الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة الثانية في قراءة المشهد الثقافي الفلسطيني

سليم النجار

2005 / 6 / 15
القضية الفلسطينية



ليس المقصود بهذا العنوان أن الجغرافيا الفلسطينية غير متواجدة على أرض الواقع، لكن هناك فرق شاسع بين جغرافيا الواقع، وجغرافيا التخيل التي هيمنت في ثقافة المثقف الفلسطيني، وهنا برز سؤال خطير، من الذي دفع الآخر لثقافة الجغرافيا، أم الظروف الموضوعية التي تعرضت لها الجغرافيا الفلسطينية؟
والنقطة الجوهرية هنا هي ان هذا الفهم ليس معزولا عن موضوعه، وليس كيانا روحيا مثاليا معزولا عن سيرورة تطور المجتمع الفلسطيني، إنه نظام انثوربولوجي اجتماعي له دور أساسي متعاظم في تنفيذ مشروع تضخيم مشروع المثقف الفلسطيني على اعتبار أنه حالة خاصة.
وعليه، فإن الثقافة بوصفها علما هدفها معرفة المجتمع، والدفع لتطويره- في بناه الداخلية- مرتبطة من حيث الجوهر بقوى التغيير، ارتباطا جدليا ضروريا بطبيعة القوى السياسية التي من المفترض ان تمارس عملية التغيير.
يتضح من ذلك أن الثقافة يجب ان يتم إدراكها على نحو فاعل، وليس ساكنا محصورا في جغرافيا محددة، لأن هذا السكون والتأبد في الجغرافيا، يحجب التنوع- والتنوع المقصود به هنا ليس بالنسبة للثقافة، في تفاعل العلاقات المتبادلة مع خارج الجغرافيا فقط وحسب، ولكنها ايضا يجب ان تكون موجودة داخل المجتمع الواحد، ويمكننا التساؤل هل كان هناك تنوع ثقافي فلسطيني داخلي؟!
إن الحديث عن التنوع الداخلي الثقافي الفلسطيني، لا يمكن رصده بشكل واضح، خاصة في بدايات العشرينات من القرن الماضي التي هيمنت على بناه الثقافية نظام محافظ تقليدي أحد أهم سماته الانتعاش من الماضي، والتنفس من رئة التراث الديني في بلاد الشام تحديدا، على اعتبار أن فلسطين جزء من سوريا، واعتبرها السياسيون الفلسطينيون، سوريا الجنوبية، صحيح ان هذا المصطلح السياسي ليس من اختراعهم، بل هو نتاج تمازج تاريخي اجتماعي لآلاف السنين في بلاد الشام، وما فعله السياسي الفلسطيني، أعطى هذا المصطلح المشروعية الثقافية، من خلال هذا المصطلح يمكن فهم العلاقات الداخلية الثقافية الفلسطينية، أي أنه كان هناك علاقات داخل المصطلح الثقافي السياسي الذي يتكأ على جغرافيا بلاد الشام، ولا يتكأ على الجغرافيا الفلسطينية المعروفة الآن، إذن ليس من باب المصادفة ان انتكب الشعب الفلسطيني عام 1948، كانت هجراته سياسية ثقافية جغرافية، وليست كما يصورها البعض، كانت عشوائية فهذا الإدعاء غير دقيق، فالنخب الفلسطينية هاجروا لسوريا ولبنان، وباقي شرائح المجتمع الفلسطيني حضرت للأردن، ومن يرصد المشهد الثقافي الفلسطيني بعد عام 1948 يكتشف هذه الحقيقة، فأبرز أعلام الثقافة الفلسطينية، كانوا يمثلون الشتات الفلسطيني المتواجد في سوريا ولبنان، غسان كنعاني، سمير عزام، الشاعر العربي الفلسطيني الكبير أبو سلمى، وآخرون بالعشرات كلهم انطلقوا من الجغرافيا التي تمازجت تاريخيا بالثقافة السياسية الاجتماعية، مع الداخل في بلاد الشام سوريا ولبنان، على اعتبارها علاقات داخلية، وليست خارجية، ولهذا التداخل ظروف موضوعية متعددة، ولم تأت من فراغ، لكن المقصود هنا الرصد لهذه الحالة، وليس الحديث عنها بشكل تفصيلي فالمقصود الجغرافيا المتخيلة لدى المثقف الفلسطيني.
ولنبدأ أولا بتحديد معنى الالتزام بالجغرافيا المتخيلة لدى المثقف الفلسطيني.
الالتزام بعقيدة مقدسة وتقديسية، إن الالتزام بالجغرافيا الفلسطينية هو التزام بمنهجية تحليل وسلوك عام، منهجية مادية غير جدلية وغير نقدية، ولكونها كذلك فإنها ترتكز على أسس مقدسة شأنها في ذلك شأن الميثولوجيات قاطبة.
ومن هذا المنظور، فإن الالتزام بالجغرافيا المقدسة أصبح قانونا ثقافيا فلسطينيا يسير على خطاه معظم المثقفين الفلسطينينن والندرة الذين حاولوا الخروج عن هذا المألوف، وبهذا المعنى فإن الالتزام ليس مسألة ذاتية أو إرادية، بل امتداد طبيعي لهيمنة القوى المحافظة التي كانت مهيمنة على المجتمع الفلسطيني قبل عام 1948، وجاء المثقف الفلسطيني ليتجاوب مع هذا الشرط الموضوعي.
فقد عرف الفلسطيني في الثقافة الفلسطينية البطل، الشهيد، الكريم، الذي لا يعرف معنى للنور، وكلها صفات لا تنطبق على بشر، لكن ومع ذلك بقي الفلسطيني في هذا المشهد يحمل هذه الصفات، حتى في أدب القاص الشهيد غسان كنعانين كان الفلسطيني في تجليات إبداعه- فلسطيني الضحية، أي عزز غسان كنعاني ثقافة الضحية في المشهد الثقافي الفلسطيني، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا في معظم رواياته، حتى محمود درويش لم يخرج عن هذا السرب.
التحديد الثاني: ان الثقافة الفلسطينية التي بنت أوهامها على جغرافيا متخيلة، أنها لم تنتج معرفة ترصد المجتمع الفلسطيني في صيرورته التاريخية، وبوصفه مفتوحا على أزمة تطال وجوده الديمغرافي والجغرافي، وهويته الثقافية، بل الذي حصل فعلا، الانحياز شبه المطلق للثقافة السياسية الشعاراتية المناسباتية! التي خرجت من رحم الثقافة العربية المهزومة والمأزومة في آن معا، ولم تحاول الثقافة الفلسطينية تجاوز هذه الحالة، بل استبدلتها بجغرافيا وهمية، تتجاوز الجغرافيات العربية، وأصبح الحديث عن جغرافيا مقدسة، تنتظر التحرير، حتى يتم إقامة الجنة المنتظرة، وما بين الجنة واللاجنة، عاشت الثقافة أوهامها، وكان المثقف الفلسطيني بطلا بلا منافس لترويج هذه الأوهام، وأصبح المثقف الفلسطيني يقرأ المشهد المعرفي من برجه العاجي، وانفصل عن مجتمعه المحلي أولا، ومن ثم عن المجتمع العربي، على اعتبار أنه غير معني بهذه الأرض، التي ليست ملكا له، فهو على عجلة من أمره، من أجل التنظير الى الجنة القادمة.
هذا التسطيح للأزمة الفلسطينية، مارسه المثقف الفلسطيني بإبداع منقطع النظير، وهذا ليس تجنيا على أحد، بقدر ما هو وصف لواقع الحال فلم يكن المثقف الفلسطيني معنيا بالواقع العربي المأزوم، وإن جرت بعض المشاركات فهي كانت ردات فعل سرعان ما تزول، ويعود المثقف الفلسطيني لصومعته، وللتدليل على الرد الفعلي الآني، هنالك حادثة شهيرة وقعت في الكويت على أثر إعلان عبد الكريم قاسم ضم الكويت للعراق، واعتبارها محافظة عراقية، وغرقت الكويت بالحرب "الصامتة" تجاوب العديد من المثقفين الفلسطينين مع توجه عبد الكريم قاسم، على اعتبار ان هذا التوجه قومي، وأعلنوا تأيدهم لخطوة عبد الكريم قاسم، وبالطبع انتهت المشكلة عندما تدخل الزعيم الراحل عبد الناصر على الفور قامت السلطات الكويتية بإبعاد العديد منهم وطردهم خارج الكويت، نذكر منهم الدكتور محمود السمرة، والدكتور محمود أمين، وآخرون وبعدها غاب هؤلاء في دهاليز النسيان، ولم يعد يسمع بهم أحد!
هذه بعض المحاولات التي قام بها مثقفون فلسطينيون هنا وهناك، لا يمكن ان تشكل مشاركة فعالة في قراءة المشهد العربي المأزوم منذ نشأة أخطاره الحديثة على أثر اتفاقات سايس بيكون بل يمكن اعتبارها محاولات لردة فعل لأفكار بقيت ساكنة في العقل الثقافي الفلسطيني، الذي بقي مهيمن على المنهاج الثقافي لدى المثقف الفلسطيني، الذي رفض التعاطي مع المشهد بروحية نقدية جدلية، لتكشف الواقع بدلا من الخلط المجاني للأزمة الثقافية العربية ومنها الفلسطينية بطبيعة الحال.
وحاول المثقف الفلسطيني ان يجترح له طريقا خاصا به، محاولا التمايز عن المشهد الثقافي العربي، وقد حقق انجازا لكنه انجاز شكلي يتكأ على الشعار السياسي الفلسطيني، التي تعاطفت معه الشعوب العربية، وتواطأت الأنظمة الرسمية العربية من طرفها لتغطية حجم تقصيرها في الدفاع عن فلسطين.
إذ التميز هنا تميز اعتباطي، تعاطى معه المثقف الفلسطيني بسذاجة مفرطة، تصل لدرجة النيشيات، فلم يستطع المثقف الفلسطيني الكشف عن الخلط بين التواطؤ والتعاطف، وعن الحقيقي والمزيف، وعن الضرورات الداخلية لكل نظام عربي رسمي، وعن ما هو غير ضروري، فقد شارك المثقف الفلسطيني وبفاعلية في تعظيم الجغرافيا الفلسطينية المقدسة، مع ماكنة الاعلام العربي، التي حولت التضحية الفلسطينية الى زاد يومي- تتزود به، وهذا خلط آخر، فلم يستطع المثقف الفلسطيني الكشف عن ما هو اعلامي والمراد منه للاستهلاك، وبين ما يقوى المطلوب منه التأسيس لحالة نقدية، لكشف مكامن الخلل، وتعري الأزمة.
ونصل هنا الى مفارقة أن الثقافة الفلسطينية هي الأخرى ثقافة مقدسة، تبحث عن جغرافيا لتحقيق قداستها، في المقابل الثقافة اليهودية هي الأخرى مقدسة، تبحث عن جغرافيتها، أليس هذا التقابل خطير جدا، ويدعو للتساؤل انه كيف تم رسم مشهد ثقافي فلسطيني، لجغرافيا مقدسة كانت بالواقع محققة أي أن الاستبدال الحقيقي بالوهم، أليس تعزيزا لثقافة الهزيمة!
ألم تكن وما تزال فلسطين موجودة، لماذا الانتفاضة عن الحقيقة بالمتخيل، أليس هذا هروبا للأمام، وخوض معارك لا علاقة بها على أرض الواقع، هذا إذا اعتبرنا أن المثقف الفلسطيني مدرك خطورة ما قام به، لكن بدا واضحا حتى هذه اللحظة، أنه غير مدرك لخطورة ما قام به، ابداعا، وتنظيرا، وترويجا، خاصة عندما ننظر الى ما آلت إليه الأمور، أصبح هناك تقابل غير متضاد في جوهره.. جغرافيا مقدسة يهودية- مقابلة جغرافيا فلسطينية مقدسة، والذي يمتلك القدرة الموضوعية على انجاز جغرافية يحققها على أرض الواقع.
ومن يتتبع هذا التقابل، يكتشف أن الصراع انتقل من الأرض للخيال والتخيل، والواقع هنا أصبح مرمى للصراعات العالمية، يتم تصارعها على أرض فلسطين، وتحت مسميات مختلفة وعناوين مختلفة.
ومن الأفكار المضحكة بصدد الجغرافيا الفلسطينية، الحديث عن موقعها الجغرافي، وكأنه امتياز للفلسطينيين، أو كأنهم استفادوا من هذا الامتياز؟! ولم يدركوا حتى هذه اللحظة، فاعلية الجغرافيا من عدم فعاليتها، قدرتهم على الاستفادة من هذه الجغرافيا، وليس التغني بها، والبكاء عليها حين ضاعت، وتصوير الحالة، على أنه صراع جغرافيا مصحوب بنصوص ميثولوجية، فالأمر هنا غير دقيق.
فالجغرافيا لا تضع ميثولوجيا بدون توفر ظروف موضوعية لنمو هذه الميثولوجيا، وعادة تكون أهم سمة لنمو هذه الميثولوجيا، غياب الوعي العلمي، وهيمنت الوعي الشعبي المستند على الخرافات، فالذي حصل فعلا، هو تقابل خرافات، وكلا يحاول إثبات صحة خرافاته.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك