الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتريات الحب والحرب : رواية 53

حبيب هنا

2013 / 12 / 16
الادب والفن


- 53 -
الحقيقة تفقد سحرها ليس لأنها فاقدة لعناصر الخيال الجذاب الذي ليس له تبعات، بل لأنها تحمل في مضمونها قوة الصدمة الدافعة إلى التعايش مع الواقع بكل ما يحتويه من صرامة لا يمكن تجاهله !
- 54 -
عندما جاء الرجل إليه، كان يقول لنفسه : اليوم سأرحل، ولكن سيبقى وجه البحر يضحك والشارع المفضي إلى القرميد الأحمر سينتظر لقاء أحبة جدد، وعندما يسألهم عني ، قد يقولون : لقد أتما زواجهما على أكمل وجه وقد يأتيا لزيارتك يشكرانك على احتضان سعادتهما، وسيقول لهما، مازال هناك بشر قادرون على الحب وإعطاء الحياة وجهها الجميل !
ما أن وضع قدميه داخل النفق حتى جاء الرعب بكل وطأته، وأخذ عقله يقيس الأمور بمقاييس لم يعتد عليها من قبل . ثم قال لنفسه : إذا كان لا بد من مواجهة المخاطر والأوجاع حتى بلوغ نهاية النفق، ينبغي مواجهتها بشجاعة تعزز احترامي لنفسي باعتبار أن الشخص الذي يفقد احترام نفسه لا قيمة له، ثم تقدم إلى الأمام والبهجة تغمره كما لو أنه أول مرة يختبر قدراته ويضعها على حجر المحك . علماً بأن الإحساس الأكبر الذي انتابه بعد بضع خطوات، وضعه في موضع لا يحسد عليه : إذا ما قدر له الموت في هذا المكان فلن يكون معه أحد كي يروي الحكاية لتالا إلاّ إذا حدثت معجزة ولم يمت جميع العابرين من النفق والعاملين به، وربما إذا ما قيض لأحد النجاة أن يضيف على القصة شيئاً من البلاغة والتخيلات التي تجعل منه بطلاً . ربما يوصف حالة الموت عند احتدام اللحظة الحاسمة بالتاريخية التي لم يتسنَ لأحد قبله مواجهتها بهذه الجرأة، والوقوف أمامها وجهاً لوجه بيقين لم يتمتع به نبي .
وربما ينقص من حقه ويقلل من قدره : كان بإمكانه أن ينتظر حتى تفتح المعابر بدلاً من الإصرار على الموت بهذه الطريقة، ولأنه لا يستحق تالا فقد لاقى مصيره على هذا النحو البشع الذي أرهقنا على ضوئه ونحن نحاول إخراجه من النفق وتكريمه كما باقي الأموات .
فكر في الدافع القوي وراء العودة، فكر في الحصار المفروض على غزة، فكر في استقبال تالا له، فكر أن يعاود المرور من الأنفاق كلما احتاج الذهاب إلى مصر، فكر في أمور كثيرة غير طبيعية، ولم يحصل على إجابة، ولم يعاوده التفكير في الموت ..
- 55 -
في يوم ما لن يبقى من العريش سوى ذكرى لقائه بتالا وانحباسه فيها غير قادر على العودة إلى غزة وقتما يشاء . سيعيش الحاضر بكل مكوناته وقسوته وسيستفيد من العبر والتجارب التي مر بها والتي من خلالها رسم مستقبله .
على ضوء الحنين إلى غزة الذي أيقظ فيه الإصرار على العودة، في اليوم السابع ليلة الثامن للحرب، عبر الأنفاق التي أصبحت منذ اللحظة الأولى التي وضع قدميه في بدايتها هدفاً لطائرات الاحتلال التي جعلت من جسده عنواناً لجولات مكررة للطائرات على الأنفاق ليصبح أول شهداء الطائرات على بوابة رفح الجنوبية من تحت الأرض .
في تلك اللحظة بالذات، شعرت تالا بغصة في حلقها واضطراب في دقات القلب، عند منتصف الليل، وهي مازالت ترقب الصباح الذي سيكون مختلفاً عن كل الصباحات الماضية . في تلك اللحظة فقدت الأنفاق المعنى الذي كانت تنطوي عليه من ضرورة بقائها المنفذ الوحيد الذي يمد غزة بالحياة . لقد تحولت في تلك اللحظة، لا قبلها ولا بعدها، إلى درب الموت المتربص خلف الوجوه المستعارة . لقد أصبحت مكاناً خاوياً يحمل معنى لا مضمون له وحلماً لا يكتنز الماضي ولا يمكن له أن يحقق المستقبل الذي رسمته مع خليل عندما ارتبط مصيرهما ببعض .
في الصباح وشحت تالا بالسواد دون أن يلحظها أحد. ذهبت إلى المقبرة وفي يدها باقة ورد من أجل وضعها على قبر خليل وتودع آخر أيامها مع خليل في نفس موعد يوم الزفاف. لم تنتظر طويلاً. جاء خليل محمولاً على الأكتاف، واروه الثرى، ألقت باقة الورد على قبره بعد أن غادر معظم الناس، وقالت : إننا نحن الفلسطينيين لم نخلق للحب أو ربما لم يخلق الحب من أجلنا، والعالم الذي يسعى نحو تكريس الظلم لا يريد أن يرانا نعيش حياة مملوءة بالحب والجمال والطمأنينة !
كانت متماسكة تماماً كما لو أنها في أبهى زينتها. لم تتساقط الدموع من عينيها ولم تَخْلُ مع نفسها. ولم تمهلها طائرات الاحتلال لتقبل المواساة من الأصدقاء والأحبة والأهل .
لقد أشركت الموتى في يوم زفافها الذي كانت تنوي أن تجعله على وهج الصواريخ ليكون الرقص منسجم الإيقاع مع حالة الفرح والحرب .
- 56 -
في اليوم التالي تناولت الصحافة الحدث تحت عناوين مختلفة, ولكن أهمها صاحب العامود الدائم واليومي في صحيفة المستقبل تحت عنوان : عروسان يتممان حفل زفافهما في جنات الخلد !
وفي التفاصيل يتساءل الكاتب : هل يشارك الأنبياء والصديقون والشهداء في هذا الحفل ؟ يا لها من حكمة إلهية !
- 57 -
والآن بعد كل الذي عرفتموه عن تالا وخليل، حسب رأيكم أيها القراء الكرام، مع من تحب تالا أن تمضي أوقاتها في العالم الآخر ؟ هذا إذا افترضنا أنهم لم يتمكنوا من إقامة حفل زفاف يليق بالحب الذي جمعهما قبل الأيام الثمانية للحرب التي افترقا خلالها حتى لحظة اللقاء هذه، مع العلم أنه من الممكن أن يكون في العالم الآخر طقوس الزواج مختلفة عنه عندنا، هذا إذا كان هناك تزاوج من الأصل !







صدر للمؤلف
الحرب الخامسة والخلفيات السياسية 1983
الطريق إلى رأس الناقورة مجموعة قصصية 1984
الحائط مجموعة قصصية 1993
صليب العاج مجموعة قصصية 1996
غربة الوطن 1998
هرم كنعان رواية 1999
سنوات ملتهبة رواية 2000
الانتفاضة .. العشيقة .. الزوجة رواية 2002
حفريات على جدار القلب رواية 2003
مازال المسيح مصلوباً رواية 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض