الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تطور الدين مع الانسان

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 3 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عكس الاعتقاد السائد، لم يكن الدين ملازماً للإنسان منذ تطوره إلى الحياة فوق كوكب الأرض بتكوينه الجسماني الحالي قبل مئات، وربما ملايين، آلاف السنين خلت. في ظل حياته الانفرادية في البراري والغابات ثم في مجموعات متناثرة فيما بعد أشبه بالقطعان الحيوانية الرحالة حالياً بحثاً عن منابع المياه والطعام والاحتماء من أخطار الطبيعة والمفترسات، لم تكن قد خطرت بخيال الانسان البدائي بعد أي فكرة عن قوى قابعة في أو فيما وراء الطبيعة تستطيع أن تؤمن له حياته وتطمئنه على مستقبله. في ذلك الزمان كانت الأفراد والمجموعات البشرية غير مستقرة ولا تستطيع الاتصال بشكل منظم إلى بعضها البعض، ومن ثم افتقرت إلى العلاقات الثابتة فيما بينها وإلى القدرة على الفكر المنظم في وجود قوى عليا أقوى منها أو حتى القدرة على تخيل وجود مثل تلك القوى أصلاً.

لكن هذا الوضع قد تغير بدرجة جوهرية فور استقرار الانسان في أماكن ثابتة، حيث بدء يروض الطبيعة البرية ويسخرها لأغراضه الخاصة باستغلال عناصرها في بناء مسكنه وزراعة مأكله وصناعة أدواته وملبسه ونقل وتخزين مياهه وصيده...الخ. وكان من أهم النتائج المترتبة على هذا الاستقرار والتفاعل البناء مع عناصر الطبيعة البرية أن نشأت لأول مرة ’علاقة‘ جلية منظمة وقابلة للتطوير سواء فيما بين أفراد هذه الجماعة البشرية الصغيرة المستقرة حديثاً أنفسهم، أو فيما بينهم وبين عناصر الطبيعة التي قد أصبحوا في علاقة عمل (بناء وزراعة وصناعة) منظمة ومقصودة معها لأول مرة في حياتهم. فور تبلور هذه ’العلاقة المزدوجة‘ بين الإنسان وأفراد نوعه من جهة ثم بينهم وبين عناصر الطبيعة من جهة أخرى، انتهى إلى الأبد عصر ’الانسان البري‘ غير المتصل والواعي بأفراد نوعه وعناصر طبيعته وبدأ عصر ’الإنسان الحضري‘، حيث تطور الاتصال إلى ألفاظ ثم رموز مكتوبة ثابتة ومنظمة، وتطورت بدورها العلاقات، ومن ثم أصبح الخيال والتصور والفكر المنظم ممكناً للمرة الأولى على الإطلاق.

قبل ’الاستقرار‘ ونشوء ’علاقات مستقرة‘ بين البشر بعضهم ببعض، كان التخيل أو التصور أو التفكير المنظم في أي شيء شيئاً مستحيلاً في حد ذاته. وفي غياب علاقة واضحة ومنظمة مع أفراد نوعه وعناصر الطبيعة من حوله، كان يستحيل على الانسان البدائي أن يتصور وجود أي قوى خارقة تقبع فيما وراء طبيعة لا زال هو نفسه عاجز عن إدراك وجودها. الإنسان البدائي لم يكن ’يعرف‘ كونه ’إنسان‘ أساساً، ومن ثم كان عاجزاً عن تصور وجود دين- أي دين على الاطلاق بوصفه علاقة تبجيل أو تقديس أو رهبة أو طمع بقوى خارقة تفوقه بطشاً ورحمة.

فيما بعد، بمقدار تطور ’العلاقات‘ سواء فيما بين أفراد وجماعات البشر أنفسهم أو فيما بينهم وبين عناصر الطبيعة المادية من حولهم، تطورت أيضاً أفكار الإنسان وتصوراته وتخيلاته المختلفة حول وجود كيانات أكثر منه قوة وبطشاً، أو سخاءً وعطفاً. عندما كانت التجمعات البشرية المستقرة لا تزال صغيرة الحجم وموزعة بين قرى صغيرة ومنعزلة، كانت تصوراتها للآلهة لا تزال بدائية مثلها ووجدت مجسدات مباشرة لها في أقرب عناصر الطبيعة إليها من جماد أو نبات أو حيوان، أو في النجوم والكواكب والرياح، أو في مخلوقات البحر أو باطن الأرض...الخ. ومع تطور وتحضر هذه التجمعات البشرية المستقرة أكثر، تطورت وتحضرت معها أيضاً علاقاتها وتصوراتها وتجسيداتها لقواها الخارقة وآلهتها، حتى بلغت البشرية عصور ’الآلهة السماوية‘ المجردة، غير المجسدة في أي من عناصر الطبيعة كما في الماضي.

الشيء اللافت في هذه الرحلة التطورية لمفاهيم الآلهة هو أن علاقات البشر ببعضهم البعض، ثم علاقتهم بعناصر الطبيعة المادية من حولهم، ودرجة تطور هذه العلاقة المزدوجة، كانت دائماً تسبق وتحكم ’مفهوم الانسان‘ لآلهته. في قول آخر، هذه العلاقات هي التي قد أوجدت وحددت مسارات تطور المفاهيم الإنسانية حول القوى الخارقة ومجسداتها من عناصر الطبيعة المادية أو في المجرد السماوي. بدون ’علاقة‘ لا يوجد ’إله‘، وبمقدار تطور هذه العلاقات تتطور أيضاً المفاهيم حول الآلهة.

كدليل على ذلك، الأديان التجريدية المعروفة باسم ’السماوية‘ خاصة المسيحية والإسلام- التي تدعي كونها قد جاءت للناس كافة في جميع أنحاء العالم ولا تستثني أحداً على الإطلاق من نطاق رسالتها ومساعي هديها- لم تظهر وما كان يمكن لها أبداً أن تظهر إلى الوجود قبل أن تمهد لها الأرض أولاً امبراطوريات ذات نطاق عالمي مثل اليونانية التي أقامها الاسكندر الأكبر المقدوني والرومانية التي أقامها يوليوس قيصر من روما. هذه الإمبراطوريات العالمية وغيرها من المحاولات الأقل شهرة هي في الحقيقة التي قد أرست قواعد ’العلاقات‘ العالمية المشتركة بين الشعوب ذات الأعراق والألوان واللغات والثقافات والأديان المختلفة...الخ التي استغلتها هذه الأديان العالمية فيما بعد كقواعد انطلاق لنشر رسالتها. لولا قيام الإمبراطوريات العالمية أولاً ما قامت مثل هذه الأديان العالمية تالياً؛ أو، في قول آخر، لولا فتوحات الاسكندر وقيصر بدايةً ما كانت رسالتي عيسى ومحمد أخيراً، أو ما ظهرت المسيحية والإسلام.

ختاماً، في غياب العيش ’المستقر‘ لا تنشأ ’علاقات‘ مستقرة؛ وفي غياب هذه العلاقات المستقرة لا ينشأ ’تفكير‘ منظم؛ وفي غياب التفكير المنظم لا وجود لمفاهيم القوى الخارقة والآلهة. في المقابل، بمقدار ’تطور‘ هذه العلاقات فيما بين البشر على الأرض ’أولاً‘، تتطور أيضاً مفاهيم علاقتهم بآلهتهم في أو فيما وراء الطبيعة ’لاحقاً‘.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التفسير الديني للتاريخ
عبد الله اغونان ( 2014 / 3 / 21 - 21:15 )

كل البشر يؤرخون بالتاريخ الديني

عبري
ميلادي
هجري

وغيرها

وليس للعلمانية تاريخ

منذ نزول ادم عليه السلام الى الأرض عرف ربه وعبده

منذ بداية الخليقة الانسان كائن متدين

الأديان هي التاريخ نفسه

جوهر الدين الاعتقاد بالله وعبادته وحسن الخلق

وكل الباقي متروك للبشر اجتهادا لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف عن الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام


2 - لا تصور لعالم آخر دون تكون لغة
رمضان عيسى ( 2014 / 3 / 21 - 21:25 )
لم يوجد إنسان متكامل كما نراه اليوم منذ البداية ، وانما وُجد كائن أقرب الى الوحشية منه الى الانسانية ، وقد بدأ تكون الشكل الانساني مع انتصاب حركي لكائن ، ومع انتصابه الحركي ارتفعت حنجرته وامتدت حباله الصوتية وأصبح لديها القدرة على احداث أصوات متمايزة حسب الأحداث التي يمر بها هذا الكائن أثناء سعيه للحصول على الغذاء ولتلافي مواطن الخطر . وشيئا فشيئا تطور هذا التمايز في الأصوات الى نشوء أصوات منطوقة معبرة عن أحداث ، ومع تمايز الأصوات وتخصصها في التعبير نشأت اللغة وخزن المفاهيم والتصورات عن الواقع في الدماغ . ومع ظهور اللغة أصبح من الممكن القول أن إنسان قد ظهر على سطح الأرض يتميز عن باقي الكائنات الحية بامتلاكه اللغة . فاللغة هي التي جعلتنا بشرا . ومع تعدد المجموعات البشرية واختلاف بيئاتها تعددت اللغات والمسميات والتصورات للعالم المحيط ومع تطور عمل الدماغ بدأت تظهر تصوات جزئية أو مشوهة للواقع ومع امتزاج هذه التصورات مع الأحلام ، بدأ التصور لوجود عالم آخر خيالي يوازي عالم الواقع ، وهذا ما أُطلق عليه مملكة السماء ، ومملكة السماء هذه هي قوى خارقة يخافها الانسان ، لهذا عبدها وأرضاها بالطقوس


3 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 3 / 22 - 01:23 )
الإنسان = الدين , الدين = الإنسان .
البشرية كلها عبر الزمان وعبر المكان لم توجد بها قرية ولا نجع بغير إيمان بالله ولا يُعرف تاريخ الانسان الا في إطار الدين والإيمان بوجود الله ولم توضع فلسفات العالم ومحارات عقول العالم إلا من أجل التأسيس للدين .
والمنطق منذ أرسطو إلى يومنا هذا ؛ يدور في إطار وجود الله كقضية بديهية , يقول المؤرخ الإغريقي (بلوتارك) : (لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد لا يوجد دليل واحد على أن التدين تأخر على نشأة الإنسان بل هم قرينان منذ القدم) .... الدين ص76 .
هل تعلم أن إنسان (النياندرتال) كان مُتديناً؟ .

اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة