاريخ، هدف البناء الديموقراطي، لقد انتبه لينين في البدايات إلى ضرورة توسيع النضال الجماهيري وربطه بالنضال السياسي، وهو يقول في هذا المضمار : ( إن نضال البروليتاريا الطبقي ينقسم إلى نضال اقتصادي (نضال ضد مختلف الرأسماليين أو ضد جماعات مختلفة من الرأسماليين من أجل تحسين أوضاع العمال) ونضال سياسي (نضال ضد الحكومة من أجل توسيع حقوق الشعب، أي من أجل الديموقراطية، ومن أجل توسيع السلطة السياسية للبروليتاريا...) إذن نحن أمام مطلب ملح وهو النضال السياسي وما يتطلبه من مقتضيات توسع حقوق الشعب لأجل البناء الديموقراطي...في نفس الآن النضال من أجل تحسين أوضاع العمال والشغيلة والبحث عن صيغ وأساليب ترقى بجماهير الشعب المغربية والعربي تثقيفا وتوعية عبر إنشاء تنظيمات ومن خلال المشاركة في المؤسسات التي تمكن الكادحين من توسيع سلطتهم السياسية وفرض ما يستطعونه من إصلاحات في كل المرحلة من المراحل التي تعيشها الحركية الاجتماعية وما تتطلبه وتقدر عليه، وهذا يتطلب حضور الحزب أو تجمع اليسار في الساحة الجماهيرية تعزيزا للنضال الديموقراطي، من خلال إنشاء تنظيمات مشتركة والعمل مع التنظيمات الاجتماعية والإصلاحية والوسطية التي تنشد تحقيق أهداف: دولة الحق والقانون على طريق التحرر والبناء الديموقراطي...تأسيسا لمرتكزات بناء الدولة الديموقراطية سياسيا وحقوقيا واقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا وتربويا …
مقتضيات الممارسة السياسية على ضوء مساءلة الواقع الراهن :
ـ فما خصائص وسمات الوضع الراهن على مستوى التحديات الخارجية التي تواجه الأمة ككل وعلى أكثر من مستوى؟ وما حجم التحديات الداخلية المعيقة لحركة النضال الديموقراطي الذاتية والموضوعية؟
ـ ما الثورة الاجتماعية وما النضال الديموقراطي؟؟ وما المرتكزات النظرية التي نستند إليها في هذه الصياغة (ثورة اجتماعية على قاعدة النضال الديموقراطي).؟
ـ ما حاجياتنا المرحلية وما متطلبات النهوض والتقدم في ظل موازن القوى الراهنة؟؟
إن المرحلة بخصائصها وسماتها المتميزة بالتغيير والتحول المتسارع الذي يتجاوز السيادة ويخترق الحدود ويتحكم في كل شيء ويقلب التصورات والأحكام والنظريات، ويجعل الشعوب والأمم أمام علاقات تزيد من وتيرة حركة البضائع، والخدمات، والأفكار، ورؤوس الأموال عبر الحدود القومية. متحدية ما كان يعرف بالأمن القومي والأمن الاقتصادي... كل هذا يجعل المراجعة ليست أمرا مقبولا فقط ولكنها أمر حتمي.
وقبل أي مراجعة نظرية يسمح بها المقام، حتى لا تفتح الأبواب لأي تسيب يجعل تلك المراجعة وسيلة لجلد الذات بلا رحمة، أو لتمجيدها بتقديس أو للترويج للهزيمة والانبطاح، أو للتخلي عن الخط النضالي بثوابته ومتغيراته؛ خصوصا أن جبهة المشكلات متشابكة وشديدة التعقيد، وملفاتها حافلة بالهزائم والأخطاء؛ فمن أخطاء الرومانسية القومية والاستبداد القومي، إلى السيطرة الرجعية، إلى الفشل الاجتماعي والانحطاط الاقتصادي، والتململ الطائفي والهجوم الأصولي الظلامي؛ إلى النزعات الشوفينية الانعزالية... وهذا يتطلب إعداد الشروط، وتعبئة المثقفين الثورين والأطر المناضلة ذات الإسهامات الفكرية وتبادل الخبرات والتجارب بين التنظيمات والأحزاب اليسارية والديموقراطية... وعقد ملتقيات وأندية وندوات ولقاءات ومؤتمرات لتدارس مختلف الأوضاع والمشكلات والمآزق التي تعاني منها حركات الفكر الاشتراكي العلمي وجرد التساؤلات والقضايا والفرضيات وتحديد الأسبقيات وتعميق الدراسة في كل حالة من الحالات أو ظاهرة من الظواهر، التي اتضح أنها تقتضي وقفة وحدها للقراءة والمراجعة والتدقيق، لكن كوننا اشتراكيين محكومين بمرجعية نعتقد يساء استعمالها، مما يعرقل النضال الديموقراطي، لذلك يقتضي الأمر بعض التناول النقدي الصريح لكل تجربة من التجارب الأممية وأسباب التقلص والتراجع وبخاصة دراسة أسباب انهيار التجربة السوفياتية وعلاقة ذلك بالتنظيم الحزبي وتطبيقات الديموقراطية المركزية وبالوضع الجماهيري العام والتطبيق الديموقراطي المؤسسي وتحيد مستوى النتائج السلبية والانعكاسات، على حركة النضال الاشتراكي العالمية برمتها، وبالخصوص في البلدان المتخلفة، التي أنهكها الاستبداد والقمع، وما تثيره نتائجها من أسئلة وردود أفعال متفاوتة، بين التمسك المكابر أو الأعمى بالمقولات والشعارات دون مراجعة، وبين من لا يزال تحت واقع الصدمة الموجعة يدور في دوامة التفكير والترقب؛ منذ عقد ونصف من الزمن، أو من يعيش حسرة المناضلين العضويين الذين لم يكن يقنعهم واقع الحال، ولكنهم كانوا يمارسون المداراة والمغازلة والتبرير، دفاعا عن النفس أكثر من دفاعهم عن التجربة، اتقاء التهم والتجديف ليلا يوصمون بالتحريف والخذلان والخيانة.
فهل البديل أمام هذا الفشل الذريع، كما قد يتعجل بعض المتهافتين هو النموذج الليبرالي الأمريكي المسوق بقوة السيطرة والاستحواذ، نموذج الليبرالية المتوحشة المغلف بألوان الديموقراطية وحقوق الإنسان؟؟ والذي في جوهره يبقى شنيعا إلى درجة أن أحد أقطابه الملياردير (جورج سوروس) الذي يعتبر من جملة سادة عالم المال الخمسين يقول عنه: (إن النظام الرأسمالي نظام لا إنساني بالرغم من الشعارات والمقولات الليبرالية الموروثة عن عصر الأنوار والأخلاقيات، إنه غارق في الفردانية من جراء الإمعان في التنافس والتقصير في التعاون الإنساني)...(وإن اليسر والغنى المتباهى بهما، والوفرة المحققة على حساب الشعوب الفقيرة الجائعة، بات اليوم من أكبر الأخطار التي تتهدد الإنسانية دون رحمة...) انتهى كلام سورس. ولقد أكدت الأيام الأخيرة ومن خلال التراجع الأمريكي عن بروتوكول كيتو (97) الدولي حول البث الحراري، أنه حتى وإن تهدل غلاف الأوزون كله، واحترقت الأرض فإن اليمين الأمريكي لن يتراجع عن سيادة الأمركة؛ وتأكد أيضا أن أمريكا السلطة والقرار والقوة والتفوق كثيرا ما تستهين بالإنسان الآخر وتحتقره وتتجبر عليه، وتعمل على قهره وإهانته بتحد وصلف، يحدث هذا في الوطن العربي في فلسطين والعراق، إضافة إلى حمايتها وتشجيعها للأنظمة الاستبدادية، وضغطها على كل من يعادي إسرائيل بغض النظر عن كونه ديموقراطيا أو استبداديا وهذا ما يجعلها محط كراهية لدى الإنسان العربي، إن الكثيرين ممن تم استفتاؤهم وعلى أكثر من موقع أكدوا وبنسب تتجاوز 90 في المئة، أن النظام الأمريكي الآن ومع أحادية القطب، يعتبر من أشد الأنظمة خطرا، من أي نموذج توتاليتاري عرفته البشرية، لما يملكه من إمكانيات تحكمية؛ ويستفاد من السياق الذي تندرج ضمنه شهادة المليادير المذكور، أن اليمين الرأسمالي الأمريكي يتشبت بالأفكار الداروينية الاجتماعية (البقاء للأقوى) كتطرف إيديولوجي في تبرير السيطرة المالية والاقتصادية، وطبيعي أن هذا يشكل خطرا، ينبغي على شعوب العالم التي فرض عليها التخلف، والشعوب المحبة للحرية والسلام والعدل، أن لا تستهين بنزوعات الرأسمالية الأمريكية المتطرفة، إضافة إلى كون عتاة التطرف اليميني يؤمنون بالكثير من الخرافات الصهيونية ويتشيعون لها...
ويلاحظ أن إيديولوجيي الرأسمالية يفخرون بعدم استقرار الأسواق المالية ـ وهو فعل متحكم فيه على كل حال ـ معتبرين ذلك دلالة عن الحركة والتطور والنمو، كما مما يؤكد نزوعهم إلى تغليب قانون الغاب، الذي يعني سيادة فوضى السيطرة والاستحواذ والقوة الغاشمة، في الاقتصاد والسياسة... دون إيلاء كبير اهتمام لما قد ينجم عنها من أوضاع اجتماعية مأساوية. بل ويرفضون إعادة التوزيع بدعوى أنها تعرقل فعالية آلية السوق. وهذا لا يتهدد العديد من الأسواق العالمثالثية بالانهيار والخراب فقط، ولكن يتهدد الشعوب التي تبغي امتلاك ثروتها ومقدراتها وبناء مقوماتها الذاتية، أو تلك التي تتشبت بالندية في العلاقات الدولية، حيث تتهددها مختلف المخاطر بما فيها حصارها وعزلها وتدميرها. بل وترك فقراء العالم يموتون تحت نير إيديولوجية البقاء للأصلح.
إن الليبرالية الأمريكية المتوحشة التي تطبع العالم أصبحت نقيض الليبرالية الأصل بعمقها الإنساني، لأنها تنكرت لمبدإ قيام الدولة على قوة الكل الاجتماعي، وأصبحت ترتكز إلى جبروت الأوليغارشية كقوة طبقية مهيمنة، ألغت الأساس الليبرالي المستند إلى مبدأ الإنسان والفرد الاجتماعي، ليحل محله الفرد الأناني المنفلت والمفرغ من القيم الليبرالية عينها، حيث تنقلب حريته الفردية إلى عبودية داخلية، أعراضها التيهان والأمراض النفسية، واختلال في التوازن؛ الذي قد يؤدي في يوم ما إلى انتخاب أعتا النازيين الجدد لقيادة العالم وقد يتهددون خصومهم وأعدائهم بالفناء؛ كل ذلك يعبر عن عزلة واستلاب وفردانية مغرقة في تكهفها دون امتداد اجتماعي إنساني ودون عمق قيمي أخلاقي.
في هذا الوضع الدولي المتحكم فيه، ونحن في بلد متخلف فقير مصادرة ثرواته، من طرف حفنة من الأوليغارشية المخزنية، وطن أثقلته العلاقات الاستبدادية ردحا من الزمن ليس باليسير وأثخنت إنسانه جراح القمع والاستعباد، بفعل كبح الحراك الاجتماعي، وتخريب روح المواطنة نتيجة ضرب روح المسؤولية الجماعية والفردية أما هذا النتاج المختل نجد أنفسنا وجه لوجه أمام تنافسية مختلة ووضع اقتصادي هش محاصرين بالنموذج الأمريكي في شقه الاستهلاكي، كنموذج جار على كل لسان يتجسد في كل شيء، ومضرب أمثال بليبراليته المتوحشة التي تتناقض وتتنافى مع إمكانياتنا وقدراتنا ومستوى تحملنا، في ظروف لازلنا في أمس الحاجة لإعداد مقدمات التأسيس لديموقراطية من الشعب وإلى الشعب ديموقراطية اجتماعية اقتصادية ثقافية تنموية...، وهي على كل حال ليست النسخة المشوهة للديموقراطية التي أنتجتها الدوائر الرأسمالية للشعوب المتخلفة والمحصورة في النماذج الانتخابات الشكلية كتلك التي عرفتها السعودية مؤخرا، والتي أسندوها بوسائل رهيبة من التأثير وآليات تكييف الرأي العام، والتي بها تستطيع الأوليغارشية المالية أن تضلل المواطنين وأن تفكك أداء المجتمع المدني وتميعه بإغراقه في تشعبات وتعقيدات لا متناهية من الإثارات والترقبات والمساخر والرُّهاب والتخويف... وصل حدودا تجاوزت العبث الكفكاوي الشهير، إلى عبث قد لا يقل ضجرا أو سخفا عما يمارس في الشرق الأوسط من سياسات امريكية عجائبية وغرائبية مؤثتة المشاهد بأحدث ما أنتجته الثورة التكنولوجية من أسلحة الدمار، وما يستطيعه الدولار من استقطاب وتأثير، وما تستطيعه وسائل صناعة الرأي العام من تكييف وقولبة. فهل هذا النموذج الذي يخترق العالم وعلى أكثر من صعيد يستطيع أن يكون المثل الأعلى الذي ينبغي الإقتداء به حضاريا، وهل يمكننا ذلك إن أردناه وابتغيناه؟ ونحن الفقراء الذين لا حول لنا ولا طول؟ وهل نستطيع أن ندخل ردهات أسواق المنافسة الحرة التي يمر منها ببضائعه وعدته وعتاده، وقوانينه؟ عندما ترفع الحواجز الجمركية ويعم العالم قانون السوق، بكل أوصافه المرعبة وحقائقه القديمة الجديدة.
إن الرأسمالية ليست تنافسا اقتصاديا، ولكنها جوهرا وشكلا استغلال طبقي، لكن لما انضاف إليها التوحش وقانون الغاب فقد أصبحت عدوانا مبررا بالغلبة للأقوى، ومن ثمة تصير اجثتاثا للآخر؛ ونفيا له وتغريبا للروح الجماعية وإشاعة للفردانية. هذا النموذج علينا أن نرفضه ونتعاطى معه بذكاء ونحاول أن نكشف للرأي العام الديموقراطي العالمي بشاعته، ومدى محاصرته لنا وحضوره بالقوة والفعل في كل مجالات حياتنا، يعرقل نموها واستقرارها ويهددها بالتلف والتحلل... لكن علينا أن نسجل شئنا أم أبينا أن النموذج الأمريكي حقيقة صارخة تلج القرن الواحد والعشرين من بوابة المنتصر في الحرب الباردة، وباعتباره المستفيد الأكبر من النظام العالمي الذي ساعد على نشوئه بعيد الحرب العالمية الثانية؛ وكيفما كانت قوته التي تعزّ منافستها في مجالات الهيمنة، والازدهار، والسيطرة، فلابد لنا من أن نقبل شئنا أيضا أم أبينا، كون الأمركة هي التي تقود العالم الآن، خصوصا أن سيدة التقنيات الحديثة والمتحكمة في المساعدات والقروض، الأمر الذي تجعل جل بلدان العالم متواكلة وبشكل مستسلم أكثر بكثير من أي وقت مضى، خلال هذه حقبة التي تعرف تغيرات متلاحقة ورهيبة. إن التغيرات السريعة الوتيرة في مجال التقنية وتبني الدول النامية والبلدان الشيوعية سابقاً لسياسة السوق، وتوجه الصين نحو نفس السياسة بانخراطها في الاتفاقية الدولية للتجارة. واستكمال بلدان أوروبا الوسطى وبحر البلطيق انتقالها من الشيوعية إلى الرأسمالية، برغبة من شعوبها وأحزابها الشيوعية الحاكمة، ومنها من تعمل جاهدة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو هي انضمت إليه أو تتسابق لإقامة علاقات اقتصادية وثيقة معه؛ ومنها من انضمت إلى حلف الناتو كل ذلك يجعل ميزان القوة متبدلاً كلية لصالح النموذج الأمريكي...
قراءة نقدية للتجارب الاشتراكية المنهارة:
ولما كانت التجربة الاشتراكية مثالا وحلما بالنسبة للعديد من الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي لطالما بشرت بها أحزابها وقدمت في رحابها التضحيات الجسام، التي لم تندمل جراحها بعد؛ وأمام ما حدث لابد من تصحيح ما يمكن تصحيحه، ومراجعة ما تجب مراجعته؛ وإلا فإن الأمر سيصبح هياما أقرب إلى الجنون منه إلى العقل والعلم.
لقد كان النموذج الاشتراكي الذي أقامته ثورة أكتوبر1917 أو ذاك الذي كنا نهدف إليه وننشده، والذي تبدو بعيدة مسالكه وشروطه الآن؛ ونفس الأمر يواجهه الطريق الثالث اللارأسمالي، الذي لم يعد سالكا بدوره، بعد أن فشل في أن ينجز ما وعد به، فهل مرد ذلك إلى أن العملية الاشتراكية برمتها جدلية ونامية وانبنائية، لا تقبل القفز في الفراغ ولا الانزياح عن خطاطة التاريخ، وأن شرطها لكي يتحقق ضمن سياق تطوري نام باستمرار، يقتضي جهدا مؤسسا على قاعدة أن تستنفذ كل مرحلة تاريخية شروطها وعوامل نموها بالكامل، أو لا تتحقق مهما حاولت التجريبية جاهدة؛ وكيفما كان الأمر لقد أثرنا في بداية هذا المبحث ضرورة المراجعة والوقوف على أخطاء تلك التجربة النموذج، التي لما تزال تطبع الحركة الاشتراكية بميسمها وتجعلها رهينة ما روجته وأثرت به من مقولات مبدئية وقوالب جاهزة؛ مما جعل العديد من الشعارات التحريضية التي اقتضتها مرحلة تاريخية معينة، تتحول بسبب الجمود العقائدي إلى مقولات مقدسة غير قابلة للمراجعة أو التناول النقدي كمقولة (ديكتاتورية البروليتاريا) التي اعتمدت لتصوغ القمع والاستبداد الستاليني أساسا، الذي طال كل الأعداء المزعومين بما فيهم العديد من المناضلين الاشتراكيين العلميين حقيقة وبدون مواربة، وهكذا أصبحت الهجمات الإيديولوجية اللاعلمية المتدثرة بالشعار الاشتراكي والعلموي على العديد من المفاهيم والمقولات العلمية على أنها من حذلقات البورجوازية الصغيرة أو ممارسة تحريفية أو ما شابه ذلك، دون إعمال للنقد والتقييم والتدقيق. مما دعا إلى نضوب وجفاف في الفكر. ولقد عرف الأدب مصادرة قل مثيلها، حولته إنتاجا تحت الطلب، حيث تلغى الأحاسيس والمشاعر وتنطفئ جذوة الإبداع ويغور معينه باعتباره إنتاج أصيل ومتفرد. وهكذا ألغيت حرية التعبير وحرية الصحافة ووضعت تحت طائلة الرقيب الحزبي، وكان ذلك فعلا إلغاء للاشتراكية نفسها من حيث أنها لخير الناس ولمساواتهم وللعدل فيهم، وتحول العلم الاجتماعي من فضاء للبحث وللتنقيب والتصحيح والمراجعة إلى نوع من النصوص الدينية التي لا تقبل الجدل ولا المراجعة ولا النقد وصار لزاما على العالم لكي يكون عند حسن ظن الحزب به أن يكون بحثه متخما بالاستشهادات من المتن الماركسي اللينيني المفترى عليه بمناسبة أو بدونها...
وألغيت التعددية بقوة الحديد والنار، ولم يكن ممكنا على مستوى الواقع إلغاء شروطها ومقوماتها العميقة في وجدان أصحابها، وهكذا تدثرت بالزي الذي يرتضيه الحزب الحاكم، لتعيد صياغة نفسها وكينونتها ولو لعشرات السنين؛ لأن التحول لم يكن وفق الشروط التاريخية المكتملة، ولم يأت استجابة لحاجة موضوعية ناجمة عن تطور فكري وثقافي شامل وعام، ولم يأت وفق سياق موضوعي تكاملت عناصره كما هي الثورة البورجوازية ضد الاقطاع؛ وترتبت عنه مكونات ثقافية وفكرية ومصلحية عميقة في وجدان جماعات وشرائح طبقية لها مقوماتها الخاصة ومشاعرها ومصالحها أساسا.
ولقد استغلت قضية الأمن استغلالا بلغ حدود الهلوسة حيث يتضخم الجهاز البوليسي الذي يعد الأنفاس ويحصي الخلجات، ويسيج الوطن الذي وصدت أبوابه في وجه أي خروج أو دخول إلا بإذن محدد ومضبوط، وصار الحلم أن يجد الفرد مهربا من هذا السجن الكبير، صحيح أن ما كان يتهدد المجتمع الاشتراكي كان كثيرا بكل المقاييس بفعل العدوان الإمبريالي المتربص وحلفائه الرجعيين، لكن أن يكون ذلك سببا تلغى تحت ذريعته الحريات الديموقراطية ويصبح الإنسان معه محط شك وريبة، ويقمع النضال الاجتماعي كمحرك مجتمعي ضروري، خصوصا مع ظهور عدة أمراض اجتماعية لم تكن مسبوقة... وتحضر التعددية السياسية، وتحتكر وسائل الإعلام، ويمنع النقد، وينفخ في أبواق الدعاية بالتفوق في كل شيء. أليس هذا مدعاة لكل ما من شأنه أن يتخلى الإنسان عن الفردوس لصالح جحيم؟ يشعر فيه بأن له الحق في الصراع؟ وله الحق في الرفض؟ وله الحق في أن يسافر أنى شاء ما استطاع لذلك سبيلا؟؟. أليس هذا الذي حدتني عنه مناضلون سوفيات بألم وحسرة، يناقض رأي ماركس الذي كان يعتبر أن الحريات البورجوازية غير كافية أو صورية، ولم يكن قد أعلن في أي سطر من كتاباته ضرورة إلغاء الحريات أو التنقيص منها أو أن هناك تعارض بين الاشتراكية والديموقراطية، أو دعا إلى قيام أي دكتاتورية من الدكتاتوريات؛ وحتى ما كتبه لنين عن ديكتاتورية البروليتاريا كان تحريضيا ضد إرهاب الحرس البيض ومن أجل الاحتفاظ بالسلطة وتحفيزا للمنتجين كي يدافعوا بصلابة وقوة عن وطن البروليتاريا، وطن الكادحين...ولقد تحول هذا الشعار التعبوي التحريضي الذي اقتضاه الصراع التناحري إلى ثابت من الثوابت، وآلية للضبط الاستبدادي لمواطني المجتمع الاشتراكي أنفسهم، وأمام هذا الإرث الذي تعمم بين مناضلي الأحزاب الاشتراكية وقوى اليسار الماركسي اللينيني، التي عاشت ظروفا لم تسمح لهذه الأحزاب أن تتجذر في أوساط الجماهير بسبب الغلو والتشدد والتوجس والحيطة الزائدة عن اللزوم، حتى بين المناضلين أنفسهم، مما جعل العدوانية بينهم قائمة باستمرار بفعل الحالة النفسية الرهابية، وبسبب التعالي والشعور بامتلاك الحقيقة والمهاجمة المباشرة لقيم الناس ومشاعرهم، إضافة إلى أجواء القمع العامة وما تتسبب فيه من رهاب اجتماعي عام أمام هذا كله وتضحياته وثمنه الغالي الذي لا يقدر بعملة؛ كانت صدمة الانهيار الفضيع مجلجلة، وذات وقع مذهل سبق وبينا بعض مظاهره. لذلك لا غرابة أن تستمر بعد عقد من الزمن ونيف نفس الإشكاليات والتساؤلات والتخوفات تطرح، حول النصوص الغالية الثمن التي اكتست من القدسية درجة جعلتها تجيز هذا الممارسة السياسية اليومية أو تحرم تلك، وتجعل هذه ثابتة إلى حدود التحريم؛ ويستمر ذلك كمسلمة دون بحث علمي رصين يدقق في العوامل والشروط، ولا يصادر على المطلوب، لمجرد استناده على انطباع أو قياس، كانت له ظروفه وشروطه. إن هذه المقاربة بين المتن الإيديولوجي (النظري) الأطروحات المبدئية والاختيارات الإستراتيجية والعمل السياسي كممارسة يومية ميدانية تخضع للظرفية وللتكتيكات والتعاطي مع الشروط والملابسات، إن هذا وحده لم يعد مطروحا للدراسة، إن هنالك متغيرات وشروط ومستجدات، أصبحنا معنيين أن نجيب عن إشكالياتها وقضاياها، من خلال مطارحة الموضوع في أبعاده المفاهيمية المغايرة، بغية التأكيد وبكل صراحة علمية رصينة لا تقبل المواربة ولا الالتفاف عن المفاهيم والحقائق لإن الجدل المادي ينبني على التناقض كمقولة أساسية وأنه لا يمكن أن يحدث إلا ضمن اكتمال شروطه ومقوماته فنفي النفي هو إثبات لنقيض على حساب نقيض اكتملت دورته أو تم تجاوزه أو انتهت صلاحيته، ولا يمكن أن يحدث النفي إلا ضمن سياق من التحولات المؤسسة على تركيب جدلي تام، ولذلك فإن الفعل الانزياحي عن شروط النمو والاكتمال يكون حاملا لبذرة فنائه الناجمة عن الاختلال في النمو، فكل الانتقالات الفجائية والتحولات العنيفة قد لا تكون آمنة العواقب، بل أكاد أجزم مهما طالت أنها ليست آمنة النتائج والتوقعات مهما كانت سليمة كشعارات وأطروحات، لذلك فإنني ومن الموقع العلمي الاشتراكي إياه، أدعو إلى قيام فلسفة للتأسيس مسايرة لمنطق التاريخ دونما انتظارية على قاعدة الثورة الاجتماعية بمضمونها النضالي الديموقراطي المتلائم مع عمليات تثقيف وتنضيج الجماهير فكريا، على أساس العلم والمعرفة والمهارة التطبيقية؛ وعلى أساس التنظيم الاجتماعي المتعدد المهام والاختصاصات، لأجل بناء مجتمع مدني كقاعدة لدولة الحق والقانون، تجاوزا لتلك الأبعاد والملابسات النظرية المستخرجة من تجاربها تعسفا والتي سجنت في شعاراتها وأطروحاتها قوى اليسار، والتي لم يكن ممكنا أن تعرف طريقها للتطبيق على المستوى الميداني، وما نتج عن ذلك من ضياع للجهد ومن استنزاف للطاقات ومن أخطاء قاتلة لازلت نتائجها المدمرة تفعل فعلها في واقعنا تمزيقا وتراجعا للوراء وتدميرا للكفاءات واستنزافا للمقدرات، وما زالت تحدث اللبس والخلط في بنية عقل من المفروض أن يكون عقلانيا وعلميا صارما في تمييزه بين المبدئي والمبدئي في تطوره المتصاعد والذي ينبغي توضيحه وإجلاء عناصره وفق لائحة أسبقيات، وربطه ببرنامج للممارسة السياسية اليومية؛ من أدق العمليات والإجراءات والقواعد إلى النصوص والتشريعات وصولا إلى الانتخابات والمشاركة فيها والتأثير في مجرياتها واتخاذ الموقف المناسب منها متى بدت الحاجة على ذلك بناء على حسابات تختلف باختلاف العوامل والشروط السياسية؛ وليس فقط المقاطعة من أجل المقاطعة كصفة ترتبط بهذا الحزب ارتباطه باسمه، ليتجلى من ذلك كله البرنامج السياسي المرحلي في دقائقه وحدوده وهوامشه. لإن الموقف السياسي مثلا من انتخابات معينة لا يمكنه ان يحول دون إغناء للأطروحات السياسية والقانونية والتقنية في المجال الانتخابي بصفة عامة، والذي من المفروض أن تتوفر فيه رؤية متقدمة متكاملة، لأن النضال الديموقراطي رؤية واستراتيجية، بأطرها وأهدافها وآلياتها وصيغ عملها ومعداتها، وبعلاقتها بشرطها الذاتي، وباقي الشروط الموضوعية التي بينا بعض خصائصها فيما سبق؛ والمتميزة بالتحولات التي تتطلب من حركة النضال الديموقراطي مراجعة تكتيكاتها وخطط عملها على ضوء الشروط والمستجدات، ولا تخضع للأحكام المسبقة التي يقوض فيها التكتيكي الغايات الاستراتيجية المرسومة للنضال الديموقراطي، أو تقديم الاستراتيجي على التكتيكي حيث يصبح معطى يحد ويجمد الممارسة ويسجنها فيما لا يمكن تحقيقه على مستوى قطر من الأقطار مهما بلغت إمكانياته، كاستحالة تحقيق الاشتراكية في قطر واحد في المرحلة الراهنة. إذن يتضح من خلال استعراض ما سبق من معطيات أن الحركة الاشتراكية مطالبة أن تحدد مهامها المرحلية خلال هذه المرحلة هل هي بصدد الثورة الاشتراكية أم هي بصدد الثورة الاجتماعية كتغيير نحو الرقى على قاعدة النضال الديموقراطي، منظورا لذلك كله من خلال من المستويات المطلبية أدركتها الحركة الجماهيرية الكادحة بمختلف مكوناتها كحاجة من حاجياتها الملحة، ومستويات التنازل التي تقدمها الطبقة المسيطرة...حتى يكون الخط المرحلي تعبيرا صادقا عن الحاجيات الممكنة التحقيق كبرامج سياسية راهنة وحيوية، وعن الأفكار والشعارات والتطلعات والآمال كمبادئ واختيارات وآفاق يمكن إدراكها وجعل الحركة اليسارية الديموقراطية... توسع حضورها الجماهير في مختلف المجالات وتحد من استغلال واستأثار البرجوازية بالسلطة والقرار...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا