الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المملكة والله والبترول

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 3 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان عمي محمد، رحمه الله، دائم الحكي عن تجاربه في الحياة بأسلوب حكيم وسلس يأسر الخيال من فرط تلقائيته وغنى محتواه، رغم كونه أمياً لا يعرف القراءة والكتابة. كان يحكي كثيراً حول فترة جنديته القاسية لنحو ثمانية أعوام في حرب اليمن؛ ولا أزال لا أنسى ابتسامته الوجلة وعيناه الغائرتان في آلام الماضي وهو يحكي كيف كان ورفاقه من جنود الجيش المصري آنذاك يأكلون روث (فِشْل) الخيول ويتبولون في زمازمهم لا على الأرض حتى يعيشون على مياهها بدلاً من الموت عطشاً في وقت لاحق؛ ما كانوا يملكون حلولاً أفضل من تلك من أجل البقاء في صحراء اليمن القاحلة. وقد أحضر معه من اليمن خنجراً مزركشاً بنقوش بديعة كتذكار وكان يتركني أتحسس بحذر جسمه الصلب بأطراف أصابعي ثم يعيده إلى غمده في أمان.

في قفزة غير قصيرة عبر الزمان والمكان، حكي أيضاً عن تجربة من نوع آخر ولواقع مغاير تماماً عن معاناته في اليمن. في السعودية، كان يكثر الوصف عن حياة الرغد والعز والمتعة المادية والروحانية في رحاب بيت الله الحرام. هنا كانت ضحكاته تجلجل عالياً وتكاد تعصف بسكينة أعضاء جسده، وتنفرج ملامح وجهه عن فرحة وسعادة وحماسة وظفر لا تخطئها العين. لا أزال لا أنسى حكيه المنتشي بأثر الدهشة والذهول حول ذبائح الخراف السمان المشوية كاملة فوق أطباق الأرز والكسكسي العملاقة، والتفاح الأحمر الأمريكاني الأرخص من الليمون المصري، والمفروشات والأجهزة المنزلية والسيارات الفارهة التي لم يرها أبداً في حياته! الخير في كل مكان، والأكل والشرب بلا حساب، وتتقاضى أجراً لا تحلم به بمجرد إنجاز أي عمل بسيط وتافه جداً- مقارنة بالطبع بكد وعرق الفلاح المصري في طين الحقل من طلعة الشمس إلى مغربها مقابل قروش زهيدة تسد بالكاد قوت يومه.

فجأة استدار نحونا جدي الحاج عبد المجيد، رحمة الله عليه أيضاً، رامقاً عمي محمد بنظرة استهجان حاده من طرف عينه وقاطعاً انسياب الحكي باستفهام ساخر: ’والله مش عارف أصدق كلامك ولا أصدق عينيا؟! دا إحنا كل ما كنا نفرش علشان نقعد ناكل حوالين الكعبة، كان السعوديون يقعدون حولنا في انتظار حتى ننتهي ليأكلوا الفتافيت (البقايا) ورائنا!". هذا الأكل الذي كان يصطحبه الحجاج المصريون، مثل جدي، معهم إلى الأماكن المقدسة في بلاد الحجاز (السعودية الآن) في ذلك الزمان كان عبارة عن أرغفة العيش المقدد (المحمص) والمش والجبن القديم المستعمر بالديدان، والقراقيش (مخبوز محمص) والدقة (توليفة من التوابل المطحونة).

في براءة الأطفال، كنت أقع في حيرة شديدة أمام تصديق أي من هاتين الشهادتين رؤى العين لا نقلاً عن طرف ثالث؛ عمي يحكي عن تجربة شخصية مباشرة قد عاشها بنفسه علاوة على أنه قد عاد إلينا من هناك محملاً بالكثير من أدلة الإثبات المادية التي كان لي شخصياً نصيب منها، بينما لم أكن قد ولدت بعد لدى مغادرة جدى حتى أتأكد بنفسي من حقيقة المؤن الغذائية (الزاد والزواد) المزعومة التي كان يحملها الحجيج المصريون معهم فوق ظهور الجمال في رحلتهم إلى الديار المقدسة. الروايتان على طرفي نقيض. ربما أحدهما يكذب. من هو؟!

فيما بعد، أدركت صدق الشهادتين معاً. لا أحد يكذب. الروايتان حقيقيتان مائة بالمائة. سبب التناقض هو أن رحلة جدي عبد المجيد إلى السعودية كانت قد جرت وقائعها في فترة الأربعينيات، في حين أن تجربة عمي محمد كانت في فترة الثمانينيات. حوالي أربعون سنة كاملة تفصل بين الحجتين. خلال تلك الفترة، غير الطويلة في عمر الشعوب، قد شهدت بلاد الحجاز تحولات جذرية شكلية وجوهرية كما لم تشهد من قبل، ما صنع منها البلدين المتناقضين حسب رواية جدي وعمي أعلاه. من قديم الزمان حتى قصدها جدي بالزيارة كانت قد بقيت هي نفس ’الأراضي المقدسة‘، لكن بحلول وقت زيارة عمي لها كانت قد تحولت إلى ’الأراضي المقدسة+ البترول‘. هذا المتغير الأخير يفسر الروايتين المتناقضتين عن نفس البلد الواحد.

منذ ظهرت قبائل شبه الجزيرة العربية على سطح الوعي الحضاري الإقليمي والعالمي، وهي تعتمد صناعة ’الدين‘- بجوار التجارة والإغارة- ركيزة معيشية أساسية. لكن رغم اعتمادها المبالغ فيه على خدمة ’الأماكن المقدسة‘ والتعيش بها سواء خلال عصور الجاهلية أو بعد ظهور الإسلام، قد بقيت القبائل هناك تعيش في فقر وعوز وهمجية وتشرذم وتخلف على هامش الحضارة الإنسانية دون أن تحقق تقدماً أو رخاءً يذكر، أو تقدم مساهمة متناسبة مع تعداد أفرادها أو مساحة أراضيها كبقية شعوب الجوار التي لم ’تمتهن الدين‘ حرفة وغاية عليا لوجودها.

في صدر الإسلام، حدث تطور دراماتيكي نقل تلك الشعوب البدائية من وضعية العزلة والضعف والعوز والتشرذم والتخلف إلى أعلى مستويات القوة والثراء وقذف بهم فجأة في مركز البطولة والقلب الحضاري النابض لذلك الزمان، على قدم المساواة مع الشعوب اليونانية والرومانية والفارسية صاحبة التواريخ والإنجازات الحضارية العريقة، وفي بعض الأحيان إلى أعلى منها. هناك من ينسبون للدين الإسلامي الجديد هذا الفضل؛ لكن ربما هناك متغير آخر، مثل البترول أعلاه؟!

المهم، هذه الفتونة والصحوة الحضارية العربية الفجائية لم تدم طويلاً، لتعود مهد الديار المقدسة بعد عدة سنوات فقط من الحيوية والنشاط إلى خمولها وسباتها وتشرذمها وتخلفها الحضاري القديم الممتد مئات السنين قبل الإسلام وبعده. إذ بعد أن وضعت الأسس الأولية لدولة الإسلام فوق الأراضي المقدسة بالمدينة ومكة، سرعان ما اختطفت منها دمشق معظم عناصر القوة والسلطة والجاه والثروة- وحتى الشرعية الحصرية لتمثيل الإسلام ذاته- لما أصحبت هي حاضرة الخلافة الإسلامية خلال العصر الأموي؛ ومن هناك، انتقل مركز ثقل الحضارة الإسلامية مرة أخرى إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية. لم تجني شبه الجزيرة العربية، مهد الإسلام، من الدين الجديد سوى نفس الأماكن المقدسة القديمة ونفس الفقر القديم الأزلي؛ وقد بقيت طوال مئات السنين تعيش كمجرد مستعمرة عربية محكومة بالحديد والنار من عاصمة الخلافة العثمانية في اسطنبول، حيث أي تمرد على وضعية التبعية المهينة هذه كان يقابل بأشد العقاب. فكما أن حرمة الكعبة لم تردع المنتصرين الأمويين من تعليق رقاب حتى صاحبة رسول الله على جدرانها، كذلك الأماكن المقدسة لم تمنع القائد المصري إبراهيم باشا ابن محمد علي والي مصر من استئصال التمرد السعودي-الوهابي مطلع القرن التاسع عشر، بناء على تكليف مباشر من الخليفة العثماني نفسه.

الأديان والأماكن المقدسة على مدار العصور التاريخية المختلفة كما شهدتها شبه الجزيرة العربية- قبل وبعد ظهور الإسلام- لم تهب شعوبها من التقدم أو التحضر أو الرخاء ما يكافئ ما تستثمره فيها من جهود دؤوبة؛ فمقارنة بمدن الجوار- دمشق، بغداد، القاهرة، طهران، اسطنبول- لا تستطيع حتى المدينتين السعوديتين الأعظم- مكة والمدينة- أن تدعي من الإسهام في محيط الحضارة الإنسانية أو حتى الإسلامية بأكثر من أحجار وشعائر ’الأماكن المقدسة‘، التي لم تنفع حتى شعوبها أنفسهم بشيء يذكر، لا قديماً ولا حديثاً.

إن متغير مادي خام أولى وحيد لا يحتل مكانة تذكر على صعيد الإنتاجية والإبداعية البشرية الخلاقة مثل البترول المستخرج من باطن الأرض قد استطاع بمفرده أن يبدل حال المملكة من النقيض إلى النقيض؛ بينما الأماكن المقدسة بكل موادها الخام الأولية وشعائرها وعباداتها المصنعة على تنوعها، الموجودة والمتطورة والمستثمر فيها بشراهة طوال مئات السنين قبل الإسلام وبعده، لم تستطع في أي عصر أن تخرج شعوب الجزيرة العربية لفترة معقولة من عزلتهم وفقرهم وجهلهم وتشرذمهم وتخلفهم مقارنة حتى بشعوب الجوار، ناهيك عن بقية العالم.

رغم كونها صانعة المادة الخام الأولية الإسلامية بلا منازع، قد بقيت السعودية طوال التاريخ الإسلامي مجرد ألعوبة ومطية فقيرة وذليلة تحت أقدام خلفاء مسلمين سمان متكئين على عروش وثيرة داخل قصور رغدة في دمشق والعراق واسطنبول. لكن بعد عدة عقود فقط من اكتشاف مادة خام زيتية لم تصنعها، قد أصبحت المملكة اليوم كبيرة العالم الإسلامي بلا منازع وأحد أقوياء العالم العشرين. صناعة الله، أم البترول؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 3 / 24 - 13:45 )
إنها صناعة الله , و الأسباب من الله كالـ(بترول) و غيره .
مكه المكرمه و المدينة المنوره , هما من صنعا التاريخ , فيها جاء الوحي و النبوه , و منها خرجت الحضاره الإسلاميه , و تحت أقدامها أنهارت الإمبراطورية الفارسيه , و لحقتها الإمبراطورية البيزنطيه .
الآن سأكلمك بمنطق علمي , هذا المنطق يتفق مع الإيمان بالقَدر , فالقَدر هو (التاريخ المصمم) , راجع :
https://www.youtube.com/watch?v=tbqaLqhpxCM
و
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?52577-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D9%85%D9%85

الآن , بعد أن تُتابع الفيديو , و تقرأ المقاله , سأطرح عليك تساؤلك : صناعة الله، أم البترول؟! .


2 - بعد إذن الاستاذ أعجبني تعليق عبد اللات ومناة وعزي
عدلي جندي ( 2014 / 3 / 24 - 16:42 )
ساجاوبه بعد روية الفيديو وقراءة المقالة ومشاهدة فيديو الدولة ..داعش.. بالطبع صناعة الله والبترول فلولا الصنم الأسود ما كانت ارض الحجاز مقدسة ولولا البترول ما رأينا الاسلام الوهابي في مصر علي الأقل

تحياتي لفكر الكاتب وواقعيته في نقل حدث شخصي يشرح موضوعه في يسر لا عسر أمثلة المعلق 1


3 - راااائع
السودانى الحائر ( 2014 / 3 / 24 - 18:02 )
هههههههههههه الله يجازيك يااستاذ عبد المجيد كدت اموت من الضحك وانا اقرأ فى المقال وتمنيت لو ان كل سعودى قراء هذا المقال .فى الحقيقه هذه هى المره الثالثه او الرابعه التى اقراء فيها مقالاتك انت بحق رائع وهكذا الفراعنه دائما يتقنون صنعتهم ايمانا كانت ام كفرا. تسلم يا ابن النيل


4 - تحية تقدير و اكبار استاد عبد المجيد
Jugurtha bedjaoui ( 2014 / 3 / 24 - 21:42 )
تحية تقدير و اكبار استاد عبد المجيد على هاد المقال الكاشف لعورات الهمج انا سعيد جدا بهاده البروفة التي كشفت فيها حالتهم قبل ان يكتشف الكفار قوت المهلكة والا عادوا لغزواتهم الاولى من اجل لقمة العيش كما فعل اجدادهم من قبلهم باسم الدين الدي لم يعطيهم حتى قوتهم اليومي اجدد لك الشكر على المقال الدي فضحت به المهلكة و اخواتها تحياتي


5 - ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو فضل عظيم
عبد الله اغونان ( 2014 / 3 / 24 - 23:28 )

من أرض الحرمين ظهرت طاقتان

طاقة روحية الاسلام الذي مازال في حالة توهج

وطاقة مادية البترول بقضل الله تعالى

كل مجد الدول من أمويين وعباسيين وترك وفرس هبة اسلامية فتركيا وايران الى الان

تمتحان من هذا النبع الصافي

خل ماكان وتحدث الان
كن ابن من شئت واكتسب ادبا --- يغنيك محموده عن النسب
ان الفتى من يقول ها أنذا --- ليس الفتى من يقول كان أبي

تكفيكم قبوروجثث الفراعنة ومأثر المماليك وهز ياوز ودبابات الانقلابيين الذين مازالوا يتسولون منح الخليج للحفاظ على نظامهم المنهار والأيل للسقوط قريبا



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س