الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقعة الشطرنج الأوكرانية

جاك جوزيف أوسي

2014 / 3 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


ما إن نهضت موسكو من كبوتها، بعد تفكك الإتحاد السوفييتي، في ظل قيادة الرئيس فلادميير بوتين واستعادت قوتها شيئاً فشيئاً، حتى بدأت في محاولة استرداد أوكرانيا وجذبها إلى وضع يتسق وكونها امتداداً طبيعياً لروسيا ودولة تماس بين موسكو من جانب وأوروبا وحلف الأطلسي من جانب آخر.
وكانت المواجهة الأولى بين الطرفين نهاية عام 2004 مع الانتخابات الرئاسية حين بدأت ما يسمى "الثورة البرتقالية" عندما تم الإعلان عن فوز رئيس الوزراء آنذاك والرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش المقرب من موسكو في الانتخابات. ورفض منافسه الرئيسي، زعيم المعارضة آنذاك فيكتور يوشينكو صاحب التوجه الغربي والمدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الاعتراف بهذه النتيجة وتمسك بفوزه في الانتخابات. وإثر ذلك، اندفع مؤيدوه حاملين الأعلام البرتقالية إلى ميدان الاستقلال في العاصمة كييف لتأييده، وليتحول احتجاجهم إلى عصيان مدني شل مؤسسات الدولة، واستقطب تأييد الغرب ودعم وسائل الإعلام المختلفة.
موسكو التي كانت فيما يشبه فترة "نقاهة"، سياسية واقتصادية واجتماعية بعد عقد من الوهن الشديد داخلياً وخارجياً، استسلمت لتولى يوشينكو السلطة، فلم تكن موسكو آنذاك في وضع يسمح لها بمواجهة حادة مع الغرب.
ومع الجولة الثانية من المواجهة بين روسيا والغرب خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أوكرانيا عام 2010 كانت روسيا أكثر قوة واستعداداً، وفاز يانوكوفيتش بأعلى الأصوات في الجولتين الأولى والثانية ليصبح رئيساً لأوكرانيا. في حين انعدمت شعبية يوشينكو تقريباً بعد خمس سنوات في الرئاسة ومني بهزيمة ساحقة حيث لم ينل الأصوات المطلوبة في سابقة هي الأولى من نوعها .
ولم ينه وصول يانوكوفيتش إلى السلطة "صراع الاتجاهات" في أوكرانيا. فالأزمة التي تخيّم على أوكرانيا الآن تؤكد حدة الاستقطاب الداخلي بها، يدعمه استقطاب وتنافس دولي على واحدة من أكثر البقاع أهمية بالنسبة لروسيا والغرب. لتقف أوكرانيا على شفا حرب أهلية ومشروع تقسيم بين الغرب الأوكراني حيث أنصار المعارضة التي تريد الاندماج مع أوروبا، والشرق حيث الرئيسي لمؤيدي موسكو، في صورة تعكس الاستقطاب الحاد الذي يمزق البلاد.
الأهمية الجيو – سياسية لأوكرانيا
تقع أوكرانيا على خط توتر دولي مرتفع. فعلى أراضيها دارت حروب طاحنة في القرن السابع عشر بين قوى الصراع الأوروبية آنذاك، وكانت ميداناً لمعارك طاحنة بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية لاسيما حول شبه جزيرة القرم، وأدى التنافس الروسي النمساوي في القرن التاسع عشر إلى ضمّ الجزء الشرقي منها إلى الإمبراطورية الروسية، والقسم الغربي سيطرت عليه الإمبراطورية النمساوية الهنغارية.
وقد بدأ تاريخ أوكرانيا الحديث مع السلاف الشرقيين. منذ القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر، كانت أوكرانيا المعقل الرئيس للسلاف الشرقيين، وفيها تكونت الهوية الوطنية للأوكرانيين والروس معاً.
في القرن السادس عشر، انتقلت أجزاء من الأراضي الأوكرانية إلى التاج البولندي، وتحولت النخب السلافية في هذه الأجزاء إلى الكاثوليكية، وأصبحت جزءاً من النبلاء البولنديين. أما الفلاحون، فقد احتموا بالقوزاق الذين حافظوا على مذهبهم الأرثوذكسي وكراهية الدولة البولندية والغرب معاً. وبعد محاولات للتوسع في حكم ذاتي، ارتضى القوزاق حماية روسيا الأرثوذكسية. وبعد تقسيم بولندا في نهاية القرن الثامن عشر، خضع القسم الغربي من أوكرانيا للنمسا، بينما انضمت ما بقي من الأقاليم تدريجاً إلى الإمبراطورية الروسية.
واليوم، تعود الدولة الأوكرانية التي تمتد على مساحة 603 آلاف كلم مربع إلى ساحة صراع بين الشرق والغرب، واستقرارها الداخلي مهدد، يستند إلى توازن هش بين شرقها الذي تسكنه أغلبية موالية لموسكو، وغربها (ومعه العاصمة كييف) الذي تغلُب عليها الأهواء الأوروبية.
أوكرانيا المهمة اقتصادياُ لغناها بالمواد الأولية، وسوقها الاستهلاكية المتضمن 50 مليون مستهلك، بدأ شأنها السياسي بالتعاظم، كونها مجالاً حيوياً لموسكو وممراً مهماً للغاز الروسي إلى أوروبا، وخط دفاع متقدِّم للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ونقطة وثوب إلى قلب روسيا من خاصرته الرخوة في آن ٍ واحدٍ. فإذا ما تغلَّب أحد فريقي النزاع الداخلي على الآخر، تهتزُّ صورة التوازن الدقيق في الولاءات الخارجية، وربما يكون ذلك غير مسموح في أجندة اللاعبين الكبار على رقعة الشطرنج .
إن معركة أوكرانيا هي "معركة المصير" بالنسبة لروسيا، التي أصبحت قادرة على حماية أمنها ومصالحها، ولديها العزم والتصميم على تحقيق ذلك. وقد اعتبرت وثيقة الأمن القومي الروسية التي تحدد سياسات موسكو بين العامين (2010-2020) أن توسيع حلف شمال الأطلسي، واقتراب بنيته العسكرية من حدود روسيا الاتحادية أحد التهديدات الرئيسية للأمن القومي الروسي وعملاً عدائياً ضدها يهدف إلى تطويق روسيا وعزلها عن أوروبا لا يمكن السماح به أو التهاون معه. ولا يعني هذا بالضرورة تدخلها عسكرياً في الأزمة كما تتخوف وتحذر واشنطن ولندن، فالقيادة الروسية أذكى من أن تقع في هذا الخطأ.
ذلك أن تصعيد الموقف من قبل موسكو يُعتبر مخاطرة كبيرة، لأنه سيضعها في مواجهة "ثورة شعبية"، وقد يُعرّض موقفها المُتشدد البلاد إلى خطر التقسيم، ويمكنُ أن يجر الأوكرانيين إلى حرب أهلية يصعب التحكم في نتائجها .
سكوت موسكو على التحدي صعبٌ أكثر، لأنه سيؤدي إلى القبول باختلال التوازن لمصلحة خصومها الأوروبيين، ومن ورائهم الولايات المتحدة. توازن كلف الرئيس بوتين الكثير من الجهود والتحدي لاستعادته، بعد سنوات من التهميش الذي عاشته روسيا على الساحة الدولية .
كما أن التسليم الروسي بالانقلاب في أوكرانيا يمس الأمن القومي الروسي، كون الأسطول البحر الأسود الروسي يتخذ من المياه الإقليمية الأوكرانية مقراً له في شبه جزيرة القرم، وقد يمهد تغيير الأوضاع في كييف لانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي.
إن التغير في موازين القوى العالمية، أخيراً، ونجاح موسكو في تصحيح الخلل الذي انتاب ميزان القوى العالمي عقب تفكك الاتحاد السوفييتي سيؤثر حتماً في مسار الأزمة الأوكرانية، التي إن امتدت وطال أمدها لبعض الوقت فإن حسمها سيكون من خلال تسوية سياسية تجدد الشرعية لتيار يحترم خصوصية العلاقة مع موسكو، ويحقق أكبر قدر ممكن من التوازن في سياسة أوكرانيا الخارجية وعلاقاتها بكل من روسيا والغرب.
إن التطورات السياسية المتسارعة في أوكرانيا هي إحدى حلقات الصراع بين روسيا الطامحة لإعادة القوة والنفوذ لها في الفضاء السوفييتي، وبين القوى الغربية التي تحاول تحجيم طموحات الرئيس الروسي بوتين، برسم خريطة النفوذ الدولي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي يعتبر نشوءه الكثيرين في الغرب خطيئة القرن العشرين، ولذلك قد نشهد تصعيداً في المناطق الساخنة بدءاً من سورية وصولاً إلى كوريا الشمالية وأميركا الجنوبية، لأن روسيا ستحاول عدم السماح لحلف الناتو بالنجاح في أوكرانيا والوصول إلى حدودها مباشرة، بينما سيحاول الغرب زيادة ضغوطه على روسيا، للحصول على مكاسب جيو - سياسية في أوكرانيا وغيرها من مناطق النزاع.
إذا لم تحصل تسوية سياسية في أوكرانيا ترّعى مصالح جميع الأطراف الداخلية والخارجية، فقد نكون أمام سيناريو لتقسيم أوكرانيا إلى شرقية موالية لموسكو وأخرى غربية تنفذ سياسات بروكسل وواشنطن، ومزيداً من سفك الدماء في أماكن أخرى من العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية