الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انكسار الإنسان : أو حينما يصبح الشخص قاسياً

حمودة إسماعيلي

2013 / 12 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


خلف كل قسوة قلبٌ محطّم. فالاحاسيس تتصلب عند انكسارها، بانكسار الأشياء الجميلة لصاحبها ..

تنكسر الأشياء بتعرضها لضغط أقوى من أن تتحمله نتيجة الاصطدامات، وعندما تنكسر فإن دورها يغيب وقد تصبح أداة مؤذية ـ كما بالنسبة للأغراض المصنوعة من الزجاج ـ وحتى عند اعادة ترميمها فإنها لاتعود كما كانت من قبل طالما أن الشروخ وآثار الانكسار ستظل واضحة. بعض التعابير الرومانسية تشير إلى أن ذلك ينطبق على ما يحدث للإنسان باعتبار أنه ـ كتصوير رمزي ـ مثل المرآة : إذا انكسرت وتم ترميمها فإن الشقوق تظل شاهدة على ما تعرضت له، وكذلك فإن الإنسان بما يتعرض له من ضغوط وجراح نفسية أو صدمات، فحتى لدى تجاوزه لها فإنها تظل داخله شاهدة على قسوة الواقع وصلابته، مثلما تشهد الأواني والمرايا على قسوة البلاط وصلابة أرضيته.

لكنه يغيب عن التشبيه أن الإنسان بهذا الموقف، قد يصبح مؤذيا إذا لم يُرمِّم ما انكسر منه وظل مثلما تظل قطع الزجاج المترامية : تخدش وتجرح كل من يجرؤ على لمسها، لأن لمسها بهذا الموقف يتطلب طقوسا من التأني والنعومة والسلاسة عند الاحتكاك بها والتعامل معها.

وبالخروج من التشبيهات الرمزية نحو الوسط الواقعي، نجد فيه من يبدون قسوة بالتعامل ليست حتى بمحلها، فكما يقول أرسطو "أن يغضب أي انسان فهذا أمر سهل، لكن أن تغضب من الشخص المناسب في الوقت المناسب للهدف المناسب و بالأسلوب المناسب، فهذا ليس بالأمر السهل"، لأن كثيرا من الناس (خاصة من نتحدث عنهم هنا) ينتظرون أبسط ظرف يساعدهم على كشف قطعهم المنكسرة والحادة المسببة للجروح، حتى يذوق الآخرون من آلامها التي يشعر بها أصحابها كل حين، طالما أنها لا زالت متناثرة داخلهم تتسبب بالوخز كلما لمستها المشاعر عبر الذاكرة. تتحول لأدوات دفاعية (القطع المنكسرة) ضد كل من يظهر أنه سيتسبب بمزيد من الألم أو بمضاعفته لصاحبها، بهذا يزداد المتألمون قسوة بظل مجتمع اغترابي (لا يقيم لآلامهم وزنا). فمن ينزف داخليا يكره أن يرى من ينعمون بالسعادة، لدى فإنه يتحيّن فرصة إذاقتهم من الآلام التي تسببها قطعه المنكسرة الحادة.

لقد أدرك نيتشه بشاعريته أن من يسببون الألم هم المتألمون، فسعى لتأكيد تعلم السعادة والبحث عن مسرات وأفراح الحياة لأنها ترياقات ضد السموم التي تنفثها الآلام والجروح في الجسم (النفس)، السعادة وصناعة الفرحة ومشاركتها هي ما يُرمِّم ما انكسر في الانسان. فعندما تنكسر الأشياء الجميلة، من الذكاء البحث عن أغراض اجمل بدل تضييع الوقت بالتحسر عليها ..

إن من يتغلبون عن الألم بصناعة السعادة، كمن يرممون ما انكسر، هم من يساعدون الآخرين على التغلب على آلامهم، مثلما يعيد الحرفي الأغراض المعطوبة للعمل من جديد، فيساعد بذلك الآخرين على الاستفادة من كل ما هو جميل بحياتهم، مثلما يساعد الطبيب الناس على الشفاء، حتى يتخلصوا من معاناة المرض.

وليس كمن يفشلون، فيسببون الألم للآخرين حتى لا ينفردوا به، كمن ضاع له غرض أو أصاب جاهزه عطب فقام بكسر وتخريب أجهزة الآخرين، أو كالمريض الذي يدس السم للآخرين حتى يشعروا بما يشعر به.

بالنسبة لكانط فإن : "الذي يتسم بالقسوة على الحيوانات يصبح صعبا أيضا في تعامله مع البشر، نستطيع أن نحكم على قلب الانسان من معاملته للحيوانات"، فالقسوة منبعها الألم، لا يمكن للإنسان أن يكشف عن القسوة إن لم يكن يقاسي هو كذلك. لكن قد تجد من يبررون قسوتهم بإرجاعها أو إلقائها على الواقع والمجتمع القاسي، لكنهم هم قُساة، وإلا فلماذا هناك آخرون عكسهم، رغم تعرضهم لنفس الظروف وعيشهم بنفس الوسط أو وسط مشابه.

حتى الجحيم صناعة بشرية، صنعها المتألمون من لم يستطيعوا التغلب على آلامهم. وعلى حد قول الروائي اللاتيني ماريو بينيديتي : "لقد توصلت بالنهاية إلى أن الضمير هو جنتنا وجحيمنا في الوقت نفسه. يوم الحساب والعقاب المشهور نحمله هنا، في صدورنا. ونحن في كل ليلة عن غير وعي منا نواجه يوم الحساب. وحسب الحكم الذي يصدره ضميرنا، ننام مرتاحين أو نغرق في الكوابيس. لسنا لا سليمان الحكيم ولا حتى محللين نفسيين. نحن قاضٍ وطرف، مدعٍ عام ومحام، لا مفر !
إذا لم نكن نستطيع إدانتنا أو تبرئتنا من بوسعه أن يفعل ذلك ؟ من تتوفر لديه كل هذه العناصر على سريتها، لكي يصدر حكما علينا، مثلنا نحن أنفسنا ؟ ألا نعرف منذ البداية ودون أدنى تردد متى نكون مذنبين ومتى نكون أبرياء ؟".

وانطلاقا من محاكمنا الذاتية الداخلية نصدر أحكاما على الآخرين كذلك بإدانتهم وعقابهم معتمدين على أحكامنا الخاصة، ولو توفرت لأحدهم هنا السلطة والنفوذ لأجبر الجميع على الحكم بما حكمته محكمته الخاصة، إنه الدكتاتور الذي يسكن كل إنسان، ذلك الذي كان في يومٍ ما شخصا عاديا لكنه يخفي العديد من القطع المثناثرة الحادة والغير مرممة بعد، تنكشف كقوانين وأحكام جائرة.

لاحظنا يوما عربة يسوقها شخص يحمل سوطا يجلد به حصانا جريحاً، الحصان يركض بأقسى سرعته وصاحبه يستمر بجلده كأنه يود منه لو يطير ـ ولو كان الحصان ساعتها يملك اجنحة لطار ـ لكن ما لم يكن وضحا وجليا هو أن جلد الحصان الجريح لم يكن حثا له على الزيادة من سرعته بقدر ما كان هو احساس ذلك الشخص الذي كان يُفرِّغه في الحصان، لقد كان هو نفسه يشعر بالجلد. وكثيرة هي الأمثلة التي يتسبب فيها صاحب العربة بموت حصانه أو حماره نتيجة الضرب، فنتيجة الانشغال بتفريخ ألمه لا يلاحظ أن عجز الدابة عن الحركة لم يكن بسبب الكسل بقدر ما كان بسبب الثقل الذي يفوق طاقتها على الحمل.

وهو كذلك فأدنى الطبقات تفرغ آلامها في حيواناتها، وأخرى بأبناءها، صعودا بالتسلل نحو من يُفرِّغون في خَدَمِهم أو من يَقلِّون عنهم سلطة أو مكانة اجتماعية. يجب ادراج مادة في المنهج الدراسي تختص بتعليم الفرحة والسعادة لتساهم في نشوء أطفال قادرين على ترميم جراحهم.

خلال التجربة التي عاشتها بطلة التزحلق على الجليد "إيمي بردي" عند قطع ساقيها، استنتجت من ذلك على حد تعبيرها أن :

"العوائق والصعوبات التي تواجهنا يمكنها أن تقوم بفعل شيئين لنا :

1 - أن توقفنا بنصف الطريق
أو
2 - تجبرنا على أن الإبداع والخلق".

لكن ألا يُستبعد أن يقوم من توقفوا بنصف الطريق على التسبب للآخرين بالتوقف، أو إعاقتهم بوضع المزيد من الصعوبات أمامهم، حتى لا ينفردوا بوضعهم، ويدفعون الآخرين كذلك على مُقاساة ما قاسوه هم أنفسهم .. إذا كنا نتحدث عن الجنس البشري، فهذا غير مستبعد.

قد ننسى بسرعة من قاموا بإضحاكنا، لكننا لا ننسى بنفس السرعة من قاموا بإيلامنا .. لأن الألم إحساس أشدّ وقعاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة