الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلك نظم ولى زمانها

عبد المجيد حمدان

2014 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية



شباب الثورات العربية ، صناعها والفاعلون فيها ، المؤازرون المشاركون من بعيد ، ومثقفون من كل لون ، خصوصا ذوو الميول اليسارية ، يعايشون قلقا ومخاوف مشروعة ، تجاه مستقبل هذه الثورات عموما ، والمصرية على وجه الخصوص . القلق والمخاوف يغذيها ، ما يصفونه باحتمالية عودة مصر لإحياء نظم الدكتاتورية العسكرية ، التي حكمت مصر على مدى الستين سنة الماضية ، حسب قولهم . ويستمد هذا القلق ، وهذه المخاوف ، مشروعيتها من المطالبة الشعبية الواسعة بترشح قائد الجيش ، المشير السيسي ، لرئاسة الجمهورية ، ونجاحه شبه المؤكد في حال فعل ذلك .
تستند مخاوف الشباب ، وقلق المثقفين ، إلى حقيقة أن فكر المشير السيسي السياسي ما زال مغلفا بالغموض . كما ويفتقر موقف المشير لأحد أهم أعمدة الفعل الديموقراطي ، أي حزب سياسي قوي ، يشكل أداته الرئيسية في تطبيق برامجه ، وتعبئة الجماهير لدعم سياساته . ولأن الجيش هو البديل ، يكون الطريق قد انفتح واسعا مرة أخرى ، حسب قولهم ، لعودة الديكتاتورية العسكرية ، وبما يعني من فشل لمبادئ الثورة .
ويلفت الانتباه في هذا الطرح ، ما يذهب إليه البعض من نقد لتدخل الجيش في 30 حزيران – يونيو - و3 تموز – يوليو – الماضي . بمعنى أن هذا التدخل هو ، في حقيقة الأمر ، نوع من انقلاب أجهض ثورة الشعب الحقيقية ، وقطع الطريق على الديموقراطية . ومن منظورهم كان استمرار الحركة الجماهيرية ، سيوصل إلى ذات النتائج ، دون المخاطرة بعودة الديكتاتورية العسكرية .
ويبدو أن عشرات المؤشرات ،التي تتالت في السنة والنصف التي حكمها الإخوان – فترة المجلس التشريعي + فترة مرسي – لم تقنع هؤلاء المتخوفين والقلقين ، بأن الإخوان أغلقوا بوابات الديموقراطية ، وبالضبة والمفتاح . كما يبدو أن الأحداث الدامية المتتالية – أحداث الاتحادية ، النهضة ورابعة ، كرداسة والمنيا ، حرق الكنائس ....الخ – ثم شن الإخوان ، والعصابات المتحالفة معهم ، حرب الإرهاب ، لم تقنعهم أن القمع ، وما يترتب عليه من مسيل لأنهار الدم ، في مصر والمحيط ، شكل العقيدة ، فالوسيلة المعتمدة ، للتعامل مع أية تحركات شعبية سلمية ، تعارض سياساتهم .
التهوين من هذا الخطر القائم ، والماثل ما يزال ، والقلق من ما يوصف بخطر عودة الديكتاتورية العسكرية ، يدفع إلى التساؤل : هل مثل هذا الخطر الأخير حقيقي ؟ وهل هناك مبرر فعلي لما يفرزه من قلق ؟
المعرفة حرية :
تردد ، ويتردد ، في مصر وحولها ، زعم بأن ثورة 23 يوليو ، هدمت بناء ، وقطعت مسار ، ديموقراطية كانت قائمة ، تتطور وتترسخ . قلت " زعم " ، لأنه قول يتجاهل حقيقة ثابتة ، بأن مصر ، حتى ثورة 23 يوليو ، وحتى بعدها بسنوات ، كانت مستعمرة بريطانية ، ومحكومة ، فعليا ، من قصر المندوب السامي البريطاني ، المستند إلى وجود عسكري منتشر على الأرض المصرية ، خصوصا في منطقة القناة . والحقيقة أيضا أن معاهدة الجلاء ، التي أبرمها عبد الناصر مع الحكومة البريطانية ، لم تنه ذلك الاستعمار . فاستعمار مصر انتهى فعلا وحقيقة مع خروج آخر جندي بريطاني ، وفرنسي ، في العام 57 ، عقب العدوان الثلاثي في العام 56 . كما يتجاهل حقيقة وجود نظام ملكي مطلق ، يتناقض بالضرورة مع الديموقراطية المنشودة .
ما لا يتذكره المتخوفون من عودة الدكتاتورية العسكرية ، أن مصر ، ونظام عبد الناصر ، لم يشكلا حالة فريدة في التاريخ الحديث . كانا جزءا من مسار عالمي ، تساعد الإطلالة عليه في كسب معرفة ، تمنح صاحبها حرية تمكنه من الرسو على شاطئ الحقيقة .
نهاية عصر الاستعمار :
بداية لا أظن أن هناك حاجة للتذكير، بأن نهاية الحرب العالمية الثانية ، دشنت الطريق لزوال عصر الاستعمار . ففي العقدين اللذين تليا الحرب ، فازت عشرات الشعوب باستقلالها ، ورحلت جيوش المستعمرين عن أراضيها . ووجدت حكومات الشعوب المستقلة هذه نفسها في مواجهة مهمتين كبيرتين . تمثلت الأولى في اختيار وبناء نظام للحكم ، يضع البلد على طريق المستقبل . أما الثانية فتتمثل في العمل على إزالة إرث الاستعمار الثقيل : وقف نزف الثروات المنهوبة ، استعادة الكرامة المسلوبة ، ومعالجة ثالوث الجهل والفقر والمرض . وبكلمة وضع نلك البلدان على طريق التنمية ، فالمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية .
وتكفي نظرة خاطفة على خارطة العالم كي يمكن للمرء تمثل أبعاد هاتين المهمتين . آسيا كلها ، باستثناء اليابان وتركيا ، كانت مستعمرة ، وواجهت هاتين المهمتين . كذلك كان حال قارة أفريقيا بأسرها . ومثلهما كانت قارة أمريكا الجنوبية ، باستثناء بعض البلدان التي ظلت مستعمرة ، لكن بدون وجود عسكري على أراضيها . وإذا أضفنا أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي وجزر المحيطات : الهادي والأطلسي والهندي ، يمكننا رؤية هذا الكم الهائل من الشعوب ، التي كانت تبحث عن طريق لحكم نفسها .
لا يغيب عن البال أن الاستعمار نقل لعديد من هذه البلدان ، صورة ، أو شكلا من ديموقراطية بلاده . بمعنى أنه سمح بإنشاء أحزاب ، وإقامة نقابات ، وإصدار صحافة ، وحتى بوجود برلمان . ولكن كل ذلك لم يضع تلك البلدان على طريق الديموقراطية . وكان مجافيا للحقيقة الزعم بأن نظم الحكم التي نشأت ، كانت أقدامها قد وقفت على أرض الديموقراطية .
خيارات زمن الحرب الباردة .
وما لا يتذكره الخائفون والقلقون أن نهاية الحرب العالمية الثانية لم تدشن عصر زوال الاستعمار فقط . هذه النهاية دشنت أيضا عصر الحرب الباردة . فقد كان من نتائج تلك الحرب – العالمية الثانية – أن خرج كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ، قوى عظمى ، وتربعا معا على عرش العالم . ولأن كلا منهما يقف على رأس نظام اقتصادي - اجتماعي عالمي ، يناقض الآخر ، ويقول أنه يملك مفاتيح حل مشاكل العالم ، ولأن التناقض بينهما تناحري ، ولأن قوة الردع النووي التي امتلكها كل منهما حالت دون مجرد التفكير في حل هذا التناقض عسكريا ، كانت الحرب الباردة .
ولأن القوتين العظميين الجديدتين ، خرجتا من الحرب ، تطوق رأسيهما هالات من البطولات والإنجازات ، والسمعة العظيمة ، كان من الطبيعي أن تتوجه لهما ، أنظار الشعوب الخارجة للتو من قهر الاستعمار ، كما أنظار قياداتها الباحثة عن مستقبل شعوبها ، وأن تستلهم منهما الأفكار والتجارب والخطط والبرامج والإنجازات .....الخ . وكان من الطبيعي أن يحتل نظام الحكم ، فالتنمية ، والتخلص من عبء الإرث الاستعماري ، وعلاج ثالوث الجهل والفقر والمرض ، رأس اهتمامات تلك القيادات .
ولأن التناقض بين نظامي القوتين ، تعدى الاقتصادي الاجتماعي إلى السياسي والثقافي والفكري ....الخ ، فقد وجدت قيادات عديدة ، للشعوب المستقلة ، نفسها تواجه أكثر من معضلة ، في استلهام التجارب ، وفي الخيارات عموما .
الاتحاد السوفييتي مثلا كان قد اختار ، ومنذ نشأته قبل أكثر من ثلاثة عقود ، تبني شق العدالة الاجتماعية من الديموقراطية ، وناصب شقها السياسي العداء . هو من حول موضوعة حل وحظر الأحزاب السياسية ، وتثبيت وحدانية الحزب الحاكم ، من تجربة اقتضتها ظروف الحرب الأهلية ، إلى عقيدة سياسية ثابتة . وهو من أصدر صحافة ، وأقام إعلاما موجها . ذلك عنى الإطاحة ، ومرة واحدة وإلى أجل غير معلوم ، بالديموقراطية السياسية ، وإقامة سد منيع أمام تطوراتها المستقبلية ، وفي المقدمة موضوعات الحقوق والحريات بتنوعاتها الواسعة . عنى ذلك أيضا تكريس نظام حكم شمولي ، تحول إلى استبدادي قمعي ، ارتكب جرائم إبادة ، في أغلب مراحله . لكنه في ذات الوقت تمكن من توظيف كامل طاقات جهاز الدولة ، وقوى الأمة ، في إقامة المشروعات الكبرى ، والخطو بالتنمية ، خطوات واسعة ، حلت الكثير من مصائب ثالوث الجهل والفقر والمرض ، الذي كانت أمم وشعوب الاتحاد السوفييتي مبتلاة به . وفي الحساب الأخير مثَّل كل ذلك إلهاما للعديد من الشعوب المستقلة حديثا ، والتي صارت دولها تعرف بالعالم الثالث .
الشيوعية وأحجار الدومينو :
وكانت المفارقة أن الولايات المتحدة ، وحلفاءها الأوروبيين ، وضعوا أمام أنظار قيادات الشعوب المستقلة ، والشعوب ذاتها ، ممارسة للديموقراطية ، ومن حيث الجوهر ، مطابقة تماما ، وربما أكثر غلوًا وتطرفا ، من الممارسة السوفييتية . فالتناقض التناحري مع الاشتراكية رفع مبدأ رئيس وزراء بريطانيا ، ونستون تشرتشل ، الاستعداد للتحالف مع الشيطان في محاربة النازية ، إلى عقيدة حاكمة وموجهة لكل فعل الولايات المتحدة وحلفائها ، في التصدي للشيوعية ومحاربتها .
فقد كان على الولايات المتحدة وحلفائها ، وبعد النصر على النازية والفاشية ، مواصلة تطهير القارة الأوروبية من هذه اللعنة . كان عليهم ، على الأقل ، حصار الفاشيتين ، الإسبانية والبرتغالية ، الابنتين الشرعيتين للنازية ، وإجبارهما ، ولو على التخفيف من ارتكاب جرائم القمع في بلديهما ، وعلى اتخاذ خطوات في اتجاه الديموقراطية . لكنهم فعلوا العكس تماما ، بضم هاتين الفاشيتين لأحلافهم . وبعد ابتكار نظرية الدومينيو ، وتحولها إلى عقيدة لدى الدوائر الغربية ، احتل منع تطبيق هذه النظرية ، رأس سلم جداول عمل هذه الدوائر . ومؤدى تلك النظرية أن تحول قطر رئيسي من الأقطار المستقلة حديثا إلى الشيوعية ، يؤدي بالضرورة إلى تتابع هذا التحول في عديد من الأقطار المجاورة ، تماما مثلما يؤدي سقوط الحجر الأول من أحجار الدومينو ، إلى تتابع سقوطها وحتى الحجر الأخير .
ولأن الدول المستقلة حديثا كانت هي الأكثر قابلية لتطبيق نظرية الدومينو ، ولأن انتقالها للديموقراطية يفسح المجال ، ويوفر المناخ والتربة لحرية حركة الأحزاب الشيوعية ، ومن ثم يرفع احتمالية وضع هذه النظرية موضع التطبيق ، فقد لجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى استحضار الشيطان نفسه كخيار بديل للديموقراطية في البلدان حديثة الاستقلال .
استحضار الشيطان :
وبالعودة إلى أحداث تلك الفترة يقفز إلى الذهن سؤال : هل بدأ استحضار ذلك الشيطان من الصين ؟ ربما . فقد كان انتصار الثورة الصينية ، في العام 49 ، حدثا هائلا وعالمي الأبعاد . ودشن تحالف الولايات المتحدة مع جنرال الصين المهزوم ، تشاي كان تشيك ، بداية استحضار الشيطان ، كما تدشين أحلاف الشياطين . فبعد أقل من سنتين خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها ، الحرب الكورية ، حائلة دون توحيد كوريا تحت راية الشيوعية . وسلمت الحكم في سيئول إلى حفنة من الجنرالات . وبعد الانتصار الفيتنامي المدوي على الاستعمار الفرنسي ، في معركة ديان بيان فو الشهيرة ، عهدت بلدان الديموقراطية بنظام فيتنام الجنوبية إلى حفنة أخرى من الجنرالات .
كانت حكومات الجنرالات ، بما تمثل من دكتاتورية عسكرية استبدادية ، وبما تملك من قدرات واستعداد على ممارسة العنف ، واستخدام صنوف القمع ، ومع ما يواكب كل ذلك من فساد ، مالي وإداري وسياسي وأخلاقي ....الخ ، هي الشيطان الذي بحثت عنه الإدارات الأمريكية ، لكونها الوحيدة القادرة ، بصفاتها المشار إليها ، على وقف زحف الشيوعية ، ومنع تساقط حجارة الدومينو . ونظرا للنجاح الذي حققته هذه الدكتاتوريات العسكرية ، في شرق وجنوب شرق آسيا ، فقد شهدت عقود الخمسينات والستينات والسبعينات ، تعميما لها على كل القارات التي انسحب عنها الاستعمار . ومعروف أن أمريكا اللاتينية نالت الحظ الأوفر منها . وربما ما زال بعضنا يذكر أن بعضها وقع فريسة عشرات الانقلابات العسكرية . ووصل الأمر ، عند الولايات المتحدة وحليفاتها ، حد أن قيام نظام وطني في بلد ما ، يرفع شعارات للعدالة الاجتماعية ، يستدعي أن تواجهه المخابرات المركزية الأمريكية ، بانقلاب يقوده الجنرالات ، ويغرق البلد في بحور من الدماء ، ويستقر على تلال من جماجم البشر ، كما حدث في اليونان ، ما بين العام 67 والعام 74 ، وفي الأرجنتين ، بين العامين 76 و83 ، وتشيلي ما بين 73 و 90 .
صعود الدكتاتوريات :
في تلك الحقبة شهدنا صعود الدكتاتوريات العسكرية ، بقيادة الجنرالات ، في الفلبين ، باكستان ، اندونيسيا ، الكونغو ، نيجيريا ، أفريقيا الوسطى ، والعديد العديد من الدول الأخرى . وظلت هذه الديكتاتوريات حليفا موثوقا ، يلقى كامل الدعم ، من الإدارات الأمريكية والفرنسية والبريطانية . ورغم أن فساد بعض هؤلاء الجنرالات ، كالإمبراطور جان بيدل بوكاسا ، أفريقيا الوسطى ، والجنرال مانويل نورييغا ، بنما ، تجاوز كل الحدود ، إلا أنهم تمتعوا بالرعاية حتى اللحظة الأخيرة . وأظنه من نافل القول الإشارة إلى أن هذه الديكتاتوريات سفحت من الدماء ، وأزهقت من الأرواح ، وقيدت من الحريات ، واعتدت على الحقوق ، أكثر من مجموعة حروب دموية وغير عادلة ، وقعت في تلك الأثناء ، ولا أقل من تلك وقعت على أيدي ستالين ، وبلدان ما توصف بالنظم الشمولية .
ولم يتوقف استحضار الشيطان والتحالف عند تدبير الانقلابات العسكرية ، وحكم الجنرالات . تعداه إلى التحالف مع النظم الرجعية ، شديدة العداء للديموقراطية - العالم العربي كمثال - ، وإلى التحالف مع سائر الأحزاب ذات الأصول الدينية ، والأخرى المعادية للديموقراطية . وسجل ما عرف بجبهات الدفاع عن الحرية – نيكاراغوا وأنغولا كأمثلة - حافل بجرائم تفوقت في وحشيتها على تلك التي ارتكبتها أعتى الديكتاتوريات العسكرية . ووصل الحال حد التحالف مع تيارات الإسلام السياسي ، والتي أفرزت القاعدة ، وغيرها من التنظيمات التي ترى في الديموقراطية طاغوت العصر .
الاختيار :
يطالعنا الآن من يزعمون أن مصر ، كانت تملك تجربة ديموقراطية ، جاء انقلاب عبد الناصر ليقطع مسارها . ومثل هذا القول يتردد في بلدان عديدة أخرى ، العراق وسوريا على سبيل المثال . ولا يتوقف أصحاب هذا القول عند الحقيقة الصارخة ، وهي أن الهند وحدها ، من بين عشرات الدول المستقلة حديثا ، اختارت طريق الديموقراطية ، وبتصنيفها حالة استثنائية ، ارتكزت إلى الحالة الهندية الاستثنائية . إذ من المعلوم أن الإدارات الاستعمارية استزرعت في البلدان المستعمَرة صورة من الحكم القائم في البلد الأم . بمعنى أنها أقامت برلمانات ، سمحت بإنشاء أحزاب ، وبإصدار صحف ، وإنشاء نقابات ......الخ . وحتى أنها أقامت نظما تعليمية ، وبنت مستشفيات ،وغير ذلك كثير مما يمكن وصفه بلبنات بناء الديموقراطية . لكن ويا للعجب ، فباستثناء الهند لم تتطور هذه البدايات إلى ديموقراطية ، في أي بلد من البلدان المستَعمرة ، وللأسباب التي أوردناها سالفا . والحقيقة أخرى تمثلت في أن القادة المسكونين بتطلعات وآمال شعوبهم ، توجهوا أول ما توجهوا إلى الولايات المتحدة ، وإلى الغرب عموما ، بحثا عن حلول ، وعن مساعدات لتنمية بلدانهم . واستغرقوا في مثل هذا البحث سنوات . وكان صادما أن الولايات المتحدة ، كما بريطانيا وفرنسا ، طالبتهم ، بديلا لطرح الحلول ، ومد يد العون ، بالانخراط في جهود مكافحة الشيوعية ، بما ذلك الدخول في أحلاف ، تحت رايتها وحلفائها ، دون أن تنفحهم ببارقة أمل لحل مشاكل شعوبهم .
ولأن بعض هؤلاء ، كجمال عبد الناصر على سبيل المثال ، كان مسكونا ، بالإضافة لما سبق ، بقضية العدالة الاجتماعية ، غدا طبيعيا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، وأن يستلهم النموذج السوفييتي ، أو بعضه . ومرة أخرى من نافل القول الإشارة إلى أن سمعة الاتحاد السوفييتي آنذاك ، كانت في أوجها ، إذ لم يكن قد تم الكشف عن جرائم نظام ستالين بعد .
إذن فقد رسا خيار عديد من قادة العالم ، الساعين لتنمية بلدانهم ، ولتخليصها من إرث الاستعمار الثقيل ، ولإرساء شيء من قواعد العدالة الاجتماعية ، رسا على خياراستلهام النموذج السوفييتي ، للتنمية و للديموقراطية الاجتماعية . كان من هؤلاء ، إضافة لجمال عبد الناصر ، موديبو كيتا في مالي ، كوامي نكروما في غانا ، أحمد سيكوتوري في غينيا ، جوليوس نيريري في تنزانيا ، باتريس لومومبا في الكونغو ، أحمد بن بيلا ، ثم الهواري بو مدين في الجزائر ، أحمد سوكارنو في أندونيسيا ، جواهر لال نهرو في الهند ...وغيرهم كثير . والطريف أن من بين هؤلاء القادة كان اثنان فقط من أصل عسكري ، هما جمال عبد الناصر والهواري بومدين . وكل هؤلاء ناصبتهم الإدارات الأمريكية العداء . شتتت جهودهم ودفعتهم دفعا نحو معاداة الديموقراطية السياسية ، والحرص على بناء وتعزيز دكتاتوريات استبدادية . وهنا لا بد من استذكار الدور الذي لعبته إسرائيل ، والصراع معها ، في تعزيز الدكتاتوريات العربية ، عسكرية كانت أم حزبية ، وهذه مسألة تحتاج وقفة لوحدها . والملفت للانتباه أن هذه النظم التي أشرنا إليها ، آلت جميعا إلى نفس المآل ، باستثناء الهند ، التي شكلت ، كما سبق وأشرنا ، حالة خاصة .
عصر جديد :
انقلب الوضع بعد الانتصار الكاسح للولايات المتحدة وحلفائها في الحرب الباردة . سقط الاتحاد السوفييتي وتفكك ، وانحلت المنظومة الاشتراكية ، وانحسر خطر الشيوعية ، ولم تعد نظرية الدومينو قائمة . وبتربع الولايات المتحدة وحيدة على عرش العالم ، انتفت الحاجة لأحلاف الشياطين ، الذين سبق وأدوا أدوارهم باقتدار ونجاعة ، والذين تحولوا في الوضع الجديد إلى عبء غير محتمل .
ولأن الولايات المتحدة وحلفاءها ، استخدموا الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان ، أسلحة فعالة في الحرب الباردة ، كان الوفاء لها في العهد الجديد ، ولو مظهريا ، أمرا في غاية الأهمية . هكذا اجتاحت العالم ، ومن بداية تسعينات القرن الماضي ، موجات عاتية اكتسحت نظم الشياطين البغيضة ، وأحلت محلها نظما ديموقراطية . والمتطلع الآن لخريطة العالم لا يكاد يرى نظاما ديكتاتوريا واحدا ، من تلك الموسومة بالعلامة الأمريكية .
نخلص من كل ذلك لنقول : لقد حدث تغير كبير على العالم . لم يعد العالم كما كان . عهد الديكتاتوريات ولى ، وإلى غير رجعة . لم تعد هناك مصلحة ، لا لأمريكا ولا لغيرها في رعايتها . قد يقال : ولكن الإرهاب الذي يجتاح شرقنا ، وهو منجز أميركي بامتياز ، قد يوفر الحافز لعودة البحث عن حلف الشياطين . وأقول : ولكن الديموقراطية ، وهو ما تعيه الإدارات الأمريكية ، هي الحل ، ولهذه المسألة بالتحديد . مسألة أخرى مهمة ، وهي أن الديموقراطيات التي نشأت على اتساع القارات ، لم تلحق ضررا ، لا بالمصالح الأمريكية ، ولا بمصالح حلفائها . والأهم أنها لم تشكل عائقا ، ولم تصنع عقبات ، كما لم تضع عراقيل ، أمام عولمة رأس المال .
إذن لو افترضنا وصول العسكر اليوم ، إلى رأس نظام ما ، وبالطريق الديموقراطي ، فإن تحويله – النظام - إلى ديكتاتوري استبدادي ، هي مسألة غدت خارج الزمن . مثل هذا التحول ، كما سبق ورأينا ، يحتاج لمناخ عالمي ، وإلى راعي وداعم ، وهو أمر غير متوفر في هذا العصر الجديد . غدت الديموقراطية اليوم ، سمة العالم الجديد ، ما بعد الحرب الباردة . وإذا كان صحيحا أن العملية ما زالت مستمرة ، وأنها قد تشهد بعض التعرجات ، هنا أو هناك ، لكن الصحيح أيضا أن مناقضة هذه السمة العالمية ، ومحاولة السير عكسها ، تقع في خانة المستحيل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254