الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافة الفيلسوف

حمودة إسماعيلي

2014 / 1 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


خرافة الفيلسوف : بحث في شخصية المتفلسف الحقيقي واختلافه عن الصبّاغ الثقافي

عندما يكرر الإنسان سلوكا معينا قولا كان أو فعلا فإن ذلك يعني أن هذا السلوك له أهمية، وحاجة ضرورية بالنسبة للمعني ـ كالأكل والجنس والنوم ـ ودون ذلك قد يعتبر عرضا وسواسيا يكشف عن اضطراب في وظيفة التفكير وعجز عن تحليلٍ واضح للواقع. وحتى تتضح هذا النقطة، لنفترض أن شخصا يذهب للصالة الرياضية، فهو يكرر نفس السلوك تقريبا كل يوم، بالقيام بحركات معينة، غير أنه إذا ركزنا جيدا سنجد أن تلك الحركات تتغير نسبيا وتتطور مع المدة، أما إذا كان الشخص يأتي كل يوم للصالة، ويقوم بتكرار نفس الحركة كل يوم، فإما أنه معتوه، أو أنه لا يستطيع القيام بحركة أخرى (رغم أن أي شخص طبيعي سيشعر بالملل، فإما سيتوقف أو سيبدل جهدا للقيام بحركات أخرى).

بالانتقال من الصالة الرياضية، للخطاب الثقافي العربي، نجد بعض التشابه، فأغلب الكتابات العربية لا تتغير منذ قرون، هناك كلمات محددة تتكرر باستمرار، ولها من التأثير أنها تجعل الخطاب خاضعا لحقل معين، ينتج فيه ويعيد الانتاج دون تجاوزه، لأن التجاوز يتطلب آليات ورموز جديدة قادرة على إخراج الخطاب من الخضوع لحقول ومفاهيم معرفية معينة. هذه الكلمات هي "إسلام"، "خلافة"، "هجرة"، "سنة"، "شيعة"، "قرآن"، "دين"، "إلحاد"، "ردة"، "وهابية"، "الله"، "شيطان"، "نبي"، "شريعة". ومن المثير للريبة، ليس عدم وجود أي خطاب ثقافي عربي لا يتضمن إحدى هذه المصطلحات، بل لا وجود لمقال لا يحتوي أغلبها. ما يتبث أن الخطاب محصور داخل حقل الدين، رغم النقد والرد والدفاع والتحليل والتفسير والشرح والتفكيك فلم يستطع بعد تجوازه، ولم يقدر بعد على إنتاج مفاهيم جديدة تساعد على الانتقال والتجاوز وإعادة انتاج مشروع ثقافي بديل. لازالت نفس الإشكاليات ـ التي كانت مطروحة في العصر الذي أنتج هذه المصطلحات ـ تفرض سلطتها بالوقت الراهن، لازالت تمارس ضغطا وسيطرة على المثقف المنتج والمتلقي بنفس الوقت، لازالت تستعصي على الإحاطة والإخضاع. والسؤال هو : لماذا ؟

طبعا الجواب هو أن الحقل الثقافي العربي لم ينتج فلاسفة، أي شخصية متساءلة تغادر الكهف الثقافي المعتاد لتُحضِر صور جديدة عن عالم واقعي لا يخضع لتصورات وتفسيرات مسبقة، لا يخضع للتأويل والرؤى الدينية الجامدة، بآليات قادرة على البرهنة بوجود واقع أفضل أو مغاير أو بديل. العرب لم يعرفوا فيلسوف ماعدا إذا رغبنا باستثناء الرازي كمتفلسف وشكاك ضد الخطاب الثقافي المعتاد، رغم أنه لم ينتج مشروعا فلسفيا ولم يقدم آليات ورموز اشتغال بديلة أو بتعبير أوضح فيلسوف لم يغادر الحقل أو الكهف، أما البقية التي يعتبرها الأغلبية المثقفة فلاسفة، فأكثر ما فعلوه أنهم اخضعوا الثراث الفلسفي اليوناني لخدمة الشريعة الدينية، لتوسيعها وتجميلها وترميمها حتى تلائم صيرورة التغير الاقتصادي والسياسي للواقع الاجتماعي.
الفيلسوف هو السؤال، هو الخلق، هو الثورة والانفصال عن المتوفر والمعتاد، أما بالنسبة للفلسفة الدينية (الإسلامية والمسيحية) فلم تعرفا فلسفة بمعناها الإبداعي والتنويري، فلسفة غير خاضعة للتصورات المنتجة مسبقا، وغير معنية بتبرير المعتقد الممنوح، ولا تكتفي بالأليات الموجودة والمتوفرة لتحليل الواقع وإنتاج خطاب ورؤى، بل تجدد الآليات بخلقها حسب نوع الخطاب البديل، فالمشروع الفلسفي الإسلامي المسيحي (أو نومة القرون الوسطى) ظل معتمدا على الآليات الأرسطوية والأفلاطونية والرموز الدينية (السابق ذكرها)، حتى ظهور ديكارت الذي انفصل عن هذا المشروع التنويمي بإيقاط خطاب جديد تطلب آليات جديدة ومنهجية جديدة تمثلت في "الكوجيتو"، وإعادة الانطلاق من التفكير كطريقة وجود بعد التشكيك في كافة المعطيات.

كل تصور فكري معين للعالم أو قفزة نوعية ثقافية، فرضت نفسها بخطاب يتضمن آليات إبداعية وجديدة، فكما رأينا "الكوجيطو" مع ديكارت، نجد "الانتخاب الطبيعي" مع داروين، و"النسبية" مع انشتاين ثم الكوانتم بعده في المجال الفيزيائي، ونجد "الأنا" و"الهو" و"الأوديب" عند فرويد، و"البروليتاريا" لدى ماركس وكذلك "الشيوعية" كمشروع يستمر مع لينين وروزا. أما بالنسبة للخطاب العربي فإن القفزة الانتقالية التقافية أو تحولات الخطاب الديني نجدها في "الوهابية" كدعوة رجعية وليست كمشروع تنويري يخلق وينتج آليات ورموز مغايرة وثورية جديدة، مثل "الفرويدية" و"الماركسية" و"الداروينية". وتجلت الدعوة الرجعية بالقطيعة مع الآليات المتوفرة مثل التخلي ورفض رموز المشروع الفلسفي اليوناني ك"اللوغوس" و"الميثوس" و"الميتافيزيقا"، واستخدام آليات اقدم تنحصر في "الحديث"، "الفتوى"، "الخلافة"، "الحد" و"القصاص"، مايشير لدعوة تدميرية تهدم المستقبل على حساب الحاضر للتقهقر نحو "رحم" الأمان الثقافي، وإعادة الاشتغال بالأسس المُشَكِّلة للمشروع الثقافي الفلسفي وهو الدين "السنة" ـ ونجد له مقابل نتيجة الصراع الداخلي الذي يمارسه الخطاب الديني المؤثر في ـ "الشيعة"، كلا الخطابين دعوة للهدم وإعادة الإنتاج بنفس الآليات المتوفرة والمستهلَكة، وهكذا ظلت الفلسفة والثقافة العربية مشروع مستهلك ومحصور داخل دائرة الهدم وإعادة الترميم، أو "الانسحاب" كتأمل هندي أخد صبغة إسلامية بآليات أفلاطونية : "الصوفية" أو الانتقال لعالم الفكر الازلي للتماهي مع المطلق (عالم العقل الهرمسي).

وكما أنتجت المنطقة العربية (بين النهرين وشبه الجزيرة) أنبياء وخطابات دينية متتالية نظرا للتأثير الفكري نتيجة القرب (فلم نسمع بنبي من بانكوك أو جنوب أفريقيا)، كذلك حصل الأمر مع المنطقة الغربية بانتاج فلاسفة متتاليين ليس كفلاسفة "نومة القرون الوسطى" أو خُدّام الإيديولوجيا (نتيجة التأثير والتقليد الثقافي تم انتاج هؤلاء المتشابهين منهجيا كذلك)، بل كنموذج ديكارتي، نراه في "تفكيك" دريدا و"المسكوت عنه" عند فوكو، و"مابعد العلمانية" لدى هبرماس، أيضا "الوجودية" عند سارتر و"الكينونة" عند هايدغر، أما بالخطاب العربي نرى "البلطجية" و"الشبيحة" كتأثير الواقع بالخطاب المقولب بدل تأثير الخطاب المفتوح بالواقع والسعي للسيطرة عليه، زيادة على التراشق اللفظي والكتابي بين الأطياف الثقافية ك"عمالة"، "تطبيع"، "إرهاب"، "غزو"، "اسقاط"، "أخونة"، "شرعية"، "تكفير". ما يؤكد تآكل الخطاب الداخلي واحتواءه على الاستهلاك العدواني الذاتي نتيجة عدم التجديد والابتكار. فالطاقة الإبداعية ترتد للخلف بدل الانطلاق لسبر أغوار الغير المتحدث عنه والغير الموطوء قبلا والمنطقة المجهولة أو اللاوعي الشرقي-العربي، إنما الخضوع والارتجاف ومحاولة صبغ الخطاب الديني والفلسفة المتواطئة وإظهارها بأنها خطاب ملائم لكل العصور كإعادة قراءة له نجدها عند أركون والجابري وأبوزيد وجعيط وحنفي والنخبة الغربية التي لم تمتلك روح فلسفية مؤثرة في الرأي العام والسياسي. وما التراشق الثقافي إلا دفاع عن الذات والأنا ! .

نجد المثقف العربي يشكو قلة الاهتمام، وعدم توفير ماده إعلانية وإعلامية له وتعرضه للإقصاء والتهميش والخداع، فالجمهور يتجمع على الفن الاستهلاكي والترويج الدين-إعلامي. غير أن العقدة في اعتقاد وشعور المثقف، في أفكاره (بتعبير علي حرب "أفكار المثقف هي أزمته")، فالفيلسوف لا ينتظر دفع أو تركيز أو مساعدة، لأنه كما يؤكد نيتشه يفرض ذاته ويخلق الحدث "ينزل كالصاعقة"، الفيلسوف يمتلك كاريزما وقوة جذب مثله مثل الساحر أو كاهن القبيلة، فأصالته وإبداعه تؤثر في الوعي الجمعي كحقيقة متطلبة ومفيدة ومساعدة على التعرف الأفضل للواقع المعاش. وليس شخصية انسحابية وضحية غريبة أطوار تنتظر إعلام يديره مرضى عقليون أو دور نشر تتسول دراهم، تقدم ردفيها ليسكب أي مغفل منيّه الثقافي العقيم.. وتعمدنا استخدام التشبيه الجنسي الفاحش نظرا لعدم اختلاف دور النشر (العربية) عن العاهرة، باستثناء القلة.

ففيلسوف ينتظر من يكشفه ويعليه حتى يصعد خشبة المسرح، فهذا ثعلب وليس مثقف، زيادة على أنه تصور تقليدي، فالفيلسوف يجذب لا يصعد أو ينزل، ينتشر ولا يتمركز. لكن الإشكال هو في عدم امتلاك المثقف لآليات متطورة تقطع مع المعتاد والمتوفر، وتحرره نحو بناء جسر مع المجهول والعذري والنائي، ويعتقد أنه فيلسوف مهمش ! الفيلسوف يستمد السلطة من مشروعه وفكره، لا يتسوّلها.

خطاب التكرار لا ينتج شيئا سوى التأكيد، وحده الانطلاق "من" و"نحو" الممنوع والمرفوض والمبعد، هو ما يعيد للمثقف رونقه وتحكمه وقدرته على الإدهاش والحضور من الجوانب والأماكن غير المتوقعة، بلغة وأسلوب وآليات تمكنه من الاختراق. والآلية والرموز توجدهما الضرورة، ضرورة الخلق والإنجاب. وحتى ينجب يلزم "حمل" : توفر كرموزومات متنوعة ومن اجناس مختلفة، وليس الاعتماد على مخصب (طرف واحد مقدم للكروموزوم) وإلا سينجب مشروعا مشوها أو معاقا، إن لم يعني ذلك "العقم" كنتيجة.

الفيلسوف هو الصدمة، المصدوم الذي يصدم الآخرين، هو ذاك المفكر. الفيلسوف خرافة، وحدها الصدمة هي الواقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف