الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المالينخولي السّعيد .. أو كيف يحتمل السّوداويُّ مُكوثه في العالم ؟

ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)

2014 / 3 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ثمّة من النّاس من اختار انتهاج السّوداويّة رؤيةً للعالم و مقاربةً من مقارباته المتعدّدة و مسلكًا جماليًا يعبُر تفاصيل الحياة و أفانينها , و المالينخولي في الأصل إنسانٌ يائسٌ من العالم و من النّاس , ليس يأسهُ يأسًا رومنسيًا ساذجًا أو حالة انفعاليّة عابرة , بقدر ما هو كينونةٌ تُنحتُ و تُؤَصّلُ طيلة مكوثه في العالم .
تعرّض ابن سينا في كتابه " القانون في الطبّ " إلى المالينخوليا باعتبارها حالةً مَرضيّةً مُحدّدًا أعراضها قائلًا : "علامة ابتداء المالنخوليا ظنٌّ رديء، وخوفٌ بلا سبب، وسرعةُ غضبٍ، وحبُّ التخلي واختلاجٌ، ودوارٌ ودوىٌّ وخصوصاً فى المراق . فإذا استحكم، فالتفزغُ وسوءُ الظنِّ ، والغمُّ، والوحشةُ ، والكَرب ، وهذيانُ كلام، ، وأصنافٌ من الخوف مما لايكون أو يكون .." و إذا كان تعامل ابن سينا و سائر النفسانيين مع المالينخوليا تعاملًا طبيًا اكلينيكيًا فإنّنا نُقاربها خارج الفضاء الصحّي , لذلك نختلف معهم في الرّؤية العامّة للحالة السّوداويّة-التّشاؤميّة-المالينخوليّة من حيث اتّفاقنا في تشخيص الأعراض .
حسم المالينخولي أمره مع مفردات من نوع : قصد , غاية , هدف , معنى , مطلق ... و لم يعد يهمّه ماذا يقع في الضفّة الأخرى من العالم , و لا ما وقع في غياهب الماقبل , و لا ما سيقع في سرمد الما وراء .
كيف للإنسان أن يحتمل مكوثه في هذا العالم , لولا تلك الأضرب من الوهم الجميل ( الفنّ , المُثل العليَا , شرائع الخلاص المزعوم ... ) , عدا ذلكَ فإنّ الحقيقة لا تُؤدّي إلّا إلى ثلاثة طُرق : اللّامبالاة المطلقة ( و هي درجة عُليا من الحصافة) أو الجُنون ( و هو عينُ الوعي بالعالم ) أو الانتحار ...
ينتمي المالينخولي إلى سجلّ اللّامبالاة المطلقة , حيث الانتماء إلى اللّاانتماء , و ليس ثمّة ما يدفعه الانتحار , لأنّ الانتحار عادةً ما يكون نتيجة خيبةٍ متأخّرة , يقول إيميل سيوران في شذرة خاطفة " لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار فى التفاؤل. أما ألآخرين فلماذا يكون لهم مبرر للموت و هم لا يملكون مبرراً للحياة" .
المالينخولي كائنٌ سعيدٌ من شدّة الحزنِ لأنّ الحزنَ مصْلٌ مضادٌّ لنفسهِ , لا خشيةَ من شيءٍ إذنْ و لا أمل في شيءٍ , لا انتظارات و لا خيبات . يكفي الالتذاذ بما هو متاحٌ , لأنّ اللّذّة مصدر كلّ خير وفق المعلّم " أبيقور " , و الخيرُ كلّ الخير في تجنّب كلّ ما يسبّب الألم . تُعدُّ الإيتيقا الأبيقوريّة وصفةً مثاليّة لحياة المالينخولي السّعيد : الالتذاذ في حدود المتاح , تجنّب كلّ ما يشكّل مصدرًا للآلام , عدم الخشية من الموت و لا من القوّة المفارقة , القدرة على تنسيب الألم و المصالحة معه .
يحاول المالينخولي الفكاك من كلّ الارتباطات المحدّدة بصفة قبليّة , إذْ لا معنى للوطن فهو من قبيل المصادفة الجغرافيّة , و لا معنى للعائلة لأنّها مُؤسّسةٌ على حتميّات بيولوجيّة و لا معنى للعلاقات المبنيّة على الانفعالات الطّارئة و العرضيّة . لذلك فإنّه جازمٌ حازمٌ في مقاطعته لفكرة الزّواج و التّناسل : ففي زيادة النسل زيادةٌ في عدد الأشقياء . جاء في مصنّف " الدّراري في ذكر الذّراري " لابن العديم الحلبي أنّ فيلسوفًا سُئل : لم لا تطلب الولد ؟ فقال : من محبّتي للولد . و قيل لآخر :لو تزوّجت فكان لك ولدٌ تُذكر به , فقال : والله ما رضيت الدنيا لنفسي فأرضاها لغيري .
لا يذهبنّ في الظنّ أنّ المالينخولي السّعيد داعية كراهيّة أو صاحب نزعة تصفويّة إباديّة , فهو يفقد القدرة على الحبّ و الكره تدريجيًا خلال حياته القصيرة , لا شيء يستحقّ الكره , كذلك بالنسبة إلى الحبّ , كلّ الموجودات سواسيّة لأنّها باطلةٌ بالأصالة و قبضٌ للرّيح . الحياة عديمة الجدوى , و إذا وضعنا لها هدفًا على سبيل التجوّز فإنّه حتمًا سيكون الموت , لم يعد الموت مصدر خوف , بل هو صديق طيّب للمالينخولي السّعيد , و طيبته تكمن في حكمته المُعريّة للحياة .
يسخر المالينخولي من النّوع الإنساني , بل و يشعر بالعار إذا تذكّر انتماءه إلى هذا النّوع , لذلك فهو محكومٌ في تمثّله للعالم ب"إرادة الفناء " , و تنزع هذه الإرادة إلى الإنهاء الوجودي للنوع الإنساني بعامة , حتّى يعود النّظام الطبيعي إلى مجراه , فالإنسان كائنٌ ناشزٌ , و قد تسبّبَ نشوزه في إفساد العالم رغم التقدّم الحضاري الظاهر . يقول جان جاك روسو في مقالته الرّائدة في العلوم و الفنون " .. و أنفسنا ازدادت فسادًا بقدر ما ازدادت علومنا و فنوننا كمالا . أ يقول بعضهم إنّها نكبة خاصّة بعصرنا ؟ كلّا , يا سادتي , فالشّرور الناجمة عن فضولنا الباطل إنّما هي قديمة قدم العالم ... "
هل في نفس المالينخولي السّعيد رغبةٌ في إصلاح ما قد فسدَ ؟ كلّا , إنّ الضّررَ هائلٌ و جبره صار محجوبًا عن الأفق , المالينخولي عدمي في المستوى الإيتيقي العام و في مستوى السّياسة . كلُّ تدبير للشّأن العام هو تدبيرٌ للألم , و كلّ سلطة تبدع مسخها الفرانكشتايني من حيث تدري و من حيث لا تدري , فالأنظمة المجرمة كما يقول ميلان كونديرا " لم ينشئها أناس مجرمون , و إنّما أناس متحمّسون و مقتنعون بأنّهم وجدوا الطّريق الوحيد الذي يُؤدّي إلى الجنّة " .
قد يبدو المالينخولي السّعيد متناقضًا في كثير من مزاعمه , فهو سعيدٌ من حيث حزنه , و موجودٌ من حيث إرادته للفناء , و علاقاته الإنسانيّة و العائليّة طيّبةٌ من حيث عدم إيمانه بأيّ ضرب من الارتباطات !!! ... لكنّ التناقض الظّاهر بالنسبة إليه ليس " نقصاً، أو خطأً ، أو ضعفاً. إنه حركة حياة وكينونة . ورؤية عقلية متجددة " على عبارة عبد الله القصيمي , إنّه حالة من القلق الدّائم و الارتياب اللّامتناهي .
في ختام هذا المانيفستو , يريد المالينخولي السّعيد بيان أنّ لامبالاته غير ناجمة عن طيش أو فراغ و إنما هي حصافةٌ و رؤية للعالم و اكتناه مباشر للألم الإنساني , فلا عزاء لهذا الألم إلّا في فكرة فناء الإنسان ذاته باعتباره كائنًا مسيئًا إلى نفسه فضلا عن إساءته إلى بقيّة الموجودات .صدق محمود درويش – و هو أحد الكائنات المالينخوليّة السّعيدة - إذ قال في سطرٍ شعري جميل جليل " في اللّامبالاة فلسفةٌ , إنّها صفة من صفات الأمل " ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط