الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الحقيقي

منعم زيدان صويص

2013 / 12 / 24
الصحافة والاعلام


ربما يجد المرءُ صعوبة في تعريف الثقافة وفي الإجابة على السؤال: من هو المثقف، وخاصة في هذا العصر الذي كثر فيه الكتاب والخبراء والمحللون وحملة الشهادات الأكاديمية العالية الذين يتقاضون أجورا على ما يقدمونه للناس من آراء وتحليلات. ولكننا نستطيع أن نقول أن الإنسان المثقف، إمرأة كان أم رجل، هو الشخص التقدمي، القارىء، الذي يطلع على العديد من حقول المعرفة المختلفة ويتابع الأحداث في بلده والعالم ويستطيع أن يفهم ويهضم جزءا كبيرا منها بحيث يتمكن من التعامل معها ومناقشتها مع آخرين لهم مثل هذا الإطلاع، ويعطي رأيه بها، ويدرس تأثيرها على مجتمعه. ولذلك فمن غير الضروري أن يحمل الشخص شهادات عليا ليكون مثقفا. فعباس محمود العقاد و جبران خليل جبران وعيسى الناعورى ومئات من مشاهير المثقفين، لم يحصلوا على شهادات جامعية.

غير أن ثمة صفات تميز ما نستطيع أن نصفه بالمثقف الحقيقي من غيره، وأهم هذه الصفات:

1. العقل المفتوح وعدم التعصب للرأي . نستطيع أن نقول أن التعصب للرأي والتشدّد يُسقط عن الإنسان صفة المثقف. فالمثقف الحقيقي لا يقبل التعصب لأن كل شيء عنده قابل للنقاش، وهو دائما مستعد أن يتفهم، أو على الأقل أن يستوعب، الرأي المخالف. المثقف الحقيقي لا يحتقر أو يكره أحدا حتى لو كان يختلف معه على طول الخط، وحتى لو إكتشف أن آراء هذا الشخص ربما تكون ضارة بهذا الشخص نفسه وبمن حوله من الناس. فالمثقف لا يكره، إنما يُشفق على الآخرين، حتى من أنفسهم. ويُعتبر الفيلسوف الفرنسي فولتير أفضل مثال على الإنسان المثقف: "قد أختلف معك في الرأي ولكننى مستعد أن أدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول رأيك."

كم من الكتاب في بلادنا أو في منطقتنا يتمتعون بهذه الصفات وبالتسامح والحيادية؟ قلما نرى مقال لا يهاجمُ صاحبُه فيه من يختلفون معه في الرأي، بل نجده يصفهم أحيانا بأقذع الصفات، وإذ إختلف معهم سياسيا يصفهم بالعملاء أوالخونه.

2. المثقف لا يمدح نفسه ولا مجتمعه، ولا حتى بلده، إللا بطريقة غير مباشرة، آخذا بعين الإعتبارأحوال البلاد وعواطف الناس والمجتمع. لا تمدح الشعوب المتقدمة نفسها أو بلادها بالطريقة التي نتبعها نحن، وربما نلاحظ شيئا من المديح أو الفخر في بعض الأغاني أو في النشيد الوطني لبعض الدول، أما نحن فالمديح عندنا ليس له سقف ولا يقف عند حد. لا بأس من ترك الأجنبي يمدحنا إذا أراد. هذا الأجنبي، في أغلب الأحيان، يمكن أن يتمتع بالمصداقية لأنه من المفروض أن لا تكون له مصلحة في ذلك غير إظهار الحقيقة. والصفات الحميدة ليست بحاجة إلى التأكيد اللفظي لأنها لا تخفى على الناس، وكما قال زهير إبن أبي سلمى قبل خمسة عشر قرنا:

ومهما تكن عند امرء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

هذا لا يعني أن المثقف تنقصه الثقة بالنفس، فالعكس هو الصحيح، أوأنه لا يؤمن بوطنه أو يحبه، أو أنه سيتوانى عن الموت في سبيل هذا الوطن إن دعت الحاجة. عليه أن يتعامل مع الحقائق ويحلل الأفكار والأحداث وينتقد ويبين الأخطا التي يجب إصلاحها، لأن الفشل في كشف هذه الأخطاء ضار بالوطن وبالمواطن. لقد بلغ مدح الذات في المجتمعات العربية، حدا غير عادي، وهذا ينطبق على مدح كل ما يتعلق بالمعتقدات والعادات والتقاليد والشخصيات وأولي الأمر. هذا المديح غير المفيد، وأحيانا غير المقنع، لا يخدم البلد وإنما ينمّى النفاق والسلوك الملتوي. وكما قلنا فمن المفيد أن يَترك المثقف هذه المهمة، أي مهمة المديح والتبجيل والتطبيل، والتي لا بد منها في بعض الأحيان، للذين يُجيدون هذا الفن. قال المتنبي:

إذا كان بعضُ الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقاتٌ لها وطبولُ

وحب الإنسان لوطنه أمر طبيعي، كحبه لأخيه أو أي فرد من عائلته، ويجب أن يكون عفويا. وبالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، فإن محطات التلفزيون العربية وإذاعاتنا ومعظم صحفنا لا تشبع من مدح أي شيء يتعلق بنا، ولا تستمع لشخص أجنبي إذا إنتقد أي شيء أو أي ظاهرة شاهدها خلال زيارته للبلاد مهما كان نقده مبررا. فهي تذيع وتنشر فقط مدحه لبلادنا، وتشرح كم كان شعبنا مضيافا، وكم كان بلدنا نظيفا، وكم إستمتع خلال إقامته بين ظهرانينا. والمذيع لا يسأله أبدا إذا كان يشكو من أي تصرف سيء أو من قسوة القوانين المحلية أو فشلها في التعامل الصحيح مع السواح والزوار، ولا يسأله إذا كان الناس تحرشوا به أو إذا خضع للإبتزاز أو الغش أو السرقة.

3. المثقف لا ينافق، وعليه أن يترك النفاق للذين يتقنونه، من الإنتهازيين والمتسلقين، وما أكثرهم. إذا كان المثقف يؤمن بمحاربة الفساد ، فعليه أن لا يمارس أو يتغاضي عن النفاق وأن لا يشجع الفاسدين والإنتهازيين والمتسلقين في مجتمعه، وأن لا يسمح لهم بإجباره على الأنغماس في فسادهم، ويحسن به أن يرفع شعار البحتري، أحد الشعراء المثقفين في العصر العباسي الذي عاش قبل ألف ومئتي عام:

صُنْت نفسي عما يدنّس نفسي وترفّعْت عن جدا كل جِبسِ

ما أجمل أن تقرأ أو تسمع حديث المثقف الحقيقي، لأنه لا يفرض عليك أي شيء إلا إحترامه. لا تشعر أنه يعلمك درسا أو يلقى عليك موعظة، كما يفعل الكثيرون، بل تشعر، في حضرته، أنك حرالتفكير وأنه يفتح ذهنك لأمور لم تكن لتفكر بها، ويشعرك بان لك رأيك الخاص كإنسان وأن هذا الرأي جديرٌ بالإحترام. ومن كثرة التعصب والأنانية والإنغلاق في تفكيرنا قلما نجد كتابات حديثة بلغتنا تستحق الترجمة والنشر في الخارج لتصبح جزءا من تراث الإنسانية، لأن معظمها مدح وفخر وهجاء، وهذه، وإن كانت من أعمدة الأدب العربي، ليست جزءا من إنتاج المثقف الحقيقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟