الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكلوم

عدنان اللبان

2014 / 3 / 14
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


منذ اندلاع الانتفاضة ربيع عام 1991 , والعراقيين في مدينة قم الايرانية لم يهدأ لهم بال , في النهار عمل , وبعضهم كان يترك العمل ويتابع الاخبار فقط , والليل بطوله نقاش وتحليل ولا اعرف متى ينامون . والحقيقة ان قم منذ بداية الحرب العراقية الايرانية كانت مركزا لأخبار العراق بحكم كونها مقر المرجعية الدينية الشيعية في ايران , وهو ما ساعد لإيجاد التواجد الكثيف للعراقيين , سواء من تنظيمات الاحزاب السياسية الشيعية العراقية , او من التوابين الذين اعلنوا براءتهم من صدام في الاسر وتطوعوا لمقاتلة القوات العراقية الى جنب الجيش الايراني , او من العراقيين الفارين من جحيم النظام ووجدوا وسائل لمعيشتهم بين العراقيين الذين اصبحوا يشكلون نسبة كبيرة من اهل قم . كنا في السيارة ثلاثة شيوعيين متطوعين وانا , اثنان منهم من الذين قدما الى ايران نتيجة الملاحقة المستمرة من قبل قوات الامن العراقية , واستغلا وجودهما في احدى قطعات الجيش الشعبي القريبة من خطوط التماس الهادئة , وتمكنا من الهرب بأعجوبة في ليلة ظلماء عابرين حقول الالغام , وساعدهم بعض الايرانيين بالوصول الى احد مراكز الشرطة ومنه الى الاوردكَاه (معسكر اللاجئين ) . والثالث محسن الذي كان معي نصيرا في كوردستان لعدة سنوات .

في بداية الانتفاضة كان النقاش حادا , والأمل سيطر على الجميع بإزاحة صدام , والجميع يريد شرف المساهمة في اسقاطه , كانوا متوثبين في تصديق اخبار الانتصارات وتهويلها , والويل لمن يعتقد بصعوبة ازاحته ويجاهر برأيه , كان ممكن ان يتعرض للضرب والاتهام بالتجسس , كان الامل كالهذيان , لا يرتبط بأي منطق , كانت تجمعات العراقيين في الشوارع ألعامة , والأسواق , وضريح معصومة . عراقيين قدموا من مختلف المدن الايرانية للتطوع , ضاقت بهم الحسينيات والجوامع والفنادق . كان الجميع عيونهم شاخصة الى اهلهم وذويهم , وفي السيارة كانت الصور تتوضح اكثر في كلام المتطوعين , يحاكون ابنائهم وعوائلهم وكأنهم لم يتركوهم لعقد من السنين . حاولت ان اثني محسن من الذهاب عندما اخبرني في قم , ولكنه اصر , وكررت طلبي اليه عدة مرات ولكنه كان مصرا على موقفه , اقترحت عليه العودة الى كردستان ليلتحق بالحزب ويساهم بالانتفاضة هناك اذا كان مصرا ؟ فاعتذر ببعد المسافة , وسألني : شنو الفرق ؟ المهم يسقط صدام . وأثناء تجوالنا في خرم آباد ونحن في طريقنا الى الاهواز لكي يتم توزيعهم في مركز الحركات هناك فتحت الموضوع مع ثلاثتهم مرّة اخيرة , الاثنان الآخران اعتذرا بعدم معرفة احد في الانصار , وأجابا ايضا : شنو الفرق ؟ المهم يسقط صدام . ومحسن اجابني بعد ان بقينا وحدنا , بأنه سيجد نفسه غريبا ان عاد الى وحدته في الانصار .

عرفت محسن عند بداية التحاقه مع صديقه جبار في قاطع السليمانية لأنصار الحزب الشيوعي . عرفنا من خلال جبار الذي لا يعرف ان يضم سرا , انهما جيران في مدينة الثورة , وجبار هو الذي كسب محسن الى الحزب , محسن كان قد رسب في الصف الخامس الادبي سنتين والتحق لأداء الخدمة العسكرية , وأثناء وجوده في الجيش انتقلت عائلته الى مدينة الثورة في منتصف ستينات القرن الماضي , كان والده يمتلك علوة لبيع الحبوب في العمارة , وفتح بقالية في الثورة , وبعد اكماله العسكرية اخذ يعمل مع والده .
يقول جبار : كنت على موعد مع محسن لنذهب الى ساحة كرة القدم نشاهد مباراة فريقنا اتحاد فيوري مع النهضة الكاظمي وتأخر محسن عليّ . طرقت الباب عليهم , وخرجت امه : مرحبه خاله . هله , هله يمه , منو هذا يبار( تقصد جبار ) ؟ كان نظرها ضعيفا . سألتها : محسن موجود ؟ اجابتني : محيسن لا يوجد (صارت مثقفة "محيسن ولا يوجد " شلون ترهم؟). محسن يضحك ويهز يده كلما كررها جبار في تلك الامسيات التي كانت تجمعنا حول جمر الموقد نتبادل فيها الذكريات وصور الحياة السابقة . كان محسن لا يحس بقرصة البرغوث ولا يتأثر بها , ويضحك على جبار الذي قد يستمر الى الصباح مستيقظا لا يستطيع النوم , جبار يحقد على محسن اكثر من البرغوث لشماتته به , محسن يحاول ان يقنع جبار بنصيحة تدفع شر البرغوث عنه فيقول له : لماذا لم تضربه بطلقة وتقتله اذا كان يؤذيك هكذا ؟
جبار : اذا تساعدني , وتصوب عليه باليسرى ( ويقصد عين محسن العورة ).
محسن يضحك : انت طولك شبر ( وهذا يستفز جبار كثيرا) والبرغوث يعتقد يكَدرلك , ولّه ليش ما يروح على غيرك . جبار : لك هو اكو واحد خلص من البرغوث؟ بس اللي ما عنده احساس مثلك .
محسن طلب من الحزب في وقتها النزول الى بغداد بعد ان عرف بوفاة والده , ولم يبق في البيت مع زوجته وابنته وأمه وأخته غير شقيقه الاصغر حسن وهو معوق ( منغولي ) , حاولوا ثنيه الا انه اصر . ذهب , وعاد بعد اسبوعين , وعرفنا انه اعتقل وأعيد للأنصار.
حاولت ان اخفف عنه ثقل ذكرى اعتقاله وتعهده للأمن بالتعاون معهم , فقلت : بالعكس الجماعة كلهم يعتزون بيك , وأنت لا خنت ولا ارتكبت خطأ , اجيت وخبرتهم بكل شي, وبموافقتهم اجيت لإيران . ما اعرف هذا الشعور بالغربة منين اجاك ؟ ايجوز لان صار فترة طويلة تركت الانصار.
اجابني بسرعة : لا بالعكس , ما تتصور شكَد مشتاق الهم . لكن ..
سألته : لا كن ؟! يوم تكَول كردستان بعيده وما اعرف وين منتشرين , هسه لا كن , محسن اكو شي ؟
نظر في عيني طويلا تحت ضوء مصباح الشارع الذي نسير فيه , واخبرني بمرارة . انه عندما طرق باب بيتهم في مدينة الثورة , سمع صوت امه : منو ؟ وعرفت صوته بعد ان اجابها فقط : آني . قفزت الى الباب وفتحته , احتضنته , اخذت تتشمم به , محسن يمه , والدموع بللت فوطتها , كانت تنظر الى صدره , وأدرك عماها , احتضنها يفرك وجهه برأسها , برقبتها , مسك يديها ورفع كفيها يضغط بهما على وجهه ويقبلهما , حسن شقيقه المعوق لا يعرف ماذا يفعل , يضرب برجله في الارض , يصفق . يقول محسن : حضنته , طوقته بذراعي , قبلته . خرجت زوجتي من الغرفة , تجمدت , لم تصدق , اطلقت زغرودة وصلت الى سابع جار , تركت حسن وركضت اليها , وضعت كفي على فمها لمنعها , هدأت , احتضنتها وقبلتها , لم اتوقع ان تكون بهذه اللهفة , كنت خائفا ان يسمع جارنا رزاق زغرودتها وكان من اقذر البعثيين في المنطقة , كانت جميلة , والمكياج زاد من حلاوتها , وملابسها تلتصق بجسمها , لم اتعود عليها بهذه الفتنة . سألتها عن صغيرتنا ايمان , اخبرتني بأنها ذهبت مع عمتها نجية الى بيت عمتها كاظمية , وكاظمية اختي الكبيرة زوجة ابن عمي هادي شقيق زوجتي , وهم ليسو بعيدين , وأضافت : على جيّه .
يقول محسن : اثناء بقائي مع والدتي وسؤالي عن وضعهم , وكيفية وفاة والدي , ومتى فقدت نظرها , وهل ضايقوهم بسبب سفري ؟ طمأنتني بخصوص الوضع الامني , وأخبرتني ان زوجتي اخذت تعمل مع زوجة جيراننا رزاق التي فتحت صالون نسائية وتقصد صالون حلاقة . سألتها : ماذا تعمل في الصالون ؟! اجابت : تكنس المحل , تسوي جاي , وتساعدها بجم فلس , لان ابني بعد وفاة والدك الله يرحمه ماعدنه غير بس الله وراتب نجية . كانت نجية تعمل في معمل شمع عند احد معارفها . وأضافت : مرت رزاق الله وفقها بالصالون وكل النسوان عدها . كانت زوجتي قد جهزت الحمّام ودعتني للاغتسال , ومر في خاطري انها صغيرة ولم تتجاوز الخامسة والعشرين , وشوقها دفعها لتجهيز الحمّام , وتظن اني سأدعوها تساعدني في تلييف ظهري كما كنا نتحجج عندما اريد ان نكون سوية في الحمام عند بداية زواجنا قبل خمس سنوات . وفي الحمّام ترددت كثيرا ان اناديها واترك والدتي وحدها , ولو كانت نجية وابنتي في البيت لكان ذلك اخف , وبعد اخذ ورد مع نفسي اقتنعت بان امي ستتساهل مع طلبي , فناديتها :هدية ,هدية . وبدل ان تجيبني , سمعت امي عند باب الحمام تقول ان : هدية خرجت . الى اين ؟
اجابتني : ما اعرف , يمكن راحت لبيت اهلها اتجيب نجية وبنتها , لو راحت لمرت رزاق تخبرها المسا ما تروح .
سألتها : اتداوم بالليل ؟!
اجابتني والدتي : كل دوامها بالليل ابني .
سألتها : انت شلون قبلتي تشتغل بالليل ؟!
والدتي : والله ابني آني عميه ما اوصل لعتبة الباب وما اعرف شكو بالدنية , تجي اختك وتحجيلك .
وقبل ان تعود نجية وابنتي , وأثناء خروجي من الحمّام كانت مفرزة الامن قد اقتحمت البيت . اقتادتني , حسن شقيقي تمسك بيدي , ودفع الذي يمسكني وكاد يسقطه لولا الحائط الذي سنده , ففاجئه بضربة قوية من قاعدة مسدسه اسقطت حسن ارضا , صرخت به , وظن الذي خلفي اني اهاجم صاحبه فضربني على رأسي وسقطت , ولم اعد لوعي الا في سيارة الامن ممددا في الحوض الخلفي معصوب العينين . في الامن لم انكر اي شئ , ولم ادعي اني جئت من سوريا كما كنت قد رتبت ذلك في دماغي ان تعرضت للاعتقال , اخبرتهم باني قدمت من كردستان , ومضى علي هناك ثلاث سنوات , المهم لم اخف عنهم شيئا . طلبوا مني ان اتعاون معهم , وقبلت . واخبروني بأنهم سيوصلونني الى النقطة التي قدمت منها , الى الشارع الذي يربط دربندخان بمفرق سيد صادق .اي اعود والتحق بالأنصار قبل ان اعود الى اهلي حتى ولو لساعة واحدة فقط , خوفا من ان يراني احد ويصل الخبر للحزب الشيوعي .

ويكمل محسن . بعد اسبوعين بالضبط وصلت المقر , وأخبرتهم بكل شئ . وبدل ان يساعدوني في تجاوز محنتي , انهالوا علي باللوم والتقريع , واحدهم اكل راسي : طلبنا منك ان لا تذهب لكنك ركبت راسك , هيج احسن ؟ بس فهمني شنو اللي حصلته ؟ الملامة حولت حياتي الى جحيم اكبر من الخسارة التي خسرتها بذهابي . طلبت ان اخرج من كوردستان الى ايران , وفي ايران انا اتولى عيشتي ووضعي . وافقوا بعد ان نفذت ما طلب الامن مني , وهو انهم سيرسلون لي علبة دهن استلمها من احد وكلائهم في قرية احمد آوه التي نتردد عليها كثيرا , وما علي الا ان اضع الدهن في قدر الغداء المعد لأنصار المقر , وأعود الى اهلي ومدينتي مكرما معززا وتنتظرني الوظيفة . وبعد ما يقارب الثلاثة اسابيع بلغني احد الانصار ان حمه محمود مالك المقهى ومحل بيع الدجاج في احمد آوه يسأل عني . اخبرت الرفاق وذهبت اليه , استلمت العلبة وسلمتها الى الرفاق , يقول دكتور القاطع انها كافية لتسميمنا وإبادتنا جميعا . وبعد اسبوع طلبت الخروج وخرجت .

سألته : وماذا في كل الذي ذكرته ؟ لا يوجد شئ يمنعك من العودة , ولا يوجد سبب لشعورك بالغربة مثلما تقول . محسن : المشكلة مو ويه الحزب , ويه الآخرين . اخذ جبار وتعرف شكَد علاقتي بيه قوية , جبار من رجعت من بغداد سألني : ليش ما طلبت منهم ان تروح لأهلك على الاقل فد يوم يومين وتجي ؟! اعرف ماذا يقصد , اجبته وأريد ان يعرف انني اتعذب : منعوني , خافوا ان يراني احد ويوصل الخبر للحزب وتنثار علي الشكوك هنا بالمقر . جبار لم يلتفت الى كل توسلاتي بكلامي , فأجابني : يعني كلشي ماحصلت ؟ ويقصد علاقتي بزوجتي , وأكمل : موت الكرفك ,والنوب سقطوك ؟
وبمرارة : آني ما زعلان من " موت الكرفك " , لكن " سقطوك " ؟ اليسقط هو اللي يغدر بالحزب والرفاق ويصير خنجر بيد البعثيين , أني اتعاونت وياهم في سبيل اخلص نفسي , وتصورت راح يعتزون بموقفي . المشكلة مو بس بجبار , لكن شفت بعضهم معاملتهم تغيرت وياي .

وصلنا الاهواز الساعة الثامنة صباحا , وقبل ان انزل عند مفرق علوة المخضر التي اجلب منها الباميا الى قم , ودعتهم ودعوت لهم بالسلامة واللقاء القريب ان شاء الله في العراق , ان لم يكن في قم . بعد اربعة ايام وصلنا خبر استشهاد محسن , ذهبت مع صديق الى مستشفى الاهواز كي نأتي بالجثة لدفنها في قم , ولكننا لم نجد له حتى اسما . ذهبنا الى مقر الحركات العامة في الاهواز فأرسلونا الى مقر المتطوعين , ولم نحصل على نتيجة . سألونا من الذي اخبركم ؟ اجبنا : بعض المعارف . اخبرونا , ان لم يأتي بشكل رسمي الى مركز الحركات في قم فلا تصدقوا , وعلى الاغلب اشتباه . بعد رجوعنا الى قم بأسبوعين عاد الذين ذهب معهم , ولكن لا احدا يعرف اين ذهب بعد ان وزعوهم على السرايا التي توجهت الى البصرة والعمارة , ومحسن ذهب الى البصرة .
بعد ازاحة النظام بعدة سنوات , عرفت ان زوجته حصلت على الراتب التقاعدي للشهداء , وابنته تزوجت . اخته نجية وأخوه المعوق حسن لم نعثر لهم على مكان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا


.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي




.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل