الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ارنست همنغواي ... قنديل الادب الذي لم ينطفئ

شاكر الخياط
كاتب ناقد وشاعر

(Shakir Al Khaiatt)

2014 / 4 / 20
الادب والفن


القرن العشرون زاخر بالأعلام وهو نتاج صراعات فكرية ومذاهب فلسفية استندت على موروثات حضارية عملاقة كالحضارة اليونانية والحضارات الشرقية.. وانطلقت حركة الادب في القرن العشرين لكي تتبلور فيه وعلى اديم ساحته المائة من السنين اعمال خالدة لمبدعين خالدين في شتى المجالات الادبية والفنية، كما كان لهذا القرن الحظ الاوفر لظهور وتمركز المدارس الادبية الحديثة التي تطورت عن افكار هي بمثابة مدارس كذلك....
ارنست همنغواي واحد من اولئك الذين انتجهم القرن العشرين بناءا وابداعا... ولد إرنست همنغواي في 21 يوليو سنة 1899 ببلدة أوك بولاية إلينوا من أم تُدرس الموسيقى ومحبة للأدب "الرفيع" وأب طبيب يحب الصيد ومساعدة زوجته في أشغال البيت. بعد انتهائه من الدراسة الثانوية، قرر همنغواي أن يبحث عن طريقه في الحياة، فرفض الالتحاق بالجامعة وحصل على عمل كمراسل صحافي ناشئ بجريدة "الكانساس سيتي ستار.
عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب سنة 1917، كانت أمنية إرنست همنغواي الوحيدة أن يذهب إلى الجبهة ليشارك في الحرب، لكن خلال الفحص الطبي تم رفض طلبه للالتحاق بالجيش بسبب مشكلة في عينيه، ومع ذلك لم يمنعه الأمر من الالتحاق بكتيبة سيارات الإسعاف.
بعد ثلاثة أسابيع من العمل مع فرق الإسعاف أصيب همنغواي بجروح من جراء شظايا قنبلة بإحدى المدن الإيطالية سنة 1918، فقضى ستة أشهر في المستشفى قبل أن تستقبله بلدته استقبال الأبطال، بعد أن عرف الجميع أنه أنقذ صديقا له أصيب بجروح بليغة خلال إحدى المعارك.
لكن رجوع همنغواي إلى بلدته لم يمكنه من الاستقرار والاندماج مرة ثانية في الحياة الاجتماعية بهذه البلدة الصغيرة، وبعد بضع سنوات، مرض والده فانتحر، فوبخ همنغواي أمه وحملها موت أبيه.
وفي سنة 1920 تزوج همنغواي من سيدة تدعى (هادلي ريتشاردسون) ثم رحل إلى باريس حيث عاش من بعض مالها ومن إيراداته من المقالات التي كان يبيعها للجرائد، وهناك بدأت مسيرته لكي يصبح كاتبا وروائيا، فتعرف على مشاهير الأدب والثقافة كجيرترود ستين، وشروود أندرسون، وإزرا باوند، وسكوت فيتزجيرالد وغيرهم من الأدباء والفنانين الأمريكيين المقيمين في فرنسا، وقد وجد لديهم كل مساندة وتشجيع وتقدير لكتاباته مما جعل أندرسون وفيتزجيرالد يساعدانه على نشر مجموعته القصصية "في وقتنا" في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1925، لكن في سنة 1926 نشر روايته "الشمس تسطع أيضا" وهنا برز همنغواي كأحد الروائيين المتميزين بأسلوب رائع جميل.
بعد ذلك استمرت كتبه في التألق والانتشار ولقت قصصه القصيرة حفاوة أكثر من رواياته، وقد كان السبب، حسب بعض النقاد، تأثر قصصه بتقنية الأسلوب الصحافي المتميز بالوصف المباشر والحوار بأقل ما يمكن من تعليق القاص على الأحداث وتفسيره لها. وفي سنة 1929 ظهرت رواية "وداعا للسلاح" وهي رواية تظهر أن نسيج الحياة هو في الحقيقة مزيج من الموت والعنف أكثر مما تمثله تهديدات الحرب في هذه الحياة.ثم جاءت روايته المشهورة ( عبر النهر..نحو الاشجار) والتي كانت نتيجة لتعايشه في افريقيا لفترة ليست طويلة ومن خلال مشاهداته لواقع العيش والحياة المتشابكة هناك بين الادغال والحيوانات المفترسة كأفراز طبيعي للحياة هناك....

سافر همنغواي كثيرا بعد نجاح روايته الأولى وعمل كمراسل حرب في إسبانيا خلال الحرب الأهلية وكذلك على الجبهة خلال الحرب العالمية الثانية، وقد كان يكتب لعدة مجلات واسعة الانتشار، وبدأ يتطرق إلى قضية جديدة، وهي قضية كاتب يحاول الحفاظ على موهبته ضد تهديدات "الحياة" كالنجاح والمال والشهرة، وقد طبعت هذه القضية أعماله خلال الثلاثينات، ولعل أعظم مثال على ذلك روايته "ثلوج كليمانجارو" التي نشرت سنة 1936،
لكن حب همنغواي لإسبانيا وتعاطفه مع أهل الريف كانت القضية التي تبناها قبل وفاته وكانت موضوع روايته "لمن تقرع الأجراس" التي نشرها سنة 1940. ثم تابع أسفاره إلى أن وقعت له حادثة بسبب سقوط طائرة خفيفة كان على متنها، فأدخل إلى المستشفى عدة مرات للمعالجة إلى أن وضع حدا لنفسه في ظروف غامضة سنة 1961. والذي كان من طراز فذ ومن الكتاب العمالقة الذين عشقوا الحياة والطبيعة وتمرسوا بالنضال الإنساني على اتساعه وشموله. ان ابداع همنغواي وبالتحديد في روايته ( العجوز والبحر او الشيخ والبحر) سطر واضاف بل شارك مع من تناول هذا اللهم في خلق ادب جديد هو ( ادب البحر)، البَحر ذلكَ العالمُ الساحر، وتلكَ الميتافيزيقيا الزرقاء الرائعة، وتلك السريالية الممتدة من زرقة الماء حتى معانقة الامواج للأفق المديد، البحر الذي لا نعرفه نحن ابناء الجزيرة كمعرفتنا للخيل وللصحراء والجمال، البحر ذلك الكائن المهيب الذي يغدو بوسعه اللامتناهي والممتد بمثابة الرفاه الروحي المبتعد عن كُل القلق والتوترات الأرضية، البحر.... هناك حيثَ تستقرُ المشاعرُ وتَهيج بسماع هدير الماء، ولم يقتصر ادب البحر على همنغواي وحده انما شاركه آخرون بنصوص أدبية ولوحات فنية ناقشت البحر حتى صار ما يعرف الآن بـ (أدب البحر) واشتهر به الروائي الأمريكي هيرمان ملفل، (1819-1891) في راويته "موبي ديك" التي جسد فيها صراع الإنسان مع قوى الطبيعة الغامضة في المطاردة الناشبة بين السفينة وجماعات حيتان العنبر المتراصة في صفوف المناطق الاستوائية الدافئة، والتي عدها بعض النقاد بانها " الموسوعة الدقيقة لصيد الحوت".. لقد جسد هؤلاء الادباء بشكل خاص ومتميز في نفس الوقت تلك الحالات التي تدور حول الصراع بين الانسان وقوى الطبيعة مثلما بين العجوز واسماك القرش والسمكة الجبارة ولان الأدب بصفته متعة وضرورة فقد جمع بين العذوبة والفائدة وعلى هذا الاساس تعتبر رواية الأديب الأمريكي والروائي العالمي الشهير ارنست همنغواي من اعظم الأعمال الروائية في القرن الماضي وقد حاز همنغواي على أثرها على جائزة نوبل عام 1954 وجائزة " بوليتز الأمريكية " لأستاذيته في فن الرواية الحديثة ولقوة أسلوبه كما يظهر ذلك بوضوح في تقرير لجنة نوبل.
همنغواي يحث على الكتابة المباشرة والتصوير الغني والواقعي وهو يقول "يجب أن يكون أسلوب الكاتب مباشرا وشخصيا، وتصويره وتشبيهه ووصفه غنيا وواقعيا، وكلماته بسيطة وحية "
(العجوز والبحر) تعتبر من اعظم الروايات وثاني اعظم رواية في أدب البحر التي صورت الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة وجسده في بطلها العجوز "سنتياغو" مع اسماك القرش المتوحشة والسمكة الكبيرة الجبارة. الرواية تميزت بخبرات واقعية بعالم البحر، تظهر قوة الإنسان وتصميمه وعزمة على نيل أهدافه والوصول الى ما يصبو إليه وامكانية انتصاره على قوى الشر والطبيعة وفقا لمقولته المشهورة " يمكن ان يهزم الإنسان ، لكن لا يمكن قهره " .
هكذا يصور همنغواي بتركيز شديد على بطله وموضوعه وهو معبر عن مفهومه العميق للبحر وعالمه وقواه الطبيعية ومجسدا لصراعات الإنسان مع قوى الطبيعة البحرية وتأكيدا لقوة الانسان العقلية الكامنة والمتمثلة في روح المقاومة والإمكانية الإنسانية التي ميزته عن باقي المخلوقات. وهذا معنى حقيقي يعبر عن قوة الإنسان وصموده ومقاومته وإصراره. فهنالك ايحاء يوميه همنغواي من وراء عرضه لأنموذج بطله او بطل الرواية ذلك العجوز القوي الذي تحدى هزائمه وفشله وتحدى كبر سنه وابا الا ان يصرع تلك القوى التي دارت حوله، وذات الشيء ينطبق هذا على كاتب الرواية همنغواي الذي خارت قواه الروحية وفقد قوة تصميمه ووجد عمره يتقدم وحياته في الكبر دون ابداع بلا معنى فأنهى همنغواي هذا منتحرا برصاصة قاتلة بعد آلام ومعاناة روحية وفكرية عظيمة.
ففي الرواية عندما ينجح " سنتياغو" في اصطياد سمكته الضخمة تبدأ المعركة المحورية بين ارادة الإنسان وروحه المقاومة وبين قوى الطبيعة الجبارة.. وبندائه الشهير " ايتها السمكة.. سأظل معك حتى أموت..." ذلك كان دليلا على اصراره في الاستمرار بعملية التحدي الى اخر رمق...
وهنا الكل مصمم على احراز النصر وهي المعركة بمهارة وذكاء وقوة إرادة تحدت صورها في مشاهد واقعية متتالية تنقل صور الصراع بين الصياد والسمكة وقوة تصميمه على مواصلة النضال حتى الموت ، ففي المعركة لا تقتصر مقاومة العجوز السمكة وقوى الطبيعة فحسب، بَلْ ويقاوم أيضا جروحه وضعفة وكـبر سنه ووحدته في ذلك البحر العظيــــم ومتحملا كل آلام الظهر التي سببتها له السمكة في معركة شد الحبل بينهما "معركة الحياة والموت".

ويجمع سنتياغو كل قواه وتأريخه البحري طاعنا بحربته السمكة طعنة الموت محققا الانتصار في معركة رهيبة حاولت فيها السمكة ان تصرعه وهي تلفظ انفاسها الاخيرة وتغمر بدمائها الحمراء القانية مياه البحر الزرقاء الداكنة.
لا ينتهي الصراع الانساني مع قوى الطبيعة بانتصار سنتياغو على سمكته الكبيرة بل يتجدد مع اسماك القرش المتوحشة التي تجمعت حول دماء السمكة النازفة واخذت في مطاردة السمكة المشدودة الموثقة الى الزورق.
فتنهش اسماك القرش المتوحشة في لحم السمكة لتتركها عبارة عن بقايا عظام كانت قد انتهت تماما بين انياب القرش الحادة لا يعلم مصيرها البطل سنتياغو..
وهنا عانى العجوز مرارة الهزيمة وجدف صوب الشاطيء بقاربه وقد تعلق به الهيكل العظمي للسمكة.... وبعد الوصول من رحلة المعاناة تلك... اتجه صوب كوخه وقد حل به التعب واوهن حتى انكفا على وجهه اكثر من خمس مرات في الطريق.
في الكوخ حنا عليه الصبي وتركه نائما حتى استرد بعض قوته وقرر انه أخيراً هزم السمكة فيقول له الصبي بان السمكة لم تهزمه ، ويوافق العجوز قائلا: " لا.. بل جاءت الهزيمة فيما بعد " ويتفقان على معاودة الابحار من جديد بتشجيع من الصبي رمز الإنسانية المتجددة، ويستخلص الصياد العجوز الدروس من تجربته الاخيرة مع القرش والبحر لتعينه في صراعه المقبل الدائم مع الأسماك وقوى البحر.

لقد هزم الصياد العجوز "سنتياغو" بعد صراع مجيد مع قوى البحر ، وخسر الجولة الاخيرة. ولكنه لم يهلك ولم يقهر بل صمم على مواصلة الكفاح والنضال والمقاومة. وهذا هو المغزى العميق للحياة الانسانية الذي يومئ اليه همنغواي من خلال تصويره للصراع الدائم المتجدد بين الانسان وقوى الطبيعة والاصرار على الاستمرار وتحقيق الانتصارات ودفع عجلة التقدم الانساني.. وهكذا يبقى الامل الانساني المستمر رغم كل الصعوبات والهزائم والفشل فقد اكدت الرواية بحزم ان الرجال لم يخلقوا للهزيمة.. وقد يهلك الرجل دون ان يهزم فلذا يقول العجوز عن خبراته وقوة عقلة ينبغي لي ان افكر لان التفكير هو كل مابقي لي.. فلا مكان لليأس، انها لحماقه ان يستولي الياس على الانسان كما اني اعتقد بان اليأس خطيئة.
تمكن إرنست همنغواي من الإبداع في أعماله لتتبعه طريقة فريدة في الكتابة لقت استحسانا كبيرا من لدن النقاد، وسنتطرق بكل تفصيل لهذا الأسلوب الرائع بعد أن نتعرف على الكاتب وبعض أعماله.

لقد بقيت شهرة همنغواي التي حققها في العشرينات من القرن الماضي حية طول حياته بل وحتى بعد مماته، ويجمع العديد من النقاد والباحثين الذين درسوا أعمال همنغواي على أن أجمل ما كتب همنغواي كان في بداية حياته الأدبية، وأن قصصه القصيرة كانت إضافات إلى الإبداع الأدبي بدون أدنى شك ، لكن روايته "العجوز والبحر" تعتبر من أنجح ما عرفته الساحة الأدبية خلال القرن العشرين، وتعتبر أعمال همنغواي من أبرز الأعمال الأدبية الأمريكية في ذلك العهد. وقد كتب الكثير عن الأسلوب المتميز والفريد لإرنست همنغواي، الذي كان بسيطا وواضح المعالم بعيدا عن التنميق و"الزخرفة"، حيث كان يحكي قصصه بأسلوب صحافي مباشر. كان عمر همنغواي متوسطا عندما نشر رواياته الأولى، لكن مع السنين تمكن من إتقان أدواته التعبيرية مما جعله يدخل على كتاباته بعض التحسينات، وقد اعتبر بمثابة قوة جديدة في الآداب المكتوب باللغة الإنجليزية، وطبعا لم يخيب ظن نقاده حيث امتدحه تقرير جائزة نوبل الذي تضمن العبارة التالية : " تحكمه القوي في الأسلوب القصصي الحديث ".

لم يكن أسلوب همنغواي عفويا، بل كان نتيجة الممارسة الطويلة للكتابة الصحافية، حيث تعلم كيف يكتب تقارير عن أحداث حديثة، ثم يقوم بصقلها من تراكمات ما علق بذهنه من قراءاته المكثفة للرواد من الأدباء ودراسة أسلوبهم، بعد ذلك كان يعيد كتابة ما خططه عدة مرات حتى يقتنع أنه كتب حقا عملا جيدا. ويكون من المفيد أن نترك الكلمة لإرنست همنغواي ليعطينا بنفسه فكرة عن أسلوبه وطريقته في الكتابة، كما جاء في أحد المقالات التي نشرت له في إحدى المجلات الأمريكية. يقول همنغواي:
"أهيئ أغلب أعمالي في ذهني، ولا أبدأ أبدا في الكتابة قبل أن تكون أفكاري منظمة. وكثيرا ما أقوم بتلاوة نصوص من الحوار بالطريقة التي ستكون عليه عند كتابتها، إني أومن بأن الأذن هي أحسن مراقب وحكم. ولا أكتب أي جملة على الورق قبل أن أتيقن بأن الطريقة التي تم التعبير عنها ستكون مفهومة وواضحة تمام الوضوح للجميع".

هذا باختصار هو إرنست همنغواي، وهذه هي طريقته في الكتابة، وهذا هو أسلوبه الفريد الذي اكتسبه من خبرته في الصحافة، والذي كان له أكبر الأثر في الأدب القصصي الأمريكي وأكسبه شهرة عالمية تعدت حدود جميع القارات، فهكذا هو الكاتب الحقيقي الذي تمنحه كتابته الشهرة وليس يبحث عن الشهرة لا سباب حبها.. للحديث بقية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و