الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإسلاميون بين التقية والتمكين

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 2 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما كانت السنن والأدبيات الإسلامية في أي يوم منذ نشأة الإسلام ذاته تُرجع الولاية والحكم لغير الله. فوق هذه الفكرة القاعدة، المرجعية والتسليم لحكم الله وحده دون شريك له، تراكم الصرح الإسلامي واستمد منها كيانه واسمه ذاته- الإسلام. لولا الاعتقاد والإيمان في وجود آلهة وقوى عليا غير مرئية، ما وجب "الإسلام" لأي قوة غير أرضية، واضطر البشر لإدارة وتدبير أمورهم الحياتية بالاعتماد على أنفسهم. أما أن الاعتقاد بوجود الإله لا يزال راسخاً، حينئذٍ لا يكون من تفسير مقنع لـ"الإسلام" والرجوع والاحتكام لغيره، خاصة من البشر، في أمور الحكم والحياة إلا شركاً صريحاً بالإلوهية؛ وأن يكون الإسلاميون أنفسهم هم المشركون بهذه الإلوهية والحاكمية لله وحده، هذه متناقضة مستحيلة التوفيق مع السنن والأدبيات الإسلامية ذاتها محل الإجماع والتقديس والتسليم التام منهم. الأدبيات والسنن الإسلامية لا تعترف بحكم لغير الله وحده، بينما الدولة الحديثة قامت في الأساس على مفهوم "السيادة للشعب" وحده، أفراد الشعب هم أنفسهم الذين يديرون شئونهم ويقررون مصيرهم بالإرادة الحرة عبر نوابهم المنتخبين، دون تدخل من أي قوة عليا أو أخرى من خارجهم. هكذا بنيت أجهزة ومؤسسات الدولة على أساس ومرجع علماني صريح، لا يرفض الدين، لكنه أيضاً لا يتخذ من الدين مرجعاً أو منظماً أو ضابطاً أو حاكماً له. بالعكس، في المفهوم الحديث الدين هو الذي يخضع للضبط والتنظيم من الدولة، لا الدولة تخضع للدين. كيف، والحال كذلك، يمكن تفسير إمساك الإسلاميين في مصر وتونس وغيرهما أثناء حقبة الربع العربي بناصية أجهزة ومؤسسات الدولة العلمانية، وبدلاً من الانقضاض عليها لهدمها وإقامة مشروعهم الإسلامي من أنقاضها يدعون الحرص والمحافظة عليها والرغبة في حمايتها وتقويتها حتى أكثر من قبل؟

الدولة الحديثة تأسست على مفهوم "القانون الطبيعي"، تلك النظرة إلى الإنسان والكون من منطلق ما هو موجود بالفعل وحقيقي في "الطبيعة"، دون الانشغال أو الاكتراث بما يدور فعلاً أو تخيلاً في "ما وراء الطبيعة"، طالما في كل الأحوال ليس له تأثير على صيرورة ودوران ونواميس وقوانين الحياة الطبيعية. القانون الطبيعي تنتهي حدوده ويصل غايته عند حدود الطبيعة الإنسانية والكونية ذاتها، لا يتخطاها ولا يدعي ولا يحاول تخطيها إلى ما وراء ذلك من مجردات متصورة مثل الآلهة والقوى العليا الخيرة والشريرة والغيبيات، لا يعترف بأي من ذلك ولا يبحث فيه. إنما نطاق بحث القانون الطبيعي يبدأ من الوجود الفعلي القابل للتحقق منه وإثباته بالأدلة المادية المقبولة والبراهين المنطقية المعقولة، لا بالوحي أو الرؤيا، للإنسان والكون ويتوقف عند هذا الحد. على هذا الأساس، القانون الطبيعي، عكس كافة القوانين الإلهية أو المنسوبة إلى قوى عليا في "ما وراء الطبيعة"، لا يفرق إطلاقاً بين رجل ورجل آخر أو امرأة وامرأة أخرى أو بين رجل وامرأة، أو بين جماعة بشرية وأخرى، ببساطة لأن جميع البشر "في الطبيعة" متساوون في المولد والنشأة البدنية والنفسية. الأصل الطبيعي الأساسي لكل البشر واحد، ومن ثم الاحتياجات والمتطلبات الأساسية لكل البشر واحدة- ما يغذي أي بشر يغذي كافة البشر الآخرين وما يسمم أياً منهم يسمم جميع الآخرين، وما يؤلم أياً منهم يؤلم كل الآخرين. القانون الطبيعي لا يرى في الحياة الفعلية وسط البشر أي آلهة أو ملائكة أو شياطين أو جان أو أي من الغيبيات الأخرى التي لا سبيل إلى إثبات وجودها على الأرض، في "الطبيعة". على هذا الأساس قامت الدولة الحديثة، التي تُرجع السيادة الفعلية على حياة ومصير البشر للبشر الطبيعيين أنفسهم، لا لأي قوى أخرى غير مؤكدة الوجود. طبقاً للقانون الطبيعي، الشعب وحده هو مصدر السيادة والحاكمية والسلطات.

على النقيض تماماً من وحدة واتساق ونظام الكون والمساواة الطبيعية بين البشر من منظور "القانون الطبيعي" الوضعي، "القانون السماوي" الإلهي يقسم الكون، والبشر أيضاً، إلى ثنائية قطبية متعددة المستويات، حيث يتصور في الغيب ثنائيات متضادة متقابلة بين الآلهة والشياطين، الملائكة والجان، الجنة والنار، وبين أخيار وأشرار العفاريت والأشباح والأرواح...الخ. ثم تنعكس هذه الثنائية القطبية المتضادة في حياة البشر أنفسهم، ونظرتهم لأنفسهم والآخرين المختلفين عنهم في العرق أو الثقافة أو الدين أو اللغة أو أسلوب الحياة، وللكون كله بجميع كائناته وعناصره من حولهم. هذه الثنائية القطبية بين السماء والأرض، الخير والشر، الخالق والخلق لم، ولا ولن، تسمح أبداً للإنسان بإدارة شئون حياته وتقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه، لأنه دائماً أبداً، في هذا التصور، يسكن الطرف الأدنى المتلقي السلبي في علاقة رأسية متصورة بين الإله والإنسان. بالتالي لا تنشأ ولا يمكن أن تنشأ أبداً أي علاقة ندية ومساواة بين الطرفين، ويصبح الإنسان مجرد تابع مأمور ومخلوق وعبد ذليل بمنطق ونتيجة هذا التصور الاستقطابي. هكذا في "القانون السماوي" أو الشرائع السماوية الإلهية، الإنسان ليس أكثر من طرف سفلي متدني متلقي للأوامر والنواهي والتعليمات، يثاب لطاعتها ويعاقب لعصيانها، ليس حراً ولا يملك من تقرير مصيره شيء. كافة الشرائع الدينية تتفق وتجمع على أن الحكم للآلهة وحدهم، عبر كتبهم ورسلهم وأئمتهم وعلمائهم وفقهائهم، كمجرد أدوات تابعة ناقلة ومفسرة للحكمة الإلهية، دون أي استقلالية ذاتية، حتى للأنبياء والرسول أنفسهم، أو أي قدر من إمكانية إدارة حياتهم وتقرير مصيرهم بعيداً عن المشيئة والإرادة والحكمة الإلهية.

مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة مشتق كله من "القانون الطبيعي" ولا يمت بصلة ولا يعترف بما تسمى القوانين السماوية أو الشرائع الدينية، لأن المواطنون في الدولة الحديثة هم الحكام أنفسهم عبر نواب لهم. والمرجعية العليا تكون لدستور مشتق بدوره من مبادئ القانون الطبيعي ذاته، ومن صنع وكتابة المواطنون الأفراد أنفسهم عبر جمعياتهم ولجانهم الدستورية التأسيسية المنتخبة أو المعينة. في المعمار الدستوري والقانوني للدولة الحديثة، لا مكان للشرائع الدينية سوى في دوائر ومربعات فرعية صغيرة وشكلية داخل الهيكل الأساسي المدني للدولة، مثلها مثل الفن والشعر والأدب والتاريخ وسائر أنشطة المجتمع الطوعية غير الإلزامية الأخرى.

إذا كانت الدولة الحديثة علمانية في الأساس والبناء بهذا الشكل القاطع، وقد ظل الإسلاميون، ومعهم الحق، يلعنوها منذ نشأتها ويصفوها بالعلمانية والكفر والإلحاد والزندقة والحكم بغير ما أنزل الله والإفساد والتقليد والتشبه الأعمى بالغرب المادي المنحل أخلاقياً، ويؤكدون باستمرار أنها دسيسة ومخلفة من دسائس ومخلفات الاستعمار البغيض، أراد منها تقسيم وتفريق وتمزيق وإضعاف العالم العربي والإسلامي أمام أطماعه، كيف أصبحوا هكذا فجأة خلال الربيع العربي أكثر إيماناً بالدولة وتشدقاً بالإخلاص والحب لها والسهر على مصالحها من حتى العلمانيين، البناة الأصليين لهذه الدول، أنفسهم؟

في حقبة الربيع العربي وبعد استيلاء الإسلاميين على قصور الحكم في مصر وتونس ومحاولاتهم المستمرة للوصول إليها في أماكن أخرى، قد تكون الدول العربية كما تأسست بهياكلها العلمانية الأولية طوال نحو مائتي عام منذ بدايات القرن التاسع عشر أمام واحد من ثلاثة سيناريوهات: (1) أن يكون الإسلاميون قد كفروا بسننهم وأدبياتهم الدينية وأقروا أخيراً بقيمة وأهمية الدولة العلمانية الحديثة ويريدون صدقاً الحفاظ عليها وتنميتها أكثر؛ (2) أن يكونوا لا يزالون على اعتقاداتهم وقناعاتهم الأزلية السابقة لكنهم لمسوا بأجسادهم ودمائهم وأرواح أخوانهم مدى قوة وبطش أجهزة وأسلحة الدولة ويريدون الاستحواذ عليها وتسخيرها لخدمة أهدافهم الخاصة؛ أو (3) أن يكونوا، في ضوء الشروط المحلية والإقليمية والدولية غير المواتية، لا يزالون في طور التقية والخديعة والتورية لحين التمكين والهيمنة والتسلط، وساعتها يستطيعون المجاهرة بسننهم وأدبياتهم الحقيقية، والبدء في تطبيق مشروعهم الأزلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من سورة النور وعد الله تعالى
عبد الله اغونان ( 2014 / 2 / 9 - 13:31 )

وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشركون بي شيئا ومن كفر بعدذلك فأولئك هم الفاسقون

سورة النور الاية55


2 - فتح الله عليك يا شيخ عبد الله
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2014 / 2 / 9 - 14:03 )
استمر


3 - فتح الله علينا وعليك
عبد الله اغونان ( 2014 / 2 / 9 - 14:30 )

أرجو أن تكون صادقا في دعائك ولاتسخر

ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خي الفاتحين

فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده


4 - لم افهم
ابراهيم الثلجي ( 2014 / 2 / 9 - 17:56 )
المشكلة احيانا بالنيجاتيف الفكري تماما كما هو حال استخراج الصورة العادية ، نيجاتيف واظهار
التقية اللفظية لها معنى واضح ووحيد اتقاء شر سفاح قاتل مثلا او مجرم يتحكم بمعاش الناس
فيقول لك اكفر او اقتلك فتلفظ لفظا يرضي غروره وقلبك مطمئن بالايمان وهي حالة نادرة للغاية قد يقع بها اي شخص
والذي اجبرك على هذا القول يعلم انه لم يغير مبدا عندك وانما يمارش نرجسية وشذوذا فكريا عنده اقرب للمرض كحالة من الجبروت

لذلك لو اضاف الكاتب امثلة كيف ومن يصل للحكم في العالم الثالث عبر تلك الوسيلة للافادة من هذا المبدا او الاسلوب وهل هو ما تقصده ميكافيلي والغاية تبرر الوسيلة؟؟؟ مثلا
ان كنت تقصد هذا فقد ابدع فيها اليهود
وما اعلمه فان المسلمين خارج الحكم منذ ايام اول مملكة بعد الخلافة الراشدة ولم يعودوا اليه ثانية فعليا فقد كان حكما وراثيا وتبعه جبريا،فاين التقية والتمكين
لم يجبرهم احد على النطق بالكفر بتاتا من فضل الله
ولم يتسللوا لبلاط حكم مسيحي بوذي الخ وتمكنوا منه وقلبوه اسلامي

اخر الافلام

.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah


.. #shorts -75- Al-baqarah




.. #shorts -81- Al-baqarah