الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع الاستاذ الدكتور صاحب أبو جناح

سعدون هليل

2014 / 1 / 13
الادب والفن


الدكتور صاحب أبو جناح


"نحن نعيش اليوم حالة ضمور وتراجع في المنجز العقلي العربي"

حاوره:سعدون هليل

الدكتور صاحب ابو جناح مفكر واستاذ في النحو. وان اجراء حوار مع استاذ من طراز ابو جناح يحتاج الى شيء من الصبر، فهو استاذ في علوم اللغة، لا يهادن ولا يستسلم لافكار غيره بسهولة، فإذا قيل له مثلاً: انك تنهج نهج ارسطو أو سيبويه نجده يفزع ويقول: لا يا سيدي.. انه نهجي الخاص.. ومنطقي وإبداعي أنا.." والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ماذا يدور في عقل الاستاذ د. أبو جناح بصفته استاذاً جامعياً، عمل في جامعة البصرة والمستنصرية، الجزائر، ليبيا، الاردن، صنعاء وعدن. واختير عضواً في المجمع العلمي العراقي عام 1996.
شارك في مؤتمرات علمية عدة في جامعات: البصرة، بغداد، الموصل، الكوفة، عين شمس،ذي قار، المستنصرية، تكريت، اليرموك. اشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه وناقش عددا اخر منها في الجامعات العراقية والعربية.


له من المؤلفات:
* سيبويه: سيرته وكتابه
* الظواهر اللغوية في قراءة الحسن البصري.
* الظواهر اللغوية في قراءة اهل الحجاز.
* دراسات في نظرية النحو العربي
* ابن السيد البطليوسي اللغوي الأديب
* شرح جمل الزجاجي لابن عصفور الاشبيلي. دراسة وتحقيق
* رسالتان في لغة القرآن لابن هشام الانصاري ولابن كمال باشا- تحقيق ودراسة.
في هذا الحوار تناولنا أهم المعضلات والطرائق التي تتعلق باللغة ومدى تأثير اللغة العامية والكلمات الطارئة والدخيلة عليها.


*"لغة اليوم " هل تعبر عن الأصل في تحولاتها ؟ أو هي تضعف أمام الأحتياجات الجديدة؟
_"لغة اليوم" مصطلح ينصرف الى مفهومات عدة، فهناك "لغة الإعلام" وهي تخاطب الجمهور، ومن شأنها أن تكون قريبة منه، وأكثره جمهور تسوده الأمية الثقافية وضآلة المعرفة. لذا نجدها تستعين باللهجات الدارجة، وغالبا ما تزاحمها هذه اللهجات في مساحات واسعة من حيزها.
وهي قضية تستدعي علاجا تدريجيا يقتضي تشذيبها من آثار اللهجة الدارجة المرتبطة بأمية السواد من الناس أو شبه الأمية التي تعمه، لأن لهذه اللغة أثرا كبيرا في صياغة لغة التداول اليومي المأمول تفصيحها وتشذيبها من المحليات الدارجة على مستوى الوطن العربي.
وهناك"لغة الثقافة "التي تخاطب جمهور المتعلمين،وبها يكتب الأدب شعرا ونثرا والمقالة الصحفية بمختلف موضوعاتها،وهي أرفع من سابقتها وفي تحول مستمر على مستوى الدلالة والصياغة الأسلوبية،وفيها يتضح أثر التطور اللغوي الذي تستجيب له، والقدرة على التعبير عن العصر بتحولاتها المختلفة وملاحقتها للمستجدات في الإبداع والتذوق والإنتقاء.
وهناك "لغة العلم" بأصنافه الاجتماعية والتطبيقية،وهي لغة متطورة أيضا بحسب احتياجات المعارف الجديدة ومصطلحاتها وللعربية في هذا تجربة تاريخية تتمثل في ما شهدناه من ولادة علوم اللغة والدين والفلسفة والطب والرياضيات والفلك والتصوف وماسواها من العلوم التي ولدت وصنعت لها معجمات مصطلحية خاصة بها،وأساليب للتعبير تباين بشكل واضح أساليب القدماء الذين سبقوهم، والمسيرة التاريخية لهذه اللغة واضحة في ولادتها مع تلاقح الثقافات والعلوم وظهور حركة الترجمة في مطلع القرن الثاني للهجرة وما بعده، حيث بدأت حركة تشكل العلوم الدينية واللغوية والكلامية، ثم ظهرت فيما بعد المعارف الفلسفية والمنطقية التي تمخضت عن ولادة مفاهيم ومصطلحات نشأت عنها معجمات خاصة لم يكن للعربية عهد بها مثل المعجم الفلسفي والتصوفي والكلامي واللغوي بفروعه النحوية والصرفية والبلاغية والعروضية، وكلها انطلقت من أرض اللغة العربية بطريقة التوليد والتعريب والترجمة.
ومازالت هذه "اللغة العلمية"تنمو وتتسع لتلاحق حركة العلوم في عصرنا هذا، ونحن نشهد منذ عقود ولادة لغة الاقتصاد والمال والسياسة بكل أقسامها.وحين نوازن بين لغة علماء الإجتماع المعاصرين ولغة ابن خلدون والماوردي يتضح لنا مقدار تطور هذه اللغة ونموها المضطرد معجما وأسلوبا، مع أننا لانتجاهل الأزمة الراهنة في مواجهة مستجدات المصطلح التكنولوجي الذي يتنامى بوتيرة عالية ليس من اليسير ملاحقتها بما نحن عليه من تأزم حاد في السياسة والمجتمع والتعليم.
وفي هذا البيان إجابة عن الشطر الثاني من السؤال،وهي تنفي نفيا قاطعا مظنة اتهام العربية بالقصور عن مسايرة وتيرة التطور الفكري والعلمي. واللغة، في المحصلة،تنهض بنهوض أهلها وتخمل بخمولهم وفتور هممهم، وبما أننا نواجه اليوم موجة العولمة،وهي تشكل تحديا خطيرا لواقع اللغة في حاضرها ومستقبلها على المستويات كافة،ينبغي لنا أن نتدارك هذا التحدي اللغوي على المستويات التربوية والتعليمية والثقافية، ومن غير ذلك سيغدو واقع العربية مستقبلا مثل واقعها اليوم في البلاد الإسلامية، لغة طقوس وتعبد فقط، شأنها في ذلك شأن اللغة اللاتينية الكنسية. أو ستظل صورة باهتة لتداول يومي لهجي دارج على مستوى السواد العام من المجتمعات العربية المتعددة.
*مارأيك في تركيب الجملة؟ وماتقول في مفارقة أصول البلاغة العربية ؟
- أعتقد أن نظام تركيب الجملة العربية اليوم ومنذ عقود عدة تأثر كثيرا بلغة الترجمة عن اللغات الأوربية، لاسيما في لغة الصحافة التي تواحه يوميا ترجمةسيل من التقارير الصحفية والأخبار التي تصاغ بنظام لغوي يباين أساليب العربية من مثل الإبتداء بشبه الجملة وعود الضمير على متأخر، ومالانجده في أساليب العربية إلا نادراً وعند الضرورة الشعرية.
أما عن مفارقة أصول البلاغة العربية ففي تقديري أن هذه الأصول هي تقاليد أسلوبية يمكن لها أن تتحول وتتباين بحسب حركة الزمن والوعي الثقافي واللغوي الذي يساير تحولات الحياة وتفاعلاتها مع المحيطين الداخلي والخارجي. وهذا التحول وقع في القديم "التراث" ويقع في الحديث،وملامحه واضحة ومعروفة في صور التحول الأسلوبي الماثل في كتابات المؤلفين. بمختلف اتجاهاتهم بمن فيهم مؤلفو العلوم والتشريع واللاهوت، وهو يتضح في موازنة السياب والبياتي بشوقي والجواهري وموازنة الآخرين بالرضي والمتنبي.
*كيف ترى لغة الشعر عند الشباب؟ أهي لصالح التعبير عن الحياة الجديدة أو تراها قاصرة؟
- شعراء الشباب ليسوا على منحى واحد، ففيهم الذي يملك ناصية اللغة ويحسن خلق صورة الشعرية بموهبته التي تحمله إلى منطقة التفاعل مع متلقيه بمهارة وحذق.وفيهم الذي يحتمي بألغاز اللغة وفرقعات الألفاظ والصور فلا يصل إليك منه غير الصخب اللفظي والحذلقة التي لانحمل مضمونا، وهذه الموجة لابد أن تنحسر لأنها لاتنسجم مع منطق الحياة ونسقها الواضح، وإن كان هناك من يشجعها ويتبنَاها من الخارج بسوء نيَة فيما أعتقد.
وصفوة القول أن الشعر فكر وجداني، وليس هناك شعر- كما يقول أراغون- مالم يكن هناك تأمل في اللغة، وفي كل خطوة إعادة خلق لهذه اللغة. وهذا ما نراه ماثلا في لغة الحداثيين من شعراء التفعيلة الذين يشكل نتاجهم تحولا نوعيا عاليا في التعامل مع اللغة سواء من حيث الدلالة أو من حيث الأسلوب، ولعل البداية انطلقت ممن سبقهم من المجددين الكبار إبتداءً بالبارودي وانتهاءً بالجواهري ومن عاصرهم مثل شوقي وحافظ والزهاوي والرصافي وسواهم من الذين خلقوا لأنفسهم لغة جديدة فارقوا بها لغة الكلاسيكيين ورثة تقاليد العصور المتأخرة.
*ما مدى الإستفادة مما أسميته يوما "شجاعة العربية"؟
- "شجاعة العربية" مقولة أطلقها فيلسوف اللغة ومنظّرها الفذّ أبو الفتح ابن جنّي (ت 392ه)،وأراد بها ما يصطلح عليه "بالاتساع" في اللغة أو "العدول" عند القدماء، و"الانزياح" أو "الانحراف" عند المحدثين، وهذا العدول يقع في ألفاظ اللغة توسعا في صورة إطلاق المذكر على المؤنث أو العكس والمفرد على الجمع أو العكس، لعلاقة أو مناسبة ويكون في النثر أو في الشعر، ووقع الكثير منه في لغة القرآن،مع أن القرآن الكريم ليس موضع ضرورة.
ويقع العدول أيضا في الدلالة فيما يسميه أهل البلاغة "المجاز" وبابه في العربية واسع، حتى قال ابن جني :كلام العرب كله على المجاز، وهو يؤشر هنا بوضوح مبدأ تطور الدلالة، وقيّدت منه المعجمات وكتب اللغة ومفسّرو القرآن وشرّاح الشعر الكثير من الأمثلة وما يزال هذا الباب مشرعا أمام المواهب الشعرية والنثرية على نحو ما نسميه شعرية النص وشعرية السرد ونحوها من صور الاستعارة والمجاز والكناية وألوان البديع.
*ماالجديد في الدراسات النحوية؟
_ بعد أن تجاوزنا حركة التجديد والمراجعة التي أثارها كتاب "إحياء النحو" لإبراهيم مصطفى.
وأصداءها في كتاب المرحوم الدكتور المخزومي "النحو العربي:نقد وتوجيه" وجهوده الأخرى في التدريس والإشراف وجدنا أنفسنا نخوض غمار المناهج اللسانية الحديثة النشطة في الغرب وفي العالم، وقد تمثلت طلائع حركة التنوير في كتابات جرجي زيدان وعلي عبد الواحد وافي وعبد الله العلايلي، ثم إبراهيم أنيس ومحمود السعران وتمّام حسان وكمال بشر ومن عاصرهم أو تبعهم من اللسانيين العرب في مصر ولبنان. وتلاحقت الموجة واشتدت عند المغاربة الذين استرفدوا علوم اللسان في فرنسا ثم في أمريكا وبريطانيا ونشطوا على كل المستويات لدراسة اللغة والترجمة لعلوم الغربيين في دراسة اللغةومناهجهم الحديثة.
ولحق النحو مالحق علوم اللغة الأخرى من كشف وتحليل وتفسير لظواهره وأساليبه بفهم جديد ولّدته الدراسات والمناهج الحديثة من بنيوية وتحويلية وتوليدية وأخيرا التداولية.
ومع ان هذه المناهج لم تكشف سرّاً أو تزيد قاعدة أو تلغي قانوناً نحوياً، فإنها اضفت على الدرس اللغوي فهماً جديداً ورؤية معاصرة، فيها اضاءة لوجوه النظام اللغوي وأساليب التعبير من خبر وإنشاء ونفي وإثبات ووظيفية المكونات النحوية من منظور جديد انجزه علماء اللغة الغربيون، علماً أننا نجدُ جذوره وأصوله في مجملها ماثلة في المنجز التراثي بكل وضوح، وهو ما يفتقده التراث اللغوي الغربي بشكلٍ عام، لكن وعي العصر لا بد له من حصائل تستجد بالبحث والتأمل والاستعانة بالعلوم الأخرى وكشوفها في مجال العلوم الإنسانية المتشعبةكعلم الاجتماع وعلم النفس والمنطق وحتى الرياضيات.
*ما موقف الثقافة النحوية من الالسنيات الحديثة ؟
- ربما يكون في إجابتي عن السؤال السابق تنويه عن جواب هذا السؤال، ومعلوم أن النحو ونظامه يمثل مستوى رئيسا ً من مستويات الدرس اللساني الى جانب مستويات الصوت والصرف والدلالة وتفريعاتها الجمة.
والذي بين أيدينا اليوم من دراسات لغوية أثمرتها اللسانيات الحديثة يتجه في شطرٍ منه نحو دراسة النظام النحوي العربي، وهناك نشاط واسع النطاق يتواصل بهدف دراسة الأساليب النحوية عند الشعراء والكتاب قدامى ومعاصرين للوقوف على الخصائص التعبيرية والأسلوبية المميزة لكل واحد من هؤلاء، وعلى مقدار وعي الباحث وحصيلته العلمية تتحقق الجدوى من دراسته، أي بمقدار ما يتمتع به الباحث من قاعدة معرفية نظرية تتحقق لديه مساحة الكشف عن خصائص الأسلوب النحوي فيما يدرس ويحلل من نصوص وآثار، وما نزال نترقب الدراسات المتبصرة في هذا الشأن وسط ركام الجهود التي لم تتحرر من آثار التقليد.
*الصراع بين القديم والجديد دائمٌ، مع من تقف ؟ ولماذا؟
- من حيث المبدأ أنا أميل الى تسمية هذه الظاهرة تفاعلاً لا صراعاً، فالجديد عادة يولد من رحم القديم، على سبيل التطور والتحول المحكوم بقانون "الحتمية التاريخية". وإذا تجاوزنا وحدة المجتمع الإنساني فقد يكون الجديد وافداً، وبمقدار ما فيه من جدوى ومنفعة يكون تقبل الناس له، وهذا ما كان من شأن الدعوات الدينية والسياسية التي وجدت لها صدى واسعا في غير التربة التي نشأت فيها والمجتمع الذي ولدت فيه، بحكم أنها جاءت تلبي الاحتياجات الاجتماعية والروحية لهذه المجتمعات المستقبلة، وقد يكون دور هذه المجتمعات المستضيفة فعالاً في البناء الفكري والاجتماعي والسياسي لهذه الدعوات والمبادئ على نحو ما شهده الإسلام والمسيحية والفلسفات الديمقراطية والاشتراكية في المجتمعات التي تقبلتها سلماً او حرباً، فوجدت فيها أفقاً رحباً للعيش الواعي المستنير، وأسهمت في البناء الفكري والثقافي لهذه المبادئ الوافدة عليها.
من هنا لا يمكن التنكر للقديم الذي انبثقت من أرضه الأفكار الجديدة، ولا رفض الجديد الذي هو ثمرة الحتمية التاريخية وجدل الواقع المتحرك مادياً وفكرياً، وحركة التاريخ ليست إلا صورة الصراع الذي يقع بين الجهات المنتفعة من القديم وتلك المتضررة منه، فأهل القديم لا يريدون ان يتخلوا عن امتيازاتهم ومنافعهم، لكن حركة التاريخ لا تسمح باستمرار القديم إلا إلى حين، ريثما ينزوي في بطون الذكرى وكهوف النسيان، ما لم يكن جديرا بالاستمرار في الواقع أو في الذاكرة التاريخية، لإسهامه في بناء الحضارة الإنسانية.
فالإشكالية لا يمكن اختزالها في أن تقف إلى جانب هذا أو إلى جانب ذاك، ولكن في أن تتبنى الجديد القائم على شرعية جدواه للمجتمع الإنساني، المتحرك دائما باتجاه المستقبل، ونضع القديم الراسخ موضع الاعتزاز والحرص الدائم للرجوع اليه بوعي وبصيرة ناقدة فاحصة.

*ما علاقة الإبداع العربي اليوم – في رأيك – بما آلت اليه حالة العقل العربي ؟
- الإبداع ثمرة لنشاط العقل وهو يتناسب في سعته وعمقه مع سعة عمل العقل ونشاطه، ونحن نعيش اليوم حالة ضمور و تراجع في المنجز العقلي العربي، بل نحن نواجه مشكلة فجوة في العقل العربي في العلم وفي المعرفة اللغوية فلسفة وتنظيراً وتطبيقاً. ونحن نشكو من أزمة حادة في التعليم والتعلم والمنهج ولا سيما على المستوى اللغوي. وهو ما يفسّر تخلّفنا علمياً وتكنولوجيا وحضارياً عن الأمم الأخرى التي تقدّمنا عليها في الوجود التاريخي والحضاري لقرون عدّة ثمّ تجاوزتنا لمراحل عدة في هذا المضمار الحضاري.
ويفسّر الباحثون في هذا الشأن أسباب ذلك التأزم الحاد بعدم الاهتمام أكاديمياً وثقافياً بنظرية المعرفة وفلسفتها، وجفاف الروافد العلمية التي تصب في مسار التنظير العلمي في مختلف فروع العلوم، لا سيما العلوم الإنسانية وفي مقدمتها علوم اللغة التي يصيبها من هذا القصور الشطر الأكبر لتخلّفها عن مسيرة النشاط العلمي المعاصر المتحقق في عامة فروعها العلمية ومناهجها المستجدة دائماً.
وتؤكد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات –كما يقرر الباحثون – كون اللغة محور منظومة التنمية المجتمعية، وتتبوأ اللغة موقعا محوريا في منظومة الثقافة، وما لم تكن هناك تنمية اجتماعية ومنظومة ثقافية مرتبطة بها، فلن يكون هناك إبداع ولا إنتاج معرفي على أي مستوى كان.
وما دامت اللغة هي أداة نقل للمعرفة بل هي صورتها التي ينبغي لها أن تكون شفافة، وجب أن تكون العناية بها فائقة والتعامل معها رفيعا بحسب ما يقتضيه الوجه الحضاري الذي نطمح اليه.
ولا يخفى أن مراجعة برامج التعليم واستدراك الفجوات القائمة فيه واستكمال المنظومة المعرفية والتربوية بتلافي الفراغات والثغرات القائمة فيها -وهي كثيرة وتأسيسية- امر بات ملحا في مرحلة نتطلع فيها الى اعادة البناء، ويطمح شعبنا في تجاوزها والارتقاء بوضعه الحالي المتهافت الى مرتبة أرفع والى درب الخلاص ودرجات التقدم، أسوة بالأمم الناهضة المنتجة للمعرفة والمنجزات التكنولوجية.
*الحركة الثقافية العراقية بعد 2003 م ماهو وضعها اليوم؟
- لا يختلف اثنان في أن الافق الذي وجدت الثقافة العراقية نفسها فيه غير الأفق الذي كانت فيه قبل التغيير، وبغض النظر عن اختلاف الحكم على هذا الوضع الذي وقع، وتعارض وجهات النظر حوله بين تباين وتناقض فأعتقد أن ما نتفق عليه جميعا أن هذا التغيير وما تبعه من ترسيخ بعض المبادئ عرفا أو تشريعا رفع الحواجز والقيود عن أفكار الناس وأقلامهم ورؤاهم، بغض النظر عن الحذر الذي ينتاب المثقف والمفكر من تجاوزات الوارثين لسجية الحجر على الآخر وادعاء السلامة بل القدسية لرؤيتهم دون رؤى الآخرين، ولهذه المواقف جذور غذّاها ويغذيها الفكر الشمولي المطلق سؤاء كان يساريا أو يمينيا أو غيبيا.
ونحن اليوم نجد الكاتب و المثقف يتمتع بقدر غير قليل من الحرية ليس على مستوى الفكر السياسي و الحكم على مجريات الأمور، بل على مستوى الرؤية الفلسفية والاجتماعية والثقافية، لكن الخشية الحقيقية التي تشكل هاجسا قويا لدى المثقف ومصدر قلق له هو شيوع الأمية المعرفية لدى قطاعات واسعة من المجتمع بسبب تراكم الجهل المتعمد الذي كرسته السياسات السابقة ثم استغلال هذا الواقع المأساوي، الأمر الذي يؤدي بلا شك الى تغييب الحقيقة وإضعاف الرؤية الصائبة ان لم يكن مصادرتها أصلا ويمكن القول ان الثقافة العراقية تشهد اليوم حالة مخاض عسير وتواجه تحديات ليست مقتصرة عليها، بل تشهدها الثقافة العربية بوجه عام شرقا و غربا، ولعل تجربة المثقفين في مصر وتونس والجزائر والمغرب ومواجهة الفكر الاكليروسي المتعسف تمثل صفحة كبرى من صفحات الصراع الثقافي في عالمنا العربي.
ولدي من قراءة تاريخ بلدنا حصيلة اقتناع بأن الإبداع قد يخبو حينا ويضمر أحيانا، لكنه مايلبث أن يتوهج في مولد جيل من الشعراء المبدعين والكتاب النابهين والمفكرين الراسخين لا سيما اذا أتيحت لهم فرص الاحتكاك بالثقافات المتقدمة والتجارب الناضجة عالميا، لان الثقافة الانسانية كائن عضوي يتمدد في مساحات واسعة من الجغرافيا والتاريخ معا.
*الفجوات التي نوهت عنها في الثقافة اللغوية بخاصة في الثقافة الاجتماعية بعامة مالسبيل الى علاجها وتجاوزها؟
_ تؤشر تجارب الامم الناهضة في عصرنا، وتجربتنا نحن في الماضي في عصر نهضونا الحضاري وبناء الدولة العربية الاسلامية في عصورها المتقدمة تشير الى ان الاستعانة بتجارب الشعوب المتحضرة والفكر الانساني المتقدم هي السبيل الى تجاوز الواقع المتخلف وبناء حضارة مكينة تأخذ موقعها بين المنجزات الانسانية الراسخة.
فالحضارة البابلية في القديم قامت على تفاعل مع الحضارة السومرية واستلهام منجزاتها على المستويات المادية والروحية.
والحضارة العربية الاسلامية قامت على الاستعانة بترجمة علوم اليونان والهند وفارس وتمثلها فضلا عما كان عندها من ذخيرة الاسلام ووعيه المتقدم في رؤيته الانسانية الشاملة.
ولا شك أن النهوض المتسارع الذي نشهده اليوم في اليابان والصين وجنوب شرق اسيا وامريكا اللاتينية ماهو الا ثمرة تلاقح هذه البلدان بمنجزات الحضارة الغربية فكرا وادارة وانتاجا ماديا، و مما لاشك فيه اننا عانينا قطيعة مجحفة وحيفا بالغا من جرّاء انقطاعنا عن التواصل مع المنجز الحضاري العالمي المتقدم بسبب الظروف المعروفة التي حاقت ببلدنا وألحقت بنا خسائر فادحة وكوارث قاصمة، مانزال نعاني عواقبها حتى اليوم.
والذي نحتاجه اليوم لعلاج الركود الذي نحن عليه على مستوى الوعي العلمي واللغوي والثقافي، هو مراجعة برامجنا العلمية بعامة وبرنامج الدرس اللغوي بخاصة.
وينبغي لنا لتلافي مانحن فيه من تخلف حاد ان نسارع بالتوجه الى الجامعات العالمية المرموقة ومراكز البحث العلمي ومعاهده ومؤسساته لنستقي مما عندها من منجزات، وتجربة الاشقاء المصريين في الاربعينات والخمسينات وكذلك تجربة الأشقاء المغاربة خير ملهم لنا في هذا السبيل. ثم اعادة النظر في برامجنا الدراسية ونفض الغبار المتراكم عليها منذ عقود عدة،وتجديد دمائها باضافة مواد جديدة و حيوية ومفصلية في تكوين وعي متنور متكامل يحرك الفكر ويخلق قدرة على المحاكمة العقلية للمشكلات والتقاطعات الفكرية، والرؤية العلمية السليمة عند طلبة العلم والباحثين، فعلوم حيوية مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم المنطق والفلسفة بمختلف اتجاهاتها العقلانية وعلم اللغة المعاصر بفروعه في الاصوات والتراكيب والدلالة والمعجم والمصطلح وبقية فروعه المستجدة ماتزال غائبة تماما عن قاعات الدرس في أقسام اللغة العربية سوى ومضات هنا أو هناك يدرسها هواة الدرس اللغوي ممن لم يتخصصوا على نحو دقيق بهذه العلوم، وهو الامر الذي يعرفه جميع العاملين في أقسام اللغة العربية ويضجون بالشكوى منه ومن آثاره المثبطة. وليس لنا اليوم من علاج لهذه الظاهرة غير وضع الامور في نصابها وتلافي هذه الثغرات المعوقة لكل تقدم ونهوض حقيقي بعقول الدارسين وحصائلهم العلمية المأمولة.
ومن نافلة القول أن هذه المطامح مرتبطة بإصلاح الوضع العام في الوطن ووضع الامور في نصابها والاهتداء الى طريق بناء هذا البلد على الوجه الذي يحقق مطامح جميع مكوناته السياسية والاجتماعية والدينية، وينطلق به الى آفاق الإعمار والبناء والسلام الاجتماعي.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في