الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حصاد موسم الانتخابات الفلسطينية

حسن شاهين

2005 / 7 / 6
القضية الفلسطينية


مع الإعلان عن نتائج المرحلة الثانية من انتخابات الهيئات المحلية التي جرت في الخامس من أيار لعام 2005، يكون الشعب الفلسطيني قد أتم الاختبار الديمقراطي الثالث بعد انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية والمرحلة الأولى من انتخابات الهيئات المحلية اللتان تمتا على التوالي في السابع والسابع والعشرين من كانون الثاني من نفس العام. وبغض النظر عن بروز بعض الملاحظات هنا أو هناك سواء تلك المتعلقة بالقانون الانتخابي أو بسير العملية الانتخابية إلا أنها لا توثر على الصورة التي عكستها الانتخابات عن واقع القوى السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية وثقلها وتأثيرها الشعبي والسياسي. وقبل الحديث عن نتائج تلك الانتخابات ودلالاتها المهمة على الصعيد الوطني العام لابد من الإشادة بوعي الشعب الفلسطيني بأهمية الانتخابات والمشاركة فيها لما لها من أثر على واقعه ومستقبله وقضيته الوطنية، والذي ترجم نفسه بإقبال متزايد على صناديق الاقتراع من مرحلة إلى أخرى خصوصاً في المرحلة الثانية من الانتخابات المحلية، أيضاً تجدر الإشادة بحس المسؤولية العالي الذي تحلت به القوى الوطنية المشاركة في الانتخابات سواء من قبل قياداتها أو من المرشحين ووكلائهم والناشطين في الحملات الانتخابية وهذه الصورة لا تخدشها بعض التجاوزات التي حدثت في هذا المكان أو ذاك.
كل ذلك يؤشر إلى أن التجربة الديمقراطية تتجه نحو النجاح، ويمكننا أن نجزم بأن شعبنا الفلسطيني يسير على الطريق الصحيح لإنهاء موسمه الانتخابي الطويل الذي قد يمتد إلى عام كامل أو يزيد بصورة مرضية، ويحق له أن يفخر بقواه السياسية والمجتمعية ومؤسساته الوطنية الذين تعاملوا جميعاً بنضج مع هذا الاستحقاق الهام وكانت لهم مساهمة كبيرة في إنجاحه ووصوله إلى بر الأمان، ويهنئ نفسه لأنه استطاع أن يثبت للعالم بأنه شعب متعلم ومثقف ومسيَس، وقادر على التعاطي بشكل حضاري مع العملية الديمقراطية ومقتضياتها.
لا شك بأن الانتخابات التي جرت وتجري بمساقاتها الثلاث (المحلية، التشريعية والرئاسية) تشكل نقطة تحول مفصلية هامة في حياة الشعب الفلسطيني، بما لها من انعكاسات على النظام السياسي الفلسطيني برمته، وإن قدَر لموسم الانتخابات الفلسطينية أن ينتهي كما نتمنى ونتوقع فإن حصاده الأهم سيكون إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني بحيث تحكمه توازنات القوى الداخلية التي كرستها الانتفاضة الثانية للتجاوز التشكيلة الحالية للنظام السياسي التي ما عادت تعبر عن واقع الثقل الشعبي والجماهيري لفصائل العمل الوطني المختلفة من جهة ولقوة الاتجاهين السياسيين الرئيسيين الذين تشكلا بعد مؤتمر مدريد (المعارض والمؤيد للتسوية) من جهة أخرى. فالانتخابات بصفة عامة ليست فقط وسيلة الديمقراطية لإشراك المجتمع في اختيار قيادته، بل هي أيضاً أداة هامة ومدخل لإحداث التغيرات الكبرى في النظم السياسية كترجمة للتفاعلات والتغيرات التي حدثت في المجتمع وأصابته خلال مرحلة معينة من تاريخه.
وبإمكاننا أن نقول الآن بأن النظام السياسي الفلسطيني الذي سينتج بعد اختتام موسم الانتخابات الفلسطينية لن يشبه ذاك الذي كان عشية افتتاحه، فما هي أبرز ملامح النظام السياسي الجديد؟ وما هي أهم مكوناته؟ وما هو حجم الاختلاف بينه وبين النظام القديم؟
سأحاول تلمس الإجابة على هذه الأسئلة من خلال استعراض مجموعة من المعطيات التي خرجت بها الانتخابات والتي يمكن من خلال مناقشتها توقع ملامح النظام السياسي الفلسطيني ما بعد الانتخابات.
أولاً- انتهاء تفرد حركة فتح بمستويات صنع القرار والتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني. "انتهت هيمنة حركة فتح على الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي اليوم تجتهد لأن تبقى التنظيم الأكبر، وليس المهيمن"(1). فحركة فتح التي كانت على الدوام تمتلك أغلبية مريحة في معظم الهيئات التمثيلية للمؤسسات الفلسطينية الرسمية والشعبية ابتداء من المجلس الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية مروراً بمجالس النقابات وصولاً إلى اتحادات المرأة والطلاب...الخ، لم تستطع في الانتخابات البلدية أن تؤكد نفوذها وتفوقها حتى في الدوائر التي كانت تعرف بأنها معاقل للحركة، وعليها اليوم أن تتعايش مع واقع لم تعد فيه الطرف المهيمن على الساحة، فالزمن الذي كانت فيه مقولة "أن كل فلسطيني هو فتحاوي ما لم يثبت العكس" تجد ما يبررها، قد ولى وانتهى. فقد ثبت من خلال الانتخابات البلدية واستطلاعات الرأي أنه لم يعد هناك فصيل فلسطيني يمتلك نصف الشارع، وأي فصيل سياسي بمفرده هو أقلية قياساً بالحجم الجمعي لباقي الفصائل.
ثانياً- العلاقة الملتبسة بين النظام السياسي الفلسطيني ومكوناته في طريقها إلى الانتهاء لصالح علاقة واضحة وصحيحة. فجميع القوى السياسية التي شاركت في الانتخابات المحلية والتي أعلنت عن مشاركتها في الانتخابات التشريعية المقبلة باتت جزءاً من النظام السياسي الجديد ومكون من مكوناته.
ثالثا- تنوع وتعددية أم تجدد الهيمنة؟. على الرغم من أن أحدى أهم الفوائد التي كانت مأمولة من العملية الانتخابية هي تعزيز المشاركة والتعددية إلا أن النظام الذي جرت على أساسه الانتخابات المحلية "الأكثرية البسيطة" والذي من المفترض أن يجري انتخاب ثلثي أعضاء المجلس التشريعي بناءً عليه –إن أقر القانون الانتخابي المختلط وأصبح نافذاً بصيغة 44 مقعد على أساس التمثيل النسبي و 88 مقعد على أساس نظام الأكثرية البسيطة- سيخرجنا على الأرجح من هيمنة حركة فتح لنقع في فخ هيمنة جديدة قد تكون لحماس أو لثنائية التنظيمين الكبيرين (فتح وحماس). وأياً كان الطرف المهمين فهو سيتفرد بمستويات صنع القرار السياسي، وبالتالي ستحرم قوى مهمة لها ثقلها الجماهيري من التمثيل في المجالس المحلية والمجلس التشريعي بشكل يعكس هذا الثقل. "البداية السليمة لتصحيح مسار التجربة الديمقراطية الوليدة يقتضي إقرار قانون انتخابي يعتمد النسبية مئة بالمئة"(2)، ومن دراسة لمركز الدراسات الجماهيرية حول نتائج المرحلة الأولى من انتخابات الهيئات المحلية التي جرت في قطاع غزة يتضح أن إتباع نظام التمثيل النسبي كان سيغير بشكل كبير من شكل التوزيع الذي تم للمقاعد بناء على نتائج الانتخابات التي جرت وفق نظام الأكثرية البسيطة.

رابعاً- إشكالية علاقة السلطة بمنظمة التحرير الفلسطينية. فمنذ توقيع اتفاقيات أوسلو وعودة قيادة منظمة التحرير إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة والضفة، تراجع دور المنظمة بشكل واضح لحساب السلطة التي استولت على دور ووظيفة المنظمة بالمعنى العملي وتحولت المنظمة إلى هيكل شكلي بلا مضمون، وقد عبر عن ذلك شفيق الحوت ممثل المنظمة السابق في لبنان أمام مؤتمر "النظام السياسي الفلسطيني والآفاق السياسية الممكنة" الذي نظمته مؤسسة مواطن حيث ذهب في مداخلته التي قدمها "إلى الإشارة بصراحة إلى الخلل المدوي الذي طرأ على دور المنظمة تجاه أبناء الشعب الفلسطيني في بلدان اللجوء والشتات لدرجة غاب فيه هذا الدور منذ اتفاق أوسلو عام 1994، كما تراجع دور المنظمة نفسها كمرجعية لكل مكونات النظام السياسي الفلسطيني لتصبح أحد أدوات السلطة الوطنية الفلسطينية التي أفرزها هذا الاتفاق، واقتصار دور منظمة التحرير على إبرام الاتفاقيات لصالح السلطة فيما لم يكن حال المجلس الوطني الفلسطيني بأفضل، والذي تراجع دوره إلى حد التلاشي لصالح المجلس التشريعي أحد مكونات السلطة الناشئة"(4). فهل مشاركة كل القوى في الانتخابات التشريعية وما سينتج عن هذه المشاركة سيساعد على إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير واستعادة دورها كإطار ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ومرجعية سياسية للسلطة؟ خاصةًً وأن مشاركة حماس والجهاد في انتخابات المجلس التشريعي سيدفع بشكل ميكانيكي كلا الحركتين للدخول إلى منظمة التحرير في حال إقرار القانون الانتخابي الجديد والذي يُعتبر في شق منه خطوة على طريق إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية "القانون المعدل يؤكد أن أعضاء المجلس التشريعي المنتخب هم أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، وهذا في حد ذاته يفسح المجال أمام إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية سليمة، وفي الوقت ذاته، يُفسح المجال لمشاركة كل القوى السياسية في هذه المنظمة، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني بالانتخاب أو التوافق على ممثلي الشعب الفلسطيني في الشتات"(5). فجميع القوى التي أعلنت مشاركتها في الانتخابات التشريعية سيكون لها وجود تمثيلي في المجلس الوطني الفلسطيني، وبالتالي ستكون بشكل واقعي وفعلي قد ولجت إلى داخل جسم المنظمة عبر عضوية أهم مؤسساتها (المجلس الوطني).
خامساً- الانتخابات المحلية التي جرت في مرحلتيها الأولى والثانية أكدت على عمق التغير الحاصل على خارطة التوازنات الداخلية الفلسطينية. فقد برز خلالها تراجع ملفت لحركة فتح لصالح تقدم حركة حماس، وفي الوقت ذاته برز ضمور قوى اليسار وانحسار جماهيريتها إلى الحد الذي بات ينذر بقرب تلاشي بعضها.
إن هذا التغيير الحاصل في التوازنات الداخلية الذي أبرزته الانتخابات المحلية هو نتيجة طبيعية وانعكاس للتغيرات والتحولات السياسية –ذات الأبعاد المحلي، الإقليمي والدولي- التي حدثت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، دون إغفال أهمية العامل الذاتي الخاص بكل مكون من مكونات النظام السياسي الفلسطيني. وعلى الرغم من تعدد فصائل العمل الوطني الفلسطيني وكثرتها، إلا أن النظام السياسي الفلسطيني منذ انطلاقة الانتفاضة الأولى عام 1987 وحتى يومنا هذا كانت تطغى عليه بشكل شبه كامل ثلاث مكونات أساسية هي: حركة فتح وتيارها، حركة حماس وتيارها، اليسار الفلسطيني.

1- حركة فتح: إن نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في مرحلتيها الأولى والثانية وضعف إقبال الناخبين على انتخابات رئاسة السلطة، كل ذلك يبين التراجع الذي أصاب حركة فتح والانحسار في مستوى التأييد الجماهيري لها، الذي وصل على أدنى مستوى له منذ عقود. وكتب المحلل السياسي هاني المصري في صحيفة الأيام مقالاً بعنوان "الانتخابات وأزمة حركة فتح" عزا فيه تراجع الحركة إلى "خوضها الانتخابات غير موحدة وبشعارات وأساليب وبرامج متناقضة" وتساءل الكاتب في نفس المقال "إذا لم تكن فتح جاهزة الآن وإذا لم تصبح جاهزة بعد ثلاثة أشهر فكيف تكون جاهزة بعد ستة أشهر؟ وما الذي يضمن أنها ستكون جاهزة بعد عقد المؤتمر السادس؟"(6). لقد كانت نتائج الانتخابات المحلية بالنسبة لحركة فتح حصيلة لأزمة داخلية تعمقت خلال الانتفاضة الثانية، وأيضاً كانت تعبر عن موقف الناخبين من السلطة الفلسطينية ومستوى أدائها الهابط "مما لاشك فيه أن حركة فتح التي تحملت وزر ومساوئ السلطة الفلسطينية على مدى الأعوام العشرة الماضية، تدفع الآن ثمن أخطائها"(7). وحركة فتح لا تعاني من تراجع في تأييدها بالشارع الفلسطيني فحسب بل هي أيضاً باتت عاجزة عن التعبير عن قناعات ورغبات وتوجهات أعضائها وجمهورها، وهي تواجه صعوبة شديدة الآن في تشكيل قوائمها الانتخابية في الدوائر المختلفة أو على المستوى الوطني بحيث تحظى بثقة غالبية كبيرة من أعضائها وجمهورها ناهيك عن الجمهور الفلسطيني بصفة عامة، وكدليل على ذلك أشير إلى استطلاع للرأي نفذه مركز الدراسات الجماهيرية في مخيم البريج قبل الانتخابات المحلية بعشرة أيام، وقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن 39% من أفراد العينة العشوائية المأخوذة هم من مناصري ومؤيدي حركة فتح، و29% من أفراد العينة هم من مناصري ومؤيدي حركة حماس، لكن وفي نفس الاستطلاع ظهر أن حركة حماس هي الأقرب للفوز في الانتخابات! وسبب هذه النتيجة المفاجئة كان أن نسبة كبيرة من جمهور حركة فتح قد عبرت عن عدم التزامهم بالتصويت لقائمة الحركة كاملة بعكس جمهور حركة حماس الذي كان أكثر التزاماً بقائمة حركته(8).
إن حركة فتح الآن أمام محطة مفصلية حاسمة في تاريخها، وإن لم تستطع أن تتجاوز تناقضاتها الداخلية قد توجه خطر التفسخ والتشرذم في مستقبل غير بعيد، وما عاد بإمكان الحركة أن تظل تعبر عن نفسها كحاضنة لكل التوجهات والأفكار، إن الحركة الآن باتت أمام استحقاق أدلجة نفسها، لتشكل نموذجاً أصيلاً، لا نموذجاً متماه.

2- حركة حماس: بالتأكيد إن التقدم المثير للانطباع الذي حققته الحركة في الانتخابات المحلية كان في جانب مهم منه حصيلة طبيعية للأداء المميز للحركة على الصعد/ الكفاحي، الاجتماعي والتنظيمي، ولقد لخص الكاتب الفلسطيني بلال الحسن أسباب صعود حركة حماس في الانتخابات البلدية ونحاها إلى مجموعة عوامل: 1- انتهاج حماس خط المقاومة المسلحة. 2- تبني حركة حماس خطاً سياسياً عمومياً تم تطعيمه بمفاهيم دينية. 3- الحضور الخدماتي والاجتماعي للحركة. 4- انحسار اليسار. 5- الضربات الإسرائيلية ضد قادة حماس(9). إلا أن هذه العوامل لم تكن وحدها السبب في صعود حماس، فالظرف الموضوعي المتمثل في صعود التيارات الإسلامية والخطاب الديني على حساب التيارات والخطاب العلماني في جميع البلدان الإسلامية والعربية إضافة إلى المعونة المالية الكبيرة التي تلقتها الحركة ومازالت من جهات عربية شعبية ورسمية، هذا الظرف الموضوعي كان له أيضاً دور مهم في النمو الدراماتيكي للحركة خلال أقل من عقدين من الزمن لتصبح منافس حقيقي لحركة فتح ومكون أساسي من مكونات النظام السياسي الفلسطيني "إن حركة حماس لم تمتلك عبقرية في ذاتها، وإنما الشرط الموضوعي هو الذي سمح لها بهذا النمو، مع التأكيد على كفاءة العامل الذاتي"(10).

3- اليسار الفلسطيني: إن النظام الانتخابي الذي جرت وفقه الانتخابات المحلية ساهم في تكريس واقع يقول: أن المشهد السياسي الفلسطيني بات محكوماً لسيطرة ثنائية/ تيار السلطة ومركزه حركة فتح وتيار الإسلام السياسي ومركزه حركة حماس، وانكفأت قوى اليسار لتصبح على هامش المشهد، وإن كان النظام الانتخابي الذي اتبع في الانتخابات المحلية قد ساعد على ذلك، فهذا لا يلغي حقيقة أن قوى اليسار باتت بعيدة في جماهيريتها وقدرتها على التأثير السياسي عن التيارين الكبيرين، ووصل بها التردي أنها لم تعد قادرة حتى على الحفاظ على هويتها الأيديولوجية والسياسية، وتماهى بعضها بهذا الشكل أو ذاك مع القطبين الرئيسيين على الساحة إلى درجة التطابق في بعض الأحيان وهو الحد الذي يصبح عنده تساؤلنا مشروعاً حول إن كان يصح تصنيف هذه القوى ضمن إطار اليسار أم لا؟! وربما كان المثال الأصدق على ذلك هو دعم جبهة النضال الشعبي وحركة فدا لمرشح حركة فتح "أبو مازن" في انتخابات الرئاسة، وهو أمر يعبر بصدق عن اختفاء التباين بين برنامجها السياسي وبرنامج السلطة وحزبها.
إن الواقع الفلسطيني الحالي هو أكثر من موات لقوى اليسار الفلسطيني خصوصاً تلك التي مازالت مؤثرة وفاعلة وعلى رأسها الجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب لتأتلف وتتوحد حول برنامج سياسي واجتماعي "إن القوى الديمقراطية التي تفصلها من حيث الحجم والفعالية مساحة واسعة عن القوتين المتنافستين الأكبر فتح وحماس، وأخرى عن الفصائل الذاوية يترتب عليها أن تعيد النظر بصورة جدية وشاملة في آليات عملها وبرامجها أنظمتها وعلاقاتها بما يؤكد قدرتها على التطور والمنافسة، حتى لا تذوي هي الأخرى مع مرور مزيد من الوقت"(11)، ويترتب على قوى اليسار أن تعي جيداً أنها إن أرادت المحافظة على ذاتها وتواجدها وأن تستنهض أوضاعها من جديد، عليها أن تترفع عن خلافاتها الذاتية وتبحث عن صيغة تجمَعها إلى بعضها، وهي إن فعلت سيكون بإمكانها أن تستقطب قطاعاً واسعاً من الجمهور الفلسطيني الذي لا يجد بحركتي فتح أو حماس ومشروعهما ما يعبر عنه وعن مصالحه، وتجربة تحالف الجبهة الشعبية مع المبادرة في انتخابات الرئاسة لا تزال ماثلة في الأذهان والتي حصل فيها مرشح التحالف "مصطفى البرغوثي" على حوالي 20% من أصوات الناخبين، وعلى الرغم من ضعف الإقبال على تلك الانتخابات إلا أن هذا لا ينتقص من أهمية النسبة التي حصل عليها "البرغوثي" مع الأخذ بعين الاعتبار أن التحالف جاء في وقت متأخر ولم تسمح الفترة الزمنية المحدودة بين الإعلان عن التحالف وموعد الانتخابات بالتهيئة المناسبة للقواعد التنظيمية لطرفي التحالف وشرح فكرة التحالف وأهميته ورفع مستوى التنسيق والعمل المشترك. وبتقديري لو شارك كل من طرفي التحالف في الانتخابات بمفرده لما وصل مجموع نسبتيهما إلى النسبة التي حصلا عليها مجتمعين. وهذا النموذج يجب أن يشكل حافزاً قوياً أمام جميع قوى اليسار أو ما بات يعرف بالقوى الديمقراطية للعمل بجد في محاولة لبناء إطار ديمقراطي جامع لكل القوى والفعاليات والمؤسسات والشخصيات اليسارية أو الديمقراطية بحيث يكّون هذا الإطار القطب الثالث الرئيسي للنظام السياسي الفلسطيني.
سادساً- نحو رجحان كفة الديني على العلماني. إن القراءة السابقة لنتائج الانتخابات المحلية، وتداعياتها على مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا مقبلين على نظام سياسي ينتصر فيه الديني على العلماني. فتطبيق قانون انتخابي ينص على إتباع النظام المختلط في الانتخابات (دوائر وقوائم) سيُنتج مجلس تشريعي تهيمن عليه حماس أو على أحسن تقدير تتقاسم الهيمنة عليه مع حركة فتح. ومجلس بهذه التقسيمة سيرجح فيه الديني على العلماني في التشريعات والقوانين التي سوف يصدرها، والحالة هذه، فلابد أن ينعكس هذا الأمر على كل شيء، من نظام حياة المواطنين إلى مناهج التعليم والنظام العام...الخ. ولا أجد نفسي أبالغ هنا، فحتى وهي مهيمنة على مؤسسات السلطة سواء التشريعية أو التنفيذية كانت حركة فتح على الدوام تجاري التيار الإسلامي بل وتدخل معه في مزاودات في بعض الأحيان حول التمسك بالطابع الإسلامي للمجتمع ومهادنة أعراف المجتمع وتقاليده بما فيها تلك التي عفا عليها الزمن. والشواهد على ذلك كثيرة وربما أقربها وأكثرها قوة هو محاولة المجلس التشريعي إصدار قانون العقوبات الذي أقر في القراءة الأولى عام 2003 ثم ما لبث المجلس أن تراجع عن القانون تحت ضغط الشارع الذي حركه التيار الإسلامي. حدث هذا في ظل سيطرة كتلة فتح على المجلس التشريعي، فما الذي سيحدث عندما تسيطر حماس على المجلس أو تتقاسم السيطرة عليه مع حركة فتح؟!.
يجب على حركة فتح أن تدرك أنها أكبر المتضررين بعد الشعب الفلسطيني من تطبيق قانون لا يعتمد النسبية الكاملة، ومن غير المفهوم أن تخضع الحركة وقيادتها إلى ابتزاز مجموعة من أصحاب المصالح الخاصة من أعضاء المجلس التشريعي ضاربةً عرض الحائط بمصالح الحركة والشعب معاً!.
إن حماية وتعزيز علمانية السلطة ومؤسساتها وعلمانية القوانين والتشريعات وصولاً إلى علمانية المجتمع، أمر ممكن فقط في ظل وجود نظام التعددية الذي يتيحه قانون انتخابي يعتمد النسبية الكاملة.

الخلاصة
المعطيات الرئيسية للانتخابات المحلية التي جرت بمرحلتيها الأولى والثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحمل دلالات قوية حول شكل النظام السياسي الفلسطيني في المرحلة القادمة، والذي ستكون سمته الأساسية -وفق تلك المعطيات- صعود التيار الإسلامي على حساب القوى العلمانية على المستوى الشعبي. ودخوله اللعبة السياسية من بابها الواسع ليكون منافساً هاماً لهيمنة فتح على المؤسسة السياسية الفلسطينية في ظل بهتان دور اليسار وانحساره.

إن المرحلة الحرجة التي تمر بها القضية الفلسطينية تتطلب من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والمجتمعية حشد كل الطاقات والقدرات من أجل تعزيز الصمود والمقاومة في مواجهة الاحتلال والمشاريع السياسية التي تستهدف تصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء مشروعه الوطني. والنظام السياسي القائم على التعددية هو وحده القادر على عملية التفعيل والحشد لكل الطاقات والقدرات والإمكانات، بحيث يشارك الجميع من قوى ومؤسسات وفعاليات وأفراد في القيادة واتخاذ القرار والبناء الاقتصادي والاجتماعي. وهذا النظام المتعدد لن يكون إلا بتطبيق قانون انتخابي قائم على النسبية الكاملة بحيث لا يبدد صوت أي ناخب. "حصل جميع من فازوا في الانتخابات المحلية بمرحلتيها الأولى والثانية في دوائر غزة على أصوات 45% من الناخبين، بينما ذهبت أصوات 55% منهم إلى مرشحين لم يحالفهم الحظ، وهذا الأمر يشير إلى أن النظام الانتخابي المطبق يفقد العملية الديمقراطية الكثير من مضمونها، ويبدد أصوات الغالبية العظمى من الناخبين، وعليه نجدد التأكيد على ضرورة تغيير هذا النظام، وإتباع نظام التمثيل النسبي في الانتخابات القادمة"(12) .


المراجع:

(1) طلال عوكل، "بين واقع الترقيع وضرورات التغيير"، صحيفة الحقيقة، العدد الرابع، 15/5/2005.
(2) المرجع السابق.
(4) مصطفى بشارات، "أزمة النظام السياسي الفلسطيني"، 12/4/2005
(5) د. رباح مهنا، "لماذا نطالب باعتماد القانون المعدل؟"، نشرة جسور العدالة والحرية، العدد الخامس، كانون أول 2004.
(6) هاني المصري، "الانتخابات وأزمة حركة فتح"، جريدة الأيام، 20/4/2005.
(7) فتحي درويش، "حركة فتح واحتمالات الخسارة الكبرى؟!"، شبكة الانترنت للإعلام العربي، 13/5/2005.
(8) مركز الدراسات الجماهيرية، "استطلاع للرأي العام في مخيم البريج حول الانتخابات المحلية"، 25/4/2005.
(9) بلال الحسن، "أسباب تقدم حماس وتراجع فتح" ، جريدة الشرق الأوسط، 8/5/2005
(10) المرجع السابق.
(11) طلال عوكل، "بين واقع الترقيع وضرورات التغيير"، صحيفة الحقيقة، العدد الرابع، 15/5/2005.
(12) مركز الدراسات الجماهيرية، تصريح صحفي حول نتائج المرحلة الثانية من الانتخابات المحلية، 8/5/2005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة