الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أثيتيقا الإصلاح والسيادة

عماد هرملاني

2005 / 7 / 9
حقوق الانسان


تعرض مسيرة تطور المجتمع البشري في جانبها الأثيتيقي (الأخلاقي) قصة الانتقال التدريجي والبطيء التي قطعها الفكر الإنساني في بحثه الدؤوب عن الصيغة الحقوقية التي تتيح تقريبه من تخوم الإيتوبيا التي حلم بها دائما للعيش في ظل نظام يوازن بين الحفاظ على حقوق الإنسان الفرد وحمايتها وبين تأمين مصالح المجموعة أو الجماعة التي لا يمكن للفرد أن يعيش خارجها أو ينعزل عنها، وفي مساق هذه المسيرة يمكن الافتراض بأن تشكل الدول القومية الحديثة التي ظهرت في أوربا إبان الثورة الصناعية شكل المنعطف المفصلي الذي انتقلت البشرية عبره من مرحلة وعي الجماعة التي بني تماسكها على منطق القهر والقوة، إلى مرحلة الوعي الفردي الذي تأسس على مبدأ العقد الاجتماعي وشكل أحد العناوين المميزة للتطور الإنساني في العصور الحديثة.
ومن الزاوية الأثيتيقية يمكن القول أن الدولة الحديثة شكلت منذ لحظة تأسيسها مرجعية قوة شجعت المواطن الفرد على التحرر من هيمنة الولاءات القرابية التي ألغت شخصيته واستلبت حقوقه على مدى عهود طويلة وصهرتها داخل أطر جماعية تقليدية (العائلة / القبيلة) فرضت لنفسها حق التحكم بمصائر الرعايا الذين خضعوا لها خضوعا مطلقا تحت طائلة نبذ المتمردين وخلعهم عن الجماعة وحرمانهم من حمايتها التي كانت تشكل شرطا لازما للحفاظ على حياة الفرد. وإذا جاز القفز فوق بعض التفاصيل والوقائع التاريخية التي لا يتسع المقام لعرضها هنا، يمكن القول أن تاريخ التطور السياسي للمجتمع البشري منذ ذلك الوقت تمحور في جانب من جوانبه الأساسية حول بلورة الآليات التي تتيح تنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع تحت سقف الدولة الحديثة ، وقد اكتسبت تلك العلاقة في مسالكها التطبيقية طابعا إشكاليا طرح معضلة سيطرت على مساحة واسعة من اهتمامات الفكر السياسي الحديث وتتعلق بموضوع شرعية الحكم في الأنظمة المتباينة التي ظهرت تحت مظلة الانتماء لمنظومة الدول القومية الحديثة، ورغم أن الأنظمة الحاكمة في جميع تلك الدول لا تني تكرر التأكيد على أنها تستمد شرعيتها من إرادة الشعب، تدلل وقائع التجربة المعاشة على أن تلك الادعاءات كثيرا ما بنيت على مزاعم زائفة أخفت وراءها نماذج متطرفة لأنماط حكم استبدادية ذهبت في تغولها على حقوق المواطنين الذين تنطق باسمهم إلى مدى غير مسبوق ولم تصل إليه أعتى السلطات تعسفا التي حكمت خلال العهود الغابرة وبنت شرعية حكمها على ادعاءات قرابة الدم أو سلطة الغيب.
وفي مواجهة هذه الردة سجل المجتمع الإنساني خلال القرنين الماضيين محاولات عديدة من أجل الوصول إلى صيغة تساعد في كبح جماح الدولة الحديثة التي تحولت في بعض الحالات إلى مركز استلاب جديد دمر شخصية الإنسان الفرد وألغى كيانيته الحقوقية بصورة مفزعة نتيجة ما توفر للدولة الحديثة من وسائل القهر والقوة، وقد أثمرت تلك المحاولات عن خطوات عملية متتابعة في طريق تثبيت تفاهمات وتوافقات دولية حول حماية حقوق الإنسان كان أبرزها إبرام اتفاق فيينا عام 1815 بخصوص تحريم ظاهرة الرق وتوقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966. وحيث أن جميع تلك الاتفاقات ظلت تفتقر إلى الآلية العملية التي تضمن التزام الدول والسلطات التي وقعت عليها بتطبيق بنودها، فقد ظلت الحاجة ماثلة من أجل إيجاد مرجعية قادرة على التدخل لحماية حقوق الفرد التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان من عسف الدولة وسلطتها، وفي هذا الصدد يمكن اعتبار الدعوة التي طرحت في أروقة الأمم المتحدة أواخر القرن الماضي بشأن إقرار حق ((التدخل الدولي)) لحماية حقوق الأفراد والجماعات في الدول التي يتعرضون فيها للاضطهاد على يد السلطات المحلية بأنها شكلت بالفعل منعطفا نوعيا في مسيرة المقاربة الأخلاقية للحلم الإنساني الأثير المتعلق بهاجس الوصول إلى اجتماع بشري تسود فيه مبادئ الحق والعدل والمساواة ويحفظ لمواطنيه حقوقهم وكراماتهم بصرف النظر عن انتماءاتهم وتصنيفاتهم الدينية أو العرقية أو المناطقية أو الإثنية.
ومع ذلك فقد أثارت تلك الدعوة منذ طرحها حالة استقطاب حاد بين مجموعة الدول الغربية التي أعلنت تأييدها لهذه الدعوة وتبنيها ، وبين باقي دول العالم التي ينتمي معظمها إلى ما يعرف باسم "دول العالم الثالث" والتي أجمعت على التحذير بأن السير وراء هذه الدعوة سيؤدي إلى تصدع حاجز ((السيادة الوطنية)) الذي يشكل في نظرها عصب النظام الدولي في العصر الحديث، وبعيدا عن مدارات الجدل الذي تمحور حول موضوع ((السيادة)) وبدا في كثير من الأحيان كما لو أنه يريد استخدام هذا الشعار من أجل تبرير حالات الانتهاك الفظة والفاضحة التي تمارسها بعض الأنظمة المحتمية بشعار السيادة الوطنية لأبسط حقوق الناس المقيمين تحت سلطتها وسلطانها، يبقى من الثابت أن مسألة ((التدخل الإنساني)) سقطت فور طرحها في شرك التطبيق المشوه الذي ألقى ظلاله على صدقية المبدأ نفسه.
وظهرت ثقوب التطبيق حين انفردت الولايات المتحدة الأميركية بقطع النقاش الذي كان جاريا داخل أروقة الأمم المتحدة حول شرعية وآليات وضوابط ((التدخل الإنساني)) لتفوض نفسها وكيلة عن المجتمع الدولي وتبادر إلى معاقبة ما اعتبرته (أنظمة مخالفة) وإسقاطها بالقوة العسكرية التي أفرطت الولايات المتحدة خلال الأعوام الأخيرة في استخدامها ضد دول أخرى أحيانا بتفويض دولي (الصومال ، البوسنة، تيمور الشرقية) وأحيانا أخرى باسم الحلف الأطلسي (إقليم كوسوفو)، وفي حالات ثالثة، وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، دون الحصول على تفويض من أية جهة دولية والمثالين البارزين هنا هما إسقاط نظام حركة طالبان في أفغانستان وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في العراق. وقد أصبحت تفاصيل الإشكاليات التي رافقت عمليات التدخل المشار إليها ،ولاسيما الحالتين الأفغانية والعراقية، معروفة ومكرورة، وهي تبدأ في عناوينها البارزة من الدعاوى الكاذبة التي استندت إليها عمليات التدخل (مسؤولية طالبان عن أحداث سبتمبر وأسلحة الدمار العراقية)، ومرورا بالبشاعات الإنسانية التي رافقت تلك العمليات ووصلت مستواها الفضائحي في المعلومات التي تسربت عن الإرتكابات غير الإنسانية التي وقعت في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتينامو، وانتهاء بالملاحظة الفاقعة حول ازدواجية المعايير التي حكمت خطوات التدخل الأميركي تحت شعارات حماية حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية ضد أنظمة دون أخرى، والنموذج الفظ لذلك يتجلى في الكلام المكرر عن قصة العلاقات الأميركية الإسرائيلية.
وفي ظل هذه الشروخات التي رافقت عمليات التدخل التي تمت تحت شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية لم يكن من المستغرب أن تؤدي تلك العمليات إلى تحريك ذكريات الحروب الاستعمارية التي عاش المجتمع الدولي ويلاتها وفظائعها خلال القرنين الماضيين والتي كانت تدار عادة تحت شعارات الدفاع عن الكرامة الإنسانية وتعميم القيم الأخلاقية على الصعيد الكوني، ومع ذلك تبقى النقطة الأساسية التي يبدو أنها بدأت تغيب وراء صخب النقد الصحيح والمبرر للنتائج الفجائعية التي أسفرت عنها عمليات التدخل الأميركي في مناطق مختلفة من العالم، هي أن نقد السياسة الأميركية والتحامي بشعار ((السيادة الوطنية)) أصبحت تستخدم في حالات كثيرة من أجل تأبيد الصورة السوداوية السائدة في العديد من الدول التي تحتاج أوضاعها إلى إصلاح حقيقي وفعلي توجد مؤشرات كثيرة تدفع إلى الشك بأن العوامل الداخلية كافية وحدها لتحريك عجلاته بصورة جدية، ومن حيث الخلاصة يمكن القول أن المطب الذي يجب تحاشيه في هذا المجال هو الخلط بين المطالبة المشروعة بتوفير ضوابط شفافة تضمن إشراف المجتمع الدولي على عمليات ((التدخل الإنساني)) بطريقة نزيهة وبعيدة عن سيطرة القوى الدولية الكبرى، وبين الضجيج الصاخب الذي يريد تبديد فرصة لاحت من أجل تسجيل خطوة جديدة في طريق تطور الوعي الأخلاقي الإنساني ، والاقتراب من حلم الوصول إلى مجتمع بشري يحمي حقوق الإنسان ويصون كرامته على امتداد رقعة الأرض التي يعيش عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عائلات الأسرى الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب ويطالبون بالإ


.. States must intensify their efforts to combat climate change




.. شبكات | اعتقال وفصل موظفين من غوغل احتجوا على مشروع نيمبوس م


.. لحظة اعتقال شيف سوري في تركيا




.. محمود عباس يرفض طلبا أميركيا بالتراجع عن تصويت عضوية فلسطين