الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/6

أحمد عبد العظيم طه

2013 / 11 / 6
الادب والفن


(26)

حتى مقدم الليل ظلتْ قيد سرير راجي ناروز بالمشفى, تتأمل وجهه وتبكي في نوبات متقطعة. كان قد أصيب بانهيار عصبي حاد, وهو ما جعله رخوًا, أزرق الجلد في غير مواضع الجروح, وينظر إلى كل شيء نظرة ازدراء صامتة. أحياناً كان جولان عينيه يشملها بالنظرة المزدرية وهي المتأسية عليه فتعاود البكاء. ولقد ينتابها شعور (مزعج إلى أقصى درجة) بالندم والذنب: جراء ماذا؟. متى كان ذلك؟. ما الذي ارتكبته؟. لم تكن تعلم ولو شذرة عن سبب لما يكتنفها, لكنها رغم ذلك كانت تهيم بذاتها الممزقة في أنحاء اليقين. (يتكرر هذا المشهد عندما يستيقظ راجي ناروز كل عدة دقائق, ويدير حدقتاه بأنحاء التخييمة الطبية الخاصة بالذين تعرضوا لصدمات عصبية غير مستوجبة العزل – جراء الكارثة).
كان الطبيب المسؤول قد سمح لها بسرير مرافق لاعتبارها الأولى برعايته نفسيًا كقريبة له. وكانت لا تنفك تتذكر وجه السيدة شاهندة في خلال قسماته النائمة كلما نام. سوى أنها لم تستطع تذكر وجه زوجته.. موقف لها.. ولا حتى ماذا كان اسمها!.. كل ما جال بضمير السيدة قدرية لحظتئذ هو رائحة فشل سابق في تذكر ذات الاسم.. الشيء الذي جعلها ترتبك.. تدرك بحسرة كونها قد وصلت إلى درك أسفل من النسيان. بالنسبة إليها كان واضحًا أن سقوط أشخاص كاملين عن وعيها إلى ركن حالك الظلام يشير باقتراب النهاية.. الموت.. الغرق النهائي بظلمة الأبد.

- حضرتك والدته؟.
- ... جايز والدته.. في مقام والدته.
- لا تخافي.. حيعدي منها بإذن الإله الواحد.
- أشكر دعمك.. ربنا يعديه ويعديك من كل شر.
- الصبح دكتور مهاد قال لي: إن الأرض بره ثبتت. لكن لم أصدقه.. هي صحيح ثبتت؟.
- صحيح.
- أنا أصدقك... أنا إسمي ناجي.. أنا من حي القصدير.
- (صمت).
- ممكن أعرف بإسم حضرتك.. أنا اسمي ناجي.
- (صمت).

صار المريض ناجي يتكلم والسيدة قدرية تستمع أو لا تستمع. صامتة. ذاهنة فيما لم تستطع حصره بفكرة واحدة فيتشتت بها الشجن: قريبها المريض.. النسيان.. الكارثة.. ما كان؟. من كانت بما كان؟. وما الذي ستكون عليه في الغد؟.


(27)

في ليل ذات اليوم, كان الاجتماع الثاني لهيئة الناجزين قد انعقد, وفي ظل نظرات كارهة ملحوظة من الآنسة صافي صارت الموظفة تقى من أوائل المتكلمين: تحدثت عن خلاء تام لمبنى موظفي "تعريفية الحقوق البشرية" مع العلم بأن المبنى لم يتأذ نهائيًا, وعن كون هؤلاء الناس هم أجدر الناس بالبقاء في ظروف كهذه!. وقالت متأسية: بأنها رغم وظيفتها الهامة (السابقة) لم تكن لتتأكد سوى الآن من أنهم كانوا موظفين مركزيين بصورة كاملة.
التقط الأستاذ عبد المعز منها خيط الكلام (والذي كان يصحبها ضمن فريق استقصائي مناسب قد تشكل بالاجتماع الأول) فأعرب: عن أسفه العميق إزاء ما استنتجه من أحاديث العدد القليل من خفراء الأماكن العامة, والذين لا يزالون يداومون على أعمالهم تحت إشراف رجال "ملزم الشرطة الرئيسي". قال: أنهم جميعًا يشعرون بالخطر وإمكانية الموت في أية لحظة, فإن لم يقع هذا بتابع زلزالي محتمل, فسيكون بطلقة من سلاح أحد الجماعات المسلحة إذا طال الأمد الشرعي لتواجدها على الأرض-;- فانتوت سرقة الأماكن العامة. لقد أسرَّه أحد خفراء مركز الطاقة الكائن في حي "القانونلي": بأن معظم موظفي الدولة الماكثين بالصحارة (وهو كذلك) لم يَستهدفوا من مكوثهم سوى جني بعض البدلات الإضافية الجيدة, والإفادة من حركة الترقيات الاستثنائية المخصصة لمتطوعي الطوارئ الكارثية.

- لو تذكرون.. قلت في اجتماع الصبح إن الطرق السلمية ليست مجدية في استرجاع المرأة. لابد من العنف حتى نكون جديرين باستردادها من وجهة نظرهم. لأجل هذا أنا قضيت النهار في تجميع هذه البقجة.
- هذا كلام غير قانوني.. أنا معترض.. أعترض كرئيس حي منتخب يحفظ القانون.
- تفضل مشكورًا غادرنا بالحسنى.. وإلا فبغيرها.
- .............
- ...................
- ..........

غادر المهندس سيد المهيلي الاجتماع ثائرًا, مضطربًا, بعد تعرضه لعددٍ من الإهانات وعبارات التشكك في انتماءه المركزي وكونه مدسوسًا رغم كونه منتخبًا. وكان الراهب رشدي يتصرف كقائدٍ عام للحضور-;- لكن لم يبد عليه أنه ينحو قصدًا باتجاه ذلك. لقد رفع شيكارة كبيرة من قماش الخيش فوق أحد المناضد, وراح يستعرض أشياءً أثناء مواصلته للكلام, فكان رمحًا من الفيبر, وهراوة حديدية, وقاطوعًا ضوئيًا متعددًا, وما يضاهي عشرون آلة حادة تتفاوت حجومها وتلتمع منها النصال مشيرة إلى حداثة سَنها, والكثير من الكشافات العادية والقليل من الذاتية, وأخيرًا كانت أشياء من قبيل عبوة طلاء فوري أسود, وبطارية دائمة, وعدة مربعات معدنية من الخام الأسود(1)...

الراهب رشدي صدر خطابه بالكثير من الحماس, وتحفيز الموجودين على الإقدام, وعدم الخوف من المواجهة: ذلك أنها السبيل الوحيد لردع الظلم ورد المظلمة. أيضًا تحدث عن مجموع هيئة الناجزين والذي آل إلى عدد لا بأس به من وجهة نظره. وشدد على أن الأمر بحت الاختيار وليس سيفاً للحياء على رقبة أحد. فمن وجد بنفسه الاقتناع, والصلابة, فسوف يكون مكلفاً بمهام المواجهة. أما لمن لا سَيُتوفر عنده الشرطين, مجتمعين, فإنه ليس مضطرًا لتبرير أي شيء, إذ سيكون منوطاً به تأدية مهام أخرى لا تقل أهمية عما سيفعل المكلفون. وليعمل الجميع على استرداد المرأة المسروقة حبًا في الحق, والعدل, والإنسانية. نهاية لم ينس الراهب رشدي أن يتقدم بالشكر إلى كل من جاء بشيء مما يربض أمامهم, وخص شكرًا إضافيًا للمقدس ويصا أنه قد تبرع بهذا القاطوع الضوئي المتعدد مرتفع الثمن, ثم طلب من الجميع أن يقوموا بتحية زهادة كونه الشخص الذي يخدم المجتمعون على خير وجه.

- عندي الذي هو أنجع من كل ما جمعت.
- هات ما عندك لعندنا يا سيد هانئ.
- وحدتي السكنية سليمة.. وفي شقتي خزانة سلاح فيها ثلاث قطع وصاعق إشعاعي.. لكن توجد مشكلة.
- ما هي؟؟؟؟؟...
- مفاتيحي ضاعت يوم الزلزال.
- حافظ الأكواد؟.
- نعم.
- .......
- .........

بشكل مفاجئ تقدم شخص من باب المقهى في صحبة القليل من أفراد أمن المخيم بزيهم الموحد وصواعقهم (البسيطة) غير الإشعاعية. قال: أنه مندوب عن مسئولي إدارة المخيم, والذين قد نما إلى علمهم ما تنتوي هيئة الناجزين القيام به من ارتكاب أفعال مسلحة غير قانونية. لهذا فقد تحتم إبلاغ الأفراد المعنيين بأن مثل هذه الأفعال ليست من الحقوق الاستثنائية المشمولة بالتعاقد بين المنتقلين والدولة. وأن مخالفة ما تعوقد عليه سوف تتسبب للمخالفين في العديد من القضايا العويصة والمشكلات.
- ارجع قل للهراطقة الذين أرسلوك إنه في حال تفوهوا مرة أخرى بمثل هذه الكلمات القذرة فسوف نتعامل معهم كما تتعامل الجماعات المسلحة مع المخالفين لها. اطلعوا بره.. بره...
- ....بره.....بره...
- ......حيوانات...
- مدلسين...........
- ..........مأدلجين....
- ............خونة....

بدا على وجه الآنسة صافي إعجابًا جمًا بخطابة وقوة حضور من تولى الرد, وفي وسط الصخب (المؤيد) الذي زامن خروج مندوب إدارة المخيم مرتبكاً ويتخبط الخطو بمن يحيطونه, راحت تتأمل في الراهب رشدي.. شفتاه في تكلمهما للناس بعد أن حجبت الصوت.. صلابة عوده ونحافته المعتدلة.. تصورته بلا ذقن نابتة ودون ملابس الرهبان.. وقد طاوعت قولها في نفسها: ليتني كنت المرأة الغائبة كي يبحث عني هذا الوسيم الجسور!.
فلما عاد الاجتماع إلى طوره المنضبط بغية الخروج بنتائج قابلة للتطبيق, واحتدم الحماس بين الجمع فيما استبين من شائع الآراء, وتأكد ذلك الاستعداد الجماعي الفوار لفعل أي شيء, وقال الراهب رشدي: أن خطته تعتمد على وجود امرأة متطوعة,..
عندئذٍ لم تتردد الآنسة صافي في أن تقول: "أنا". بصوت مرتفع.. متأثر.. حالم. كانت تريده أن ينظر إليها عبر أية ذريعة, ولو كان هذا باستبدال الواقع الخطر بالخيال الخصيب, إذا هي تتطوع بإطلاق فيما تجهل طبيعته. وبدا أن هناك من يتابع مثل هذه الأمور بدقة مغرضة, فلقد مال الأستاذ جلال صبحي مدرس الرياضيات الكمية على أذن كريمته وهمس: بشيء سعيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من الثابت تاريخيًا أن العادة المتجذرة إلى وقتنا هذا من استخدام مربعات الخام الأسود في التأثير على مركز الشعور, لاسيما البشري منه, كانت حينئذٍ من العادات المستحدثة, ولربما أن نشأتها تعود إلى مجتمع المحافظة الجديدة كما في تخمين المقدس ويصا.




(28)

في الصباح التالي هبط أمين شؤون المحافظة من مروحية قد حطت على شاطئ البحيرة الاصطناعية (في قلب المخيم), تلاه نجليه "التوأمان" وبضع أشخاص بدوا تحت إمرته. وقد خرج الناس تباعًا من تخييماتهم عندما تحدث بمكبر الصوت: عن خالص مواساة "المجمعام" لكل المنكوبين في مصائبهم المتعددة. وأن هناك خطة إعادة تصحيح يجري العمل على توفير متطلباتها بكل جدٍ للمدن المنكوبة بالمحافظة الجديدة.
ثم كان بعد عدة عبارات مجانية البلاغة عن التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع الواحد, أن قال أمين شؤون المحافظة: كل الذي نطلبه من الناس هو الصبر والهدوء وعدم اليأس أو التهور بالتفكير في مغادرة الصحارة بشكل غير رسمي.. خاصة إن الجماعات المسلحة تعمل بالتعاون مع الإدارات المركزية بالمحافظة في حماية القانون زي ما حضراتكم عارفين... أيضًا فإن الجميع مكلفين بمراجعة بنود التعاقد الرسمي بنوعيه "الموحد والاستثنائي" وأنا أحضرت معي ألف نسخة ستقوم الإدارة بتوزيعها بعدما أنتهي من كلمتي.. وهذا لأجل أن يكون كل فرد هنا عارفاً لحقوقه وواجباته فلا يفرط بها ولا يحاول تخطيها.. فإذا قلنا إن.....

كانت الساعة قد وازت الثانية عشرة ظهرًا, عندما ظل أمين شؤون المحافظة يراوح بعينيه بين العديد من الناس الذين تهافتوا على تخييمة إدارة المخيم لنيل نسخة ضوئية من التعاقد, وبين نجليه "التوأمان" تحت أعين رجاله يلهوان بكومة رمال على شاطئ البحيرة الاصطناعية, فكانا اللذان يأخذان حفنات وينثرانها بالماء ضاحكين بصخب لا يتناسب أبدًا والأجواء الكارثية المحيطة, الحدث الذي حداه إلى الابتسام ثم إلى الضحك بصوت متدرج الارتفاع, كذلك أصاب الضحك حرسه الشخصي لكأنهم يفهمون ما السبب. انكب أحدهم على أذنه (والذي اتضح أنه الحاج ماهر أبو وافي) فتحرك أمين شؤون المحافظة من فوره وحيدًا يتجول بين التخييمات, ويتفحص أرقامها متعقبًا رقمًا بعينه حتى وصل.

- حمدًا لله على سلامتِك.
- متشكرة جدًا!. معقول رجعت؟!.
- مهمة رسمية محددة ومغادر اليوم.
- عساها تنجح.
- أنا قابلت الأستاذ أنس بهاء وساعدته في إجراءات الاسترداد "المكاني والوظيفي".
- هذا هو المنتظر من حضرتك.. متشكرة مرة ثانية.
- ... حكى لي عن تمسكك بالصحارة! ونزولك الغريب من الحافلة!.
- وبعد؟!.
- نصحته بتطليقك.
- (صمت)؟.
- وطلقك من ثلاث شهور.
- ... خبر سعيد.. متشكرة مرة أخيرة.
- تعرفي.. أنا جئت مخصوص من أجلك.. كان ممكن لأي موظف آخر أن يقوم بالمهمة لكني أصررت أشوفك وأكلمك.
- ماذا تريد يا حضرة أمين شؤون المحافظة؟.. أفصح من فضلك لأني مشغولة وليس لدي وقت.
- لا أريد سواك أيتها الموظفة تقى. ارجعي معي ونعيش قيد بعضنا البعض كمركزيَين ولسوف أجعلك لا تندمين أبدًا.
- لا أريد سماع زيادة عن هذا. تقدر تتفضل تغادر.
- ... أذكر أنك كلمتيني من قبل وأنتِ تطالبين بالإجازة الاستثنائية أنه يوجد ناس لازم تشوفيهم ويشوفوكِ!.
- أصبحت لا أرغب أشوف حد. ولعلك لا تكون تهددني بإيذائهم لأني لن أستجيب في كل الأحوال.
- فكري بعقل.. أنا أمامي هنا لآخر اليوم إذا تغير رأيك.
- مع السلامة.
- بالمناسبة قبل ما انسى.. ابعدي نفسك عما يسمى بـ "هيئة الناجزين" لأن العاقبة لن تسر عدو ولا حبيب.. وفكري بكلامي.

قبل أن يبتعد بمسافة كافية بصقت الموظفة تقى في الهواء بصوت مسموع, وأغلقت باب التخييمة شارعة في بكاء فرح تدخن سيجارة. تدخن بعمق: "ما أجمل الحرية.. المرأ مفردًا وليس مزدوجًا لأحد غير إرادته". هكذا فكرت بنفسها, وقد ظلت للحظات تجتلب ما تيسر من ذكريات صباها علها تساعدها في تثبيت نشوتها (الطليقة) لأطول وقت قد يُتاح. كانت صبية حلوة. نبيهة. مبهجة. وكانوا هكذا يقولون لها: في كل وادٍ. وهي الآن قد نضجت!. كبرت!. تزوجت!. حلمت!. حملت!. أنجبت!. ماتت!. تجمدت!. فسدت!. تطلقت!. تبًا!!. ما الذي تريده منها الحياة بعد ذلك؟.




(29)

كانت شقة السيد هانئ تقع بحي "تمزغ" الكائن إلى الجنوب الغربي من حي "العطاردة", حيث يمر الطريق إلى هناك بـ"كنيسة الرعاة", والتي ما أن رآها المقدس ويصا حتى توقف عن سيره فتوقفتْ المسيرة بدورها. طلب منهم أن يأذنوا له بدخول الكنيسة, قال: أنها فقط ستكون ربع ساعة على أقصى تقدير ولن يؤخرهم.

بعد أن توزعت الأدوار اصطحبوه تحسبًا لطارئ يمكن وقوعه, فالبدائل التي عددها في حال عدم نجاح المفاتيح البديلة في الولوج بالطريقة العادية (وهو ما جرى لاحقاً مع المفتاح الخاص بخزانة السلاح) كانت من الكثرة إلى حيث لم يكن بدًا من وجوده لإجراءها. وقد كان في بطئ خطواته لعلة كبر السن دخلاً مباشرًا في تعبئة الراهب رشدي ضد طلبه (بل وتأنيبه له عندما بدا مصرًا) متهمًا إياه باللا مبالاة وعدم تقدير الأمور بالشكل الملائم. وقد أتبع السيد هانئ نهج سابقه بالقول: أن الجماعات المسلحة تنشط بـ "تمزغ" تمشطه مع مجيء الليل-;- ولهذا سيكون من الأفضل جدًا برأيه إتمام المهمة نهارًا إذا كانوا يريدون العودة إلى المخيم غانمين.
حنِق المقدس ويصا وغمغم بشيء فج, كما أنه لم يتحرك سائرًا كما كان يُفترض به. الفعل الذي حمل الأستاذ عبد المعز على التدخل للتخفيف من حدة الموقف: أرجوكم التريث قليلاً يا حضرات.. خمس دقائق على الساعة لن تفرق كثيرًا.. وكلنا سندخل معه كي نستعجله.. أيضًا لأننا لسنا على يقين مما بالداخل.
- ثم إن الصلاه هذه هي التي تفتح المقفول وترد الغائب.. المفروض إنك راهب يعني وعارف هذا الكلام!.
- .........

أسر الراهب رشدي غيظه بصدره, فكان دوره الأخير في عبور الباب الصغير للبوابة الكبيرة (ولم يسأله الواقف عن شيء). وقد جرى ما دار بخلده وحاول تلافيه, إذا بمجرد أن رآه واحدًا من الرهبان الآوين إلى الكنيسة حتى صاح به وجذب انتباه الباقين منهم عن الشرود بالحديقة. التفوا حوله يسألونه عن أحواله!. وإلى من قد أوى؟. وأين جبرين دامع العين؟. وكم سوف...؟. وماذا إذا...؟!. وهو أجابهم بكلمات مختصرة متجنبًا قدر الإمكان إبداء سخطه من شدة سماحتهم هذه (والتي تتوازى مع اليأس إلى حد جاحد من وجهة نظره). وكان الأستاذ عبد المعز يرقب المشهد من موقف غير بعيد, وقد تجبر على وجهه الابتسام والإحساس بفهم ما يجري أمامه. في ذات الوقت كان السيد هانئ يتفحص الواجهة (الحادة الزوايا) لبناء الكنيسة الرئيسي بالشيء الظاهر من عدم الاقتناع, حتى أنه قد دُفع ذاتيًا إلى قلب شفته السفلىَ والتمتمة بصوت مسموع: "هَه!. يالرعونة أول القرن".

فرغ المقدس ويصا من الصلاة, وطلع مستريح القسمات ومفعمة عيناه ببريق الامتلاء الروحي رغم ضآلة الوقت الذي أمضاه في تعبده. فما أن لمحه حتى استماح الراهب رشدي محيطيه عذرًا, وذهب ينضم إلى سربه غير عابئ بإجابة ما بقي من أحاديث. وقد بدا مطرد الخطو باتجاه الباب الصغير للبوابة الكبيرة, لكأنما يَسقط عن كتفيه حملاً فيخف وزنه كلما اقترب من الخروج.

عدا خزانة السلاح السرية, كانوا أن وجدوا الشقة مقتحمة بشكل همجي, وقد تمت سرقة كل ما كان ذا قيمة. أرثى المقدس ويصا ما ذهبت إليه الأمور بمثل تراثي, واعتراه اضطراب أثناء العمل على فتح الخزانة, فصار يحاول التملص من اضطرابه بافتعال السعال وبالحديث عن كونه قد بدأ يصدق ما كان يرهص به زهادة عن تواطؤ مركزي. لكن أحدًا من مرافقيه لم ينشغل بمسايرته في الحديث. فلقد بدا الاستغراق في التفكير على سحنة الأستاذ عبد المعز وهو يعمل عمله مناولاً للأدوات. وببالغ الأسى لبث السيد هانئ يغمغم إلى نفسه: ويلملم من الأرض أوراقاً, وصورًا, وأعمالاً فنية محطمة. وكان الراهب رشدي ينثني بصعوبة لالتقاط ما تبعثر حول علبة أوليات طبية, ثم كان الذي اتخذ جانبًا وراح يغير على جرح إحدى قدميه لئلا يزعج أحدًا بمشهد التقيح.

- يالربي.. القطع كلها لم تستخدم من قبل!.
- أنت كيف أدخلتهم الصحارة من غير تراخيص؟.
- لي طرقي.. أو أنه كانت لي طرقي.. أنا أساسًا تاجر سلاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق