الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سحر الفقه

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 4 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


السحر هو إيهام ’حسي‘ بوجود ما ليس له وجود فعلي محسوس. قبل انتشار لغة الكلام والكتابة، كان كاهن المعبد يشتغل مباشرة على ’حواس‘ العامة لإيهامهم بقدراته، وقدرات آلهته، الخارقة للقوانين الحسية الطبيعية. في ذلك الزمان، كان الكاهن ساحراً والساحر كاهناً، شيء واحد ونفس الشيء؛ ما كانت الخطابة والكتابة اللفظية البدائية والمقتصرة حكراً آنذاك على دائرة نخبوية ضيقة تستطيع أن تحقق الاتصال والتأثير الواسع المطلوب وسط عامة الناس. ومع أن الساحر لا زال حتى اليوم لا يستعمل الكلام والكتابة في التواصل مع الجهور، إلا أن هذه النوعية من الاتصال الحسي البدائي رغم كل ما حققته ووسائل الاتصال الحديثة من انتشار وتأثير ساحق لا تزال تستطيع الاستحواذ على انتباه وخيال الحضور لدرجة قد تسلبهم عقولهم أحياناً. ما رأيكم في الخدع الحسية للساحر العالمي ديفيد كوبرفيلد؟!

لأن الفقيه الديني الحديث هو الوريث الشرعي لكاهن المعبد القديم، ولأن التطور من لغة الإشارة الحسية إلى الرمز المنطوق والمكتوب لم يتحقق عبر انتقال فجائي كامل منقطع عن ما قبله وإنما في عملية متدرجة وتراكمية موصولة المراحل، لم يكن غريباً أن تحوي الأديان الحديثة أيضاً الكثير من هذه الآثار والشواهد الحسية القديمة. بواسطة هذه التأثيرات الحسية، لا زال الفقيه قادر على إقناع المؤمنين بإمكانية أن تتحول النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وتتحول عصا موسى ثعباناً عظيماً، وبقدرة سليمان على تسخير الجن ومخاطبة النمل، وبقاء يونس حياً في بطن الحوت، وأن عيسى يشفي الأبرص والأكمه ويحي الموتى، ومحمد يسري به بالبراق ليلاً إلى المسجد الأقصى ويعرج حتى السماء السابعة ويدخل الجنة ويعود قبل أن يبرد فراشه...الخ. مثل هذه المعجزات هي من بقايا لغة الاتصال والتأثير الحسي المباشر التي كان يستخدمها الكهان القدماء، ولا يزال يستخدمها إلى اليوم سحرة محترفين من أمثال كوبرفيلد. كذلك مفعولها الديني الأساسي لم ينتهي بعد، إذ لا تزال تستعمل في هذه الوظيفة حتى اليوم وسط بعض القبائل البدائية في أفريقيا خلف الصحراء وبعض السكان الأصليين في أستراليا ونيوزيلاندا وأمريكا اللاتينية، وفي أنحاء متفرقة أخرى حول العالم كله.

مثل السحر الذي يستخدم لغة الإشارة الحسية كمجرد أداة ووسيلة لتحقيق غاية الإيهام الحسي بوجود ما ليس له وجود محسوس، كذلك الفقه الديني يستخدم الخطابة والكتابة والاتصال كأدوات ووسائل حديثة لتحقيق غاية ’إيهام‘ جمهور المستهدفين بوجود ما ليس له وجود حقيقي. بذلك تصبح نصوص دينية تأسيسية مثل القرآن والأحاديث النبوية وجميع ما قد نسج منها وحولها من أصول وقواعد وتراث ومذاهب ومدارس فقهية لا تحصى مجرد أدوات ووسائل أكثر حداثة وتطوراً يستخدمها الفقيه بغرض التواصل المؤثر مع الجمهور. وحين يكون النص الديني ذاته مجرد أداة بيد الفقيه لمساعدته في إيصال رسالته الإيهامية، لا يكون مجحفاً للمنطق عندئذ إمكانية الشك في أن يكون الفقيه هو ذاته الذي قد اختلق أو لفق هذه الأداة المساعدة من الأساس، أو على الأقل يساهم باستمرار في صقلها وتطويرها. بتعبير آخر، هذه النصوص الدينية التأسيسية قد تكون من صنع الفقه الديني بقدر ما قد يكون هو نفسه صناعة لها؛ أو أن يكون كلا من الدين والفقه هما في الحقيقة شيء واحد ونفس الشيء.

مثلما كان الكاهن لا ينفصل عن الساحر قديماً، كذلك الفقيه لا ينفصل عن الدين حديثاً، لكن باستعمال أدوات مختلفة؛ ومثلما كان الحال مع الساحر، مهما يكن شكل رسالة الفقيه، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، تبقي غاية التأثير الإيهامي جلية وقوية الأثر على الخيال والسمع والعين. في كتب الفقه، الخيال جامح واستثارة الحواس والشهوات طاغياً على خطاب التأمل الهادئ؛ في خطب الوعاظ أيام الجمعة، الأصوات مدوية والحماس يحرق الوجدان وحركات الجسد عاصفة؛ في الشرائط المسموعة، التأثيرات السمعية تصل إلى حد الفجاجة والفظاعة؛ في الأحاديث عبر الفضائيات، تلعب الحركات الإيمائية بالعين والملبس واللحى وتعبيرات الوجه والمؤثرات الصوتية والبصرية دوراً عظيماً في إيصال الرسالة الإيهامية. ليس صعباً على شخص قد اطلع على حيل وخدع ساحر محترف مثل ديفيد كوبرفيلد أن يستنتج بسهولة في حضرة الفقيه الديني الحديث أن هذا الأخير لا يعدم بدرجة أو بأخرى بعض من حيل وأساليب الساحر.

حيث أن الفقه، مثل السحر، هو في الأساس إيهام بوجود ما ليس له وجود حقيقي، يحاول الفقيه بشتى الطرق والوسائل أن يروي ظمأ الحاضرين والسائلين بشرب أنهار من اللبن والعسل، ويصبر المحرومين جنسياً بزوجات من الحور العين، ويعزي المظلومين بعظيم الأجر والثواب. لكن بعد انتهاء جلسة الفقه وزوال أثر السحر الفقهي بمجرد الاصطدام بحقائق الواقع الكئيب الذي لم يتغير، يكتشف الظمآن أن عطشه لم يرتوي حقاً، والمحروم جنسياً أن كبته لا يزال في محله، والمظلوم أن جزاءه مزيداً من الظلم. هذا، في الحقيقة، هو جوهر الرسالة الفقيه: إيهام العقل بحقيقية ليس لها وجود في الواقع، باستخدام اللغة كأداة ووسيلة أساسية لإيصال هذه الخدعة الذهنية.

هنا يجب التنبيه إلى أن نفس هذه الخدعة الذهنية الفقهية قد لعبت ولا تزال دوراً محورياً في تشكيل الثقافة العربية الإسلامية وصولاً إلى اليوم الحاضر. فبينما تحاول هذه الثقافة المبينة على الفقه الإيهامي إقناع العقلية العربية الإسلامية بتفوقها ورقيها وسموها على جميع الثقافات الأخرى، لاسيما الثقافة الغربية، رغم ذلك، في الواقع الحقيقي، يجد الفرد العربي المسلم نفسه يداس يومياً تحت أقدام التفوق الغربي، والعالمي، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتكنولوجياً وإنسانياً وروحياً... وفي كل مجال آخر عدا واحد فقط- الإرهاب. فمن رحم الصراع الطاحن بين سمو وتفوق ’وهمي‘ لا وجود له سوى في المخيلة الفقهية وثقافة مختلة منبثقة منها بشكل أساسي، وواقع فعلي ’متخلف‘ ومنحط ومتأخر في جميع المجالات قياسياً بمعظم شعوب العالم، قد تمخضت الثقافة العربية الإسلامية مؤخراً عن إرهاب مدمر عاد هذه الأيام، بعدما عاث تفجيراً وتدميراً في أطراف الأرض، لينفجر في وجه سحرته أنفسهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفقيه يتعامل مع اعتقاد ومصالح المؤمنين
عبد الله اغونان ( 2014 / 4 / 14 - 01:58 )

من ير الله به خيرا يفقهه في الدين - حديث شريف
الساحر يبيع الوهم
وكذلك الشاعر والكاتب
بينما الفقيه الذي يجتهد في الزكاة والأوقاف والعلاقات والمعاملات نافع لمجتمعه


2 - رد الى ع.ئيغنان
ميس اومازيغ ( 2014 / 4 / 14 - 17:13 )
يا ع.ئيغنان /لقد نلت من الكاتب ويحك لقد اقنعته بحديثك (الشريف)
اوا اللع ئينعل لي ما يحشم

اخر الافلام

.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال


.. أوروبا تسعى لشراء أسلحة لأوكرانيا من خارج القارة.. فهل استنز




.. عقوبات أوروبية مرتقبة على إيران.. وتساؤلات حول جدواها وتأثير


.. خوفا من تهديدات إيران.. أميركا تلجأ لـ-النسور- لاستخدامها في




.. عملية مركبة.. 18 جريحًا إسرائيليًا بهجوم لـ-حزب الله- في عرب