الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة فى رواية فساد الامكنة

غادة هيكل

2013 / 12 / 6
الادب والفن




قراءة فى رواية

فساد الامكنة لصبرى موسى
****************

لأول مرة اطالع فيها رواية لصبرى موسى ومن خلال دراستى للتاريخ عرفت أن للامكنة سحر من نوع خاص يجذب إليه الكاتب فيغوص فى اعماقه يرى جماله ويتغنى بمناظره الخلابة ولكن صبرى موسى الذى امتزج بالمكان روحا وقلبا وقلما لم يكتفى بأن يبهره المكان بمناظره وأن ينقل ما فيه من سحر وجمال ولكنه آثر أن يتزاوج معه فيلد لنا نبت جديد أسماه فساد الأمكنة فكما يكون للمكان جمال قد يحمل فى طياته خبث لا يراه إلا من عايشه وامتزج بطبيعته وغاص فى أغواره سوف أراك أنت بطل الرواية يا صبرى موسى وليس نيكولا وأرى بعيونك تلك البقعة التى خلبت قلبك وروحك فتوحدت معها وجلبت لها شخوصك وان كانوا حقيقة عاشت وامتزجت بتلك الطبيعة منهم من أحبها ومنهم من كرهها ومنهم من استغلها ومن سخر منها واهان قدسيتها التى أحاطتها بها الطبيعة ،

المكان الرئيسى للقصة ، الطبيعة القاسية الصحراء الشرقية قرب حدود السودان وجبل الدرهيب هذا الجبل الذى لا يعلم عنه الكثيرون حتى الآن إلا من خلال روايتك مرورا بجبل السكرى الذى تناقلته الاخبار مؤخرا وعرفه القاصى والدانى بما يحمله من كتوز الذهب المصرى ودارت حوله الحكايات والمفاسد ، فكما حمل قصة نيكولا وايسا ودار الصراع معهم بين النوايا الطيبة وبين حيلة السرقة التى اتهموه فيها وبين مباركة جده كوكا لوانكا له فانه يحمل اليوم نفس المفاسد ونفس السرقات ولكن على قدر من الحيلة أوسع وتحت مظلة وعيون القانون ،أين ايسا الغيور على كنوز بلده وحق شعبه اليوم من هذا الفساد الممنهج والسرقة القانونية وكأن فساد الأمكنة يتوارث مع مرور الزمن ولكن باشكال مختلفة فهل تنبأ الكاتب بهذا المنوال من الفساد ربما !
عندما اختار الكاتب صفة الجمع هل كان يعنيها فى عنوانه المثير ؟ و هل المكان هو الذى يفسد وهل تعددت أماكن الفساد ولكنه لم يشيرللفساد بشكل مباشر إلا إلى المكان الرئيسى وهو جبل الدرهيب لعل ذلك يعود لأن القصة تدور حوله ،أو لعل المكان هو من فرض فساده على قاطنيه بما يحمله من مغريات .
ومع ذلك فإن فساد الأمكنة فى الرواية تعدد وتواصل منذ نشأة البطل نيكولا غير المستقرة وانتقاله كطائر فقد عشه وسقط به لا يعرف كيف يبنيه ، فساد الاسرة فساد للمكان كله وعدم الانتماء لوطن فساد لهذا الوطن الذى بحث عنه البطل كثيرا واهتدى إليه فى النهاية
وهنا أجد تواصل بين البطل والكاتب الذى يجوب الصحراء بحثا عن وطنه المفقود فياتى بمن يرى فيه نفسه مشرداً لا أسرة له ولا وطن يحمل ايمانا مزيفا يغلفه باسم القديس فيكون نيكولا .
وحتى عندما يجد الاستقرار الجزئى فى ايطاليا نجد المكان يلفظ فساده من أول لحظة مغلف بتلك الجميلة التى جذبتها عفته المزيفة واشعلت طاقتها للحصول عليه ، حيث أظهر الكاتب فساد المكان فى تصويره (مكان من الارض معبد باليود يسميه الجغرافيون حوض البحر الابيض، مكان من الارض تعتبر فيه المرأة علفاً لأسماك الشهوة... ولعل ذلك اصبح حكماً تاريخياً الان، فلقد اصبحت المراة علفاً لأسماك الشهوة المستوحشة في كل مكان) يا له من تصوير قاس لفساد يعم الارض وتوارثته الامكنة والازمنة .ثم أكد تلك الحقيقة بعرضها السخى و(اعطته نفسها في مؤخرة مخزن الادوات بالمطعم بدون أن يطلب وبرغبة فى امتلاكه .وهنا التساؤل هل الفساد فساد المكان أم قاطنيه الذين يحولونه إلى مفسدة ؟ وهل الفساد يجذب الانسان أم يلفظه خارج تلك المنظومة ؟
هنا حاول الكاتب أن يجيب فغاص فى روح نيكولا وبين صراعه الداخلى الذى ينهشه بين الحرية والتحليق بحثا عن مكامن نفسه وبين الاستقرار، صراع الاستقرار والسكون بين امراة شهية. طموحة. تريد اصطياد الطائر في قفص المشاريع العائلية والتجارية حتى وان كان بالقتل ولمن لابيها - يا له من فسادويالها من أمكنة تحتويه بين أركانها - . وبين مغامر جوال مثل طائر وحيد في سرب مهاجر .، هذا المندهش الذى ولد مرات ومرات مع كل تجربة يخوضها كما يولد الكاتب فى كل مكان يزوره وتولد معه الفكرة التى يرويها لم يستكين لتلك الحورية التى ادهشته بجمالها وانما حلق بعيدا فلم تتمكن من أن تسمره فى الارض وتكسر جناحيه فحلق بعيدا ينشد الفكره كما حلق الراوى معه إلى أمكنة يروى جمالها وقبحها وحتى فسادها ،
ومازالت الأمكنة تأخذه ولا زلنا فى عنوان يجمع أكثر من مكان ، لم نصل بعد إلى المكان الأغلى فى الرواية والى قمة الاندهاش قمة الدرهيب حيث يمارس نيكولا طقوس عذابه، الذى استهل بها الكاتب واصفا اياه بهلال عظيم هوى من السماء فى زمن ما وجثم على الأرض منهارا يحتضن بذراعيه واد غير زى زرع
.لا زلنا نبحث فى الامكنة وننتقل إلى جموح نيكولا الذى ياخذه إلى عالمنا نحن من نجعل من الوطن وسادة وغطاء واستقرار يراود هذا الباحث عنه ، ولعل الكاتب قد راى فى نيكولا وبحثه عن عالم ووطن شئ يتفق مع ما يخالجه من شعور فهو ايضا يبحث عن وطن فُقد فى النكسة يبحث عن وطن يغيب عن ناظرالكثيرين ودهسته اقدام الغزاة من ابناءه ومن أتوا مثل نيكولا يبحثون عن كنوزه ، كلُ يبحث عن وطن ولكن بوجهة نظر مختلفة .
ننتقل مع الراوى وضيفه بطل القصة وهنا اقول ضيفه لانه عاش يبحث عن وطن وخسر كل أوطانه فهو كالضيف الذى يعبث بالمكان ويرحل حتى وان لم يرحل بجسده قد غاب عقله وحكمته ، يطأ بقدميه أرضا جديدة مليئة بالمفاجات والأحلام ، ولكنها أرض صلبة جافة لا تبوح باسرارها إلا لساكنيها، فكان لابد من الادِلاّء الذين يستغلهم القادمين الباحثين عن وطن يستغلونه وينهبون كنوزه وهنا يتأتى فساد من نوع أخر لمكان أخر ومنجم الذهب ( منجم السكرى وجبل السكرى )
حيث يقوم العمال بأعمال الفحت لا يتوقفون كأنهم آلات مُسخرة يستخرجون تلك الكنوز لمن لا يستحقها ، وهنا اشارة من الكاتب على فساد هذا المكان الذى نهبت خيراته منذ زمن ولا زالت تنهب على العيان فكان غضب ايسا وتبعه غضب نيكولا ،فساد الامكنة والنفوس والذمم لا يتوقف ، ومع كل مرحلة تطغى الصحراء والجبال ونعومة الرمال على قلب نيكولا كما تملكت روح الراوى فعاش فيها سنتين ليقتفى أثر العابرين والمقيمين والمارين بها وتمتزج روحه بروح نيكولا فيتعلق بحبات الرمال وبدليلها الذى بات هو الرفيق كما اصبح جبل الدرهيب هو المأوى والملاذ والوطن ، تنتهى رحلة جبل السكرى ويطوى صفحة فساد انتهى باتهام السرقة ولكنها حفرت بداخل البطل منحى جديد عن الموت والحياة والميلاد تلك الصراعات بين الخير والشر والشرف الذى نال عقابه ايسا ،ففساد الامكنة هنا لم يتولد عن الانسان فقط ولكن عن الطبيعة وما تحتويه من طقوس خاصة بها .
ننتهى إلى أكثر الأمكنة فسادا والتى أنهت حياة البطل بتلك المأساة المروعة ، فقد فيها الوطن وفقد فيها الحياة وفقد فيها السكينة كما فقد فيها الروح .
الدرهيب : ذلك المكان الذى بنى فيه مدينة احلامه وسكنه ووطنه ونهاية مشواره الممتزج مع الطبيعة التى انبهر بها نيكولا كما اخذت بلب الكاتب فعاش فيها يستقى منها أخبارها ويروى عنها ما دار فيها من حب ورغبة ووحشية .تلك البقعة البكر التى رأى فيها الكاتب حلمه فى أن تكون مملكة روايته يصنع فيها شخوصه ويمزج فيها الحلم بالواقع والاسطورة بالحقيقة والرغبة فى الحياة بالإنسلال منها كأنها لم تكن ، فصاغ قوانينه على هواه وإن كنت أرى أن المكان هو من فرض قوانينه على الكاتب ، فنحى به منحى جديد لإظهار مفاتنه والبوح بمفاسده التى امتزجت حتى بخيال الراوى ليس فقط بحقيقة ما رُوى له ،
انتقل الراوى ببطله من فساد المدينة إلى طهر الصحراء ونقائها ولكن الكاتب لم يمهله فانتقل فساد المدينة إليه وزحف عبر الصحراء حتى باطن جبل الدرهيب وحتى عمق البئر الساكن القريب لم يعطيه فرصة للتطهر وتعميق ايمانه الزائف المسطح فغاص الفساد إلى روحه فتمثلت له الابنة عشيقة فكانت نهاية الفساد فى عمق المكان بموتها ، وفساد النفس بصلبها على قمة من شهد البراءة ومن زج بها فى المجون ، من شهد استخراج الكنوز وجمالها ومن شهد السخرية والعبث بجمال المكان وقيمته ،من شهد نبت الحياة ومن شهد موتها ، جبل الدرهيب .
****
ننتقل من عنوان الرواية إلى زمن كتابة الرواية وهنا اشكالية اخرى :
بدأت فكرة الرواية من 1963 عندما قام برحلته الأولى إلى جبل الدرهيب قرب حدود السودان، وكانت فكرة الرواية قد تشكلت داخله أثناء هذه الرحلة، ثم عاد إلى الدرهيب مرة أخرى عام 1965 خلال زيارته لضريح المجاهد الصوفى أبى الحسن الشاذلى المدفون عند "عيذاب
وفى هذه المرة قد تبلورت الفكرة وقصد النية نحو الرحلة إلى كتابة الراوية
هذه الفترة التى عايشها الكاتب من قبل عام 1952 مرورا بالثورة ثم مرحلة النكسة وحتى الانتهاء منها عام 1969 قد شكلت جزءا كبيرا من موروث الكاتب الاجتماعى وما عايشه المجتمع المصرى من أحداث الفساد والسيطرة على كنوز القطر المصرى من قبل الاحتلال وحتى من الملكية الفاسدة وانتهاء بوصوله إلى أقاصى القطر وما سجله فى روايته ما هو إلا مزج بين كل هذا ، فنجد سيطرة المستعمر فى حرية التنقل فى اجزاء الوطن شماله وجنوبه بحثا عن الكنوز المدفونه فيه، وهذا ما وضح من قبل البطل ومهندس التعدين الذى أغواه بالمجئ إلى تلك البلاد التى تحفل بالمعادن الثمينة ، بالإضافة إلى الحماية التى يتمتعون بها وتوفير الامكانيات اللازمة لعيشة رغدة ، ولم يكن هذا فقط بل عكس الفساد الذى انتقل على أيدى الغرباء إلى تلك الاماكن البكر وما فعلوه بها من تدنيس ،فهى أرض مستباحة ، ثم يصل بنا إلى ذروة الفساد على ايدى أصحاب القطر نفسه فيصير التدنيس عملية مزدوجة لا تنتهى على أيدى الغرباء فقط ، بل على ايدى الملك وحاشيته ، فلم يغفل الكاتب كيفية انتقال الفساد من المدينة الى الصحراء وهنا لابد وأن نلمح إلى إشارة الكاتب إلى جبل السكرى وما شابه من فساد لم يتوقف حتى يومنا هذا فهل كان ذلك نبوءة ما نحو استمرار فساد الامكنة رغم اختلاف الازمنة .
ولعلى هنا أرى فساد الامكنة قد امتد حتى ثورة 25 من يناير 2011 فقد عم الفساد كل شبر من القطر صحراؤه وواديه جباله وأرضه المنبسطة وتلوثت أنهاره حتى فاضت بتلك الثورة فهل كان الكاتب يرى فى عنوانه امتداد لفساد أمكنة أخرى بشخوص أخرى .

*لغة الكاتب :
هنا نرى سمات الراوي الشعبي بدءًا من مفرداته (اسمعوا ... أحبائي)وكأنه محاطا بجمهور يستمع لحكيه ،ويوجه لهم خطابه مباشرة ، فى لغة سردية
تمضى فى سلاسة مع تنوع أساليب الطرح معتمدا لغة بسيطة وعميقة ودالة خالية من البلاغة الاستعراضية والتقليدية ، هادئة فى السطح، عميقة فى المعنى ، وتحمل الكثير من الخصوبة والتجديد دون ضجة ، فلم يعترضنى معنى على الرغم من البيئة الصحراوية والبدوية التى عايشها وكتب عنها – لم يعترضنى معنى لم أفهم مقصده أو مضمون لم يصل إلى ّ بسلاسة ويسر ، وهذا ميزة الكاتب المتمكن من لغته الخبير بمعانيها البصير بمفاهيمها الخالية من العيوب ، والتى مهما مر على الرواية من زمن لا يخطئ فى فهمها من يطالعها ، تداخلت الأزمنة فى الرواية كما تداخلت الطبيعة الصحراوية بماتملكه من تنوع فهو يقدم الحدث الاكثر ماساوية ثم ينتقل بسلاسة إلى الفعل الماضى فيبدا الحدث من بدايته ، لم يجعلنا ذلك نتشتت او ننفصل عن الرواية بل كان دافعا لمواصلة الحكى ومواصلة الاندهاش والتطلع إلى معرفة الحدث ،
(فزمن موت إيليا الصغرى ابنته يأتى قبل زمن ولادتها الذي هو سابق للقاء أبيها بأمها في مطعم والدها قبل أن يتعرفا كما تتداخل أزمة موغلة في القدم مع أزمة حاضرة . فإيسا عندما يسرق يذهب كوكالوانكا" فهو يستدعى بذهابه إلى قبر هذا الجد الأكبر ليطلعه على ثمرة إلى الجبل حيث قبر جده
هذا الجبل )وهنا تتداخل الاسطورة مع الواقع فى لغة سردية شيقة تتناغم مع كون الحدث يكتنفه الغموض وسحر الطبيعة ،
من سمات الرواية التركيز فى السرد والبعد عن الثرثرة التى لا تجدى ، وفى ملمح اخر لم يعتمد الراوى الأ لفاظ العامية أو الدارجة او اللهجة الجنوبية حتى وان كان بالاشارة لها وانما استخدم اللغة العربية الفصحى فى بناء سرده مما اتاح لكل من عرف فساد الامكنة أن يستمتع بها دون اللجوء إلى قاموس يستعين به ، عرف الكاتب كيف ينتقل بنا من لغة الحاضر كمن يتداخل بنفسه مع الشخصية وكانه هو صاحب القصة إلى أن يأخذنا إلى منطقة الحكى الحقيقية وزمن الرواية فى الماضى بكل عفوية وجمال ،وعندما يمزج الأسطورة بالحقيقة يتناغم الحرف فنصل إلى قمة الاندهاش من تمكن الراوى العليم ببواطن الصحراء ودروبها وحتى مآسيها فننتقل معه بلغته الجميلة إلى جو اليونان الاسطورى ةآلهة الحب والجمال والحرب والتدنيس بكل معانيه الانسانية ،
للكاتب مهارة لغوية فى وضع اللفظ فى مكانه الصحيح .

*شخوص الرواية :
أرى ان صبرى موسى هنا جعل من المكان هو اساس الرواية فهو البطل الاول فالصحراء هى محور قصته ولم يكن الدرهيب سوى قمة الانفعال لهذا المكان الذى استحوذ على غالبية الرواية وعلى نهايتها المأساوية التى أرى أن بدايتها كانت مع أول خطوة للبطل على ارض الصحراء ،
يمكن ان نجمع الابطال هنا ( نيكولا البطل الرئيسى ، ماريو ،ايليا ، ايسا ابشر، ....... )
سوف افرد للمكان بعض السطور كشخص تحاور معه الكاتب كثيرا وصفه بكل معان الجمال كما جعله رحم يولد منه الجمال ويولد منه الفساد ، فقد أتاح للمكان خاصية الظهور والسيطرة على بطل الرواية كما سيطر على فكر الكاتب من قبل وحثه على الإقامة فيه والرواية عنه،ان المكان هو ليس مجرد ساحة للابطال بل هو بطل موازى يسير مع الأشخاص فيؤثر بهم ويحول نقاط ضعفهم إلى قوة كما حول نيكولا من طائر محلق إلى مواطن عثر على ضالته فى الوصول إلى وطن ، ثم التوحد مع هذا الوطن مل ما توحد الجد الأكبر كوكا لوانكا .فالمكان هو المهيمن وما شخوصه غلا لعبة ادارها بحبه وهيبته وقدسيته حتى الفساد الذى لفظه فى النهاية كان بتأثير المكان لا الأشخاص .
*نبدأ مع نيكولا وننتهى بنيكولا :
بطل أوربى قادم من شرق أسيا لم يكن بطل عربى أو مصرى لأن الزمن قد فرض أن تكون السيطرة على هذه الفترة التاريخية للاجانب القادمين بحثا عن كنوز الشرق وكل منهم يغوى الاخر بالقدوم وخاصة إلى مصر التى اشتهرت بكنوزها الاثرية والمعدنية وأرضها البكر التى لم تدنس
كما أن البطل الاجنبى يتميز بالمعرفة والإطلاع والتقدم الذى يتيح له استخراج تلك الكنوز ،
البطل نيكولاشخصية مهزوزة يصاحبه ايمان مزيف فهل عمد الراوى إلى ذلك حتى يرى تأثير المكان على تحوله من الزيف إلى الايمان ، وهو بلا هوية ولا وطن وهذا أيضا أثر فى انتمائه لمكان واحد فصار وانقطع كل خيط يربطه بوطن أو أب أو أم أو حتى حبيبة وزوجة وابنة فيما بعد .
أوضح الراوى الخلفية التاريخية للبطل ليس عن طريق الصدفة وانما ليربطه بفصول الرواية وبدو الصحراء فهو قوقازى وهم أصولهم من القوقاز ووصف انوفهم العريضة التى تعتبر الموروث الذى لا يخطأه أحد وان تغير لون البشرة ،فكانت علاقة نيكولا بالبدو لها مقدمات تعطى انطباع بالراحة للمكان.
البطل أو نيكولا هو محور الأحداث منذ بداية القصة والوصف البديع لامتزاجه مع جبل الدرهيب وممارسة طقوس عذابه ثم الانتقال بنا إلى طفولته التى أوضحت لنا كيفية تكوين طبيعته المضطربه واساس الصراع الداخلى الذى جعل منه محلق لا ينتمى إلى مكان ثم انتقل بنا إلى تأثير الصحراء وشخوصها فيه ، ومجموعة البدو وخاصة ايسا الذى ارتبط به فكان اساس تحول البطل إلى قمة الصراع بين الحياة والموت والميلاد وبين الخير والشر ،ثم كانت المجموعة الدخيلة من الملك وحاشيته التى أنهكت البطل حتى اندمج مع الأسطورة والتحم بحلمه فصار واقعه مأساة حقيقة ،
البطل يؤمن بالثواب والعقاب أو هذا ما بينته له الطبيعة أن لكل خطيئة عقاب كما فعل مع ايسا عندما اتهموه بالسرقة وكما عوقب هو عندما حاول الانتحار ففقد ذكورته ،وعندما جمح بفكره وحلمه فى بناء مدينته فتحولت بفعل خطيئة الملك إلى مأساة له شخصيا ،هكذا فكرة الثواب والعقاب ،
البطل هو نفسه فاسد جلب معه الفساد من مدينته إلى الأرض البكرالطاهرة وان تضمنت افعاله بعض البراءة التى مثلتها ايليا الصغيرة فى حياته .
هنا ننتقل إلى ايليا الأم والأبنة الزوجة والعشيقة التضاد ، الميلاد والموت :
ايليا الزوجة تلك الجميلة التى ارادت أن تسمره فى الأرض وأن تجعله يرتكب جريمة القتل والتى وهبت نفسها، له تلك الدنيا بكل مفاتنها والتى ابى أن يلين لها فهرب حيث البحث عن نيكولا
ثم تأتى الابنة بكل مباهج الحياة وزينتها وتتحول إلى ميلاد لنيكولا ثم تكون سببا فى وفاته حسيا فهى وحدها من ملكت مفاتيح حياته وطقوس عذابه التى ظل يمارسها بعد ذلك فوق قمة الدرهيب
هى التى وهبت للصحراء خضرتها وسلبت منها بكارتها وهى من انبتت الزرع حول الجبل ثم اصبحت من عروقه فيما بعد هى الاضاد التى جمعت الميلاد مع الموت والخطيئة مع البراءة والأم مع الابنة مع الطفل الذى اصبح خطيئة نيكولا ورغبة انطوان ونزوة الملك ، هى ثقافة الصحراء البكر وخطيئة المدينة التى لوثتها ،

*من أهم الشخصيات التى أثرت فى مجرى حياة البطل هو ايسا :
حكاية الدليل البدوي "إيسا" الذي لازم "نيكولا" منذ وصوله إلى الجبل، وكان شيد الارتباط بالطبيعة، فخبّأ سبيكة من الذهب انتقاما من سيطرة الأجانب على ثروة بلاده، فقبض عليه بتهمة السرقة، ولما أنكر فعل السرقة اقتيد إلى اختبار النار فثبتت براءته، لكنه لقي حتفه في بئر الأفاعي السامة، فجعل "نيكولا" من ابنه "أبشر" مرافقا له عوض عن أبيه،هذا البدوى الذى بين كيفية ارتباط الانسان بالطبيعة والذى كان نقطة التحول فى حياة نيكولا ، وعلمه أول دروس من دروس الصحراء كيف يكون الفرق بين الخطيئة والتوحد مع الطبيعة عندما ذهب بسبيكته ليباركها من جده كوكا لوانكا ، فتوحدت روح نيكولا بايسا ، وهو مؤمن بأنه لم يرتكب خطيئة السرقة فكان العقاب وكانت البراءة ليست لايسا وحده وانما لبكارة الصحراء كلها من التدنيس ، هنا أبت النيران ان تلتهم ايسا وتوحدت الطبيعة معه كما قذف ابراهيم فى النيران فكانت بردا وسلاما ، وتسمى هذه الافعال لدينا فى منطقة ريف الدلتا (البشعة) وهى عبارة عن طاسة تترك على النار حتى تتوهج ثم يمررها المتهم على لسانه فإن كان بريئا لم تمسه النيران بسوء . فتختلف هذه الطقوس من منطقة إلى أخرى ، ومع كل ، فهى غريبة على نيكولا دفعته إلى تغيير حياته كليا والبحث عن روحه فى جبل الدرهيب ،فعلاقة ايسا بنيكولا علاقة عشق تولدت داخل رهبة المكان ورهبة الطبيعة ورهبة ميلاد من بين النيران ، فكان ايسا بديلا لماريو الذى كان بديلا لايليا .

*وعندما ننتقل إلى الاسطورة التى غلفها المجون والرزيلة نجد عبد ربه كريشاب :
الصياد الذي كان يمد العمال بالأسماك، وقد نذر نفسه للنَيل من عروس البحر المغوية، حيث التهم البحر ثلاثة من رجال أسرته انجذبوا إلى سحرها الخادع، وبذلك قطع على نفسه وعد الانتقام منها، وفيما كان يصطاد السمك لمناسبة زيارة الملك، جاءته عروس البحر طافية على الأمواج، نافقة بفعل متفجرات رُميت في أعماق البحر بحثا عن البترول، وادّعى أنه اصطادها وفاء لقسمه، فكذب، وأخفى الحقيقة. فكان الأمر بأن تُزفّ إليه أمام الجميع، وهنا أدرك كريشاب حجم المهانة والذل ،وجد الصياد صاحب الوعد، نفسه يؤمر بمضاجعة سمكة هامدة أمام الحاشية الملكية، ولكن هل هذه كانت رغبة عبد الله كريشاب ان يرى عروس البحر التى تخطف الرجال ، فنزعة الرغبة متولدة بداخله ولكن ابعاد الموقف هى من فرضت عليه الخروج عن المالوف ، فكان عقاب الطبيعة المتلازمة والتى تمنحها لمن يخطؤن ،إما الموت وإما الجنون فكان الجنون نصيب كريشاب ، وكان الخوف من القادم هاجس نيكولا الذى لا يفارقه ..
* اذا انتقلنا من أهم الشخصيات التى امتزجت بالطبيعة وهى ايسا وابشر الذى كان امتداد لأبيه فى علاقته بنيكولا وعبد ربه كريشاب وحتى كوكا لوناكا هذا الجد الذى توحد بالطبيعة فصار قبلة لمن يريدون التبرك ، ومعرفة الحقيقة ، ننتقل إلى الجانب الأخر من الرغبة والفساد وتلك المجموعة الهلامية التى أتت إلى الجبل فحملت معها كل ما هو بغيض إلى نفس نيكولا ،حملت اللعنة وصبتها على ايليا وعلى ايسا وعلى عبد ربة كريشاب كل من عشقهم واندفع نحو التوحد معهم فهم رمز الطبيعة والطهر والنقاء الذى يبحث عنه نيكولا ، تلك الفئة لم تستمر كثيرا فى المكان ولكنها رحلت ورحلت معها الحياة من الدرهيب ،فلم تكن ايليا وحدها قربانا قدم للملك ولكن الدرهيب بما فيه من حياة وما استولد فيه من براءة وخير أصبح قربانا لماساة انتهت بالموت الكامل لكل حياة حوله ..

*فساد الأمكنة رواية لها أكثر من بعد التاريخى والجغرافى والاجتماعى وايضا الاقتصادى وكذلك البعد الثقافى وأهمهم البعدالاخلاقى الذى بنيت عليه فكرة الرواية وانتهت به كما بدأت به فى وصف حالة القديس نيكولا وطقوس عذابه فوق جبل الدرهيب
*عندما نتحدث عن البعد الجغرافى وأهمية المكان الذى نال شهرته من خلال تلك الرواية والتى أتاحت للقارئ معرفة تلك الأماكن المجهولة من الوطن حتى وان وصفت بالفساد ، والتى أخذت بلب الكاتب فجعلته يستقر فيها حتى يتمكن من معرفة أغوارها وبطونها ويتعانق مع ترابها كما تعانق البطل فامتزجت انفاسه بذلك التراب وتعفر وجهه به ، المكان فى الصحراء الشرقية قرب حدود السودان ، اذن فأنت فى مكان بعيد عن المدينة والمدنية بعيد عن الحضارة بما تحمله من انماط بشرية مختلفة ، موقن أن هذا المكان بكر لم تطأه اقدام المدينة فهو يمتلك عاداته وطقوسه وحتى اساطيره ومعتقداته ، نطاق مفتوح للحياة البرية المتوحشة او الأليفة فى بعض منها، له قوانين تحكمها الطبيعة ويتآلف معها ساكنيها ، قد تتعرض فيه للهلاك ، وقد تولد من جديد ، وهذه هى الفكرة التى من أجلها دار الصراع الداخلى لدى البطل فكرة الموت والحياة وتاثير المكان على استيلاد الإنسان من رحم الطبيعة الصلبة .

*أما عن البعد التاريخى فقد تناولت الرواية فترة الستينات وما قبلها وفترة الملكية بكل مفاسدها ومجونها ، فقد استطاع الكاتب بشكل درامى أن يصف تلك الفترة وما اعتراها من انحلال خلقى ، استباحت به الطبيعة واستباحت به الانسان غير عابئة بمصائر هؤلاء البشر ،
*أما البعد الاقتصادى فتمثل فى نهب واستغلال هذه الاماكن البكر فى استخراج المعادن النفيسة من الذهب فى جبل السكرى ثم التلك فى جبل الدرهيب وقد وصفت لنا قصة ايسا ما يحمله أهل هذه المناطق من تحفظ على نهب ثرواتهم من قبل الغرباء وشركاءهم ، فهو اغتصاب للطبيعة واغتصاب للصحراء ثم تبعها اغتصاب للانسان باقسى اشكاله ،
* وهذا ينقلنا الى البعد الاجتماعى متمثلا فى تلك القفزة التى قام بها الكاتب منتقلا من المدينة باحداثها وسكانها والتى كانت مجالا لمعظم روايات فترة الستينات والصراع بين الانسان والانسان او الخير والشر ،
إلى تلك المناطق البكر والصراع بين الانسان والطبيعة ، وصراع الحياة والموت، كصراع الانسان مع الحجر والجبل كى يستخرج كنوزه او صراعه مع الثعابين التى ترديه ،او صراعه مع الجفاف فى دروب الصحراء ، ولم يخلو من صراع الانسان مع الخير والشر ،
*اما عن البعد الثقافى فهذ الرواية هى خليط من الثقافات بداية من شرق اسيا وايطاليا وجبل القوقاز مرورا بالمدينة فى القاهرة ثم اخيرا إلى صحراء الدرهيب الذى كان لها الاثر الاكبر فى تشكيل ابراز فكرة الصراع بين ثقافة نيكولا وطغيان الصحراء بما تملكه من عادات وتقاليد وقوانين هى التى غلبت عليه ، فقد عجزت الاوطان أن تسمره فيها ن واستطاعت الصخور أن تحتويه بداخلها .
اما عن البعد الأخلاقى وفكرة الثواب والعقاب والخطيئة والبراءة وما تحمله تلك المنطقة من ثوابت لا يمكن تخطيها فقد تمكن الكاتب بكل حرفية من الوصول بها إلى قمة الاندهاش الذى ملك قلوبنا وعقولنا فى لقطات مصورة بعناية ومنها مشهد ايسا والنيران ومشهد كريشاب وعروس البحر ومشهد الطفل الذى وضع وليمة للذئاب ثم موت ايليا فى كهف الدرهيب وما تخلل كل ذلك من صراع داخلى لدى البطل حتى وصل إلى قمة المأساة التى أودت بحلمه .

الصور الجمالية فى الرواية:
اشتملت الرواية على العديد من الصور الجمالية التى وصفت المكان وتعمقت فى وصفه واصطبغت فى العديد منها بلغة شعرية بديعة ،منها ما يصف المكان فى ملمح حكى كالموروث الشعبى وهو ما بدا به الرواية فقال (اسمعوا منّي بتأمّل يا أحبائي، فإني مضيفكم اليوم في وليمة ملوكية، سأطعمكم فيها غذاء جبليا لم يعهده سكان المدن..أحرّك أرغن لساني الضعيف وأحكي لكم سيرة ذلك المأساوي نيكولا في ذلك الزمان البعيد، في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكّرها الآن..ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه، وكان كل شيء يحدث أمام عينيه، جديدا يلقاه بحب الطفل، لدرجة أنه لم يتعلم أبدا من التجارب)فقد بداها بالحكى ولفت الانتباه إلى ما هو قادم من حديث كما فى أحاديث الرواه ومنشدى الربابة.
ومنها ما يصف المكان بطبيعته الخلابة(كان الجبل ينتصب شامخا نحو السماء، تطل من قممه تلك الكباش البرية التى تحيا فى ظلال أشجاره المقدسة الخضراء النابتة على القمم العالة المتسامية لتطاول السحاب ثم تتراجع تلك الكباش منكمشة مفزعة خشية السقوط على السهول الخضراء المنبسطة حول سفوحه )
ومنها ما يصف حالة نيكولا بصورة بديعة ( اى احساس شمولى قد احتواه فى تلك اللحظة فمزجه بالمكان وأذابه فيه)(مؤرجح هناك على صلبان عذابه وتكفيره)
ومنها ما وصف به المرأة(مكان من الأرض تعتبر فيه المراة علفا لأسماك الشهوة)
كما وصف الجماد (السبيكة .. كانها درع يحتمى به من الشرور المجهولة )
تتوالى الصور والحكايا الاسطورية فالدرهيب تملأه كائنات تهيمن علىالجبال والوهاد والبحر ، وعبد ربه كريشاب يضاجع عروس البحر تحت أنظار الملك وحاشيته ،وجسم الملك يمسخ فى نظر ايلياليكون مثل السمكة المتوحشة ،ومشهد ايسا يخط على النيران ويخرج سليما،
فهنا ولدت اللقيا بين البحر والجبل والمدينة والصحراء والسماء والارض والفضاء الرحب باعماق المناجم فى صور جمالية بديعة .
*عن الرواية:
*******
الرواية هى نتاج لقاء غير مدبر بجبل الدرهيب بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان ، جبل سيكون هو مسرح الأحداث لضيف محلق هو طائر يبحث عن وطن ، وجد فى صحراء مصر وجبالها وساكنيها ملاذ للتقوى ومرتع لنيل المغفرة ومحو الذنوب فطبيعة الصحراء وقسوتها دائما كانت مستقر للرهبان والعباد والزهاد كما اشار الكاتب بوجود أبى الحسن الشاذلى" ؛ ذلك الصوفى الذي تَفَلَ في الماء، فأصبح البئر عذبًا، لكن فكرة الحلول بعيدة عنه لعقيدته الأوروبية لم يكن العنوان هو نتاج اللحظة عندما سيطرت فكرة الرواية على الكاتب بدليل أنه استغرق اعوام حتى كتابتها قضى منها عامين بالمكان حتى يتعرف على ملامحه واسراره، فنتج عنوان فساد الأمكنة ليتخذ الفساد منحى للرواية من بدايتها وحتى النهاية ،تعددت الأماكن مع تحليق البطل وحتى استقراره فى الدرهيب وتعددت مواطن الفساد وصوره ،
ثم يتخذ الاستقرار حول الدرهيب طابع المدنية التى جلبها معه نيكولا هذا القوقازى الذى وجد سلالة اجداده فاستانس بهم ولم يستوحش المكان ، ووجد فى الطبيعة سكن لروحه فأراد لها البقاء وفقا لنظريته فيما راوده من حلم الاستقرار ، المرأة فى حياته هى الرزيلة وهى الحياة وبهجتها ، حلق بعيدا عن المرأة وفسادها ، ولكنه عاد واحتضنها فى الدرهيب، وكأن للمكان اثر فى تحول الكره إلى حب والوحشة الى الأنس ، فكانت ايليا الأبنة التى تحولت إلى خطيئة بفعل البشر ، نيكولا ربط العالم بقريته فتحمل عقاب انفتاحه على المدنية وهتك بكارة المكان ،فالعمران والآلات والزرع هى سمات المدن ، وعندما سيقت إلى الجبل فقدته مصداقيته وقدسيته وهيبته ، فلم يعد الأغراب يخشون ولوج الجبل والعبث بمكنونه ، اذن فقد جعله الكاتب شريكا فى فساد الأمكنة ، عندما ترك نفسه لايليا فى ايطاليا ، وعندما ترك نفسه لاقبال هانم داخل الجبل ، وعندما جلب الغرباء بمجونهم عبر الميناء فدفع الثمن غاليا ، وحلت اللعنة عليه وعلى ايليا الصغيرة التى لم تفارق طفولتها بعد وفقد هو رجولته وفقدت هى بكارتها وفقد الدرهيب جلاله وهيبته .
قمة الصراع التى علت انفعالاتها عند قمة الدرهيب تمكن الراوى بحرفية عاليه أن يجعلها المبتدى والنهاية فى وصف بديع يمتزج بروح البطل كما امتزج من قبل بروح الراوى .
الصراع بين الموروث الثقافى للبطل وبين الطبيعة التى بحث فيها عن الحل وهو الإمتزاج بها كما فعل الجد كوكا لوانكا أو كما كان الشيخ الحسن الشاذلى ولكنه فضل أن تكون روحه متوحدة مع الطبيعة وخاصة مع جبل الدرهيب الذى ضم بين جنباته الحياة متمثلة فى ابنته ايليا فهناك فقط ومعها يتوحد مع الحياة مع الدرهيب . ولكن ثقافته طغت عليه فكانت ماساة طفل ايليا الذى أطعمه للذئاب فكانت الطبيعة هى المطهر لتلك الخطيئة ،الصراع الثانى نقله معه الملك وحاشيته من المدينة ورسم حدوده الخواجة أنطون وواكتمل بكابوس نيكولا فكان السرد لعالم الطبيعة وعالم الموروث الثقافى الذى أتى به الملك من المدنية ، فكان عقاب النفس المتشردة والتوحد مع الطبيعة هو الثواب الذى يبحث عنه تكفيرا عن ذنبه .
اشار الكاتب عن طرق نيكولا فى التوحد مع الطبيعة كغريزة فيه عندما وطد علاقته بكل من ايسا وابشر وعبد ربه كريشاب فهم رمز الطبيعة ووجد فى نفسه ما يبوح بهذا التواصل ويركن إليه بعكس من أتوا من المدينة التى هى اساس نشأته فوجدهم غرباء عنه كمن ولد من جديد وامتزج بالطبيعة منذ الجدود ،وأن الطبيعة هى من أعادت اتصاله بها ولم يكن انفصاله عن سلالته إلى لغاية الترحال ،فعلاقته بهم علاقة دم متاصلة عبر السنين ،فى حين لم يجد فى نفسه الشفافة ما يجعله يتواصل مع القادمين من المدينة وثقافتها التى حطمت البراءة باغتصاب ملوكى تم الدفع بها فى يسر وسهولة .
جعل الكاتب دور المراة يرتبط بالفساد فى بداية الرواية وجعلها قمة الخطيئة فى نهايتها وكأن المراة خلقت لتكون علفا لأسماك الشهوة ، وطبق تلك المقولة مرة أخرى عندما سيقت ايليا إلى الملك فكانت علفا للملك ثم لانطوان ثم خطيئة لنيكولا واخيرا روح للدرهيب تسكنه وتتوحد معه ومع نيكولا ، فزاد عن سى السيد لنجيب محفوظ فتحرر المرأة الأحنبية أقسى وأشد جعلها مجرد علف وجعل منها خطيئة وعقاب .
في هذا النص الكثير عن أبناء القبائل وعاداتهم ، حيث الالتصاق "بصخور هذه الجبال في إصرارٍ، يتكاثرون فيها وينقسمون إلى فروع وقبائل، إلا أنهم يتمسكون بعاداتهم التي هي بمثابة الهوية التي تُعرِّفهم للآخرين.
ومن هذه العادات. شي الأسماك ، وتجفيفها على شمس الصحراء ومناداة الضائع في البئر، وامتحان المشي على الجمر للمذنب. وأيضًا قوانين الزواج التي تفرض عدم قبول الغريب. والتحقير ورفض الزواج لمن يرتكب جُرمًا ، مثل ما حدث مع الحاج بهاء عندما أراد الزواج من أقاربه في الصحراء ، قوبل طلبه بالسخرية والتحقير "والرفض" جاء لأنه خالف قوانين الصحراء ، فاُعتبر كالغريب ، وعٌومِلَ معاملته . وهذا الفعل يشير إلى التمسك بالهوية ، والاحتفاظ بالخصوصية والاستقلال دون الاندماج مع الآخر . ومن هذه العادات ، عادة الذبح طلباً للبركة .. حيث إراقة الدم تمثل طقسًا فرعونيًا ، لطرد الأرواح الشريرة من المكان ، ويأتي أيضًا كنوع من الهبة أو القرابين في الشريعة الإسلامية.
,اذا أخذنا هذه العادات وقلنا أنها تاصلت فى قلب البطل نيكولا فكان لابد من رد الفعل نحو معاقبة النفس قبل أن تعاقبه القبيلة أو الطبيعة وعاداتها فمارس هو بنفسه طقوس عذابه فوق قمة الدرهيب.
فنجد عبد ربه كريشاب" يَهيمُ في الصحراء ، بعد أنْ فقد عقله ، لا لمضاجعته عروس البحر أمام الملأ . وإنما لأنه شعر بكذبه عليهم ، لأنه لم يقتلها كما أدعى، وفاءً لدين قديم لعائلته . وهي نفسها التي قادت نيكولا للانتحار مرات بعدما أحسَّ بالألم بذهاب ابنته في صحبة الملك وهو يعلم جيدًا مغزى الرحلة .... وهذا الإحساس بالبشاعة، متّولد لتآلف نفسه مع مفردات المكان .
تداخل الازمنة فى الروايه بداية من جبل الدرهيب ثم الانتقال إلى منشأ نيكولا وتوالى السرد ثم الخروج مرة أخرى لوصف حالة البطل فى الصحراء ومواجهته الموت والعودة إلى حكاية ايسا وسبيكة الذهب ثم الانتقال مرة أخرى إلى الدرهيب ....... كل هذا التداخل لم يخل لحظة بالحكى وانما ذاد من التشويق والتطلع إلى السرد . يتخذ من الحاضر مكان لاندماج الراوى مع البطل ثم ينتقل إلى الماضى لتسير الحكاية فى طريقها بكل سهولة وجمال
ثم تتجمع المشاهد وتنحسر فى مكمن الرواية الاصلى وهو جبل الدرهيب بداية ونهاية مكان وزمان حياة وميلادا وموتا ، صراعا مع النفس وسلاما مع الطبيعة ، الخير الذى تقدمه الطبيعة والشر الذى يقدمه الانسان ،
تعلو المشاهد فى بعض الاحيان فتمتزج بالأسطورة كما وصف عبد الله كريشاب مع عروس البحر
ويأخذنا غيرها إلى قمة الدراما فى مشهد فض البكارة وما صاحبة من اغراء واستسلام
ليساعدها الوهم "على تكريس جسدها الصغير لفعل لم يتهيأ له ،
تداخلت شخصية الراوى متاثرا بالشخصيات فوقف فى صف بعضها كما تحسره على ايليا وعاب على بعضها مجونه واستغلاله ،فقد حاول ان ياخذنا معه لما يريد ولم يترك لنا الحكم على الشخصيات

فهو يلوم نيكولا؛لأنه لم يستشعر بالخطر منذ سطوع الضوء من سيارات الملك ويتمادي في لومه وكأنه تهاون في شرفه مع أن الشعور بالخطر ازداد داخله.
وعلى قمة الدرهيب نعود لنترك نيكولا مع الصحراء الواسعة ومع طقوس عذابه فالحكى فى فساد الامكنة وجماليات السرد والصور والمشاهد لا ينتهى
ولكن السؤال الذى يطرح بعد ذلك هو
هل فساد الامكنة يمتد مع الزمن ليصل الماضى بالحاضر من خلال الانسان أم فساد الامكنة هو ما أهلّ الانسان أن يتمادى فى غيه عبر الازمنة المختلفة ؟
صبرى موسى عنوان للجمال وللسرد البديع، راوى من نوع مختلف اندمج مع الطبيعة واخذ من نسيجها بطلا لم يعرفها ولكنه حلق بروح جدوده فألفها ، حاورها فاستمد منها كنوزا ، عاش فيها فاستولد من صخرها حروفا ، سار فى دروبها فجعلنا نسير معه ونعشق زرات رمالها وصخورها ، سكب علينا من ماء محياها فاحيا فينا مواطن لم نعلم بها واحيا لنا وطنا نجهله .
انه موسى صبرى ، وفساد الأمكنة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا