الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل الفقهي والسلطة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 4 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ثمة علاقة ارتباطية كبيرة بين العقل الفقهي والسلطة. في الحقيقة، العقل الفقهي هو الابن الشرعي، والمدلل، للسلطة. فالعقل الفقهي يشرع دائماً في جهده الفكري والبحثي من ’مقدمة ثابتة‘ ومعترف بحقيقتها سلفاً كسلطة حاكمة وموجهة له، ليخلص إلى المزيد من ترسيخ ثبات وحقيقة مقدماته، ثوابته، المبدئية. بذلك يبحث العقل الفقهي ويدور في فلك حقائق وثوابت مفترضة كان قد سلم بصوابها وإلزامها له بالفعل حتى قبل بدء البحث؛ ويصبح جهده البحثي مجرد ترقيع (تأويل) وإعادة غسيل (تفسير) وتبيض (تبرير) لذات الثوب البالي القديم، دون الجرأة على محاولة الانشقاق وخوض جهود الابتكار.

وحيث أن العقل الفقهي لا يملك أن يقف من مقدماته المفترضة موقف المفكر والمسائل والمشكك المحايد، هو بالنتيجة يتحول إلى ’أسير‘ لهذه المقدمات، لا يستطيع مراجعتها سواء بالتنقيح أو التطوير، أو الاستبعاد الجزئي أو الكلي؛ وعندئذ تتحول النصوص الفقهية ذاتها إلى ’سلطة‘ قاهرة على عقل الفقيه، الذي يصبح بدوره أسيراً لها يكاد لا يملك من حريته الفكرية والبحثية شيئاً. هكذا، ودون دهشة، لا يُترك موارباً أمام عقل الفقيه سوى منفذ شرعي وحيد: المزيد من المزايدة على مقدماته الفقهية، التي هي بدورها مزيداً من المزايدات من قبل فقهاء سابقين على الأسبقين عليهم. وفي النهاية يتحول علم الفقه إلى عملية من المزايدة المستمرة من فقيه على آخر، والاستسلام أكثر فأكثر لسلطة المقدمات، الثوابت، الفقهية المتوارثة من فقيه عن آخر.

استسلام عقل الفقيه على هذا النحو لسلطة المقدمات (النصوص) الفقهية والتسليم بصوابها وثبوتها حتى قبل بدء عملية البحث، يؤدي به تلقائياً إلى الوقوع فريسة سهلة في فخ ليس فقط ’السلطة النظرية‘ لنصوص فقهية سابقة ومعاصرة إنما أيضاً، وهو الأهم، في أسر ’السلطة الوضعية‘ المؤسساتية المجسدة والداعمة والمروجة على أرض الواقع لبقاء سلطة هذه النصوص. فحيث أن لا شيء يستطيع أن يخدم مصلحة أي نظام سياسي-اجتماعي أفضل من المحافظة على استمرار ’الوضع القائم‘ كما هو دون انكسار أو تغيير جوهري يزيحه من الحكم والهيمنة، فإن العقل الفقهي قد ظل ولا يزال يسدي خدمة خاصة لكافة الأنظمة السياسية-الاجتماعية القائمة، ويتلقى مكافأة خاصة في المقابل.

مع ذلك، قد يقع العقل الفقهي أحياناً في صراع مرير بين الإخلاص لسلطة مقدماته وثوابته النظرية الأصولية من جهة وسلطة الواقع الوضعي المؤسساتي المتغير كما هو قائم على الأرض في المقابل. في هذه الحالة، حين يختار العقل الفقهي التمسك بسلطة الأصول والثوابت النظرية بغض النظر عن تطبيقاتها وتداعياتها على الوضع الحاضر ومؤسساته، تتحول علاقة العقل الفقهي بالسلطة القائمة إلى عداء مفتوح. رغم ذلك في جميع الأحوال يبقى العقل الفقهي أسيراً لإحدى السلطتين: سلطة النظرية الأصولية أو سلطة الوضع الحاضر المتغير. في هذا السياق، يمكن اعتبار الشيخ أحمد الطيب على رأس مؤسسة الأزهر ممثلاً للعقل الفقهي المتوافق مع سلطة الوضع المؤسساتي القائم، والممتثل لسلطته والراغب في المحافظة على بقائها كما هي في الوقت نفسه؛ بينما يمثل الفقيه المصري الآخر الشيخ أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة التوجه الفقهي المقابل الذي قد فضل الإخلاص لسلطة المقدمات والثوابت الفقهية كما كانت في أصولها البكر، حتى لو بثمن التضحية بالوضع القائم وجميع مؤسساته ومكافآته.

السلطة لا تكون ’سلطة‘ إلا عند الاقتران الدائم بشرط ’الإلزام‘؛ ولا يستتبع ذلك بالضرورة أن يتحقق الالزام ’فرضاً‘ باستعمال القوة من خارج الفرد، لكنه في الأكثر يكون طوعاً بوازع من الضمير الشخصي والاقتناع الداخلي للفرد. وسواء أكان الامتثال خوفاً وتقية من بطش سلطة مؤسساتية قائمة أو بوازع من قناعة داخلية بحجة نظرية فقهية مهما كانت أصولية، يظل العقل الفقهي أسيراً للسلطة القائمة سلفاً سواء في شكلها الوضعي الراهن أو في صورتها النظرية الأصولية المفترضة؛ وفي كلا الحالتين يبقى العقل الفقهي أسيراً لواحدة منهما، لا يستطيع العيش أو التفكير باستقلالية عن هذه السلطة أو تلك.

في الواقع العملي عبودية العقل الفقهي للوضع القائم، لاسيما سياسياً واجتماعياً، قد تجعله يبدو قادراً في الظاهر على تبرير وتسويق أي وكل شيء يفرضه عليه هذا الوضع القائم، مهما كان مباعداً حتى للمقدمات والثوابت والأصول الفقهية ذاتها. في هذه الحالة، الطاعة العمياء من قبل العقل الفقهي لسلطة ومتطلبات الواقع الوضعي الراهن تجعله على استعداد لغض الطرف عن تجاوز حدود السلطة الفقهية الأصولية، مبرراً ومسوقاً ذلك إما عبر إعادة تأويل النص الفقهي الأصلي في ضوء مستحدثات وضعية راهنة لا مفر منها أو تحت إكراه المفسدتين الصغرى والكبرى. في المقابل، الطاعة العمياء من قبل العقل الفقهي لسلطة المقدمات والثوابت الفقهية الأصلية بصرف النظر عن تداعياتها العملية على الوضع الحاضر تجعله يدخل في صراع شرس وشامل ضد مؤسسات الواقع القائم، في محاولة لإزالتها بالكامل واستبدالها بأخرى متطابقة مع مقدماته وثوابته الفقهية الأصولية.

في النهاية، العقل الفقهي سواء المخلص لمبادئ النظرية الأصولية أو الممتثل لشروط الوضع الراهن لا يستطيع أن يطور أو يغير واقعاً قائماً؛ لكنه ينفق معظم جهده وطاقته في محاولة المحافظة على الوضع القائم، وللأبد إن أمكن. وحيث أن الفقه الأصولي كان هو أيضاً في زمن ما ترجمة دقيقة أو محرفة لواقع وضعي آخر مختلف كان قائماً بالفعل آنذاك وقد فشل في استيعابه واستبقائه حتى العصر الحاضر، لذلك يتساوى كل من الفقه الأصولي والفقه الحداثي في التسليم بسلطة الوضع القائم والرغبة القوية في المحافظة على بقائه دون تغيير جوهري، وللأبد. كل ما هناك هو أن العقلية الفقهية الأصولية لا تزال مخلصة لسلطة وضع قائم قديم لم يعد قائماً بعد وتحول إلى تاريخ أو أسطورة، بينما قد اضطرت العقلية الفقهية الحداثية مكرهة أكثر منها مختارة إلى نقل تبعيتها لسلطة الوضع القائم الحديث.

الفرق الواضح بين الشيخين الطيب والظواهري أن الأول قد أذعن لسلطة الوضع القائم الراهن، بينما لا يزال الأخير متمسك بالإخلاص لسلطة وضع كان قائماً في الماضي ولم يعد له وجود بعد، إضافة إلى كتب التراث الفقهي، سوى في مخيلته الشخصية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان