الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طفولة بضمير ال -أنا-

منير العبيدي

2014 / 1 / 26
الادب والفن



طفولة أولى
سفرتي الأولى
قبل أن أغادر بهرز و أذهب الى كنعان و عمري بين الرابعة و الخامسة زرت بعقوبة مرة أو مرتين. الأولى بصحبة خالتي و الى السوق الكبير و من المحطة ركبنا عربة يجرها حصان. جلست خالتي و وجهها باتجاه سير العربة و انا قبالتها و رأيت الناس تعود القهقرى ، فسألت خالتي:
ـ خالة... لماذا الناس في بعقوبة تسير الى الوراء؟
قالت
ـ لا يسيرون الى الوراء. انت اسرع منهم و تجتازهم و ترى انهم يسيرون الى الوراء.
لم اقتنع بجوابها وبقيت مع نفسي مصرا " ان الناس في بعقوبة تسير الى الوراء".

كان عمي صالح موظفا صحيا كثير التنقل حط رحاله اخيرا في ناحية اسمها كنعان. قررت جدتي ان تذهب الى هناك و تبقى بضعة ايام و قررت و ان تصطحبني معها. قطع بنا الباص الخشبي " الفيافي و القفار" و هزنا يمينا و شمالا حتى بلغنا كنعان التي سأكتشف مندهشا فيما بعد انها لا تبعد عن بعقوبة سوى 15 كيلومترا و سوف اقطع المسافة اليها بأقل من عشرين دقيقة.
رأيت كنعان جميلة جدا، بل و فاتنة، و بقيت في ذاكرتي كذلك و هي ليست سوى ناحية صغيرة اختلفت اليها كثيرا فيما بعدكان المركز الصحي يقع في قلب البلدة، يرفرف عليه علم خاص، سكن عمي بجواره في دار تابع له. انشغلت جدتي كل يوم باعداد الطعام حتى ينتهي عمي من عمله فنتغدى سوية و اثناء انشغالها كنت اقضي الوقت ألعب من ابن المعلم في بيتهم قبالتنا و نرسم بطباشير ملونة.
في أحد الايام اصطحبني عمي الى المقهى. و بينما انشغل هو بالحديث مع آخرين، انزويت مراقبا اعجوبة زينتها لي اكتشافات الطفولة. كان على جانب من حلقة عمي رجل يدخن النارجيلة. لم اكن مفتونا بالدخان و لكن بالماء المتشقلب كلما جر الرجل نفسا منها.
و ما أن انتهى رجل النارجيلة من التدخين و غادر بعد ان لف الانبوب المطاطي الاحمر القاني حولها، و كنت قد راقبته و عرفت كيف قام بـ "تحريك الماء"، انسللت دون رقابة عمي و جلست حيث كان، و حررت الانبوب المطاطي ثم وضعت طرفه الذهبي في فمي و سحبت الهواء ناظرا الى الماء في الزجاجة، و لكن الماء لم يتحرك، فما كان مني إلا أن افرغت ما في رئتي من هواء و سحبت نفسا عميقا هذه المرة.
تقلب الماء محررا الى الاعلى فقاعات كبيرة و كدت اهتف مزهوا بانتصاري.. و لكن قبل ان اتمتع بمنجزي شعرت برائحة نفاذة كريهة تشق رئتي و دوار و رغبة في التقيؤ. تقلصت معدتي دافعة ما فيها نحو الاعلى، و من خوفي اغلقت فمي بكفي و انطلقت راكضا.
في هذه اللحظة انتبه عمي و شاهدني اركض مذعورا فذعر هو الآخر و ركض خلفي صائحا : توقف! انتظر! ماذا جرى لك؟
عبرت الشارع و هو يعدو خلفي و ما أن وصلت إلى الجهة الأخرى حتى افرغت كل ما في جوفي. و لا ادري لماذا لم أتقيأ في الجهة التي يقع فيها المقهى. قادني عمي من يدي و اعادني الى المقهى و غسل و جهي بماء منعش ثم سألني: ماذا حدث؟
أشرت الى النارجيلة و قلت له : حاولت انا ايضا تحريك الماء في الزجاجة.
ـ هذه ليست لعبة تحريك ماء! انها نارجيلة للتدخين! لا تقرب منها بعد الآن.
هززت رأسي مطيعا و عرفت منذ ذلك الحين أن هذا الشيء المسمي نارجيلة هو للتدخين و ليس للتمتع بشقلبات الماء.

كنعان 2
بعدها بيوم أو يومين و في ظهيرة في كنعان، و عمي و جدتي نائمان، تسللت من الشباك، و كان الظهيرة قائضة و تطلعت متسائلا عند حافة الشارع الى اي جهة اتجه؟ حتى استقر بي الحال ان أسير يمينا. ما هي الا دقائق حتى كنت عند نهر "مهروت" في النقطة التي يتقاطع فيها مع الشارع الذي يتجه الى مندلي عبر قنطرة.
كان النهر مليئا بالصبيان يسبحون و يتصارعون و يصيحون و ما ان شاهدوني حتى صرخوا يستميلوني ان اسبح معهم، فالطفولة لا تحتاج الى تعارف مسبق. لم أكن بحاجة الى ان انضو عني ملابسي فقد تسللت من بيت عمي بقطعتين من ملابسي الداخلية.
ما ان هممت أن أضع قدمي في الماء حتى لاحظت أن الاطفال قد خف ضجيجهم و تطلعوا الى شيء ما خلفي... و قبل أن ادرك ما يجري بثوان شعرت بقبضة محكمة تمسكني من رقبتي من الخلف. لم أشاهد شيئا و لم استطع الالتفات، لكن القبضة القوية هي التي ادت المهمة فادارتني الى الخلف، و الاطفال المغمور نصفهم بالماء مستمرون بترقبهم، فإذا وجه عمي الغاضب قبالة وجهي.
ماذا تنوي أن تفعل؟ سألني عمي بحدة.
أسبح
تسبح؟ هل تريد ان تغرق و اعيدك جثة الى اهلك؟
(سأسقط في الماء و اغرق عند "نزاوة" ديالى بعيد ذلك و ينقذني بأعجوبة رجل من آل الحباب.)
لكن عمي الذي اعادني للبيت كان لا يزال متعجبا كيف استطعت الخروج و الباب مقفل و المفتاح معه فسألني: كيف خرجت؟
قلت: من الشباك.
سحبني الى الشباك و قاس راسي بالفتحة بين القضبان و قال:
رأسك اكبر من الفتحة، كيف أخرجته؟
ـ لا ادري!

كنعان 3
و قبل أن نعود الى بهرز انا و جدتي بساعات و عند ضحى يوم من تلك الأيام، جلب لنا فلاحو القرية خضارا و خيارا يانعاً. اكلت ما شاء لي أن آكل من الخيار و الطماطم و ابقيت على خيارتين طازجتين يانعتين و كانت لا تزال وردة صغيرة عالقة بطرفهما و أعلنت: سآخذ هاتين معي الى نذير و مظفر.
عند الظهيرة و قبل نضوج الغذاء شعرت بالجوع فأكلت واحدة و قلت لجدتي : مظفر لا يجب الخيار.
و في الباص إلى بهرز أكلت الثانية فسألتني جدتي : هذه، لماذا اكلتها ايضا؟
ـ و نذير أيضا لا يحبه.

طفولة ثانية
أبي و الراديو
كان لأبي قبل وصول الكهرباء راديو يعمل ببطارية كبيرة سوداء، كلما فرغت من الشحن وضعها أبي على المقعد الخلفي لدراجته الهوائية و اخذني معه الى مقهى عاشور التي كان في قلب الفضوة مقابل بيت الأخوة عبيّد، هنا انزلت البطارية و ادخلت غرفة مظلمة، و بقيت في ذاكرتي التماعات الشرر المتطاير عندما ربطوا البطارية بجهاز الشحن.
كان للراديو هوائي مرتفع فوق السطح لتقوية البث.. و بالموجات القصيرة كان ابي يستمع الى مختلف المحطات. و للراديو ايضا سلك ارضي (ايرث) يخرج منه و يرتبط بتجويف صغير بالارض ينبغي الإبقاء عليه رطبا. صب أبي فيه ماء و لكن في المساء غالبا ثمالة ما تبقى من مشروب ابيض. كان الارضي ضروريا حين ذاك لتفريغ شحنة الصواعق اذا ما ضربت الهوائي و شكلت خطرا على المتحلقين حول الرايو.
عندما دخلت الكهرباء في اواخر حوالي عام 1956 اشترى ابي راديو سيرا و تخلصنا من الكائن الثقيل الاسود و من مهمات الشحن. استمتع ابي بالاخبار، اما نحن فكنا نراقب بفضول التماع العين السحرية و لونها الاصفر المخضر كقطرة برلين الحارقة المرعبة.
الكهرباء التي أنارت البلدة بضوء كابٍ لم يتجاوز اشراقة سلفها فانوس البلدية النفطي، أتتنا من محطة توليد في مدخل البلدة في "مال نصري"... يوقف المشغل عمل المولدة آخر الليل حتى الضحى. اخبار اسقاط الملكية عام 1958 سمعه سواق الخط بين بهرز و بعقوبة من مذياع احدى السيارات حين كانوا يجلسون في سيارة واحدة و يتبادلون الاحاديث بانتظار راكب قد لا يأتي حينذاك الا كل نصف ساعة.
سمع سلوم ساره بالخبر فذهب الى المُشغّل و قال له: شغل المولدة الناس تريد ان تستمع الى الاخبار. فأجابه المشغل
الحكومة لا تقبل
قال له سلوم: لم تبقه "خره" حكومة.... شغل!
شغل المغلوب على امره المولدة لنسمع الاخبار التي افرحت الجميع دون أن يعرفوا لماذا!!
اثناء ازمة خليج الخنازير بين الاتحاد السوفييتي و امريكا و بسبب الصورايخ السوفييتية في كوبا تحول ابي و زواره الى خلية ازمة لمراقبة الوضع المتوتر الذي هدد بحرب عالمية ، اما نحن فكنا نتمتع بأكل المزة.
في الستينات و قبل الثامن من شباط اشترى ابي جهاز مذياع روسي كبيرا بأربع سماعات و ازرار من عاج.
ثلاث اجهز مذياع ارخت لتعاقب ثلاث عهود حملت لنا اغانٍ مثل "صباح الخير يالوله" ... و لكن ايضا اخبار الدم..
طفولة ثالثة
أمي و ضرتها
لم يتزوج ابي غير امي و لكنها صرحت أن لديها ضرة!!
.. كانت ضرة أمي هي الكتب و المجلات ، أو من باب أولى الإفراط في الكتب و المجلات التي كان ابي يشتريها و يجلبها للبيت.
لا اتذكر الكثيرَ مما كان يجلبه ابي من كتب و مجلات قبل 14 تموز 1958 و لكن بقيت لدينا حتى وقت متأخر نسخ من جريدة البلاد تحمل أخبار الحرب الاهلية اللبنانية و صوراً بالراديو منها لكمال جنبلاط محاطا بمسلحين و مجلاتِ اطفالٍ مثل سمير و تهته. أما بعد هذا التاريخ فقد جلب تسعا او عشرا من المجلات و الصحف.
حملت صحف ما بعد الرابع عشر من تموز في صفحاتها الاولى صورا عن المقبوض عليهم ممن طاردتهم "الثورة".. لا تزال عالقة في ذاكرتي صور القاء القبض على فاضل الجمالي و قد لبس العقال و الزي العربي ... صورت الصحيفة بقلة حياء ما وجدوه في جيبه: اتذكر جيدا منقاش و ادوات حلاقة !! اليوم اشعر بالخجل لانني احتفيت بالقاء القبض عليه، مسايرة عمياء للفرح الغامر الذي عم الجميع!ّ!
لم تكن امي مخطئة كثيرا كربة بيت ترعي عشرا فيما اعتبرته ضرتها، ففي الخمسينات كان يمكن للمرء ان يتبضع ما شاء له من فواكه و خضار و لحم بما لا يتجاوز الدرهمين او الثلاث فكم تكلف صحف و مجلات ابي؟
كانت لامي ضرة رغم ان ابي لم يتزوج غيرها.
طفولة رابعة
هل تأكل القطط البيض؟
في بيتنا الذي بدا في حينها كبيرا جدا كنا نربي دجاجات.. في الصباح كان البيض الدافئ يجد طريقه القصير الى المقلاة و لمّا يمض عليه دقائق..
في أحد الايام خنت الامانة العائلية فسرقت بيضة. كسرت الجزء العلوي من القشرة بعناية ، و الجميع نائمون، ثم ازلت الغشاء الرقيق الشفاف و "زلطت" محتوياتها ثم رميت ما تبقى من قشرة في البالوعة التي تتوسط البيت.
أمي رحمها الله كانت تتفقد البيض كل صباح فتلعن القطة التي تسبقها اليه و تسرق بيضة او بيضتين، ثم تتسائل: "اذا كانت القطة تسرق البيض فماذا تفعل بالقشرة؟ أين هي؟". اسمعها ممعنا في خيانتي دون جواب.
الخيانة تبدأ كفعل صغير دائما.
في أحد الايام فاض سري عن الاحتمال و متعتي بالبيض عن الانفراد فناديت غسانا قريبي و جاري المستيقظ دائما مثلي باكرا ليشاركني متعة البيض النيء الطازج... أخذت البيضة من تحت الدجاجة و احسست بدفئها بقبضة يدي ثم نقرت قمتها و ازلت القشرة ثم ازلت الغشاء الرقيق كما افعل كل مرة و دفعت بها الى غسان ... تذوقها، فأكفهر وجهه اشمئزازا و اعادها الي مستنكرا، نظرت اليه بسخرية و سحبت بنفس واحد ما فيها و القيت بالقشرة في البالوعة..
عند ضحى نفس اليوم و امي لمرة أخرى تشتكي القطة اللعينة التي تسرق البيض و تخفي كل أثر، بادرها غسان: "اي قطة يا خالة ! انه منير يأكل البيض و يرمي القشرة في البالوعة ، شاهدته بنفسي".
برلين أواخر 2013 أوائل 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد