الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-اوديب- مفهوم العقوبة لدى سوفيكليس

شاكر الخياط
كاتب ناقد وشاعر

(Shakir Al Khaiatt)

2014 / 4 / 2
الادب والفن


ان من يتفحص النص في مسرحية اوديب لسوفيكليس وبشكل نقدي متعمق وبتركيز يبغي من ورائه التعرف على روح التراجيديا ومفهوم عمق الفكر في الادب اليوناني وقبل خمسة قرون من الميلاد سيرى تلك الرؤى والابحار الراقي والابداع الذي لا يقف عند حد، سيرى ان ( سوفيكليس Sophocles ) الكاتب اليوناني والذي ابدع في خلق روح التراجيديا من خلال اعمال قدمت مسرحا آنذاك وقسم من تلك الاعمال ان لم نقل اغلبها قد نالت جوائز كثيرة اضافة الى انها اعتبرت بنصوصها اجمع ترائا ثرا وادبا يشار اليه بالبنان.. لذلك فالحديث عن ادب اليونان طويل لكننا سناخذ هذه المسرحية التي اسست لمفهوم نفسي جديد وهو (عقدة اوديب )، وهذه العقدة بعد العقوبة التي نحن بصددها هي التي ستكون موضع اهتمامنا.. ولنمر مرورا ملخصا على هذه المسرحية كما اطلعنا عليها ودرسناها فيما مضى من الزمن ومن حسن الحظ ان دراستها بالنسبة لي باللغة الانكليزية كجزء من اختصاصي بعد ان كنت قد قراتها بالعربية مطلعا، اتاح لي التعرف عن قرب ليس على المسرحية وشأنها وروائع سبك الحوار وبنيته وانما تعرفت على عقلية سوفيكليس الكاتب وكيف كان يفكر من خلال تلك الجمل والنصوص التي كانت تقرأ بلغتها ثم بعد ذلك تقرا بالانكليزية وتناقش كذلك في اللغة نفسها... عرفت من خلال تلك المفردات والتأملات والحوارات الرائعة التي قل لها مثيل ان سوفيكليس الفنان والكاتب والمفكر لم يكن وقتها عقلا بشريا عاديا انما كان خارقا والى ابعد الحدود طبقا للفترة التي ظهر فيها واستنادا الى مراحل تطور العقل البشري الذي ما كان له ضمن تلك الامكانيات البسيطة ان ينتج عملا لم يزل خالدا الى وقتنا الحاضر وسيبقى بالتأكيد، بل واتجه بنا ما كتبه سوفيكليس الى اطروحات اصبحت مناهج تربوية ونفسية واستكملت بسببه دراسات في شتى مراحل الادب والفن والفكر والتحليل النفسي وخلقت كذلك اسسا اعتمد عليها كبار الباحثين كفرويد مثلا وغيره : أوديب او ( اوديبوس) وهي تكتب بالأشكال التالية طبقا للغة :
Oedipus US /ˈ-;-ɛ-;-dɨ-;-pə-;-s/ هكذا تلفظ بالامريكية
UK /ˈ-;-iː-;-dɨ-;-pə-;-s/ وهكذا تلفظ بالانكليزية
: Ο-;-ἰ-;-δ-;-ί-;-π-;-ο-;-υ-;-ς-;- وهكذا تلفظ باليونانية
تتلخص بما يلي: اسطورة قديمة تحدثت بها (الأوديسا) وتتلخص قصتها في أن احد ملوك طيبة والذي يدعى (لايوس) كان قد طرد من مملكته الى مملكة أخرى ، حيث أكرمه ملكها ، لكن (لايوس) لم يحفظ هذا الجميل وأختطف ابنه فيما تقول الاسطورة ، واستطاع (لايوس) أن يستعيد مُلكه وأن يتزوج الأميرة وهي (جوكاستا) ولكن الآلهة لم تغفر له هذا الجرم وصممت علي إنزال العقاب به ، فحذره أبوللو من أن اللعنة ستحل به وأن إبنه من جوكاستا سوف يقتله ويتزوج أمه ، وعندما رزق (لايوس) بإبنه أحس بالخطر المحدق به فصمم على التخلص منه فثقب قدميه وعهد به الى راع وامره أن يلقي به علي جبل (كيثارون) فتأكله الوحوش وبذلك يتاح له التغلب على ما دبرته الالهة له من عقاب ، وكانت الآلهة بالطبع على علم بما يدبر (لايوس) فتدخلت للمحافظة علي حياة الطفل وتم لها ما ارادت اذ تركه الراعي على قمة جبل (كيثارون) بعد ان قيده من قدميه وعلقه على شجرة ويحدث لهذا السبب أن ينقذ الطفل من الموت راع اخر من مدينة أخرى ويحمله الى الملك وملكته اللذين لم ينجبا أطفالا فيتخذاه ولدا وكان هذا الملك هو (بوليب) ملك (كورنثة) وقد أطلق على الطفل اسما جديدا هو ( أوديب) وهي كلمة يونانية قديمة تعني متورم القدمين (swollen foot)ويكبر الطفل وينادي الملك أباه والملكة أمه دون أن يدري شيئاً عن حقيقة أصله ويستمر على هذا النحو الى أن يحدث في يوم من الايام أن يعيره أحد أصدقائه وهو سكران بأنه ليس إبناً للملك وإنما هو لقيط عثر عليه أحد الرعاة فيذهب اوديب من فوره الى معبد أبولو ليعرف حقيقة نسبه فتخبره الآلهة بأنه شخص منحوس كتب عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه ويجلب البؤس لمدينته ولم تجبه الآلهة بشيء عن سؤاله الاصلي ويظن اوديب أن المقصود بأبيه وامه هذان الشخصان اللذان يعيش معهما فيهرب من هذه المدينة حتي ينجو من هذا المصير وبينما هو في طريقه تقبل نحوه عربة يركبها سيد كبير السن ويحيط بها بعض الخدم ويسيس أمامه من يفسح الطريق للعربة ويتصادف أن يطلب هذا الرجل من أوديب أن يفسح الطريق للعربة واشتبك معه أوديب في معركة انتهت بأن قضى أوديب على الركب أجمعه الا واحد فر مذعوراً الى مدينته حاملا خبر موت ملكهم وتشاء الآلهة أن يكون راكب العربة هو (لايوس) ملك طيبة ووالد اوديب الاصلي وينسى اوديب كل شيء وعندما يصل في سيره الي طيبة يجد الناس في فزع وخوف فهناك حيوان غريب يشبه أبا الهول : له رأس امرأة ضخمة، وجسم أسد، يجلس على صخرة خارج المدينة يعترض الناس ويلقي على كل منهم لغزاً ، من استطاع الاجابة عليه تركه يدخل المدينة في سلام ومن عجز عن حله قتله ، وقد عاش أهل طيبة في فزع وخوف فترة من الزمن وتشاء الآلهة أن يلتقي أوديب هذا الوحش الذي يلقي عليه السؤال نفسه الذي إعتاد أن يلقيه على غيره من الناس : ما هو الحيوان الذي يسير في الصباح على أربع ، وفي الظهر على اثنين وفي المساء على ثلاث ، وأجاب أوديب أنه الانسان عندما يولد يحبو على يديه ورجليه فإذا ما كبر اشتد عوده مشي على رجليه ، حتى إذا شاخ وضعف احتاج إلى أن يستعين بعصا على السير وكان أوديب أول من فطن إلى هذه الإجابة الصحيحة مما حدا بالوحش الذي بلغ من الغيظ أن يلقي بنفسه من الصخرة فيموت .
هنا يتسلم أوديب الجائزة التي وضعها ( كريون )سابقاً بأن من يقتل الوحش سيتزوج الملكة (جوكاستا) ويصبح ملك البلاد ويعيش أوديب مع الملكة دون ان يعلم أنها أمه ودون أن تعرف أنه ابنها وينجبان ( اينوكليس – بولينيكس – انتيجونا – ايسمين ) ولكن هذه السعادة التي شعر بها أوديب وزوجه وشعبه لم تدم طويلاً إذ انتشر الطاعون في البلاد وقضي على حياة الكثيرين ولم يدخر أوديب وسعاً في سبيل تخليص قومه من هذا الخطر فأوفد كبير الكهنة إلى معبد (أبوللو) يسأل الآلهة الخلاص مما ألم بالمدينة ولكن كبير الكهنة يعود بنبوءة غريبة ، ذلك أن المرض الذي نزل بالمدينة هو عقاب من الالهة حتي يزول الشيء الدنس الذي يعيش وسطهم وهو قاتل الملك (لايوس) وينشط أوديب في البحث عن القاتل محاولا بعزم وتصميم أن يعرفه ويعاقبه فتنكشف لعنة الالهة عن المدينة ويعودوا سعداء مرة ثانية فيكتشف أوديب بعد تحقيق لم يطل أنه هو قاتل الملك وأنه تزوج أمه وأن أبناءه هم إخوته لأمه فاقتص من نفسه وفقأ عينيه بيديه ونفى نفسه خارج البلاد أما (جوكاستا ) فقد قتلت نفسها شنقاً .
هذا الملخص الذي ذكرناه اردنا به اعادة القاريء وتذكرته بالنص الموجز، لكي يكون قريبا من تسلسل الاحداث، فيتفاعل مع طرحنا هذا، ان العقوبة التي نريد هنا ليست العقوبة الالهية التي حلت بالمدينة والناس وما تعرضوا لها من مرض ووباء الم بهم وشردهم وقتلهم شر قتلة...انما نريد البحث في كيفية توصل سوفيكليس الى ان يفقيء اوديب عينيه فقط وبيديه، ولم يقتل نفسه!! لماذا؟ والجواب من وجهة نظر ادبية ونفسية -;- من وجهة النظر الادبية، ان الموت ( القتل) لو حصل بالنسبة لاوديب مثلما حصل لــ ( جوكاستا ) الام لانتهت المسرحية واقفل على النص برواية او حدث درامي بسيط هو رائع بدون شك لكن الاروع ان لا يموت اوديب ولكي تستمر المسرحية وتخلق معاناة جديدة وتتصاعد التراجيديا بأعلى دراجاتها محققة بهذا ذروة العمل مكتملة شروط القص او الروي او حتى تسلسل الاحداث كعمل درامي مسرحي ، ولو كان اوديب قد جعله سوفيكليس يموت لتجرد العمل من الذي ذكرناه توا وهو العصب الادبي الفعال في عظمة وقدرة المؤلف ان يجعل القاريء كقاريء متتبعا بشوق ضربة النهاية بكل لهفة...ولو ان المؤلف اراد لاوديب ان يموت لكان العمل المسرحي كأداء يفقد ذلك الترابط الجدلي المتين فيما بين خلايا الحوار وتفرعاته التي امسك بها المؤلف عاضا على نواجذه وكانه يريد ان يقول للناس من بعده وللقراء انه احدث تحول في ذلك العمل رافدا العمل باعمال اخرى تنهج نفس النهج اصبحت تزخر بها المكتبة اليونانية وهي لاتقل شأنا وقوة عن سابقتها اوديب - والتطرق اليها هنا يبعدنا عن فحوى البحث –
اما من الناحية النفسية، فان قيام اوديب بفقء عينيه دون قتل نفسه سيجعله يعاني ماحيا وعاش، وسيظل يذكر بكل الم بل ويعيش معاناة كان يتصور ومن وجهة نظر سوفيكلس على لسان اوديب انه بسبب تلك المعاناة سيستطيع ان يطهر نفسه، مستخدما تلك الكلمة الدقيقة ( purge ) والتي تعني بمفردها ( عملية او حملة التطهير) وكان استخدامها بهذه الدقة الهدف منه لدى سوفيكليس ان يوصل للمتلقي ان اوديب بمعاقبة نفسه هكذا سيصل ومن خلال المعاناة اليومية الدائمة مدى العمر المتبقي الى حالة من تطهير النفس، ودوام الشعور بالذنب ومن خلال هذا سينتقل من الرذيلة الى الطهارة بعد ان زكى نفسه باستمرار العذاب والمعاناة ، وهناك كثير من المفردات سواءا في اليونانية او من ترجم الى الانكليزية تعني هذا المعنى او المفهوم ، لكنه لجأ الى هذه المفردة بالذات لان لها وسع معنى في هذا الشأن وقد تكون هي الاصلح وقعا وتأثيرا ومغزى ومعنى شامل دون بقية المفردات الاخرى، ومايذكره اوديب انه كان يتمنى ان يجد عملا اخر اكثر شدة في العقوبة واكثر تاثيرا في الالم لكي يقوم به، على رغم ان ماقام به مجزي نفسيا لانه خلف بعده نظاما او منهجا سار عليه المفكرون والباحثون في هذا المجال، وقد اوجد ( سيجموند فرويد Sigmund Freud ) على هذا الاساس مذهبا نفسيا جديدا اسماه ( عقدة اوديب Oedipus complex) وهي عقدة الشعور بالذنب وهي حالة انسانية ونتاج طبيعي تفرزه قوتا الخير والشر المتعادلتين في داخل الانسان وهما اللتان تسيطران على حياة الانسان منذ الخلق والوعي والبلوغ حتى الممات...
اراد فرويد ان يستخدم عقدة أوديب لتفسير أصل الاضطرابات العصبية المعينة في مرحلة الطفولة. والتي تعرف وبحسب ماجاء به فرويد ( أنها رغبة الطفل الذكر اللاواعي للمحبة الخالصة لوالدته. وتشمل هذه الرغبة الغيرة تجاه الأب والرغبة اللاواعية للموت، فضلا عن الرغبة اللاواعية للجماع الجنسي مع الأم .) وقولنا ان هذا لايمت الى اوديب بصلة وليس له اي اساس من السند العلمي هو ان أوديب نفسه ، كما صورت الأسطورة، لم يكن يعاني من هذا الاضطراب العصبي - على الأقل – لم يذكره سوفيكليس في اي من مراحل النص، وثانيا على اساس ان اوديب لم يلتق بــ (جوكاستا) الام ، الا كشخص بالغ. وبما انه لم يألف امه وهو صغير. فهذا دليل قوي لدينا يودي بتحليل فرويد الى الهاوية وعدم العلمية، ( في هذا المنحى فقط...) لكنه يقوي موقفه في جانب عقدة الذنب المطلقة والتي لا تتوقف او تنحسر عند الطفولة كما ذهب الى ذلك فرويد
ويؤكد الطب فيما بعد ان الإضرار بالعين ذاتيا ، هو شكل نادر جدا من شديد الأذى الذاتي . والذي لا يقابله اذى في مفاصل الجسم الاخرى، وهذا يحسب بالتأكيد للمؤلف الذي عرف بتلك العقلية الخارقة قيمة ان يفقا اوديب نفسه ولا يتم الفقء من قبل آخر، أي ان حالة العذاب في عملية الفقء قد توصل اوديب بمعاناته وشدة تألمه الى الشعور بالراحة نوعما اذ سيعادل الشعور بالذنب قوة الذنب او يصل الى ذلك ولو للتمني... ان ما خلفه لنا سوفيكلس من اعمال يجبرنا على احترام هذا الرجل كاديب وفيلسوف وفنان ومفكر ومحللا نفسيا ارسى باعماله مناهج جعلت من الحضارة اليونانية بالاضافة الى اخرين شمسا بين الحضارات الاخرى وهي باقية لم تزل الى يومنا هذا والى ان يحين موعد الفراق عن هذه الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نظرة عصرية لنص قديم
غازي احمد ابو طبيخ ( 2014 / 4 / 2 - 18:51 )
الواقع نحن جميعا بمسيس الحاجة الى اعادة النظر بالنصوص الابداعية القديمة الخالدة ...اعادة النظر هذه يجب ان تتخلص في ذات الوقت من عقدة الكبار التي اكلت جماجم لا تقل عبقرية وموهبة ولكنها وبسبب الشعور بالدونية تتلعثم كثيرا او ربما تصاب بالخلس لمجرد ان يظهر في طريقها للحوار اسم لاحد المشاهير او كما اصطلح على تسميتهم بالكبار ..ونحن هنا لا ندعوا ابدا الى غمط حقوق العظماء او التطاول على مقاماتهم الرائدة ولكننا ندعوا الى مثل ما قدمه كاتب هذا المقال من الجراة النافعة التي تفتح الباب واسعا على الاجتهاد واعادة قراءة الانثروبولوجيا بطريقة ايجابية بناءة تراصفا مع ما تم الاتفاق عليه ودحضا او محاكمة لما لم يتم حسمه علميا ولرب اضافة اهم بكثير من الاصل..وبعد..فأن المحاولة الاجتهادية الجادة المثابرة مطلوبة بل ضرورية في كل الاحوال..سواء أاصاب المجتهد ام كان قريبا من الصواب..ذلك لان المحاولة وحدها كفيلة بزحزحة الواقع الراكد ودفعه الى امام بالحوار والحوار المقابل بعيدا عن الجدل البيزنطي الذي لا يغني من جوع ولا يشعل فتيلا..احسنتم ايها الاستاذ العزيز شاكر الخياط ..واعلم انني اتابعكم بلهفة دائمه..والسلام

اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه